رغم أن هناك يوتوبيات نشرت خلال الفترة التي هيمنت فيها الديستوبيات، فلم يلاحظها أحد حتى الصعود المفاجئ لليوتوبية فيما يعرف بحقبة «الستينيات» (تتنوع التواريخ الفعلية من بلد لبلد). انتقل جانب كبير من الدافع اليوتوبي في تلك الفترة إلى الشوارع، وأدى - على سبيل المثال - إلى انتفاضة عام 1968 في تشيكوسلوفاكيا، واحتجاجات عام 1968 في باريس، التي حملت رسالة يوتوبية واضحة؛ وهي «كن واقعيا واطلب المستحيل»، وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، تأسس الكثير من المجتمعات المقصودة المعروفة آنذاك عالميا باسم الكوميونات، ولا يزال الكثير منها موجودا بعد مضي أكثر من 40 عاما. ازدهر الأدب اليوتوبي، لكنه كان أدبا مختلفا؛ أدبا أدرك أن إقامة مجتمع أفضل لن تكون مهمة سهلة. والمجتمعات التي ظهرت في هذا الأدب سكنها رجال ونساء لديهم نقاط قوة وضعف بشرية حقيقية، بل إن المجتمعات الأفضل كثيرا كانت تعاني من مشاكل، بل ومشاكل خطيرة. وحملت رواية «المسلوب» (1974)، لأورسولا كيه لي جوين (المولودة في عام 1929)، العنوان الفرعي «يوتوبيا غامضة»؛ وهذا العنوان الفرعي يتناسب مع الكثير من الأعمال الأخرى المنشورة في تلك الفترة. أطلق الباحث الأدبي توم مويلان (المولود عام 1943) على هذه الأعمال «اليوتوبيات النقدية»، وأطلقت عليها المنظرة السياسية لوسي سارجيسون (المولودة في عام 1964)، مركزة على اليوتوبية النسوية، «اليوتوبيات المتجاوزة»، وأنا أطلق على بعضها «اليوتوبيات المعيبة» لتوضيح الطريقة التي يعرض بها بعض المؤلفين، مثل أورسولا كيه لي جوين في روايتها «الخارجون من أوميلاس» (1973)، ما يبدو أنه يوتوبيا، لكنه في الحقيقة قد يكون ديستوبيا.
كانت اليوتوبيا النسوية أهم الروافد التي خرجت من يوتوبية حقبة الستينيات، وتمخض عنها أغلب روايات تلك الحقبة التي لا تزال تقرأ حتى الآن. وفي عام 1972، نشرت جوانا روس (المولودة 1937) مقالة بعنوان «ماذا بوسع البطلة أن تفعل؟ أو لم لا تستطيع النساء الكتابة؟» تقول فيها إن المجتمعات المعاصرة تميز على أساس النوع لدرجة أنه لن يمكن إنتاج شخصيات نسائية ناضجة بالكامل إلا بخلق عوالم جديدة. وكانت اليوتوبية النسوية جزءا مهما من الحركة النسوية. ضمت أشهر اليوتوبيات النسوية رواية «الرجل الأنثوي» (1975) لجوانا روس، ورواية «امرأة على هامش الزمن» (1976) لمارج بيرسي (المولودة عام 1936)، وعددا من القصص القصيرة لأليس برادلي شيلدون (1915-1987)، التي كانت تكتب تحت اسم جيمس تيبتري الابن، مثل «هيوستن هيوستن، هل تتلقون بثي؟» (1976). (9) اليوتوبيا اليوم
كانت سمات اليوتوبية في حقبة الستينيات جزءا من التغييرات الطويلة الأمد التي حدثت في المجتمعات الغربية، لكن كانت هناك حركة رجعية ضد هذه التغييرات. ومع استمرار نشر اليوتوبيات، عاد الأدب اليوتوبي في الأغلب إلى الديستوبيات. وباستثناء يوتوبيات المثليات، اختفت اليوتوبيات النسوية تقريبا في تسعينيات القرن العشرين، رغم أنه حدث إحياء لها من جديد منذ عام 2000. كان الاستثناء الكبير للعودة إلى الديستوبيا هو ظهور اليوتوبيات البيئية، فبالتأكيد صور عدد كبير من الديستوبيات مخاوف حدوث انهيار بيئي بالمستقبل، إلا أن كيم ستانلي روبنسون (المولود عام 1952) وآخرين نشروا يوتوبيات بيئية مهمة؛ فقد نشر روبنسون ثلاثيتين تدوران حول موضوعات بيئية: ثلاثية «المريخ» (التي ظهرت أجزاؤها في أعوام 1992، و1993، و1996) وثلاثية تدور حول التغير المناخي/الاحترار العالمي يصور الكتاب الأول منها، «علامات المطر الأربعون» (2004)، ديستوبيا نتجت عن فشل الساسة في التعامل مع مشكلة الاحترار العالمي ، في حين يصور الكتابان الآخران، «خمسون درجة أقل» (2005) و«ستون يوما ويزيد» (2007)، حدوث تغيير في السياسة والنتائج الإيجابية التي ترتبت عليه في النهاية. واليوم، يعد النوع الأدبي الفرعي المسمى الإيكوتوبيا أو اليوتوبيا البيئية - والذي سمي بهذا الاسم على اسم رواية إرنست كالينباخ (المولود عام 1928)، الصادرة عام 1975 - أقوى تيار يوتوبي، والكثير من اليوتوبيات البيئية نسوية أيضا؛ ومن ثم فإن أقوى تيارين في الخمسين عاما الأخيرة كثيرا ما يجتمعان معا الآن. على سبيل المثال، روايات سالي ميلر جيرهارت (المولودة عام 1931) مثل «أرض الطواف: قصص نساء الجبل» (1978) و«القائدة» (2003) تجمع بين المنظورين النسوي والبيئي.
