محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
يوم قتل الزعيم
يوم قتل الزعيم
تأليف
نجيب محفوظ
محتشمي زايد
نوم قليل، وفترة انتظار ثملة بالدفء تحت الغطاء الثقيل. النافذة تنضح بضياء خفيف، ولكنه يتجلى بقوة في ظلام الحجرة الدامس، اللهم إني أنام بأمرك، وأصحو بأمرك، وإنك مالك كل شيء. ها هو أذان الفجر يفتتح يومي الجديد، ويسبح في بحر الصمت الشامل هاتفا باسمك. اللهم عونك لهجر حنان الفراش، والخروج إلى قسوة برد هذا الشتاء الطويل. حبيبي يغط في نومه في الفراش الآخر؛ فلأتلمس طريقي في الظلام أن أوقظه. ما أبرد ماء الوضوء! ولكني أستمد الحرارة من رحمتك. الصلاة لقاء وفناء. من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. كل يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم. أنتزع نفسي من تأملاتي أخيرا لأوقظ النيام. أنا منبه هذه الأسرة المرهقة. حسن ألا تخلو من نفع وأنني في هذا العمر؛ طاعن في السن متين الصحة بفضل الله. لا بأس أن أضيء المصباح الآن، وأنقر باب الحجرة بأصبعي هاتفا: «فواز.» حتى أسمع صوته وهو يقول: «صباح الخير يا أبي.» أرجع إلى حجرتي وأضيء مصباحها أيضا، فأرى حفيدي مستغرقا في نومه لا يبدو منه إلا وسط وجهه بين حافتي الغطاء والطاقية. ما باليد حيلة، علي أن أخرجه من دنيا الراحة إلى الجحيم، وأهمس بقلب مفعم بالعطف عليه وعلى جيله: «علوان .. اصح.» ويفتح عينيه العسليتين، ويتثاءب، ويقول باسما: «صباح الخير يا جدي.» ويعقب ذلك حركة أقدام، ونشاط ألسنة، وحياة تدب ما بين الحمام وحجرة السفرة، وأستمع إلى قرآن الصباح في الراديو حتى تناديني هناء زوجة ابني: «السفرة جاهزة يا عمي.» أهم ما بقي لي في مسرات الدنيا الطعام. ما أكثر نعم الله في دنياه! اللهم جنبني المرض والعجز، لا أحد ثمة للعناية بالآخرين، ولا فائض مال للتمريض. الويل لمن يسقط. يجمعنا في الصباح المدمس وحده أو الطعمية، هما معا أهم من قنال السويس. سقيا لعهد البيض والجبن والبسطرمة والمربى، ذلك عهد بائد، أو ق.ا. أي قبل الانفتاح. الأسعار جنت، كل شيء قد جن. ما زال فواز مائلا للبدانة، وهو يستعين بالخبز، ومثله هناء، ولكنها تسرع نحو الكبر قبل الأوان. ابن خمسين يبدو اليوم كأنه ابن ستين. وقال فواز بصوته الجهير: سنعمل أياما صباحا ومساء بالوزارة، فأضطر إلى الانقطاع عن الشركة.
ساورني قلق. إنه وزوجه يعملان في شركة قطاع خاص، ودخلهما ومعاشي ومرتب علوان تفي بالكاد بضرورات الحياة، فما الحال إذا استغنت عنه الشركة؟!
فقلت برجاء: لعلها أيام قليلة.
وقالت هناء: سأقوم ببعض عملك، وآتيك بما لم ينجز منه، وأشرح لمدير القسم ظروفك.
فقال فواز متسخطا: هذا يعني أن أعمل في الصباح حتى منتصف الليل.
أتمنى دائما ألا نثير غبار الهموم على مائدة الطعام، ولكن كيف؟ وقال علوان: والد أستاذتي علياء سميح يسوق تاكسي في أوقات فراغه ويربح أكثر طبعا.
فسأله والده: هل يملك التاكسي؟ - أظن ذلك. - ومن أين لي بشراء واحد؟! وهل كان أبو أستاذتك غنيا أو مرتشيا؟ - كل ما أعرفه أنه رجل محترم.
فقلت: اختار طريقا شريفا في النهاية.
فقال علوان ضاحكا: لعلي أختار طريقا مثله يوما ما.
فسألته هناء بجدية: ماذا ستفعل؟ - سأكون عصابة للسطو على البنوك!
فقال فواز بامتعاض: خير ما تفعل.
ومسحت الأطباق مسحا، ومضت بها هناء إلى المطبخ، وما لبثوا أن ودعوني وذهبوا. وجدتني في الشقة الصغيرة وحيدا كالعادة. اللهم ارزقهم واكفهم شر الأيام. اللهم امنحني شيئا من نعمة القرب والولاية. لو تركت البيت على حاله لبقي ملهوجا في فوضى شاملة حتى المساء. أفعل ما أستطيع في حجرة نومي وحجرة المعيشة، حيث أمضي وحدتي مستمعا للقرآن والأغاني والأخبار في رحاب الراديو أو التليفزيون. لو توجد حجرة رابعة لأمكن أن يقيم علوان فيها عشه. الحمد لله، لا اعتراض على قضائه. مر العارف أبو العباس المرسي بالقاهرة بأناس يزدحمون على دكان خباز في سنة الغلاء فرق قلبه لهم، ثم وقع في نفسه أنه لو كان معي دراهم لآثرت بها هؤلاء؛ فأحس بثقل في جيبه فأدخل فيه يده، فوجد فيه جملة من الدراهم، فأعطاها للخباز وأخذ بها خبزا فرقه، فلما انصرف وجد الخباز الدراهم زائفة فاستغاث عليه وأمسكه؛ فعلم أن ما وقع في نفسه من الرقة اعتراض على قضاء الله، فاستغفر وتاب، وسرعان ما تبين للخباز أن الدراهم صحيحة! ذلك هو الولي الكامل، ولا تتأتى الولاية إلا لمن يعرض عن الدنيا. شارفت الثمانين وما وسعني أن أعرض عن الدنيا. هي دنيا الله وهبته الخاطفة لنا، فكيف أعرض عنها؟! أحبها ولكن حب الحر التقي العابد، فلم تضن علي بالولاية؟ يهمني القرآن والحديث كما يهمني الانفتاح، وكما تهمني لقمة المدمس بالزيت الحار والكمون والليمون. ومن ذا يحيط برحمة الله الواسعة؟ فقد أشير ذات يوم من بعيد إلى المصباح فيضيء دون أن أمس مفتاحه. لم يبق لي من أصدقاء العمر إلا واحد فرقت بيننا الشيخوخة. وحدة النفس والمكان والزمان. وكفت العينان عن القراءة منذ عام. نومي قليل جدا ولا أخاف الموت. أرحب به حالما يجيء ولكن ليس قبل ذلك. عندما افتتح الملك فؤاد المدرسة انتدبت لإلقاء كلمة المدرسين؛ يوم مجد أثلج صدري بهتاف الأولاد: «يعيش الملك ويحيا سعد.» تغير الهتاف وتغيرت الأغاني. انفجر أخيرا الغلاء. من وراء الزجاج المغلق أرى النيل والأشجار. بيتنا أقدم وأصغر بيت في شارع النيل؛ قزم وسط العمائر الحديثة. النيل نفسه تغير وكأنه مثلي يكابد وحدة وشيخوخة. لبسته حال واحدة، فقد مجده وأطواره، لم يعد في مقدوره الغضب. ما أكثر السيارات، ما أكثر الثروات، ما أشد الفقر، ما أكثر الأحباب الراحلين! يوم غائم منذر بالمطر، في مثله كانت تحلو الرحلة إلى حدائق القناطر. أصدقاء العمر يجتمعون حول الدجاج المقلي والبطاطس والشراب والفونوغراف. أسمر ملك روحي، إن كنت أسامح وأنسى الأسية، كلهم هياكل عظمية، وضحكاتهم المترعة بالسرور والأمان ذابت في تضاعيف الفضاء. وقفوا ورائي صفا ليلة الزفاف؛ ليلة كشف النقاب لأول مرة عن وجه فاطمة. خمس سنوات مضت على آخر زيارة لقبرك. أي سرعة جنونية في هذا الزحام الذي لم تعرف له الأشجار مثيلا مذ غرست في عصر إسماعيل؟! المجنون يجري بلا وعي نحو حادثة يرصده عندها الأجل. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يا عبد الله، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، واعدد نفسك في الموتى.» صدق رسول الله.
علوان فواز محتشمي
صباح يوم جديد، قديم، جديد قديم، جديد قديم، جديد قديم، جديد قديم، قديم جديد. دوخيني يا ليمونة. إن لم يوجد قديم حسن فليوجد جديد سيئ. أي شيء خير من لا شيء. الموت نفسه تجديد، المشي صحة واقتصاد. المفروض أنه طريق العشق والجمال فانظر ما هو. آه يا قدمي! آه يا حذائي! تحملا وتصبرا، هذا زمن التحمل والتصبر. في زمن النار والوحوش لا نسمة ترطب الفؤاد إلا أنت يا حبيبتي. للأشجار الباسقة فضل، وللنيل فضل أيضا لا ينكر. انظر إلى أعلى إلى السحب البيضاء ورءوس الأشجار لتنسى سطح الأرض المجدور، ستلقى يوما شيطانا بريئا فتؤاخيه. إني عبد العقل الراجح، والخلق الكريم، والعينين السوداوين المظللتين بحاجبين مقرونين؛ منذ الصغر منذ الصبا منذ الشباب في البيت القديم الضائع بين العمائر الشاهقة، دسيسة بين الأغنياء. سيقتلنا صاحب البيت ذات يوم. عجيب أن يخلد الحب في ظل الفساد المنتشر. هذا الطوار المتهرئ، هل تخلف عن غارة جوية؟ وأكوام القمامة رابضة بالأركان تحرس العشاق. صباح الخير أيها المكدسون في الباصات، وجوهكم تطل من وراء الزجاج المشروخ مثل المساجين في يوم الزيارة. والجسر المكتظ بالعابرين. السائرون على عجل يلتهمون سندوتشات الفول بنهم وبلا تذوق. جدي قال: اشتدي أزمة تنفرجي.
يا جدي المحبوب حتى متى نحفظ ونردد؟ إنه صديقي الأول، ما أنا إلا يتيم؛ فقدت أبوي بعد أن فقدا نفسهما في عمل يتواصل من الصباح حتى المساء، موزعين بين الحكومة والقطاع الخاص في سبيل اللقمة والضرورة، لا نلتقي إلا خطفا. - لا وقت للفلسفة من فضلك، ألا ترى أننا لا نجد وقتا للنوم؟! إن صادفت إحدى أخواتي عثرة في حياتها الزوجية ندبت أنا لإصلاح ذات البين! زمن لا يجد فيه أحد عند آخر عونا، على كل أن يصارع وحسن حظه وحده. أخيرا ها هي شركة الأغذية، إحدى شركات القطاع العام، أقرأ على مدخلها بالبنط العريض: «ادخلوها بلا أمل.» ها هي محبوبتي في إدارتنا العتيدة، العلاقات العامة والترجمة، تغدق علي ابتسامة الحب. قلت لها معاتبا: لو انتظرت دقائق لجئنا معا.
فقالت بمرح: لظروف كان علي أن أتناول فطوري في البرازيل.
بفضل جدي جمعتنا شركة واحدة وإدارة واحدة، أو بفضل ضابط من الضباط الأحرار كان يوما تلميذه. جدي شخصيته لا تنسى، يتذكر فضله رجل من جيل أنكر فضل السابقين. ما أكثر البنات في إدارتنا! ها هي جيوش الأوراق تجم عملنا في غير حاجة إلى تركيز جدي؛ أعمل حينا وأسترق النظر إلى حبيبتي رندة حينا. أتذكر وأحلم وأحلم وأتذكر. قصة طويلة ترجع إلى أقدم عصور الحياة في بيتنا القديم الفريد. لعبنا في الطفولة واحد وعمرنا واحد. ماما تؤكد بغير دليل أنها أكبر مني، ويجيء البلوغ مصحوبا بالحياء والحذر، والرقيب يتدخل هادما المسرات، لكن الحب اقتحم في حينه. في المرحلة الثانوية، انهالت على السلم بين الطابقين المداعبات العابرة والعبارات الرمزية. وذات يوم دسست في يدها رسالة اعتراف. كجواب منها أهدتني قصة وفاء الجيلين. لما نجحنا في الثانوية العامة في عام واحد قلت لجدي: أريد أن أخطب رندة سليمان جارتنا. جدي قال لي إنه على أيامه لم يكن يباح الكلام في الخطبة قبل أن يستقل الشاب بحياته، ولكنه وعد بمفاتحة بابا وماما في الموضوع كما وعد بتأييدي. أمي قالت إن آل سليمان مبارك أقرب من الأقارب، ورندة بمنزلة بناتها، ولكنها أكبر منك! وقال أبي: إنها تماثلك في السن إن لم تكن أكبر، وتماثلك أيضا في الفقر. أعلنت الخطبة في يوم سعيد. وقتها كان الحلم يمكن أن يصير واقعا. منذ التحقنا بالعمل موظفين واجهتنا حقائق جديدة، ومرت أعوام ثلاثة فختمنا السادسة والعشرين. كنت عاشقا فأصبحت مرهقا عاجزا مسئولا، لا نجتمع اليوم للمناجاة، ولكن لمناقشات توشك أن تلحقنا بالمجموعة الاقتصادية؛ الشقة .. الأثاث .. أعباء الحياة المشتركة. لا حل لديها ولا حل لدي، ولا نملك إلا الحب والإصرار. أعلنت الخطبة في عهد الناصرية، وواجهنا الحقيقة في عصر الانفتاح، غرقنا في دوامة عالم مجنون، حتى في الهجرة لا مجال لنا، بين الفلسفة والتاريخ ضعف الطالب والمطلوب. لا لزوم لنا. ما أكثر من لا لزوم لهم! كيف حاق بنا هذا الضياع؟! إني مسئول مطارد تحاصره التساؤلات، وهي جميلة ومطلوبة، وأنا قائم مثل السد في طريق حظها. نظرات والديها الممتعضة لا تفارقني .. أكاد أسمع ما يقال من ورائي. فوق ذلك تهيم أحلام الإصلاح، تجيء من فوق أو من تحت، بقرارات أو بانتفاضات، معجزة العلم والإنتاج، لكن ما الحل مع ما يقال عن الفساد واللصوص؟ ما أفظع ما تقول الدكتورة علياء سميح وما يقول محمود المحروقي! أين الصواب؟ لم أشك في كل شيء؟ منذ تهاوى مثلي الأعلى في 5 يونيو، كيف يجد أناس سبيلا سحريا إلى الثراء الفاحش وفي زمن لا يصدق؟! ألا يمكن أن يحدث ذلك بلا انحراف؟ ما سر حرصي على الاستقامة؟ ما أطمح في هذه الساعة إلى أكثر مما يؤهلني للزواج من رندة. دعينا إلى مقابلة مدير الإدارة أنور علام، أنا ورندة. كثيرا ما ندعى معا لتعاوننا المشترك على ترجمة اللائحة؛ إنه مدير لطيف المعاملة، جميل الاستقبال، محب للدعاية، نحيل طويل غامق السمرة، مستدير العينين ذو نظرة نافذة، وأيضا كهل يشارف الخمسين من عمره وأعزب. وكعادته قال: أهلا بالعروسين!
