يعكسان نسختين مختلفتين تماما من الحياة الطيبة. تركز إحداهما على المتعة، لا سيما المتعة الجسدية، ومحورها وفرة الطعام والشراب، مع إتاحة الكثير من الممارسات الجنسية في بعض النسخ؛ في حين تركز الأخرى على التنظيم الاجتماعي. الأولى فانتازيا تحققها الطبيعة أو الرب أو الآلهة، أما الثانية فمقدمة على نحو واقعي، ويحدثها بشر باستخدام ذكائهم. كلتا النسختين عتيقتان، ولا تزالان موجودتين حتى اليوم. بالنسبة للبعض، لا ترقى سوى الثانية لتكون يوتوبيا، لكن يرى آخرون الأولى باعتبارها رافدا مهما في النهر المعروف باليوتوبيا.
أطلق على النسخة الأولى «يوتوبيا الهروب» أو «يوتوبيا الجسد»، ولا توجد ثقافة لا تضم مثل هذه اليوتوبيات. في التراث الذي يشكل تاريخها في الغرب، توجد في جنة عدن، والقصص الإغريقية والرومانية عن جنة الأرض، وفكرة الجنس أو العصر الذهبي الذي كان موجودا في الماضي، و«رؤية ماكونجلين» الأيرلندية. وتنتقل إلى تراث «العالم المقلوب رأسا على عقب» لتظهر في عيد الإله الروماني ساتورن، وعيد البلهاء، وأرض كوكين، والصور المبكرة من الكرنفال (وهو موسم الاحتفالات المسيحي السابق على «الصوم الكبير»)؛ جميعها تضع الفقراء والمقهورين على نحو مؤقت في مراكز قوة، في حين تضع سادتهم المفترضين في مراكز أدنى منهم ليوم أو أسبوع. وعادة ما يعاد ابتداع تلك النسخة من جديد، وتعاود الظهور في المجموعات المقهورة، وفي أوقات الأزمات الاقتصادية. (2) الأساطير الكلاسيكية
على الرغم من وجود اختلافات بين هذه الأساطير، فإنها اشتركت في الكثير؛ فبعض الأجزاء كانت مقدمة على نحو إيجابي، فكان الناس والآلهة قريبين بعضهم من بعض، وكانت الأرض تنتج تلقائيا وفرة من الطعام وأي شيء آخر كان يحتاجه الناس. لكن أغلب الأجزاء عرض على نحو سلبي، وكان معنيا بحل مشكلات الحاضر؛ فلم يكن هناك خوف من الحيوانات البرية، ولم يكن هناك صراع بين البشر، ولم تكن هناك حاجة للعمل، ولم تكن هناك تجارة أو حكومة؛ لأنه لم تكن هناك حاجة لهما. كانت بداية الحياة ونهايتها سلستين؛ كانت النساء يضعن أطفالهن دون ألم، أو لا يضعن على الإطلاق؛ فلم تكن هناك وفيات؛ ومن ثم لم تكن هناك حاجة للمواليد، ولا لموت مريح. فسر بعضها أيضا كيف أننا انتقلنا من الحياة الطيبة إلى الحياة الصعبة التي نعيشها في الوقت الراهن. على سبيل المثال، معصية الرب في جنة عدن أفضت إلى الخوف والعناء والموت وآلام الوضع بالنسبة للنساء.