إن الأدب اليوتوبي يتغير باستمرار مكتسبا أشكالا جديدة. واليوم أغلبه معقد أو مبهم، يقدم مجتمعات أفضل لكنها معيبة، أو مجتمعات أسوأ لا تزال تحتفظ بشيء طيب فيها. هناك تغير حديث يتمثل في انتقال اليوتوبيات إلى الإنترنت والناشرين الذين يستخدمون أسلوب النشر عند الطلب (ظهر هذا التغير في الشكل السابق لطريقة النشر هذه، والمتمثل في نشر الأعمال على نفقة المؤلف). وأغلب الأعمال المنشورة على الإنترنت أو التي يتم الحصول عليها باستخدام أسلوب النشر عند الطلب يزيد احتمال قراءتها، مثل بعض اليوتوبيات القديمة، والتي تحمل إجابات موحدة بسيطة تناسب جميع الأسئلة المعقدة، لكن بعضها، مثل «الوعي باليوتوبيا» (2002) لميريت أبراش (المولود عام 1930)، معقد مثل الأعمال المعاصرة الأخرى. وقد أدت هذه الأشكال من النشر إلى نمو الأدب اليوتوبي في الوقت الحاضر، لكن كما هو الحال مع الكثير من اليوتوبيات في الماضي، فإن الكثير منها لا يقرأ مما يصيب كاتبيها بالإحباط.
الفصل الثاني
التطبيق العملي لليوتوبيا
على مدار قرون، حاول الكثير من الأفراد والمجموعات تطبيق رؤاهم على أرض الواقع. حاول البعض الحصول على السلطة السياسية للقيام بذلك (نجح القليلون)، وأنشأ آخرون حركات اجتماعية (محققين نجاحا أكبر في ذلك). واليوتوبيون الذين حازوا على السلطة السياسية خلقوا في الغالب ديستوبيات وليس يوتوبيات، مع كون بلدان في القرن العشرين مثل ألمانيا النازية تحت حكم أدولف هتلر (1889-1945)، وكمبوديا/كمبوتشيا في ظل حكم بول بوت (1928-1998)، أمثلة جديرة بالملاحظة في هذا الشأن .
لكن الشكل الأشيع لتطبيق رؤية بعينها على أرض الواقع كان خلق مجتمع صغير للانعزال عن المجتمع الأكبر؛ لتطبيق معتقدات أعضائه دون تدخل أو تطفل من أحد، أو لإثبات أن اليوتوبيا التي يؤمنون بها قابلة للتطبيق للمجتمع الأكبر. ورغم أن المؤرخ آرثر يوجين بستور الابن (1908-1994) أنكر علاقة النهج الأخير باليوتوبيا، فقد أطلق عليه «نماذج أصلية للمجتمع الطيب»، وهو لقب في الواقع يؤكد تلك العلاقة.
إضافة إلى ذلك، ينظر الآن إلى الإجراءات الصغيرة المؤقتة على أنها يوتوبية؛ لأنها توظف بشكل عام صورة يوتوبية في مقابل الديستوبيا التي تعارضها، كما يرى مؤيدوها. وتتخذ تلك الإجراءات عدة أشكال مختلفة من الأداء الفني إلى الاحتجاج. (1) المجتمعات المقصودة
ما نطلق عليها الآن في أغلب الأحيان المجتمعات المقصودة، المعروفة للعامة باسم كوميونات، كان لها أسماء كثيرة في الماضي، يرتبط عدد منها على نحو مباشر باليوتوبية؛ مثل: المجتمع اليوتوبي، والتجربة اليوتوبية، واليوتوبيا العملية، والمجتمع البديل، والمجتمع التجريبي. لم يجر القبول بهذه الأسماء وأشكالها المختلفة، أو تم التخلي عنها من أجل مصطلح أكثر حيادية، وكثير من الأفراد الذين يعيشون بتلك المجتمعات يرفضون أن يطلق عليها «مجتمعات يوتوبية»، ويفضلون «المجتمعات المقصودة». إلا أنه رغم هذا الرفض، ورغم أن أغلب تلك المجتمعات لم تكن يوتوبية بالمعاني التي يشيع استخدام الكلمة بها، فثمة علاقات وثيقة بين اليوتوبية وتلك المجتمعات.
ناپیژندل شوی مخ