وراح ينظر في أوراقنا بسرعة وذكاء مبديا بعض الملاحظات. ورد التسويدة متسائلا: متى نفرح بكما؟
إني أعتبر أسلوبه في التدخل في الشئون الخاصة للموظفين سياسة، وإن لم تصادف مني ارتياحا مثل نظرة عينيه، على أني أحببته: مشكلتنا حتى الآن لا حل لها.
فقال باستهانة جريئة: لا مشكلة بلا حل.
فقلت كالمحتج: ولكن ...
وإذا به يقاطعني: لا تردد أقوال العاجزين.
فملأني الغيظ وسألته: ما الحل في تصورك؟
فضحك ضحكة مستفزة وقال: لا تطلب الحل عند الآخرين.
رجعت إلى مكتبي وفكرة تساورني أنه تعمد أن يظهرني في صورة العاجز أمام رندة، وعشت في غبش هذه الفكرة طيلة الوقت حتى أذن موعد الانصراف. ولدى عودتنا معا إلى شارع النيل ملفوفين في معطفينا قلت لها: الرجل أثار أعصابي.
فقالت وهي تحبك طوق المعطف حول عنقها السمح: وأنا كذلك. - إنه سمج يدعي الظرف. - هو كذلك. - هل تصدقين أنه يوجد حل لمشكلتنا لم نهتد إليه بعد؟
فتفكرت قليلا ثم قالت: أملي في الله كبير، نحن نفكر وكأن كل شيء سيبقى على حاله إلى الأبد!
فقلت بقلق: ولكن العمر يجري يا رندة.
فقالت باسمة: ربما، ولكن الحب ثابت!
رندة سليمان مبارك
أصعد السلم إلى الشقة، ويقف هو أمام شقته كأنما ليطمئن علي حتى أبلغ بابي. ودعني بقبلة فاترة شأن المهموم بأفكاره. لعنة الله على المدير. استفزه بلا سبب. ظل طول الوقت كئيبا مغتما. أفهم ذلك جيدا، ولكن ألا يثق بي؟! لا مساحة عندنا لمزيد من القلق. رائحة الملوخية تجول في الشقة، ما أشد استجابتي لها! أبي نائم فوق مقعده. ألثم جبينه فيختلج جفناه. يبتسم بحنان. هزلت وضعفت. لعنة الله على الروماتزم. محتشمي بك جد حبيبي أقوى منه عشر مرات رغم أنه يكبره بعشر سنوات. صوت ماما يعلن أن السفرة جاهزة. أحب الملوخية، ولكن ماما لا تعجبها شهيتي. كثيرا ما تقولي لي: النحيف لا يقاوم الأمراض.
فأقول لها: البدانة أيضا ضارة. - عنيدة، إن قلت يمينا قالت شمالا.
ماما بدينة، وكانت كذلك من قديم، تصلي وهي قاعدة على الكنبة؛ من أجل ذلك يكتنفني الحذر عند تناول الطعام. ظنت نفسها غنية بدخلها البالغ خمسة وعشرين جنيها في الشهر. لعلها كانت على حق في الأيام الأسطورية التي تحكى لنا، أي قيمة اليوم لدخلها ومعاش بابا ومرتبي جميعا؟!
ركب أبي طاقم أسنانه الذي لا يستعمله إلا حين تناول الطعام، وراح يأكل على مهل ويشكو شدة البرد. انضمت أختي المطلقة سناء التي تشاركني حجرة نومي. إنها تدرس السكرتارية في معهد خاص لتجد لها عملا فلا تكون عالة على أحد. بعد الغداء استلقيت على فراشي، فعاودتني ذكرى القبلة الفاترة. لا أحب هذا. إهانة أو ما يشبه ذلك. إذا تكرر ذلك فسوف أصارحه: لا تقبلني إلا وأنت تحبني، لا يشغلك شيء عن حبي، ماذا بقي لنا سوى الحب؟! أراعيه كأنما أنا أم وكأنما هو ابن مدلل متمرد. آه لو أمكنه أن يكون مهندسا! كان «زمنا» من أبطال الانفتاح لا من ضحاياه، وضحية أيضا ل 5 يونيو واختفاء البطل المنهزم، حائر لا موقف له. حتى متى؟ يحتقر السابقين ويؤمن بأنه خير منهم، لماذا؟ متى ينظر إلى نفسه نظرة ناقدة موضوعية؟ لعله دوري وواجبي، ولكني أخشى على الشيء الباقي الوحيد؛ حبنا. أحبه والحب لا عقل له، أريده بكل قوة نفسي. كيف؟ ومتى؟ أختي سناء تزوجت عن حب وقنعت بالثانوية العامة ونصيب ست البيت، وشاب من ذوي الأملاك ثم لم توفق، ومات الحب. الاتهامات انصبت كالعادة على الطرف الآخر، ولكنها عصبية، تثور كالبركان لأتفه الأسباب؛ فمن يحتمل ذلك؟! من أجل ذلك تعودت على أن أحذر الغضب كما أحذر الإفراط في الطعام. متى تتيسر تلك السعادة الملعونة؟! حتى متى يصمد الجمال أمام الزمن الجارف؟ لا ولم أعرف أنني نمت إلا بحلم رأيته. قمت عصرا .. لاطفت قطتي دقيقة .. صليت العصر والظهر معا. شكرا لماما؛ فهي مربيتي الدينية. أما بابا! ماما زوجة موفقة رغم فارق السن بينها وبين بابا ورغم لادينية بابا! أتذكرين محاسبتك له في الزمان الأول؟ - بابا، لم لا تصوم مثلنا؟
يقول ضاحكا : الصغيرة تحاسب أباها. - ألا تخاف الله؟ - الصحة يا حبيبتي، لا يغرنك مظهري. - والصلاة يا بابا؟ - أوه .. سأحدثك عن ذلك عندما تكبرين.
ليس كذلك الحال في شقة حبيبي. الجد والأب والأم يصلون ويصومون. لادينية أبي اليوم ساطعة مثل شيخوخته ومرضه. لم يتفوه أبدا بكلمة مريبة، ولكن في السلوك ما يكفي، في ثورات غضبه يسب الدين. ربما استغفر الله إرضاء لي أو لماما كشعار ليس إلا كسائر الشعرات الجوفاء التي تنهال علينا من أفواه المسئولين. زمن شعارات مقزز، حتى الراحل البطل لم يعف عن ترديد الشعارات، وبين الشعار والحقيقة هوة سقطنا فيها ضائعين، ولكن ما حبيبي؟ .. متدين؟ .. لا ديني؟ .. ملتزم؟ .. لا ملتزم؟ علياء سميح؟ .. محمود المحروقي؟! .. آه .. إنه حبيبي وكفى، ورزقي على الله. دائم البحث عن شيء مفقود. لو حلت مشكلتنا لعرف لنفسه مرفأ، ينطح الصخر ويقبض على الهواء. حجرة المعيشة تجمعنا .. أبي بمرضه وشيخوخته وإلحاده، ماما وبدانتها المفرطة وهموم الآخرين، سناء وضيقها بوضعها وشعورها الأليم بالغربة، أنا ومشكلتي المزمنة. في الظاهر والداي قد أتما رسالتهما، فأي سخرية! ها هو التحقيق الصامت يحاصرني. ماذا بعد خطبة طالت أحد عشر عاما؟ ألا يوجد بصيص أمل؟
تقول سناء بصوتها الرفيع الحاد: لتنتظر حتى تترمل وهي مخطوبة!
فأقول لها بصرامة: لا شأن لك بي.
فتقول ماما: ذكريه يا رندة كي لا ينسى. - نحن نعيش همومنا كل دقيقة؛ فلا داعي للتذكير.
ثم بمزيد من الحدة: إني رشيدة، اخترت سبيلي بملء حريتي، ولن أندم على شيء.
ويقول أبي بضجر: رندة رشيدة ومسئولة عن نفسها.
فتقول ماما بحسرة: كم من عرسان لقطة فقدناهم!
فأقول بكبرياء: لست جارية معروضة في السوق للبيع. - أنا أمك، فوق أي شبهة، تزوجت بالطريقة القديمة ووفقت والحمد لله. - يا ماما لكل جيل طريقته، وجيلنا فاق الجميع في سوء حظه.
فيقول أبي باسما: جاء عصر أكل الناس فيه الكلاب والقطط والحمير والأطفال، ثم أكل بعضهم البعض.
فقلت بمرارة: لعلنا أسعد من عصر آكلي البشر.
وهتف أبي مغيرا الجو: حسبكم .. المسلسل التليفزيوني بدأ.
انتزعتني المقدمة الموسيقية التي أحبها من الصراع بقوتها الانسيابية، دعت حبيبي فهبط من الغيب وجلس إلى جانبي، انقلبت فجأة إلى أنثى حالمة شديدة الفهم للحياة الزوجية، وطاردت دمعة خائنة أوشكت أن تفضحني. هل تقبل الدنيا بدونه؟
وقالت ماما: با بخت أبطال المسلسلات! .. فما أسرع أن يجدوا لمشكلاتهم الحل السعيد!
محتشمي زايد
في وحدتي أنتظر، أحبك الروب حول جسدي النحيل، وأسوي الطاقية فوق رأسي الأصلع، أربت على شاربي. وفي وحدتي أنتظر،
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . جرس الباب يرن، أفتح الباب فتدخل أم علي، في معطف سنجابي والخمار الأبيض يحدق بوجهها القمحي الريان. - كيف حالك يا بك؟ - نحمده يا أم علي. - الشتاء لا يريد أن يرحم.
وكامرأة يوزن وقتها بالنقود، خلعت المعطف وعلقته بمشجب قائم غير بعيد من الباب ثم مضت إلى حجرة نوم فواز وهناء. تبعتها كما نبه علي. جلست على مقعد أتابعها وهي تكنس وتنفض وتنظف وتلمع وترتب؛ نشيطة خفيفة رغم امتلائها. يخافون أن تمتد يدها إلى شيء. سوء ظن لا مبرر له، وهو من رواسب الماضي. أم علي ساعتها بجنيه، وتنتقل من بيت إلى بيت كالنحلة؛ فإيرادها يزيد عن مرتباتنا جميعا مجتمعة، ولكني أرتاح إلى الانفراد بها. نزهة أسبوعية تنفخ في وجداني نغمة الحلم الغابر، الانفراد بها يتجسد في حال يضطرب لها روتين الزمن، ويواجه الأنا القديم الأنا الطارئ فيتناجيان وبينهما فاصل الزمن بلغتين غريبتين لا تفضيان إلى تفاهم، ثم يستعير القلب من مخزونه البائد خفقة خاطفة تعيش حياة مقدارها ثلاثون ثانية. وعندما تنحني لتعيد بسط الكليم أتصور أن أقرصها بحنان، مجرد تصور؛ فإنني مسيطر على زمامي تماما، وهي مطمئنة من ناحيتي تماما، كأنها رجل في النشاط والقوة وتماسك الشخصية،
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . وأسألها متمرغا في انفرادي بها: كيف حال المعلم؟ - ربنا يلطف به. - والأولاد؟ - هاجروا، لم يبق إلا العبيط.
وتضحك ثم بدورها تسألني: ما آخر أخبار صاحب عمارتكم؟ - يئس وسكت. - من كان يصدق أن الأرض تجن مثل بني آدم؟! - الجنون أصل كل شيء يا أم علي.
ما أشد شعوري بالانفراد بك! حوالينا ولا علينا يا رب، كأيام شارع خيرت المسقوف بالشجر، وتحت مظلة من الأفكار الحرة المستوردة، فكرية ورتيبة الممرضتان وشقاوة الغجر. الحياة فصول، ولكل فصل مذاقه، وطوبى لمن أحب الدنيا بما هي دنيا الله. في زيارة لسليمان مبارك أبي رندة قال لي: أغبطك على صحتك يا محتشمي.
فقلت بثقة: الوراثة والإيمان يا عم سليمان.
فتساءل وهو ينظر نحوي بخبث: كيف أصدق أن مثلك يؤمن بالخزعبلات؟ - الله يهدي من يشاء. - كأنك في ماض ما، ما كنت ملحدا.
فقلت باسما: إيمان موروث؛ شك، إلحاد، عقلانية، لاأدرية، ثم إيمان!
فتساءل ساخرا: بوفيه مفتوح؟! - هي الحياة الكاملة. - إني فخور بثباتي، راض بالعدم، عابد للحقيقة، وقد أوصيت زينب إذا جاء الأجل ألا ينشر نعي ولا تكون جنازة ولا مأتم ولا حداد. - ما هو إلا نور يهبط فجأة فيبدد الظلمات. - المسألة أن العمر تقدم بك حتى لاح لك الموت.
حوار عقيم،
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . صديقي يعيش في كون خال، وأعيش في كون آهل بالأحباب. أستغفر الله. يا لها من زيارة؛ زيارة أم علي! ماذا يفعل المسكين علوان؟ محرومون وسط سيرك من اللصوص. أحدثه عن زماني لعله. رمى ببهلوان يطلق في العطسة عشرة شعارات عقيمة. أم علي تنتهي من عملها، تغسل اليدين والوجه وترتدي معطفها السنجابي وتنظر في ساعة يدها لتعرف مستحقاتها، أسلمها النقود فتذهب قائلة: فتك بعافية يا بك. - مع السلامة يا أم علي، لا تنسي الميعاد القادم.
وتعود الوحدة، أتمشى في الشقة بعد تعذر المشي في الشارع. القرآن والأغاني. طوبى لكم يا من اخترعتم الراديو والتليفزيون. بامية ومكرونة الغداء. حبب الله إلي العبادة، وجعل قرة عيني في الطعام. أي وحدة والكون من حولي مكتظ بملايين من الأرواح؟ أحب الحياة وأرحب بالموت في حينه. كم من تلميذ قديم لي قد صار اليوم وزيرا! لا رهبانية في الإسلام، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها. كثيرا ما أحادث حفيدي المحبوب عن الماضي لعله من حيرته يخرج. أغريه بالقراءة وقليلا ما يقرأ، ويستمع إلي بدهشة من يعز التصديق عليه. دعنا من علياء سميح ومحمود المحروقي، ألم تحملك الأحداث على الإيمان بالوطن والديمقراطية؟ وما معنى الإصرار على التمسك ببطل منهزم راحل؟! كي لا تصبح الدنيا فراغا يا جدي. إني ألفت نظرك إلى أشياء غاية في الجمال. يضحك ويقول لي: ما أريد الآن إلا شقة ومهرا مناسبا.
كيف أستطيع تجنب هموم الدنيا ومعي حفيدي المحبوب؟! ما أجمل كرامات الأولياء!
