قصة غردون مثلا، أو فجيعة غردون، أو مؤامرة غردون.
ما حقيقتها بين القائلين إن غردون ذهب في الخرطوم المحصورة ضحية مقصودة، أو إنه ذهب في ذلك الحصار من جراء الإهمال والتقصير والجهل بدخائل السودان عند تسيير الحملة لإنقاذه، على الرغم من معارضته في الجلاء عن الخرطوم؟
هل مات غردون قصدا أو مات عن جهل وسوء تدبير؟
اقرأ الوقائع في الكتاب تجد أن مؤلفه يحاول أن يصرف الشبهات جميعا عن أبيه، وتجد أن ونجت نفسه يدافع عن خطة التمهل والإبطاء في مسير الحملة إلى الخرطوم، ولكنك تستطيع أن تقول بعد مراجعة الوقائع جميعا إن القصد أظهر من الإهمال، وإن الإبطاء لم تكن له ضرورة محتومة، سواء قبل اتخاذ القرار بتسيير حملة الإنقاذ أو بعد اتخاذ هذا القرار.
وهذه هي الوقائع مجردة من التعليق والزيادة نسردها، وندفع للقراء من المستعمرين بكسر الميم أو المستعمرين بفتح الميم أو الشهود من أصحاب الحيدة بين الطرفين، أن يفهموا منها ما تمليه ولا مبالغة فيه.
فأول ما هنالك من حلقات هذه السلسلة المترابطة أن لورد كرومر ترك قصر الدوبارة أيام الأزمة، ولم تجد حكومته وقتا غير ذلك الوقت العصيب تدعوه فيه إلى المؤتمرات المالية، وتختاره هو دون غيره لحضورها وملازمتها.
ثم يتأخر صدور القرار بإرسال الحملة بعد فوات الوقت الملائم، ويصدر الأمر إلى قائدها لورد ولسلي بأن يحاول الوصول إلى دنقلة، ولا يتقدم خطوة واحدة وراءها.
ثم يكون ولسلي هذا من أجهل الناس بالسودان ونهر النيل، ويستبد برأيه فيقرر نقل المؤنة والأزواد في الزوارق الصغيرة، كما كان يفعل في أنهار كندا، ولا يخفى على حكومته - إن خفي عليه - أنه يعبر بهذه الزوارق خمسة شلالات!
ثم يصدر الأمر إليه بالتقدم في اللحظة الأخيرة وراء دنقلة، ولكن على شرط يزيل كل فائدة للتقدم؛ وهو الاقتصار على كتيبة صغيرة من مائتين أو ثلاثمائة كافية في زعمهم لاختطاف غردون من وراء الحصار، وهم يعلمون أن غردون يرفض النزول من السودان، وينتظر الحملة لفتح الخرطوم، فلو أمكن وصول الكتيبة الخاطفة إليه، لكان هو أول من يرفض مناورة الاختطاف.
وعلى كل هذا بقي في حساب الأيام يومان بغير عمل، يقول عنهما ونجت إن العمل فيهما توقف هنيهة؛ لأنه كان مجازفة لا تؤمن عواقبها، كأنما هذه المناورات جميعا لم تكن من المجازفات أو العبث الذي هو شر من المجازفة؛ لأن المجازفة قد تفلح في الأحايين.
ناپیژندل شوی مخ