وكان يتكلم في الجماهير فكأنما يلقي النفط الملتهب على الحطب، ولكنه كان يحسن الإطفاء كما يحسن الإشعال والإيقاد.
قالت صحيفة مهملة من صحف تلك الأيام بأسلوبها الذي ننقله بحروفه: «لما كان حضرة الأستاذ النديم حريصا على تنفيذ ما تعهد به عرابي من حفظ الأمن مراعاة للمصلحة، وتلاحظ له أن أفكار الأهالي متهيجة بسبب لائحة الدولتين ووجود أسطوليهما في مياه الإسكندرية، ويظهر له ذلك بما حدث من المتظاهرين أثناء مرور دولتلو درويش باشا، خشي منه أنه ربما وقع من بعض الرعاع ما لا ينطبق على تعهد عرابي ومصلحة الحزب الوطني، فاغتنم فرصة تجمهر الناس وبث فيهم بعض إخوانه يوعزون إليهم بالحضور إلى جهة الأنفوشي في مساء ذلك اليوم لسماع خطبة أدبية، وما جاء وقت العشاء حتى توافد الناس زمرا إلى تلك الجهة، وقام فيهم الأستاذ المومأ إليه خطيبا، فحضهم على استعمال السكينة والهدوء وترك السياسة لأربابها من رجال الحل والعقد، ولامهم على ما حدث منهم من التظاهر في هذا اليوم، وحرضهم على الالتفات إلى الأمور النافعة من الصناعة والتجارة إلى غير ذلك من النصائح المفيدة.»
قال الكاتب في صحيفة البريد: «ومما يضحك الثكلي ما زعمه ذوو الأغراض بعد دخول الإنجليز مصر أن هذه الخطابة كانت في تحريض الوطنيين على الفتك بالأجانب؛ مما نشأ عنه حادثة 11 يونيو، مع أني كنت حاضرها وشاهدت نديما بعيني رأسي، وسمعت جميع ما فاه به مما لا يخرج عن موضوع ما فاه به آنفا.»
وإنك لتكاد أن تعرفه بهذه الصورة مسلما له صناعة اللسان بشقيها من الإثارة والتسكين، إذا بخبر صغير في زاوية من زوايا الصحف يريك الرجل من ذوي الرأي والمشورة في مآزق الحرج، ويخيل إليك أنه لو أطيع لتغيرت الحال بخير منها على الأقل في بعض الأمور.
كانت الضربة الكبرى التي زعزعت العرابيين وأوقعت الفشل في صفوفهم وجرت إلى الفتنة في الجيش المقاتل؛ «بياننامة الخلافة» كما سميت في ذلك الحين، وهي المنشور الذي أعلن فيه السلطان العثماني عصيان عرابي وخروجه على ولي الأمر، ومروقه من حظيرة الشرع الشريف.
وكان رأي عرابي إخفاء هذه «البياننامة» والمبالغة في كتمانها.
أما «عبد الله نديم» فقد أشار بغير ذلك وألح على عرابي بوجوب نشر «البياننامة» مشفوعة برسائل التشجيع التي كانت ترد إليه من حاشية السلطان، وأن يعقب على هذا وذاك بالحملة على الدولة البريطانية ومشيري السوء من حول السلطان؛ لأنهم أكرهوه على توقيع ما كتبوه وتطاولوا على ذلك المقام الأعلى - مقام الخلافة - بالتهديد والإرغام.
قال عبد الله نديم: «إن البياننامة لا بد أن تصل بكل حيلة إلى داخلية القطر ويطلع الناس عليها، فتنفر القلوب وتتفرق الكلمة، بخلاف ما إذا عرضت عليهم مشفوعة بالرد عليها.»
وهكذا حصل؛ فإن الجيش فوجئ بالمنشورات، فأحدث فيه ما أحدثه رفع المصاحف على الأسنة في حرب علي ومعاوية، وكان لذلك أثره في اضطراب العزائم وتوهين الثقة بالطاعة الواجبة لقائد الميدان.
وقد شهد النديم بوادر هذا الاضطراب؛ لأنه لم يكن ينزوي في داره ليكتب صحيفته بين الجدران، بل كان ملازما لعرابي في خط النار، ليجبر بالخطابة والرأي العاجل ما تكسره نكبات الهزيمة والخيانة، وقد كان أكثر الهزيمة من خيانة الأعوان المتواطئين مع الأعداء، وبلغ منها أن الجيش الإنجليزي ضم إليه «البروجية» الذين لازموا قصر الخديو، فضربوا «نوبة» الارتداد التي لا يشك سامعها من المصريين أنها صادرة من معسكر القيادة، ولم ينكشف السر إلا بعد وقوع الفشل والاختلال.
ناپیژندل شوی مخ