علوان فواز محتشمي
علمني زمني أن أفكر، علمني أيضا أن أستهين بكل شيء، وأن أشك في كل شيء. ربما قرأت عن مشروع منعش للآمال، وسرعان ما يكشف المفسرون عن حقيقته فلا يتمخض عن أكثر من لعبة قذرة. هل تترك السفينة للغرق؟! هي عصابة مسلطة علينا لا أكثر ولا أقل؟! أين الأيام الحلوة؟ كانت توجد أيام حلوة لا شك في ذلك، ولي أنا أيضا أيام، حين كانت الشقة عامرة بالأخوات والدفء، وكانت الأعباء يسيرة. كان لأبي وأمي وجود في البيت، وكان يوجد حوار وضحك وحماس الدراسة وسطوة البطولة. إحنا الشعب، اخترناك من قلب الشعب. والحب كان باقة من الورد في قرطاس من الأمل. فقدنا زعيمنا الأول ومطربنا الأول، ويخرجنا من الهزيمة زعيم مضاد فيفسد علينا لذة النصر؛ نصر مقابل هزيمتين. اخترناك من قلب الشعب. وتجذب حبيبتي الشص من الماء فتخرج فارغة وتنغرز في إبهامي، وتترك أثرا مازال باقيا حتى اليوم. على شاطئ النيل أمام بيتنا قلت لها: إنك لا تحسنين صيد السمك، ولكنك اصطدت قلبي وأسلت دمي. من الأخوة إلى الحب حدث تغير بطيء مثل قرون أوراق الشجر التي تسبق بالظهور في أوائل الربيع، ولا ترى إلا عند التأمل. أنوثة وتورد الخدين ووشاية أعلى الفستان، باللغة حين تقول الكلمة شيئا وتشير إلى شيء آخر، وتلاشت البراءة، وحلت محلها مفاوضات وتوسلات من أجل لثمة فوق الخد أو الشفة. أطيب ثمرة في الشجرة أخلاق وعقل وجمال. يضايقني أحيانا أن تبدو أعقل مني. لا أنسى حزن نظرتها عندما اعترفت لها بعجزي عن اختيار القسم العلمي. حوار طويل لم يجر على لساننا، ولكنه يتربص بنا في زاوية ما. أسرتانا سقطتا معا في حفرة الانفتاح. شد ما يحزنني ألا تظهري في الملابس اللائقة بجمالك. أي مسئولية تثقل كاهلي. قلت لها مرة في استراحة الهرم: فلنتسل بحصر أعدائنا.
فدخلت اللعبة قائلة: غول الانفتاح واللصوص الأماثل. - هل ينفعنا قتل مليون؟
فقالت ضاحكة: قد ينفعنا قتل واحد فقط.
فقلت ضاحكا أيضا: إنك اليوم رندة المحروقي. •••
أنور علام المدير يستدعيني إلى حجرته، ويطلب إلي أن أزوره في مسكنه في الخامسة مساء لإجراء مراجعة شاملة قبل إعداد الحساب الختامي. أخبرت رندة فلم تعلق. مسكنه في عمارة نصف جديدة بالدقي تقع أمام أحد مداخل جسر 6 أكتوبر. استقبلني ببشاشة وهو مرتد بدلته وقال: لا تغرقك فخامة الشقة؛ فأختي تعيش معي، وهي أرملة غنية.
كأنما ينفي عن نفسه الشبهات. كل فرد مهدد اليوم بالشبهات. وعملنا بهمة حتى الساعة الثامنة. في أثناء ذلك دخلت الأرملة بالشاي، تعارف بيننا وقدمها قائلا: «جولستان أختي.» من النظرة الأولى شعرت بأنني أمام امرأة يقع عمرها ما بين الأربعين والخمسين، مقبولة المنظر، ممتلئة في تكوين حسن، مثيرة رغم رزانتها واحتشامها، أو ربما لرزانتها واحتشامها. لم تجلس، وقالت وهي تغادرنا: استبق الأستاذ للعشاء معنا.
فقال أنور علام: هذا أمر!
أعدت لنا مائدة من الشواء والسلطات المتنوعة والجبن والزيتون ثم مهلبية وتفاح. وسمعت أنور علام يقول ونحن نتناول عشاءنا: أنا وكيل أعمالها؛ فقد ورثت عن زوجها عمارتين وشهادات استثمار.
لفت نظري تعريفه لي بأملاكها فسرحت في أكثر من ظن. وراح يحكي لها عن مشكلة خطبتي بإشفاق. - هذه حال جيل بأسره.
فقال الرجل: ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن علوان من أصحاب المبادئ.
فقالت بإعجاب: جميل أن أسمع ذلك، الأخلاق أهم شيء في الدنيا.
نبرتها لا تدع مجالا للشك في صدقها. وإني أجدها مثيرة للغاية، وإني مخزن بارود عند أي إثارة. معاناتي في هذه الناحية تستحق الرثاء. وقال أنور: أختي كاملة في كل شيء إلا شيئا واحدا لا أوافقها عليه، هو إعراضها عن أكثر من فرصة زواج طيب.
فقالت بهدوء: لست سلعة وليسوا رجالا.
فقال أنور علام: ثراء المرأة قيمة مشروعة، ولا عيب على الرجل إذا أولاها ما تستحقه بالإضافة إلى المزايا الأخرى.
فقالت السيدة جولستان: لا رجل جدير بالثقة في هذا الزمان.
وملت إلى تغيير مجرى الحديث، فسألت مديري: معذرة يا سيدي، لم لم تتزوج حتى اليوم؟!
فقال بغموض: أسباب كثيرة.
ولم يذكر سببا واحدا، فقالت جولستان: إنه مخطئ، وهو قادر على الزواج.
وراح يسألني عن أسرتي وأسرة رندة وأنا أجيبه بصدق وإيجاز، حتى قال: رندة فتاة ممتازة، ولكن الزمن يسرقها.
طعنة وأي طعنة! مقصودة أم جاءت عفو الخاطر؟!
على أي حال أفسدت علي السهرة، ولم يخفف من حدتها قول جولستان: الحب هو العمر الحقيقي.
وغادرت المسكن مشحونا بالسخط على الرجل والإثارة من ناحية شقيقته.
رندة سليمان مبارك
اعتمدت رسائلي المترجمة من المدير ولم يبق إلا أن أذهب، ولكنه مال بكرسيه المتحرك إلى الوراء وقال لي: آنسة رندة، عندي حكاية تهمك.
ماذا عنده يا ترى؟
قال: هي طبيبة شابة، كانت مخطوبة لطبيب زميل لأعوام، يئسا من الزواج، فسخا خطبتهما، تزوجت من تاجر في وكالة البلح، ووافقت على رغبته على البقاء في البيت كست بيت.
دهشت واستأت، ولكني سألته بهدوء: لماذا تتصور أن هذه الحكاية تهمني؟
فسألني متجاهلا سؤالي: ما رأيك في تلك الطبيبة؟
فقلت بشيء من الجفاء: لا أستطيع أن أحكم على واحدة لا أعرف ظروفها.
فقال بهدوء: أنا أعتبرها عاقلة، فست البيت خير من طبيبة عانس.
غادرته بوجه لا أشك في أنه عالنه باستيائي. له نظرات طامعة لا يمكن تجاهلها. والحق أنه يشكل عبئا علينا، أنا وعلوان. في صباح الجمعة التالي لزيارته لبيت المدير ذهبنا إلى استراحة الهرم. الجو بارد حقا، ولكن الشمس ساطعة، ونحن ننظر من عل إلى المدينة التي تبدو عظيمة هادئة مترامية كأنما خالية من الهموم والقاذورات. وسألته ونحن نحتسي الشاي: كيف كانت زيارتك للبك المدير ؟
فأعادها علي بتفاصيلها، حتى أفسدت علي جلستي الحلوة. قلت: يبدو أنها لم تكن زيارة عمل. - بل عملنا ثلاث ساعات متتابعة.
فقلت بتحد: أنت فاهم قصدي.
فقال بسخط: إنه شخص مثير للأعصاب. - وأخته؟! - عاقلة متزنة احترمتها كأم.
فضحكت ضحكة باردة وتساءلت: وهل عاملتك كابن؟
فتساءل محتجا: تحقيق واتهام يا رندة؟!
فقلت بسرعة: لا سمح الله.
ورويت له ما دار بيني وبينه في مكتبه، فقطب غاضبا وهتف: سأطالبه بألا يتدخل فيما لا يعنيه.
فقلت بتوسل: الأفضل أن نهمله كي لا تسوء العلاقة بينك وبين مديرك.
فقال بامتعاض: المسألة أن موقفي منك ضعيف لا أدري كيف أدافع عنه.
فقلت بلطف: لست متهما ولا أطالبك بدفاع. - إني مسئول وحزين. - لا حيلة لنا. - لكنه وغد ويعد خطة. - أهمله مع حقارته.
وصمتنا قليلا هاربين إلى رحمة الطبيعة حولنا حتى جاءني صوته متشكيا: كأننا نسينا حديث الحب.
فقلت مدارية حزني: لسنا في حاجة إلى مزيد منه.
فقال وهو يرمقني بامتنان: أحبك.
فقلت وأنا في غاية من التأثر: أحبك.
فتساءل في حيرة: ترى ما المغامرة الشريفة التي تدر علينا ما نحن في حاجة إليه من مال؟
فقلت باسمة: ألا تملك موهبة الفتى الأول في السينما؟ - وأنت ألم تجربي صوتك ولو في الحمام؟
وضحكنا رغم همنا المشترك، وقال: ليست المشكلة تحسين مرتب، ولكنها مشكلة الخلو والأثاث أيضا.
ثم واصل بعد صمت قليل: المحروقي تزوج بكل بساطة، ولكنه يعيش في مخيم مع طائفته.
تخيلت المخيم وحياته، كأنه خيال لا حقيقة. رغم ذلك هفا فؤادي إليه؛ خيمة بسيطة ولكن يخفق بين جوانحها الحب. وفاض من قلبي نبع حنان متدفق. وقال بصوت دلني على أنه يشاركني أشواقي: شد ما أريدك أكثر من أي شيء في الوجود!
انضباطي خلقة مركبة في أعماقي منذ الصغر. حواري مع رغباتي الجامحة دائما ينتصر. لم تؤثر في تجارب شاهدتها عن كثب. حافظت على تصوري الوقور لمعنى الحرية. لم أتزعزع للتهم الساخرة المألوفة بالانغلاق والرجعية، ولم أبرأ من الحزن.
محتشمي زايد
ليلة أمس رأيت فيما يرى النائم سيدي أبا ذر. العبادة تغدق علي شفافية وهابة للرؤى. لحبي الدنيا أقف عند ذاك الحظ لا أتجاوزه، وترد على خاطري هذه الحكاية: «قال محمد بن العطار، قال لي الشيخ محمد راهين يوما: كيف قلبك؟ فقلت له: لا أعرف كيفيته.» وذكرت ذلك لسيدنا شاه نقشبند، وكان واقفا فوضع قدمه على قدمي، فغبت عن نفسي فرأيت جميع الموجودات مطوية في قلبي، فلما أفقت قال: إذا كان القلب هكذا فكيف يتسنى لأحد إدراكه؟ ولهذا قال في الحديث القدسي: «ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن.» ترد على خاطري تلك الحكاية فأغبط الأولياء وأتوق إلى الكرامات، ولكني أقف عند حافة بحر التصوف مستمسكا بالعبادة قانعا بها في أحضان دنيا الله، وقد يرتد بصري المتأمل الهادئ بنور من الوهاب. لا، ولا أندم على مراحل الحياة التي مررت بها؛ فقد منحت كل مرحلة نورها. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. ويدق جرس الباب عند الضحى. من القادم وليس اليوم بيوم أم علي؟ وأفتح الباب فتدخل زينب هانم أم رندة. أستقبلها بترحاب وأنا أعجب لبدانتها رغم الضائقة. وتجلس في حجرة المعيشة وأسكت الراديو فتقول: لا أحد لي غيرك يا محتشمي بك.
فقلت وأنا أسائل نفسي عما جاء بها: لنا الله جميعا. - فواز بك وهناء هانم أولى بالحديث، ولكن العمل المتواصل لم يترك لهما فراغا، ولا فائدة ترجى من مخاطبة علوان؛ ففيك الكفاية والبركة.
آه، فهمت كل شيء مقدما، إنها قادمة من أجل مشكلة علوان ورندة. - إني مصغ إليك يا زينب هانم. - عندك حسن التقدير، البنت يا محتشمي بك على وشك الضياع. - لا سمح الله. - إنكم لدينا المفضلون على غيركم، ولكن حتى متى ننتظر؟!
شعرت بالخطر الزاحف نحو حفيدي المحبوب فتساءلت: زينب هانم، أليست رندة رشيدة ومثقفة وتميز بين ما ينفعها وما يضرها؟ - الحب يضل يا محتشمي بك، أصبح الحب في هذه الأيام إلها. هل تزوجت أنت عن حب يا محتشمي بك؟ هل تزوج فواز بك عن حب؟ - ولكنهما يؤمنان به.
ونتركهما حتى يدمرهما معا؟
وتنهدت بصوت مسموع شأن العاجز، فقالت ولغدها يتحرك: فلنبذل جهدا للإنقاذ، وليفعل الله ما يشاء، ربما وجد كلاهما ما يناسبه. - أهذا رأي سليمان بك أيضا؟ - إنه أبوها كما أنني أمها، وما يحزننا إلا أن علوان فتى طيب وجدير بكل خير.
وتمتمت وأنا أختم الحديث: وسيئ الحظ أيضا.
فذهبت وهي تقول: اعتمادي بعد الله عليك.
يا له من صباح! قضي علي أن أكون وسيط السوء إلى أعز الناس على قلبي. انكمشت في مقعدي متلفعا بالكآبة، وفي أثناء الغداء لم أشر إلى الزيارة حتى انفردت بالشاب عصرا في حجرة المعيشة. لم ينتبه بطبيعة الحال إلى معنى نظراتي حتى سألته: هل تغفر لي حديثا غير سار؟
فرماني بنظرة متوجسة وقال ساخرا: هذا هو الأصل في الأحاديث يا جدي. - عن رندة يا علوان.
فتغير وجهه الحسن وغشيه الحب فعرضت الموضوع بتفاصيله. كور قبضته وألصقها بفيه معتمدا بكوعه على خوان قديم، وقال: كأنني مجرم مطارد يا جدي. - يجب أن نفكر بهدوء وشجاعة. - أريد أن أعرف انطباعك يا جدي.
فازددت ضيقا وأنا أقول: لهم عذرهم، هذا ما يجب أن نسلم به.
فقال بحدة: رندة ليست قاصرا. - بلى، ولكن الانتظار يبدو بلا نهاية. - أنا لم أقصر. - لا أحد يتهمك. - الرأي الأخير لهم أم لها؟ - الآن هو بين يديك أنت. - أنا؟ - العمر يجري، وأنت فتى عاقل، بيدك إنقاذها، وربما إنقاذ نفسك أيضا .. إنه ليس مجرد سوء حظ، إنه خط طويل من المآسي؛ 5 يونيو، والانفتاح، وروسيا، والولايات المتحدة، ومملكة المنحرفين.
وتساءل: ولو أصررت على الرفض؟
فقلت بتسليم: افعل ما تراه صوابا.
فهز رأسه قائلا في غموض: أعدك بذلك يا جدي.
وعلم فواز وهناء بالموضوع مساء. وانفعلت هناء غاضبة وقالت إن قلبها لم يوافق على الخطبة إلا مضطرا. أما فواز فقال إنه طالما حذر ابنه من هذه النهاية المحتومة. وقال: الخطبة تعرقل الاثنين.