أكثر تلك الأساطير المبكرة تأثيرا هي الأساطير الخاصة بعملية الخلق، مثل العصر الذهبي، وجنة الأرض، وأساطير الحياة الآخرة، مثل «جزر المباركين» - حيث يذهب الأبطال بعد الموت - وأسطورة إله العالم السفلي هاديس. كانت تلك الأساطير التي تعود للحضارة اليونانية والرومانية والسومرية والديانة اليهودية في بداياتها مهمة لتطور اليوتوبية الغربية. كما توجد أساطير مشابهة، مثل أسطورة «أرض أزهار الخوخ» الصينية، في أغلب الحضارات القديمة. والنسخة الغربية الكلاسيكية من العصر الذهبي هي نسخة هيسيود الشاعر الإغريقي (التي ظهرت في نهاية القرن الثامن قبل الميلاد)، الذي كتب يقول:
كان الجنس البشري الذي أنعم عليه بالكلام، والذي أوجده الخالدون - أولئك الذين يسكنون في قصور على جبل الأوليمب - جنسا ذهبيا. عاش هؤلاء في زمن كرونوس عندما كان ملك السماء؛ وتماما مثل الآلهة، أمضوا حياتهم، بروح تخلو من الهم، بعيدا عن التعب والبلاء. لم تطلهم يد الشيخوخة العقيمة، وكانوا دوما متساوين في كل شيء، وتمتعوا بالأعياد والاحتفالات، وسلموا من كافة الشرور، وماتوا كما لو كان غلبهم النعاس. كانت لهم كل الأشياء الطيبة؛ فحقول الحبوب كانت تنبت محاصيل من تلقاء نفسها، كانت تنبت الكثير منها وبوفرة. أما هم، فتشاركوا ثمار العمل معا - طواعية، وبنبل كبير - إضافة إلى أشياء طيبة أخرى كثيرة، وكان لهم من الغنم الكثير، وكانوا مقربين من الآلهة.
لكن نسخة العصر الذهبي التي ورثتها العصور الوسطى كانت نسخة الكاتب الروماني أوفيد (43-17 / 18 قبل الميلاد)، في حين أكد هيسيود على الوفرة التي تشاركها الجميع بالتساوي، والحياة السعيدة، والموت المريح. أضاف أوفيد، في استجابة منه لقضايا عصره، التحرر من القوانين والمحاكم، وتجنب نشوب الحروب، ووجود مجتمع محلي، قائلا:
في الماضي، كان الناس يعيشون في عصر ذهبي، حين كان الناس يتصرفون وفق إرادتهم، دون خوف من عقاب، دون قوانين، وكانوا يتمتعون بإيمان سليم، ويقدمون على فعل كل ما هو صحيح. لم تكن هناك عقوبات يخشونها، ولم تكن هناك لوحات برونزية منصوبة محفور عليها القوانين تحمل تهديدات باتخاذ إجراء قانوني، ولم تكن هناك حشود من المذنبين المتطلعين للرحمة، والمرتعشين أمام قاضيهم. في الواقع لم يكن هناك قضاة؛ إذ عاش الناس في أمان دونهم. وإذ لم تكن هناك أشجار صنوبر يتم قطعها من موطنها على الجبال لصنع سفن تسير عبر أمواج المحيطات ليبحروا إلى أراض أجنبية، فلم يعرفوا سوى شواطئهم، ولم تكن مدنهم محاطة بعد بخنادق مائية عميقة، ولم تكن لديهم أبواق نحاسية طويلة، أو خوذ نحاسية ملتفة، أو سيوف. تمتعت شعوب العالم، التي لم يعكر صفوها أي مخاوف، بحياة الدعة والسلام، ولم تكن هناك حاجة لجنود.
تبدي التغييرات التي أدخلها أوفيد كيف أن تلك الروايات عكست قضايا معاصرة في الوقت الذي بدت فيه خارج إطار الزمان تماما.
الاقتباس الذي أخذناه من تليكليديس، في بداية هذا الفصل، مثال آخر على الحياة في عصر كرونوس، وكتب الشاعر الروماني لوقيان السميساطي (125 تقريبا-ما بعد 180 ميلاديا) يقول على لسان كرونوس:
خلال الأسبوع غير مسموح بأي أمر جاد، غير مسموح بالقيام بأي عمل. الشرب والسكر، والصخب والألعاب والنرد، وتعيين الملوك، وإقامة احتفالات العبيد، والغناء عريانا، والتصفيق الشديد، وغمر الوجوه الثملة في الماء المثلج من آن لآخر : هذه هي المهام التي أقوم بها.
ناپیژندل شوی مخ