وقالت هناء تخاطبني: أقنعه يا عمي، إنه يعاندنا، ولكنه يقتنع بك، لو سمع كلامي من أول الأمر ما انتهى بنا الأمر إلى هذه الخاتمة المهينة .
وجالت بنفسي الآية الكريمة:
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
علوان فواز محتشمي
لم يبق من الشتاء شيء، والجو ينعم بصفاء نادر. السوء كله كامن في وحدي. كان يجب أن أختار مكانا آخر غير استراحة الهرم؛ هذا الموقع عند حافة الهضبة سجل لنا أجمل الذكريات. هدوء نظرة عينيها ضاعف من إحساسي بالذنب. لا يوجد شخص يستحق الاحترام، ولا فعل يستحق الثقة، ولا وعد يستحق التصديق. ذلك التاريخ المنحدر ما بين العندليب الأسمر والغراب الأسمر، فلتكف الدكتورة عن إلقاء الشعارات؛ فهي زوجة وأم، وشربت العشق حتى الثمالة؛ فلنحتس الشاي في هناء، أو لتهنأ به وحدها، أما أذوق له طعما. - أعوذ بالله من صمتك!
فرنوت إلى هامات النخيل المنثور فوق المنحدر وسألتها: رندة، هل علمت بزيارة مامتك لجدي؟
فقالت باستهانة: لم تمر بسلام، ولكن لا جديد تحت الشمس.
فقلت بأسى: لو صح ذلك لتزوجنا منذ سنوات. - أراك متأثرا أكثر مما توقعت. - اختنقت الأنفاس. - اعتدنا أن نصمد حيال المعارضة. - حتى متى؟ - لا أهمية للوقت. - الوقت مهم أردنا أم لم نرد، ومسئوليتي ثقيلة.
فقالت بحزم: لست معفاة من المسئولية، إني مثلك تماما. - لا مفر من التسليم بأني أهدر مستقبلك. - ومستقبلك أنت؟ - الأمر يختلف، وقد يتزوج الرجل في الخمسين.
شحب وجهها وهي تتمتم: لأول مرة أجدك منهزما يا علوان.
فقلت بعد تردد: ربما لأنني أنتصر على أنانيتي لأول مرة!
فهتفت بفزع: رباه .. أتفكر حقا في ...
وأشفقت من إتمام جملتها، فقلت وأنا أمرق من جرحي: إني أحررك من قيدي.
قالت بانفعال شديد: علوان .. لا أطيق سماع ذلك. - أعيدي التفكير في موقفك بعيدا عن ظلي الثقيل. - إني حرة ولا سلطان لأحد علي. - الأمر يتطلب إعادة نظر.
فتفكرت في وجوم ثم قالت: إنه منطق سليم، ولكني أشك في سلامته في ظل حب حقيقي.
فقلت بسرعة وحرارة: حذار من الشك في، لا تزيدي الموقف سوءا؛ فالحب أيضا هو التضحية. - لا حاجة لك إلى التضحية . - إني أقرر ما أراه صوابا.
فقالت بمرارة: قل إنك أصبحت تجدني عقبة في سبيلك. - سامحك الله يا رندة، لن أدافع عن نفسي. - إنني أرفض تضحيتك.
فقلت بوضوح: وأنا مصر عليها.
وفصل بيننا صمت أثقل من الليل الزاحف. انسحب كلانا إلى داخل ذاته، وباعد اليأس ما بيننا إلى ما لا نهاية، حتى فقد مجلسنا أي معنى. وقامت متثاقلة وهي تقول: لا وجه لبقائي هنا.
فقمت ضامر الحيوية، كأننا غريبان سيذهب كل إلى وطنه، ولا شيء أقوى من الحب إلا الألم. تخايلت لعيني الوحدة المتربصة بي في نهاية الطريق، وطوال الطريق لم نتبادل كلمة ولا تحية عند الفراق داخل العمارة القديمة. وجدت والدي في حجرتهما وجدي وحيدا أمام التليفزيون. جلست على مقربة منه، فنظر نحوي بتوجس واستطلاع، ثم قال وكأنما يهرب من أفكاره: فيلم عن امرأة مجنونة، لم أحبه.
فجاريته متسائلا: ولم ترى ما لا تحبه؟ - في القناة الأخرى خطبة. - ولم لا تغلقه؟ - هو خير من لا شيء.
فقلت: الخطبة فسخت.
وجم وتجلى في عينيه الخابيتين الهم ثم غمغم: أعانك الله على بلواك.
فقلت بجفاء: فسخت وانتهى الأمر.
فقال بأسى: لدي شعور بالذنب.
فقلت بصوت بارد: لا ذنب لك يا جدي.
رندة سليمان مبارك
رأيت صورة وجهي معكوسة في نظرة أمي التي استقبلتني بها. ها هي تداري عينيها في إشفاق وما يشبه الخوف. قلت لها على مسمع من أبي: هنيئا لك، نجح مسعاك.
فغرقت أكثر في الصمت حتى اغرورقت عيناها، وإذا بأبي يقول: إني مطمئن إلى رجاحة عقلك.
فقلت محتجة: بابا .. من فضلك لا تعاملني كطفلة.
فقال بهدوء: لن تندمي، وسوف أذكرك بذلك في يوم قريب.
ونطقت أمي لأول مرة، قالت: أنت مؤمنة، ولا خوف على مؤمن.
وقال أبي: أمك لم تخطئ يا رندة.
ولكنها دنيا جديدة تماما التي علي أن أعايشها منذ الساعة؛ دنيا لا يوجد بها أثر لعلوان، دنيا على القلب أن يصبر عليها حتى يجيئه الفرج بموته، ودهمني شعور قاس بتقدم سني، وأنني أطرق أبواب العنوس برجاء خائب، وتبدت لي حجرة نومي قديمة بالية بسريريها العتيقين وصوانها المقشر وسجادتها الجرداء التي لم يبق من رسومها إلا خيال، حتى سناء أختي باتت مضجرة مؤذية، وهي تقول لي ببرود: إنك تستحقين التهنئة.
وثار غضبي على علوان، أثبت أنه أضعف مما تصورت، وأنه خليق أن يبقى حائرا بلا مرفأ إلى الأبد، بل لعله سرعان ما ينحرف، أو يبيع نفسه لامرأة مثل جولستان. الحقيقة أنه ضاق بحمل المسئولية، إنه يهرب من عجزه، وفي ظنه أنه لن يرمى بعد اليوم بالعجز عن الزواج. وقلت لنفسي إنني يجب أن أسعد بالتحرر منه، إنني أخف مما كنت في أي يوم مضى. هجرني وخانني. من غيره يسأل عن تعاستي ذات الأنياب الحادة؟ يجب أن أهنئ نفسي على التحرر منه. من الآن فصاعدا أستطيع أن أزن الأمور بعقل غير مشلول بقيود القلب. أنا حرة .. أنا حرة .. حسبي ذلك. ماذا كان يعني أنور علام بقوله؟ يا للتعاسة التي تتمطى بلا حدود، هل يشفي الزمن حقا من الحب؟ متى وكيف؟! عليه اللعنة! سأضاعف له الازدراء كلما ضاعف لي الذل. والداي يمعنان في الهرب حتى ينظما صفوفهما. أول النصر هزيمة ثم ينتصر. هرب وتحررت. احملي ألمك بشجاعة حتى يتبخر. انتظرت حضوره في الإدارة صباحا مصممة على لقائه كزميل وكأن شيئا لم يكن تماديا في إعلان اللامبالاة، لكنني لم أستطع، لم أنظر نحوه، ففضحت تعاستي. ترى كيف بات ليلته؟ شاركني العذاب أم غط في نوم الراحة والحرية؟ وكان لا بد للسر أن ينكشف فعرف في الإدارة، وأحدث في الظاهر على الأقل وجوما. لم يعلق أحد بكلمة. لعل المفلسين قد سعدوا؛ فالتعساء يتعزون بالتعساء. ولما جاء دوري للمثول بين يدي مدير الإدارة أنور علام بدا أول الأمر جادا أكثر من المألوف، ولكنه قبل أن يأذن لي في الانصراف قال: علمت وأسفت.
فلذت بالصمت فقال: لكنها نهاية محتومة، وفي تقديري أنها جاءت متأخرة.
ثم بنبرة أقوى: مثلك لا يصلح لها أن تعلق مستقبلها بوعد مجهول كأنك لا تدركين قيمتك الحقيقية.
ولم أنبس بكلمة، فقال : عندما قلت يوما إن لكل مشكلة حلا، كنت أفكر في هذه النهاية، وإن يكن كل وجود إلى زوال فالحزن لن يشذ عن هذه القاعدة.
ثم قال وهو يعيد إلي الإضبارة:
فكل ما عداه باطل .. باطل .. باطل.
وطوال حديثه تصفحني بنظرات جريئة لم يعد يخفف منها الحاجز الذي كان قائما. لم يخف نفوري منه ولم يزدد، ولكنني لم أعد أجده ظاهرة شاذة. وفي المساء قال لي أبي: أود أن أصارحك يا رندة بأنه لو كان كامل الإخلاص لما تخلى عنك أبدا.
بابا ساخر يسيء الظن بالبشر، ودأبه التنقيب وراء كل فعل حسن حتى يعثر له على تفسير قبيح. ورغم أنني ملت لتصديقه إلا أنني قلت: لأنه لم يعد يحتمل المزيد من اللوم فقد أقدم على تضحية أليمة، إني أعرفه خيرا منك يا بابا.
فقال باسما: أتنبأ لك بخاتمة سعيدة.
ولما لم أعلق بكلمة قال: ما دمنا قد تحررنا من الحب فلنكل مصيرنا للعقل، وفي هذه الحال لا غضاضة من الاستماع لرأي الآخرين.
فقلت باستياء: إنه أمر يعنيني وحدي. - بل يعنينا جميعا.
وا أسفاه! علوان يمعن في البعد، وها نحن نتحدث عن حياة جديدة.
محتشمي زايد
الحمد لله، كل شيء طيب لولا حزن علوان. ربيع هذا العام لطيف نادر الخماسين، فمتى يسلو علوان وينسى؟ الحمد لله؛ فاليوم يمضي بين العبادة والتلاوة والطعام والأغاني والأفلام. عند الثمانين نتوقع قدوم ضيف لا ريب فيه، فاللهم حسن الختام. اللهم جنبنا العجز والأوجاع، وانشر ندى رحمتك في أركان هذا البيت القويم. ودنيا الله جميلة خليقة بكل حب، فأي روح شريرة قد حلت بها؟! السماء والنيل والأشجار وأسراب الحمام وهذا الصوت المليح،
إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون
ولو تركت وشيخوختي لكنت سعيدا، ولكني لا أترك في سلام. سقيا لعهد الإيمان الساذج كما تذكره الذاكرة، وعهد الشك ومنازعاته ما أثراها بفتنة اليقظة، وعهد الإلحاد وتحدياته وغناها بالشجاعة والاقتحام، وعهد العقل وحواره الدائم، وأخيرا عهد الإيمان والأمل. أصبح الموت آخر المغامرات الواعدة، مناجاته تهون حمل الأعباء على الحامل. سيجيء في ساعة ما سافرا عن وجهه، وسوف أقول له بكل مودة: اقطف الثمرة وهي في تمام نضجها. يوما كنت أحدث علوان عن المسلسل التليفزيوني الجديد، فقال لي: جدي، أهنئك على راحة بالك.
أزعجني قوله، فقلت له: في صوتك احتجاج يا علوان.
فضحك في حياء ولم ينبس، فقلت: توجد مرحلة أخيرة اسمها الشيخوخة، إني أمد يدي لأقبض على حلقة الثمانين في مرقى الجبل؛ فمن حقي أن أركز على خلاصي تاركا هموم وطني لبنيه. وقد قمت بالتزاماتي في حينها على قدر استطاعتي، وحاولت جهدي على حملك على الالتزام، وما زلت أحذرك عواقب الشيخوخة المبكرة. إن قاموسك لا يحوي إلا بطلا شهيدا واحدا. قضيت فترة متلقيا مسحورا، وتقضي الأخرى متحسرا حائرا، أقل ما أقوله عن نفسي: إني شهدت من تلاميذي ثلاثة من الوزراء.
فتساءل ضاحكا: أتعد ذلك من حسناتك يا جدي؟
فما تمالكت من الضحك عاليا وقلت: إن تكن الأخرى فلندع الحكم للتاريخ، أمامكم تحديات خليقة بأن تخلق أبطالا لا حائرين!
وربت ذراعه بحنان ثم واصلت: قم بواجبك في حينه حتى تفرغ ذات يوم لطريق الله وأنت مطمئن الضمير.
لو وهبني الله نعمة الكرامات لأوجدت له شقة ومهرا، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة. إنه الآن يصارع ألمه وجراحه، وما أملك له إلا الدعاء. وأذكر سخريات سليمان مبارك والد رندة في زمن مضى: ترى هل نسي الدرويش الماكر عهد فسقه ومجونه؟
فقلت له باسما: حل الحب محل الخوف فيما بيني وبين ذي الجلال. - تنافس إبليس بالطول والعرض ثم تطمح إلى الغفران! - حتى عهد المجون أعتبره من أطيب ذكريات الحياة. فصاح الرجل ساخرا: اشهدوا يا هوه .. واعجبوا لهذا الدرويش المودرن. - يا مخرف، لقد بلغت في الطريق درجة من الوعي أجد فيها عند أغنية «حبايبي كتير يحبوني لكن إنت اللي شاغلني» روحا من الصوفية.
فقهقه متسائلا: وماذا تجد في أغنية «يوم ما عضتني العضة»؟! - اسخر ما شئت، إن نزوات المربي الفاضل التي مارسها وراء ستر وقاره لم تكن إلا صلاة شكر ساذجة.
فهتف: محتشمي، أشهد أنك ولي مغاني الهرم وملتقى مهربي الانفتاح.
المشكلة الحقيقية هي علوان. ترى هل يعتبرني المصدر الذي انطلقت منه شرارة تعاسته؟ - أود يا علوان أن أحمل عنك بعض حزنك!
فقال بضيق: الحق أنني لا أدري ماذا أفعل بحياتي. - سيبلغ البلد يوما شاطئ الأمان.
سأبلغ الشيخوخة قبل ذلك.
فقلت متنهدا:
ويخلق ما لا تعلمون . - ما أسرع أن تجدوا النجاة في جملة جميلة يا جدي! - علوان، في الثلاثينيات فصلت من عملي بتهمة تحريض الطلبة على الإضراب، كنت صاحب أسرة وأبناء ومن كبار الفقراء، اشتغلت بمدرسة الإعدادية الأهلية بمرتب حقير، وأمسكت حسابات بقال من أصدقائي، ومكثنا عاما كاملا لا نطبخ إلا العدس، وعندك أبوك فاسأله.
تابعني بنصف وعي، ثم قال بامتعاض: بت أكره نفسي.
فقلت برجاء: لعله إيذان بميلاد جديد.
فقال ساخرا: أو موت جديد.
فقلت بحرارة: ليكن حديثنا عن الحياة لا الموت.
فقال بحدة: الموت أيضا حياة!
وترددت في نفسي الآية الكريمة:
من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها .
علوان فواز محتشمي
جريح القلب والكرامة، أهيم على وجهي ككلب بلا مأوى، حرارة الجو تبخر لذة المشي. مقهى ريش منقذ من ضجر الوحدة، أجلس وأطلب القهوة وأرهف السمع. هنا معبد تقدم به القرابين إلى البطل الراحل الذي أصبح رمزا للآمال الضائعة؛ آمال الفقراء والمعزولين. هنا أيضا تنقض شلالات السخط على بطل النصر والسلام. النصر يتكشف عن لعبة، والسلام عن تسليم. على مسمع من السياح الإسرائيليين، أسمع وأهنأ بشيء من العزاء. أنتم إذا شئت حزب وهمي لا شعار له إلا الرفض. إن أضجرك الكلام فمد البصر إلى الطريق، راقب حركة الذاهبين والجائين، حركة سريعة لا تتوقف ولا تنقطع، وجوه مكفهرة ماذا وراءها؟ الرجال والنساء والأطفال، حتى الحبالى لا يقرن في بيوتهن، كل يحمل مأساته أو مهزلته. حوانيت الأثاث والبوتيكات مكتظة، كم أمة تعيش جنبا إلى جنب في هذه الأمة؟ أضواء الميدان قوية مثيرة للأعصاب، ومثيرة للأعصاب أيضا قوارير المياه المعدنية على موائد السياح. ماذا نشرب نحن؟! وأغرب الأغاني تنطلق من التاكسيات في راديو المجاذيب، لا يبقى على حاله التي كان عليها إلا الشجر والعمائر. وتدوي خطبة من راديو في مكان ما فتنتشر الأكاذيب في الجو مع الغبار. تعب .. تعب .. فلنعد إلى الكلام. خرابة صغيرة بمائة ألف. الجرائم الأكاديمية في الجامعة. كم عدد أصحاب الملايين؟ الأقارب والأصهار والطفيليون. المهربون والقوادون والشيعة والسنة. حكايات ولا ألف ليلة. الجرسون عنده أيضا حكاية وعند ماسح الأحذية. متى تبدأ المجاعة؟ الرشوة عيني عينك وبأعلى صوت. الاستيلاء على الأراضي. شيخ العصابة له أوراد. والفتنة الطائفية من يوقظها؟ مجلس الشعب كان مكانا للرقص فأصبح مكانا للغناء. الاستيراد بدون تحويل عملة. أنواع الجبن. البنوك الجديدة. بكم البيضة اليوم؟ والنقوط في ملاهي الهرم. وفسخ الخطبة! ماذا قال إمام الجامع على مسمع من جنود الأمن المركزي؟ لا مرحاض عام في الحي كله. لم لا نؤجرها مفروشة؟ ما هو إلا ممثل فاشل. وضرب المفاعل العراقي؟ صديقي بيجين .. صديقي كيسنجر. الزي زي هتلر، والفعل شارلي شابلن. ويسود صمت شامل ريثما تذهب امرأة قادمة من الطريق إلى بيت دعارة وراء المقهى وتعقد مقارنة بين تضخم عجيزتها والتضخم المالي العام. متفائل يؤكد أنها تشتغل لتجمع رسوم رسالة الدكتوراه، وأن قلبها أنقى من الذهب. وشاب شاذ يقترح الشذوذ كحل لأزمة الحب في الطبقة ذات الدخل الثابت، وأيضا لتحقيق الهدف من تنظيم الأسرة. لا خلاص إلا بالخلاص من كامب ديفيد. العودة إلى العرب والحرب؛ حرب أبدية والويل لعملاء التطبيع. كفى .. كفى .. في الوقت متسع لقليل من التسكع. الفرار منك جهد ضائع يا رندة. مرض الحب بطيء الشفاء، وأخاف أن يكون من الأمراض المزمنة. لا يعزيني عن إساءتي إليها إلا أنني أسأت ضعفين إلى نفسي. وعندما رأيت والدي على مائدة العشاء حسدتهما. أراحا نفسهما من هموم كثيرة بالعمل، التهمهما العمل، وهذا شيء حسن، ليس كما كنت أتصور. بكل حزم يقولان: أعفنا من الحديث عن نفسك أو عن البلد. حسبنا أننا نشقى من أجلكم. حل مشاكلك بنفسك والبلد له رب. اذكر أبي المخضرم في حماسه.
هتف للثورة، ولبس الحداد في هزيمتها، وقضي عليه في الانفتاح. سمعته يقول: تمر الأيام فلا أجد وقتا لحلق شعري أو تقليم أظافري.
وسمعته يقول لجدي: أنحشر في الباص وآخذ هناء في حضني لأبعد عنها أحضان الجياع.
ومرة قال لي: يوم الجمعة، يوم العطلة، تتراكم الواجبات؛ وقت للحمام، وقت للعزاء، وقت للاعتذار، ساعة واحدة للاسترخاء، وفيها تهجم علي همومك وهموم البلد.
في تخبطي ألقى أستاذتي في نادي الخريجين. يا أستاذتي لقد فسخت الخطبة. غير موافقة طبعا، وتطالبني بإعداد لقاء بينها وبيننا مجتمعين. الوداع يا أستاذتي، مضى وقت الكلام. أعدك بأن أكون عدوا للكلام بقية العمر. وخيل إلي أن المحروقي حل مشاكله بالمروق من العصر. إنه يعتقد أنه هزم العصر وطوعه لأغراضه. ماذا صنع بنفسه؟ تعلم حرفة السباكة، دفن شهادته في أول وعاء قمامة. سألته: والدكان؟ أجاب دون أن يبتسم؛ فنادرا ما يبتسم: أسير حاملا حقيبة حاوية للأدوات وأنادي: سباك .. سباك؛ فتنهال علي الطلبات، سأصير قريبا أغنى من سيدنا الزبير. وعندما هممت بالانصراف قال لي ساخرا: «أدعوك للدخول في دين جديد اسمه الإسلام.» ولما خلا أنور علام إلي قال: آسف، ولكنك فعلت الصواب، وسوف تضحك لك الدنيا.
وعقب انقضاء أسابيع دعاني إلى عمل عاجل في شقته بالدقي. ولما انتهينا من العمل دعاني للعشاء، توقعت ذلك من بادئ الأمر، وشاركتنا العشاء جولستان فلم أدهش. أعلنت أسفها على فسخ خطبتي بكلمة عابرة، ثم تركز الحديث على الغناء الحديث، وأسمعنا أنور علام شرائط متنوعة كعينات منه. - يبدو أنك تحبه يا بك.
فقال ببساطة: على الأقل لا أنفر منه.
وتلاقيت مع جولستان في نظرات مسترقة باحت بمودة لا خفاء فيها، دافئة وعميقة ومراوغة. إنها غير مقصرة في إبداء مفاتنها ورزانتها معا، كأنما تقول لي إني امرأة فاضلة ولكن لا حيلة لي مع مفاتني. هل يعجبك هذا الطراز من النضج الأنثوي المتخطي للشباب؟ المسألة بالنسبة إلي مسألة جوع أولا وأخيرا، لعلها تنظر إلي باعتباري حملا على حين أنظر إليها بعيني ذئب. أي ضغط يزاح عن أعصابي لو أذعنت لي كخليلة؟! لكن كيف ومتى وأين؟ وقال أنور علام: بعد شهر على الأكثر ينتهي العمل في فيلا جولستان الجديدة، وسوف تنتقل إليها وتتركني وحدي.
فسألته مجاريا لمسرى الحديث: «ولم لا تنتقل معها يا بك؟»
فأجاب: إني أفكر في إعداد شقتي للزواج، آن لي أن أتزوج.
رندة سليمان مبارك
الأمل في الزمن، هو أيضا يميت ويحيي. سيهلك المكروب ذات يوم ويتجلى وجه الشفاء، ولن يخذل الله مؤمنا صادقا. اليوم نتبادل الحديث ونتعاون كزميلين في مكتب واحد، كزميلين غريبين لم يذوبا في قبلة قط. وأحيانا أراه - مثلي - يستحق الرثاء، لم أعد أدينه ولم أعد أحترمه. التجربة الجديدة التي تقتحمني هي أنور علام. يستقبلني ببشاشة غير عادية، ويحاورني مداعبا معلنا عن إعجابه ومودته. إني أتوقع وأفكر تحت مظلة من الكبرياء تأبى التسليم بالهزيمة. من ناحية أخرى قدرت ماما أن الهدنة انقضت، وأنه آن لها أن تتكلم، فقالت لي ونحن جلوس معا في حجرة المعيشة: علمت أن إبراهيم بك مستعد أن يتقدم من جديد.
إنه كهل صاحب مصنع معادن تقدم منذ عامين ورفض. والظاهر أنها لاحظت استيائي فقالت: نحن متفقان على أنه طالما لا يوجد ارتباط فالأمر يفصل فيه العقل وحده.
فقلت معترضة: لكنه أرمل وأب!
فقالت برجاء: ولكنه غني ومستعد أن يأخذك بملابسك. - ليست مجرد بيع وشراء. - ولكننا لن نجد مثله بسهولة.
فقلت بحدة: لست متعجلة.
فقالت بإشفاق: الزمن يجري بسرعة.
فقلت بتحد: لن أكون أول عانس في التاريخ.
لزم أبي الصمت طوال الوقت. ولم أكن صادقة تماما في التعبير عن حالي؛ فالحق أنني راغبة في إثبات وجودي، ولكن ليس على حساب كرامتي، الكفاءة يجب أن تشمل المال والاحترام. أنور علام يملك الاثنين، ولو كانت به شبهة لطبقت الآفاق، وهو على الأقل مقبول وغير منفر شكلا، والفجوة بين عمرينا معقولة لدرجة. أما الحب فمن الحماقة أن أفكر فيه الآن. ولم يطل بي الانتظار؛ فعلى أثر اعتماد تقريري ذات صباح قال لي: يصح الآن أن أسألك عن رأيك!
تساءلت وقلبي يخفق بالتوقع: فيم يا بك؟ - إني أطلب يدك، ما رأيك؟
فلذت بالصمت كالمبغوتة، فقال: لعلي لا أجيد حديث الحب، لكنه موجود، لست خياليا، وحسبي أن أقول: إني أجدك حائزة لكافة الشروط بكل جدارة.
فهمست: الأمر مفاجأة. - طبعا طلبين مهلة للتفكير، معقول، ولكن دعيني أزكي نفسي بالقدر اللازم؛ فمثلي لا يشرع في الزواج إلا إذا كان على يقين من قدرته لحمل مسئوليته. - إني شاكرة وسأفكر في الموضوع.
وعرضت الموضوع على والدي مساء. وقالت أمي بلا تردد: على خيرة الله.
وقال أبي: نوافق على ما توافقين عليه.
ولما انفردت بأمي سألتها عما يمكن أن نقدمه، فقالت بمرارة: من ناحية أبيك لا شيء، من ناحيتي فلدي بقية من حلي يمكن أن أجهز شخصك بثمنها، ويستحسن أن يعرف الرجل كل شيء.
مرارة التجربة التي طحنتني مزقت أقنعة الحياء الفارغة. أنضجتني أكثر مما قدرت. صممت على الجهر بالحقيقة على أنه لم يكن في حاجة إلى صراحتي لسابق علمه بأزمتي. وقال لي أيضا بصراحة: سأقوم بتأثيث الشقة، وحسبي ذلك.
فوافقت طبعا، فقال: يجب أن نعرف للوقت قيمته، وأن يتم كل شيء في أقصر وقت.
وتم إعلان الخطبة في شقتنا. اقتصر الحفل على والدي وأخواتي، ومن ناحيته على جولستان هانم وأخ طاعن في السن، لم يشهده أحد من جيران العمر. وقد أهدتني جولستان قلادة ذهبية ذات فص ماسي ثمين. وكنت في أعماقي متوترة الأعصاب، ولكن ضبطت انفعالاتي بقوة، ومثلت دوري بلباقة حسدت نفسي عليها. ولما انفردت بسناء في حجرتنا انهار سد المقاومة فأجهشت في البكاء. ورمقتني بوجوم مليا ثم قالت: ليكن هذا وداعك الأخير للماضي العقيم.
فقلت مولولة: خسرت أثمن ما في حياتي.
فعطفت علي أكثر من أي وقت مضى وقالت: لا أوافقك، ولكن لندع كل شيء للزمن.
محتشمي زايد
فوقنا على بعد أشبار ثمة حفل لإعلان خطبة رندة. علوان انتهى من ارتداء قميصه نصف الكم وبنطلونه الرمادي. بدا ساعداه مفتولين، وزغب صدره من فتحة القميص فاحما، وتجلى الانسجام في قسمات وجهه المحتقنة بالحزن، شباب وجمال وأسى. ماذا يعتلج في أعماقه في هذه الساعة اللعينة؟ لم أذق مرارتها إلا في الشعر. هل لدي ما أقوله له؟ لم أجد سوى نظرة وابتسامة. ورفع يده تحية ومضى وهو يقول كعادته: فتك بعافية يا جدي.
وساء طبعي فجأة كأنما ازدردت كيلو شطة وفلفل. رميت بعيدا عني بخور العبادة. عالم مجنون وبائس. أيها الأحباء الراقدون تحت الأرض، ما أكثركم! رأسي ثمل بذكرياتكم دون سبب واضح، وسبقكم مئات الأنبياء والأولياء، فلينعم التراب بأطيب ما في الحياة. لماذا يتدفق الماضي في روحي كشلال وبقوة بركان ثائر؟! هتافات الثورة تدوي من جديد؛ الاستقلال التام أو الموت الزؤام، الشعب فوق الملك. أزيز النار المشتعلة في القاهرة، عظمة الراحل وهزيمته، عظمة خليفته ونكسته. الجنون يشق طريقه في الصخر حاملا الجوع والديون. أيها الأحباب الذاهبون، ما أكثركم! ما فكرتم في الموت ولا جرى لكم المرض في حساب، ومنكم من مزج الكونياك بالزنجبيل وطارد النسوان في الموالد، ومن كان يخلع نفسه من مائدة القمار ليصلي الفجر حاضرا، ومن رمى نفسه في مياه النيل المشعشعة بضوء القمر والزورق الشراعي يدور حوله حاملا الحشاشة المجدع، وفتية القدر الذين تسلحوا بالإيمان والأحجار وخرجوا يتحدون الشرطة والجيش في عيد الدستور الملغى، إني أشهد المعركة وأسمع أزيز الرصاص ووقع الأقدام الثقيلة المطاردة، ما أكثركم أيها الراحلون والأعزاء، وما أجهل القبور اللامبالية بأقداركم! وذكرى جدي الأزهري مدرس النحو الذي كان يخاطب جدتي الأمية بالفصحى، وخلف ذرية من العقلاء والمجانين ما زالت حتى اليوم منجبة للعقل والجنون، ما ذنب حفيدي يا حثالة الأرض؟ ورثتم أبناءكم المال والأمان وأورثتمونا الضياع والفقر والديون، وكأن الثورة ما قامت إلا من أجل سعادتكم وتعاستنا. آه يا ربي، متى تهبني الشجاعة لأنبذ الدنيا وما فيها ؟ حتى متى أحن إلى كرامات لا تتيسر؟ متى أطير في الهواء أو أمشي فوق الماء؟ متى أشير إلى الظالم فأصعقه وأريح الدنيا من شره؟ الحق أنها تجربة فاشلة، وأن الإنسان عجز عن أن يتعامل معها كنعمة كبرى فنجسها بالغدر والأنانية والخيانة. ها أنا أتمشى في الشقة لأفرخ غضبي، وها أنا أتصفح قطع الأثاث البالية كأنما أودعها، وأقرأ وسط مسند الكنبة حكمة مرقومة بالخط الفارسي الأسود وسط هلال من الأصداف: «من تأنى نال ما تمنى.» أي أناة يا ربي؟ صبرنا آلاف السنين حتى انقلب الصبر رذيلة والتمني عاهة، وأشرب قدحا من الأنيسون وأعود إلى مجلسي، وترف على شفتي ابتسامة، ابتسامة؟! من أي مكان في الغيب وردت هذه الابتسامة الضالة في غابة الأحزان؟! تقول إنها قادمة من زمن الجنون المليح مقتحمة جدار التقوى، ندية بأنفاس الخمر وعرق الغانيات في البقاع المحرمة، من محراب أقران الشباب والنزق والجهاد، ضحكاتهم تطير في الفضاء البعيد لم تظفر بعد بجهاز استقبال يعيدها إلى الأرض، وزمردة ترقص شبه عارية وتغني: «المية حصلت نصي.» ليالي العربدة والمجون والمنبوذين بلا ذنب، حيث تتجلى الحكمة والصدق فوق جباه العاهرات والقوادات، يقلن لنا بكل تواضع: ألسنا أرحم بكم من حكامكم العظام؟ نحن نبذل أنفسنا في سبيل الترفيه عنكم، وهم يضحون بكم بغية الترفيه عن ذواتهم؛ فإلى جنة الخلد يا زمردة ويا لهلوبة ويا أم طاقية، ويا جميع المنحرفين والمنحرفات ممن لم نقر بفضلهن حتى ورد الزمان علينا بأبطال النحس والفاقة والهزائم. سقيا للياليكم المنزوية في أعطاف الدخان والنشوة، المنطوية في فنون التلميع والتسمين، المبذولة للدهن والتمشيط، كل جهد وتخطيط من أجل الآخرين، والرضا بعد ذلك باللقمة والازدراء وشماتة الشامتين. هذا ما قالته ابتسامة رفت في غير أوانها، وفي ظل زمن مجنون وقلب كسير، والندم كبير، والطمع في المغفرة بلا حدود، والضيق بالغ غايته من كثرة الأسئلة عما يجوز ولا يجوز، وعما يجب أو لا يجب، على حين ينشغل اللصوص بتوزيع الغنائم؛ أستعيذ بالله وبكل صاحب كرامة وبكل مالك علم أن يقدم لتبديد ظلمات هذا الليل الطويل. وجاءني فواز وهناء قبيل النوم، وسألني الرجل: ماذا تتوقع لعلوان؟
فقلت بهدوء يوحي بالثقة: كل خير، إنه قوي، وسوف يعبر الأزمة بسلام.
وقالت هناء: إنه الآن حر ويستطيع أن يشق طريقه كيفما يشاء. - لا تنس أنه هو صاحب القرار.
تمنيت أن يرجع قبل أن أخلد للنوم، وعرضت لي فكرة قديمة جديدة، وهي أن الإنسان يجب أن يعشق الدنيا وأن يتحرر من عبوديتها في آن. وعدت أقول لنفسي ما أكثر الأحباب الذين ذهبوا، وهل حقا عاشرتهم طويلا في هذه الدنيا الدائبة على أكل بنيها؟!
علوان فواز محتشمي
قمت بدوري بكل صفاقة، أقبلت على رندة في مجلسها بالمكتب باسطا يدي وقلت: أصدق التهاني.
رمقتني بلمحة عابرة وتمتمت: شكرا. عقبى لك.
وانتهزت فرصة خلو المكان لفترة قصيرة، فقلت لها من موقعي القريب منها: لا أخفي عنك أنني تمنيت لك زيجة أفضل.
فتساءلت بهدوء: ما لها هذه؟ - الحق .. أريد أن أقول إنك تستحقين أحسن زيجة.
فقالت باسمة في غموض: إنه حسن ظنك.
وقلت لنفسي إنه علي أن أطوي هذه الصفحة إلى الأبد. ولنتحمل الألم حتى نمحقه محقا، إن استسلمت للحزن جننت. ولما علمت بوصول المدير قصدته في الحال وقلت له: معذرة، إني قادم للتهنئة.
فقال بمودة: لولا انصرافك عن الموضوع ما اقتربت منه. - إنك دائما تفعل الصواب. - شكرا، وعقبى لك، عليك من الآن فصاعدا أن تفكر في مصلحتك.
لم أدر ماذا أقول، فواصل: الطريق واضح، وما عليك إلا أن تفكر بصفاء.
فقلت وأنا أهم بالذهاب: نصيحة ثمينة يا بك.
فقال بسرعة: أنا مكلف بدعوتك، شقيقتي دعتنا لحفل شاي صغير ابتهاجا بانتقالها إلى الفيلا الجديدة.
حقا إن الطريق واضح. وقلت: يسعدني أن أقبل الدعوة.
قبلت الدعوة رغم أن فكرة بيع نفسي لم تخطر لي ببال، وقصدت العنوان حوالي السادسة مساء في جو حار رطب. وجدت الفيلا غير بعيدة عن عمارة أنور علام؛ صغيرة وأنيقة وذات حديقة ثرية بأشجار الورد البلدي والبنفسج. جلست في ثوي جديد وردي اللون محلاة جدرانه بلوحات مصوغة بالكانفاه. وجلست بيننا جولستان في فستان أبيض دقيق الرسم لتكويناتها المثيرة. وقال أنور علام: الحفل مقصور علينا، فأنت مدعو باعتبارك من الأسرة.
فقالت جولستان بنعومة: لم تعجبني أخلاق أحد من زملائك سواه.
فشكرتها، على حين قال أنور علام ضاحكا: حقا إن شهادتك في محلها.
وشربنا الشاي والتهمت قطعة كبيرة من التورتة، وراح أنور يقول: يتحدثون عن مضاعفات فتنة طائفية.
فتساءلت جولستان: ما معنى ذلك؟
وتساءلت بدوري: أين الحكومة؟
فقال أنور: أيام قلق.
فنظرت جولستان نحوي وقالت برثاء: يا لكم من جيل يستحق الرثاء!
فقلت بامتعاض مكملا: والتعنيف أيضا.
وقام أنور قائلا: لدي مكالمات عاجلة. عن إذنكم دقائق.
في خلوتنا رنت إلي بعطف وتمتمت: ما يستحق مثلك إلا كل خير.
تساءلت عما تعنيه .. السياسة أم مأساتي الشخصية؟ ولكن استحوذ علي انفعال جنسي من وحي جسمها الناضج، وركزت فيه نظرة مشحونة بصراحة فاضحة، تمنيت شيئا واحدا هو أن أتخذ منها خليلة. وقلت همسا بريق جاف: أود أن أنفرد بك.
فقالت برزانة: أرحب بالانفراد برجل ذي خلق مثلك.
تعطل التيار الكهربائي المتدفق في صدري. قالت الكثير وبأقل الكلمات. وئدت أحلامي الطائشة ورحبت في الوقت نفسه بي. وتماديا في الإيضاح قالت: إني أحترم نفسي وأرحب بمن يحترم نفسه.
فداريت خيبتي قائلا: ما أسعدني بسماع ذلك.
بيتي يرحب بك في أي وقت، لقد عرفت عنك الكثير، ولكنك لم تعرف عني شيئا يستحق الذكر.
رندة سليمان مبارك
إنه يطالب بالزفاف في أقرب فرصة ولا أجد عذرا للتأجيل. وتقرر إقامة الاحتفال بفيلا جولستان هانم وتعذر على أبي الحضور. كان حفلا صامتا، ولكنه ثري بالبوفيه الممتاز وبمن شهده من كبار موظفي الشركة ونخبة من رجال الأعمال. وضعت على وجهي قناع سعادة لا ريب فيه، والحق أني دعوت لنفسي طويلا بالتوفيق وصممت عليه، وكانت ورائي رغبة صادقة في التفاهم والتكيف مع حياتي الجديدة. أخوف ما خفت أن أرى علوان بين المدعوين، ولكنه لم يوجد. وقلبي وإن خلا من الميل فإنه لم يتكدر بالنفور. ترى لو كان علوان هو عريس الليلة، فماذا كان سيفعل؟ عشت عمري لا أتصور أنه يمكن أن أهب نفسي لسواه. ها هو الواقع يفرض قرارا آخر. حسبي أنني أشعر بأن أنور يمكن أن يحب ذات يوم، في هذا الكفاية. ولم تنقطع وفود المهنئين في الأيام التالية وخاصة من أهلي، ولكن ما شأن هؤلاء الرجال؟ يجيئون حاملين الهدايا، نرحب بهم معا، تقدم لهم الخمور، ليلة بعد أخرى لا ينقطع تيارهم الغث ومنهم مواظبون. ولما أرهقتني الوجوه الثابتة، والمجاملة المبذولة من ناحيتي عن تأفف عميق، قلت له: ما أكثر أصدقاءك من رجال الأعمال!
فقال لي بصراحة لافتة للنظر: إنهم في الحقيقة مستقبلنا.
فتساءلت في حيرة: ماذا تعني؟ - وظيفة مثل وظيفتي لا قيمة لها إلا في نظر موظف ناشئ، مستقبلنا الحقيقي في القطاع الخاص، في المغامرة الذكية التي ترفع الشخص من طبقة إلى طبقة، فلا تقصري في الاحتفاء بهم.
إذن فهي زيارات عمل! لم أرتح لذلك، وقلت: إنك أفهمتني أنك واثق من نفسك من الناحية المالية.
فقال بصراحة مكشوفة: عن هذا السبيل وحده، عدا ذلك فلا أمان لأحد في هذا الموج
نسجت الكآبة حولي غشاء محكما، فقال بحماس: إذا لم يكون الإنسان ثروة خيالية في هذه الظروف فلا بارك الله فيه. - ألا يكفي ما يوفر لنا معيشة مريحة؟ - مريحة؟! .. نحن في سباق يا محبوبة لا رحمة فيه.
ها هو شخص جديد يبرز لي من وراء الشخص الآخر، وبعجلة مذهلة، لا يطيق الصبر ولا يصبر على التدرج، ولا يعمل حسابا لأثر رد الفعل في نفسي. إنه يقول لي بكل بساطة إليك ذاتي بلا قناع ولا لف ولا دوران، فما رأيك؟! إنه لا يرى في هذه الدنيا إلا طموحه ولا يحفل إلا به، يسدي إليه صلاته مائة مرة في اليوم، وكأنما لا وجود لي إلا من خلال الدور الذي يمكن أن ألعبه في مخططه المترامي. حتى التمثيل الكاذب لا يتقنه أو لا يبالي به. إنه مفاجأة، ومفاجأة صاعقة قذفها السيل من عل، ولا وجود للحب إلا في لحظته، وسرعان ما شعرت بخيبة أمل لا عزاء فيها، وأنني بعت نفسي بلا مقابل، أو أن الحال أسوأ من ذلك. وإنني أخجل من إعلان خيبتي، كنت أتوهم أنني على الأقل غاية فإذا بي وسيلة لا قيمة لها إلا بما تؤديه. وظيفتي هنا أن أجامل وأسامر وأقدم الشراب. ولم يقنع بذلك كله، فأخبرني أنه لا يستطيع أن يؤجل أعماله المسائية أكثر من ذلك، وأنه سيعهد إلي وحدي بمهمة الضيافة والاستقبال. قال ضاحكا: إنها امتداد لعملك في العلاقات العامة.
فقلت معترضة: ولكن لا شيء مشتركا بيني وبينهم. - لا أهمية لذلك، حسبك أنك لبقة وذكية ومثقفة، ونحن شريكان، والشريك ينوب عن شريكه خاصة فيما يعود عليهما في النهاية بالخير.
فقلت بحدة، أول حدة تنتاب شهر العسل في إبانه: لغة سوق ما تصورت أنني سأتعامل معها!
فقال باسما: خير البر عاجله.
ووخزتني سخريته، فشعرت بأن تجربتي تتهاوى في جرف الفشل، ووجدت نفسي وحيدة وسط رجال يشربون ويقهقهون، ويتوثبون لاختراق الحدود. وصكت أذني نكتة وقحة فاقتحمتني موجة هادرة من الاستياء والغضب، وقلت ببرود: حسبكم!
فنظروا إلي واجمين، فقلت بخشونة: كفاكم شربا!
فتساءل أحدهم: هل تجاوزنا حدود الأدب؟
فقلت دون مبالاة: أظن ذلك! - لعلها إشارة للانصراف؟
فقلت متمادية في الغضب: دون مناقشة!
وانتظرت وأنا على أسوأ حال أدور مع الهواجس وتدور معي. ولما رجع حوالي منتصف الليل، غاض البشر من وجهه حال وقوع عينيه علي. تساءل: خير؟! - لا خير البتة، إنه بيت وليس بخمارة. - ماذا حصل؟ - باختصار طردتهم، وافهم ما تشاء.
انحط على المقعد أمامي صامتا، ثم تمتم بعد صمت: انهار بناء شامخ.
فصمت بحدة: فوق رءوس مجموعة من السفلة. - خيبة أمل.
فسألته بغضب شديد: ألا تريد أن تفهم؟
فقال بهدوء شديد مثير: حسبتك أوسع إدراكا.
فصمت: الحق أني لا أفهمك، أنت شخص غريب.
فقال بهدوئه المثير: المسألة سوء تفاهم. - سوء تفاهم؟! - أعني سوء تقدير من ناحيتي.
فصرخت: يبدو لي أنك إنسان وضيع.
فدعاني إلى تمالك نفسي بإشارة من يده وقال: لا .. لا .. لا داعي لفتح هذا القاموس، أنا عشت دهرا لم أعرف الغضب. - إنها شهادة ضدك. - هدئي خاطرك، حصل خطأ، وبيدنا تصحيحه.
فقلت بتصميم: إني ذاهبة. - ولم العجلة؟ انتظري الصباح. - لن أبقى في هذا البيت لحظة أخرى.
فقال بتسليم: لك ما تشائين، ولا داعي للغضب.
محتشمي زايد
إنه لا يحب الظالمين . ما هذا القرار أيها الرجل؟! تعلن ثورة في 15 مايو ثم تصفيها في 5 سبتمبر؟ تزج في السجن بالمصريين جميعا من مسلمين وأقباط ورجال أحزاب ورجال فكر؟ لم يعد في ميدان الحرية إلا الانتهازيون، فلك الرحمة يا مصر،
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . وأذكر يوم حددت إقامة سعد زغلول في بيت الأمة، فزحف الانتهازيون بالولاء الزائف نحو القصر، لماذا تعيد تمثيل تلك المسرحية القديمة من ريبوتوار المآسي المصرية؟ وأذكر عهود الاستبداد بسوادها الكالح، أفكانت ثورة 1919 حلما أم أسطورة؟! «ليس الشديد بالصرعة .. إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.» ترى ماذا تخبئ أيها الغد؟ أما عن أمسي فقد فقدت أقدم وآخر صديق. صداقة دامت خمسة وسبعين عاما، يوم تعارفنا على عتبة المدرسة الأولية، لولا الشيخوخة وسوء المواصلات .. آه. صممت على تشييع الجنازة. رحلة شاقة كرحلة الحاج، وتوكأت على علوان. في دار المناسبات استعرضت فيلم العمر الثري: المدرسة، الشارع .. المقهى .. الحانة .. لجان الطلبة .. ليالي الزفاف .. أعياد الميلاد. الوجه ها هو .. الابتسامة ها هي .. هل سمعت آخر نكتة؟ .. والشكوى من الدهر .. أنتفق في كل شيء ونختلف في الأهلي والزمالك؟! عليك بقدح ماء على الريق .. ولا تنس دواء الذاكرة، فاتني أن أسمع تعليقك على 5 سبتمبر، ولكنني أعرفه، وبدأت التلاوة:
كل نفس ذائقة الموت . سرعان ما جاء الموت بابتسامة المراوغة وجلس إلى جانبي. لا تتعجل فلم تبق إلا خطوة. موت صديقي القديم بروفا لموتي، أرى كل شيء؛ الغسل والدفن والمشيعين. وأقرأ النعي؛ محتشمي زايد من رجال التربية القدامى وشباب الحركة الوطنية. هل تذكره؟ ظننته مات من زمان، ويجيء النسيان متثائبا، ولكني أسلم بمنتهى الرضا. حقا إنه عمر طويل، ولكنه يبدو الساعة كلحظة عابرة . الحب والعنف والغضب والأمل، ألا ما أكثر الراحلين! لا فرق الآن بين أن تكون أنت في النعش وأنا ماش وراءك أو العكس. وحياني ابنه بحرارة وقال لي: في احتضاره حملني التحية إليك.
وفي المساء عاتبني ابني فواز قائلا: في سنك يعفى الإنسان من أمثال هذه الواجبات.
أما هناء فقالت: اشتريت اليوم كتابا لا يقدر بثمن، هو «كيف تصلح أجهزتك المنزلية؟» فلعله يحررنا من السباك والكهربائي.
وعند ذاك تساءل علوان: ألا يوجد كتاب يحررنا من الحكام؟
فقال فواز: لا حديث للناس إلا اعتقال الذين اعتقلوا.
فعاد علوان يقول بعصبية: أستاذتي علياء في السجن، وصديقي محمود المحروقي أيضا!
فقلت ملاطفا: ثمة وعد بمحاكمة سريعة حتى لا يضار بريء. - أما زلت تصدق الأكاذيب يا جدي؟
ما أنقذه من القضبان إلا حيرته والويل للمنتمين.
ولما خلا لنا المكان قلت له: آمل أن تتغلب على أزمتك بما أعهده فيك من شجاعة.
فقال ساخرا: المصائب تقل حدتها بالتكاثر، فتتكسر النصال على النصال.
وأغلق التليفزيون، ورجع إلى مجلسه إلى جانبي وهو يقول: جدي، لا أحب أن أخفي عنك سرا.
أصغيت إليه مستطلعا باهتمام، فقال: توجد قرائن قوية على دعوة موجهة لي للزواج من شقيقة أنور علام زوج رندة. - حقا! إلي بمزيد من المعلومات. - هي أرملة تكبرني بعشرين عاما، غنية جدا. - والشكل؟! - ليس كما تظن، مقبولة ومحترمة أيضا.
فلذت بصمت ثقيل، فسألني: ما رأيك يا جدي؟
فقلت من مأزقي: إنه قرار خاص جدا يحسن ألا يشاركك فيه أحد. - ولكنني مصمم على معرفة رأيك. - هل تحبها؟ - كلا، ولكنني لا أكرهها. - لا أدري ماذا أقول. - يوجد ما يقال. - لا حق لي في تشكيل مصيرها، إني أنتمي إلى عالم آخر، وليس من الحكمة أن يستبد عالم بعالم آخر. - ولكنك لم تعودني الهرب.
فصمت قليلا ثم قلت: للمشروع مزايا لا يستهان بها، وعيوب لا يستهان بها أيضا، وفي مثل حالك ترجح مزاياه بعيوبه.
فابتسم ابتسامة غامضة وقال بحدة: إني أرفض أن أبيع نفسي.
فجرى ماء الراحة في أعماقي الملتهبة، ولكني سألته: هل اتخذت قرارك مع التفكير اللازم؟ - وأكثر من اللازم.
فقلت بحرارة: أسأل الله أن يعوضك عنها خيرا.
وقلت لنفسي: «كراماتك يا سيدي الحنفي!»
علوان فواز محتشمي
وأنا أهم بالذهاب قال لي جدي: أما عرفت يا علوان؟
فرمقته متسائلا، فقال: رندة طلقت!
غمرتني موجة عالية من الذهول والخوف والارتياح وهتفت: ما زالت في شهر العسل! - والدتك أنبأتني به هذا الصباح. - كيف يمكن أن يحدث هذا؟ - عندما تتعذر المعاشرة.
ثم وهو يودعني: أردت أن أنبهك حتى لا تفاجأ به هناك.
غصت في انفعالاتي طيلة الطريق. لم أر إلا حزني وفرحتي التي ضقت بها. ورأيت رندة مستكنة في غشاوة كآبتها، كما رأيت ظل الكآبة منتشرا في المكتب كله. صافحتها وأنا أقول: إني ...
فقاطعتني: شكرا.
فقلت بصدق: إنك لا تستحقين ذلك.
فقالت بهدوء: أكرر الشكر، ولا داعي للمزيد.
وتطايرت الأقاويل بعيدا عن مسمعها فسمعت الأعاجيب. واضح أنه فشل كما يحدث للكثيرين ممن يتزوجون في سن متأخرة. لا .. لا .. إنه شاذ .. تأملوا حركات يديه، بل العلة في برودها؛ فالجمال الظاهر ليس كل شيء، يقال أيضا إنه توجد علاقة آثمة بينه وبين أخته، سمعت وتألمت. إني أحبك يا رندة كما كنت وأكثر، يحزنني أن أجدك في موقف منهزم، قلبي مع كبريائك الجريح. وخيل إلي أنني قد أقترب من السر عند أنور نفسه. أعلنت له أسفي فحدجني بنظرة ساخرة.
وتمتم: شكرا!
أدركت من توي أنه يشك في صدقي، فقلت: آسف لكما معا.
فقال ببرود: لا شيء يوجب الأسف.
وعبر إلى الأوراق المعروضة دون زيادة. ودعتني جولستان هانم لزيارتها فلبيت دون تردد وأنا على شبه يقين من أنني سأعرف عندها الحقيقة. وجدتها متحلية كعروس، وقالت لي معاتبة: ألا تزورني إلا إذا دعوتك؟ - أخاف أن أحرجك. - عذر لا معنى له، وأنت أول من يدرك ذلك.
وقدمت لي دندرمة محشوة بالمكسرات، ثم قالت: عنت لي فكرة.
فنظرت نحوها باهتمام، فقالت: أخي بدأ ينشغل بنفسه عني، فهل تعمل أنت وكيلا لأعمالي؟
تبدى لي الاقتراح مثل هاوية تنداح تحت قدمي، فقلت: قد يغضبه ذلك. - هو صاحب الفكرة.
فقلت متحرجا: أمهليني كي أفكر؛ فقد عرض علي بعضهم أن ألتحق بقسم الماجستير. - العمل بسيط، ولكنه يحتاج إلى شخص أمين. - ستكون المهلة قصيرة جدا.
وإذا بها تتطوع لإطلاعي على جانب هام من ماضيها، قالت: طالما رميت بالجشع بسبب زواجي، والحقيقة أن أبي هو الذي زوجني من رجل يكبرني بثلاثين عاما، على ذاك مضت حياتي معه مكللة بالاستقامة والأمانة، وكانت وما زالت سمعتي أنقى من الماس.
فقلت بيأس لم تفطن إليه: إنك مثال للاحترام.
ثم في مراوغة: أنور بك رجل محترم أيضا، ولكن تأملي سوء حظه.
فرمتني بنظرة متوجسة وسألتني: أترثي له أم لزوجته؟
فقلت متحديا: ما مضى قد مضى وانقضى! - حقا؟! - هي الحقيقة بكل بساطة. - إذن، دعنا من هموم الآخرين ولننتبه لهمومنا.
فانحصرت في ركن لا أدري ماذا أقول، فقالت بصراحة ذكرتني بأخيها: أنت فاهم وأنا فاهمة.
ثم بشيء من التأثر: من حقي أن أسعى إلى سعادتي طالما أن كرامتي مصونة.
فقلت حتى لا ألزم الصمت أكثر مما يحتمل: إني أحترم هذا المنطق السديد.
فقالت بعذوبة: لن تندم، وإني منتظرة.
رندة سليمان مبارك
ست أعين تدور في فلك الحيرة؛ عيناي في عيني أمي، عيناي في عيني أبي، عينا أمي في عيني أبي، أعيننا جميعا تتنافر هاربة. في تلك الساعة من الليل ذهلت أمي لمرآي، شحب لون وجهها عاكسا لون وجهي، همست وأبي يغط في نومه تحت الملاءة الأرجوانية: رندة .. ماذا وراءك؟
وقفنا في وسط الصالة وأفرغت ما في صدري دفعة واحدة: إنه الطلاق.
وصببت عليها الحكاية بتفاصيلها، وعلم أبي بها بعد الفطور صباحا على درجات. قلت له: لا يمكن أن نتفق.
وراحت أمي لتتحدث عن الزوار والخمر. احتقن وجهه بالغضب فقلت له: لا تحمل صحتك فوق طاقتها.
فقال بحنق: فهمت كل شيء. لو بي قدرة لأدبته. - لا ضرورة لذلك، كان صريحا، وسرعان ما اعترف بفشله. - كيف غابت عنك حقيقته؟ - لكل أسراره، ولا أنكر أنني خدعت. - يستحسن أن نستشير محاميا.
فقلت بإشفاق: هو أقصر سبيل لنشر الفضيحة ، ومن ناحية أخرى فقد سلم لي بكافة حقوقي دون أدنى اعتراض. - قد يغري هذا الطلاق السريع ألسنة السوء بك؟ - إني واثقة من نفسي، وسرعان ما ينسى كل شيء.
ورغم أن أحدا من الزملاء لم يكدر صفوي، فقد شعرت طيلة الوقت بجو محموم بالتساؤلات المكتومة.
خاصة من ناحية علوان الذي بلغ غضبي منه مداه. ومرة همس لي ونحن منفردان: إني حزين جدا.
فسألته ببرود: لماذا؟ - لعله الشعور بالذنب. - لا شأن لك بما كان.
فتحول عني بعينيه وهو يقول: ما زلت أحبك.
فقلت بحدة: لا أريد سماع هذه الكلمة من فضلك.
وبمرور الوقت ضقت بكل شيء، وحتى بغضبي ضقت، ورجعت أنظر إليه كما أنظر إلى نفسي برثاء، بل وجدت شيئا من خلو البال، فتساءلت: ترى كيف تسير الأمور بينه وبين جولستان؟ هل يتزوج منها يوما ما؟ وأي غرابة في ذلك؟ وربما كانت المرأة خيرا من أخيها. لم أجد بها ما يسوء، وهي تريده ما في ذلك من شك. اللعنة .. إنها تحبه. من كان يتصور أننا نفترق؟ من كان يتصور أن الآمال الكبار يمكن أن تتلاشى كقبضة من غبار؟ وهمس لي عند ميعاد الانصراف يوما: أشعر بدافع قوي لتبادل الرأي.
صمت صمت القبور لرغبتي الشديدة في الحديث.
وذهبنا إلى استراحة الهرم فتناولنا بعض السندوتشات مع الشاي، ورحنا نتبادل النظر في بلاهة. سألني: هل لديك خطة؟
فقلت ببساطة: أعيش بلا خطة ولا أحلام، وهو غاية الراحة. - وأنا أيضا، ولكن جدي يقول إنه ما بين غمضة عين و...
قاطعته: دعنا من جدك وأمثاله؛ فهي لا تصلح لنا. متى تتزوج من جولستان؟
فقطب متسائلا: من قال ذلك؟ - مجرد سؤال. - أنا لا أبيع نفسي. - إذن ترى أنني بعت نفسي؟
فقال بسرعة: كلا، الأمر مختلف، لا غرابة في أن تتزوج فتاة من رجل يكبرها، أما العكس ...
وتصفح وجهي بقوة ثم سألني: ما أسباب الفشل في زواجك؟
بي رغبة حقيقية للاعتراف له بالحقيقة، وهو دون الآخرين. - تعدني بألا تبوح بالسر لإنسان؟ - أعد بشرفي.
وأفرجت عن المأساة الحبيسة في ضلوعي ، حتى هتف: الوغد! - انتهى وقت الغضب؛ فلا تنس وعدك. - فاق أي خيال. - ليس أعجب مما سمعنا في حياتنا.
محتشمي زايد
أرى في أحلامي أبي وأمي وأختي محاسن .. ورأيتهم مرة في منطاد يحلق فوق رأسي. ترى هل أزف الرحيل؟ هل آن للعجوز أن يعفي الدولة من صرف معاشه؟ الصحة جيدة رغم عين الحسود سليمان مبارك، ولكن الصحة مهلكة مثل المرض. كفى بالصحة داء! صدق رسول الله. عبدك منتظر يا رب، يتوقع بين آونة وأخرى أن يدق الجرس، وسوف يستقبل الطارق بما يليق به من طاعة وترحاب. حسن الختام يا رب، جنبني الأوجاع والعجز، وشكرا على حياة طويلة عريضة. حسبي أني لم أقدم أذى لإنسان في هذا العالم الحافل بالأذى. والشيخوخة قضيتها جوالا بين كلماتك وأنبيائك وأوليائك، وقبل ذلك كابدتها في دنياك ونعمائك. رياضتي العبادة، وتسليتي الطرب، وسروري الطعام الحلال. ها هو العيد يطل علينا متوجا بأنداء الخريف، نهر من السحب البيضاء يتدفق فوق النيل الأسمر والأشجار الباسقة دائمة الخضرة. أيام قلائل نادرة في حياة هذه الأسرة الممزقة. فواز يملأ جلبابه في استرخاء، وهناء تمشط شعرها الأبيض، وعلوان يحلق ذقنه تأهبا للانطلاق. قلت بسرور وأنا أتصفحهم حولي: أخيرا نجتمع كأسرة يا أولاد.
فقال فواز بصوته الجهير: نقطة راحة في بحر من التعب. - لو كانت الدنيا غير الدنيا لخرجنا إلى القناطر. - فكرة غير صالحة للعصر، أو قل إنها جنونية.
قالت هناء ضاحكة: نأكل وننام، هذا ما تبقى لنا من العيد. - وأنت يا علوان؟ - إلى المقهى على الأقدام.
فقال فواز باسما: ثرثرة كالعادة.
فقلت: وعيد آخر اتفقت دورته مع العيد؛ عيد النصر.
فقال علوان ساخرا: النصر والسجن.
فقلت بنشوة غازية: لا دوام لحال، الجديد أيضا آت لا ريب فيه. - حقا؟! .. يحيا الصبر والانتظار.
فقال فواز حالما: مفاجأة بترولية أو اكتشاف نهر مغمور في الصحراء.
فقال علوان: أو اندلاع ثورة.
فتساءل فواز: هل تعني الثورة إلا مزيدا من الخراب؟
فقال علوان متهكما: ضربوا الأعور على عينه!
يتحدثون عن الثورة بلا معرفة، لم يسمعوا عنها. حكى لهم الراوي المأجور حكاية زائفة كاذبة. يبدأ المدرس المغلوب على أمره درسه بالسؤال الخائن: «لماذا فشلت ثورة 1919؟» يا أبناء الأبالسة، ألا توجد قطرة حياء؟ يا زبانية المعتقلات وعباد نيرون، ها هو علوان يلوح بيده ويذهب؛ يذهب حاملا خيبة فرد وجيل معا. وفتحت هناء التليفزيون قائلة: نشاهد الحفل.
المنظر العام ثري يوحي بالفرح الشامل. قدوم الرئيس في هالة لألاءة كليلة القدر، عليه بزة القيادة، وبيده صولجان الملك، وتتابعت الصفوف والأعلام. قالت هناء ببراءة: شد ما هو معجب بنفسه.
فقلت: اليوم يومه.
فقال فواز: إنه لسعيد، وهو حقيق بذلك.
ثم مستدركا في أسى: خسر الكثير منذ 5 سبتمبر.
عرض فوق الأرض وعرض في السماء، منظر نادر لا يتكرر. قلت بصوت من الماضي: لم نكن نرى الجيش إلا يوم المحمل. - انظر يا أبي، هذا عالم آخر.
وقالت هناء ضاحكة: وجه مورد كأنه مطلي بروج.
وتمر الفيالق ويمر الوقت، ويزحف علي الكسل وشيء من النعاس، وأصحو في لحظة غريبة من الزمان. قرص التاريخ أذني، والدهر. قالا لي: هكذا وقعت الأحداث التي قرأتها في صحف التاريخ بانتباه عابر. ها هي تقع في حجرة المعيشة، تضطرب الشاشة الصغيرة وتتميع، وتنقض حركة غير عادية، وتنطلق أصوات، ثم يدهمنا الاختفاء. - هل حصل شيء في التليفزيون يا فواز؟ - ليس في الجهاز .. لا أدري ماذا حصل.
وقالت هناء بقلق: شيء غير عادي .. قلبي غير مطمئن.
فقال فواز: ولا أنا.
تساءلت: هل ...؟!
قال فواز: الله أعلم يا بابا، عما قليل سنعرف كل شيء.
وقلت من قلبي: اللهم حوالينا لا علينا.
علوان فواز محتشمي
ليكن عيد، ولننس همومنا ولو ساعة واحدة، ولكن كيف والباب له مائة مفتاح؟ ماذا يقول لي النيل؟ وماذا يقول الشجر؟ اسمع جيدا، إنها تقول: يا علوان، يا فقير، يا عائشا بين الأسوار، رندة تعود إليك تحت مظلة الصداقة والحوار، في ظل حب غير معلن يقوم على أرضية مستندة إلى عمودين من الصلب واليأس تظلها أحلام غامضة. لا مطاردة من الأهل ولا أمل ولا يأس، امش مشية عسكرية سريعة؛ فهذا يوم الجنود. وها هو المقهى مكتظ بعلماء الكلام. هنا ينعدم الرضا والفعل. بيننا مائدة عليها ترانزستور تطوع أحدهم بإحضاره، كما فعل يوم أذاع علينا الرئيس الراحل هزيمته عقب 5 يونيو. أول ما سمعت قائلا يقول: الرئيس الراحل في هزيمته أعظم من هذا في نصره.
هذا يذكرني برأي أدلى به جدي مرة، قال لي: نحن قوم نرتاح للهزيمة أكثر من النصر؛ فمن طول الهزائم وكثرتها ترسبت نغمة الأسى في أعماقنا؛ فأحببنا الغناء الشجي والمسرحية المفجعة والبطل الشهيد. جميع زعمائنا شهداء؛ مصطفى كامل شهيد الجهاد والمرض، محمد فريد شهيد المنفى، سعد زغلول شهيد النفي أيضا، مصطفى النحاس شهيد الاضطهاد، جمال شهيد 5 يونيو. أما هذا المنتصر المعجباني فقد شذ عن القاعدة، تحدانا بنصره، ألقى في قلوبنا أحاسيس وعواطف جديدة لم نتهيأ لها، وطالبنا بتغيير النغمة التي ألفناها جيلا بعد جيل، فاستحق منا اللعنة والحقد، ثم غالى بالنصر لنفسه تاركا لنا بانفتاحه الفقر والفساد، هذه هي العقدة.
وغرقنا في دوامة الحوار الأرعن والترانزستور يذيع تفاصيل عيد النصر لمن يسمع حولنا من رواد المقهى. وسرقنا الوقت كالعادة حتى انتبهنا على أصوات غريبة وصوت المذيع وهو يصرخ: الخونة .. الخونة.
شلت الألسنة وزاغت الأبصار، تلاصقت الرءوس فوق الترانزستور، ولكنه انقطع عن متابعة الحفل وراح يذيع بعض الأغاني. - ماذا حدث؟ - شيء غير عادي. - قال .. الخونة .. الخونة .. الخونة. - اعتداء! - على من؟ - سؤال سخيف حقا. - الأغاني المذاعة تدل ... - متى كان للمنطق أهمية؟ - شيئا من الصبر!
ماتت أي رغبة في العودة إلى البيت، تلاصقنا بشعور دعانا إلى البقاء معا أمام المجهول.
تناولنا غداء موجزا من المكرونة وانتظرنا. وبعد وقت عنيف أعلن المذيع أنه حصلت محاولة للاعتداء فاشلة، وأن الرئيس غادر الحفل، وأن قوات الأمن مسيطرة على الموقف تماما، وانطلقت الأغاني من جديد. - ها هي الحقيقة. - الحقيقة؟ - فكر قليلا. - بعض الحقائق لا يمكن إخفاؤها. - ولكن يمكن تأجيلها. - من المعتدون؟ - من غير التيار الديني؟ - لكنه يجلس بين الجنود والحرس. - انتبهوا .. بدأت إذاعة الأناشيد الوطنية.
وإذا بإذاعة جديدة تعلن عن إصابة طفيفة للرئيس، وأنه يلقى العناية الكاملة في المستشفى. قلوبنا ترقص في مد الاحتمالات المتصاعد. الزمن توقف وغير لونه ثم أطل علينا بوجه جديد. - أصيب الرجل، ماذا بعد؟ - استعدوا للسجن. - عودة مؤكدة للإرهاب. - سينجو وينتقم. - هل نسمع القرآن بعد الأناشيد؟!
وتحملنا الوقت على ثقله حتى صحت النكتة وبدأت التلاوة. بهتنا أول الأمر. إنه اليقين. يا للذهول! حقا؟! انتهى الرجل؟ .. من كان يتصور؟ لماذا نؤمن أحيانا بأنه يوجد مستحيل. لماذا نتصور أنه توجد حقيقة في هذه الدنيا سوى الموت؟ الموت هو الموت، هو الدكتاتور الحقيقي. ويجيء البيان الرسمي كالجملة الختامية. ترى ماذا يقول الناس؟ أريد أن أسمع ما يقال حولنا في المقهى. وتحركت مرهف السمع. لا حول ولا قوة إلا بالله. هو وحده الدائم. البلد يواجه خطرا لا يستهان به. لا يستحق هذه النهاية مهما قيل عن أخطائه .. في يوم نصره؟ مؤامرة .. توجد مؤامرة محكمة ولا شك. في داهية .. الموت أنقذه من الجنون. على أي حال كان يجب أن يذهب. هذا جزاء من يتصور أن البلد جثة هامدة، بل هي مؤامرة خارجية. لا يستحق هذه النهاية. إنها نهاية محتومة. كان لعنة. من قتل يقتل ولو بعد حين. في لحظة انهارت إمبراطورية، إمبراطورية اللصوص. فيم تفكر العصابة الآن؟ عدت إلى مجلسي تمزقني انفعالات متضاربة من الأسى والخوف والسرور، وأفعمني ترحيب غامض باحتمالات مجهولة واعدة بتحطيم الجمود والروتين والانطلاق نحو آفاق غير محدودة. ليكن الغد ما يكون أسوأ من اليوم، حتى الفوضى خير من اليأس، ومقاتلة الأشباح خير من الخوف. هذه الضربة زلزلت عرشا واخترقت حصونا. ومع المساء همت على وجهي. أرهقني الكلام. ما أرغبني في المشي! على كل عابر أرى أثرا من الموت، وأجدني فجأة أمام فيلا جولستان، وأرى سيارة أنور علام واقفة تنتظر صاحبها. تتفجر في داخلي كل شهوة للجنس وكل نزوع للقتال.
رندة سليمان مبارك
يا للفظاعة. ألا توجد وسيلة إلا القتل؟ وما ذنب زوجته وبناته؟ لست من أنصاره، ولكنه لا يستحق هذه النهاية. إنه يعيدني إلى المشكلات العامة بعد طول انغماس في مشكلاتي الخاصة . القتل كريه، والله لا يحبه. أمي بكت كإنسان لم تغيره السياسة. وجمت حجرة المعيشة أكثر من وجومها المألوف في تلك الأيام. وسألت أبي عن رأيه فقال: هيهات أن يرد رأي الحياة لميت.
ورنا إلي مليا بعينيه الذابلتين ثم واصل: البلد مريض بالتعصب يا رندة، أين أيام «لماذا أنا ملحد؟» يريدون أن يرجعونا أربعة عشر قرنا إلى الوراء.
وصمت قليلا ثم قال: أنا عارف أنك لا توافقين على رأيي كله، فافعلوا بزمانكم وليفعل بكم ما يشاء، ولكننا متفقان على رفض القتل.
إنه الخط الأدنى الذي نقف عليه معا. ترى أين أنت يا علوان؟ إنك لا تحبه، فهل سررت بنهايته؟ وعلى غير توقع اقتحم علوان شقتنا بعد طول انقطاع، وبجرأة دلت على قوة دوافعه، وسرعان ما انفردنا بأنفسنا في الصالة على كرسيين متجاورين حول السفرة. وسألته: أين كنت وقتها؟
فقال باضطراب أفزعني: دعينا من ذلك فما من جديد يقال. رندة، أصغي إلي جيدا. - ماذا عندك؟ - وجدتني مساء اليوم أمام فيلا جولستان وسيارة أنور علام المنتظرة، ودون دعوة ولا تدبير سابق اندفعت إلى الداخل، وكان هو أول من رأيت، فهتف مرحبا: «أهلا.» رب صدفة خير من ميعاد، وإذا بي أصيح مفقود الرشد: «يا قذر!» ولكمته في صدره بقوة فترنح وهوى إلى الأرض. وهنا نبهتني صرخة جولستان إلى وجودها، قالت لي بحزم: «كف عن همجيتك.» وساعدته على القيام وهو يلهث، فمضت به إلى حجرة نومها. تسمرت في موقفي غائب الوعي تقريبا، وغابت هي ربع ساعة ثم رجعت شاحبة اللون ذاهلة النظرة، وغمغمت: ماذا فعلت يا مجنون؟ لقد قتلته!
حملقت في وجهها دون أن أنبس. اغرورقت عيناها وتمتمت: ماذا فعلت يا مجنون؟! .. لماذا قتلته؟
وانحطت إعياء على مقعد مسندة رأسها إلى راحتها، على حين مضيت أسترد وعيي وأدرك أبعاد فعلي. وأخيرا قلت: استدعي الشرطة، إنه قدري.
لم تند عنها حركة، ورغبت بكل قوتي في التخلص من الموقف، فقلت: سأذهب بنفسي إلى الشرطة.
فأشارت بيدها إشارة غامضة وهمست: اقعد حيث أنت.
ومر الوقت على أعصابي ثقيلا مثل وابور الزلط، فقلت: لا معنى للانتظار.
فهمست: انتظر.
وأحنت رأسها تخفي عينيها عني، وهمست: كان يشكو تعبا مزمنا في قلبه.
فيم تفكر؟ ساورني شك عاكس لنور خاطف من أمل مذبذب. - لكني أنا الذي ...
فقالت بهدوء دل على أن رأسها المضطرب شرع يفكر: لا أثر للضرب.
بهذه العبارة تورطت كشريكة في الجريمة. تفرست في وجهها بذهول وأنا أعجب لطبيعة الشخص التي قد تظل خافية في الظروف العادية إلى الأبد. أي امرأة! ولكن فرحتي بطوق النجاة كانت فرحة غريق يائس. قلت: لن يخفى شيء على الطبيب.
فقالت بثقة: لا شأن لك بهذا.
وتبادلنا نظرة فاضحة لكلينا وقالت: طبعا أنت فاهم لماذا أعمل على إنقاذك؟
فأحنيت رأسي ممتنا وأنا لا أصدق، فسألتني: هل أثق في شرفك؟
وتعهدت بشرفي.
ولما انتهى سألته وأنا من اليأس في نهاية: لماذا تبوح لي بسرك؟ - لا سر بيننا يا رندة.
فقلت بمرارة: لقد ارتكبت جريمتك غضبا لي، وأنت تستحق النجاة. - أهذا رأيك؟ - طبعا. لا يمكن أن أشير عليك بالموت.
فقال بانفعال: في الحقيقة إنني لم أقل كل ما عندي، فما غادرت الفيلا حتى احتقرت نفسي وكرهت القرار الذي اتخذته، وفي حيرتي قصدتك لأعترف بكل شيء.
فقلت له بإشفاق: إني مدركة تماما لمشاعرك، ولكني لا ألومك على قرارك.
فقال بعناد خفق له قلبي: ولكني أرفض. - هذا هو الجنون. - ليكن.
فقلت متوسلة بحرارة: المعجزة لن تتكرر. - ليكن. - لا وقت للندم. - لن أندم أبدا. - إني بريئة مما تفكر فيه.
فقام وهو يقول: سأرجع إليها لأصارحها بكل شيء. - لا أوافق.
فقال وهو يمضي: وأنا مصمم.
محتشمي زايد
بعد اختفاء علوان أغرق في وحدة مطلقة. حزني عميق، وحزن أبويه لا قرار له، أما العالم حولنا فيشرئب إلى أمل جديد، ورندة أي شجاعة ساقتها إلى المحكمة لتدافع عن الشاب بحيائها وكرامتها؟! وكان من حسن الحظ أن تشخص الجريمة كضرب أفضى إلى موت. أعوام تمر ثم يغادر السجن صاحب حرفة يكون بها أقدر على تحديات الحياة وتحقيق آماله. لا أحسبني أراه مرة أخرى، سيجد حجرتي خالية فيمكنه أن يتزوج حبيبته فيها. ترى هل بقيت أكثر مما يجوز؟ وهل لعبت دورا وأنا لا أدري في تعقيد مشكلته؟!
آن لي أن أنضم إلى فريق المسبحين المتطلعين إلى الأبدية في رحاب ذي الجلال.
ناپیژندل شوی مخ