94

اسلام ورځ

يوم الإسلام

ژانرونه

عمل عملا على وجه خاص فأفتى في ذلك، ويكون الآخر لم يره فيفتي برأي آخر، وأيا ما كان فقد كان اجتهادهم ساذجا بسيطا، ليس فيه تعقيد كذلك الذي نشأ عن علم أصول الفقه، وليس فيه فرض فروض لما لم يحدث، كالذي فعله الحنفية فيما بعد، وعلى العكس من ذلك كان المالكية؛ فقد كانوا لا يفتون إلا فيما وقع من أحداث ، فلما جاء الفقهاء العراقيون فيما بعد عقدوا الأمور، وجعلوا لها أصولا، وفرضوا الفروض، وتخيلوا الخيالات، وكثر بينهم الاختلاف، ومنهم من صح عنده الحديث، ومنهم من لم يصح، وقد كان تفرق الصحابة والتابعين في الأمصار المختلفة كبيرا، وكل طائفة تحمل إلى المصر الذي نزلت فيه ما سمعته من الأحاديث، أو ما رأت من الأحداث، فكان مصر يعرف حديثا لا يعرفه مصر آخر وهكذا، ولهذا زاد الاختلاف ولكل عذره.

ومن أسباب الخلاف أيضا أن بعض الفقهاء يكثرون من الحديث، ويعتمدون عليه كل الاعتماد، ولا يرون للرأي ولا للقياس قيمة، وقسم يقل من الحديث، ويشترط فيه شروطا قاسية كالذي فعل أبو حنيفة. واعتمد فيما وراء الكتاب والسنة على الرأي والقياس وهكذا. ولكن على العموم كانت هناك ظاهرة طيبة وهي حسن ظن كل مجتهد بالآخرين، ولكن خلف من بعدهم خلف تعصب فيه كل ذي مذهب لمذهبه، ثم اشتد النزاع حتى سفكت الدماء، وخربت بعض البلدان من جراء ذلك كالذي كان بين الحنفية والشافعية، وكثيرا ما يقول ياقوت في معجمه: «إن بلدة كذا خربت بسبب الخلاف بين الشافعية والحنفية.» وبالأمس قرأت في كتاب الهوامل لأبي حيان التوحيدي من أعيان القرن الرابع - أي قبل إغلاق باب الاجتهاد - سؤالا في هذا الموضوع وجهه لمسكويه، يقول فيه: «لماذا كان أحد الفقهاء يقضي في مسألة بحلها بينما يقضي فقيه آخر بحرمتها؟» فأجابه مسكويه بأن ذلك قد يكون لاختلاف الزمان والمكان؛ فقد يكون الشيء حلالا في زمن وفي مكان حراما في آخر، وأجاب إجابة بديعة، وهي أن الاجتهاد قد يكون مطلوبا لذاته؛ أي أن يكون غاية لا وسيلة؛ فإن الاجتهاد يمرن العقل، ويكسب التجربة كالاجتهاد في حل النظريات والتمرينات الهندسية، فلو أن ملكا لعب بالكرة والصولجان سواء نجح في اللعب أو أخفق فقد نجح في تمرين أعضائه. وكالحكيم يأمر بدفن شيء ثم يأمر بالبحث عنه نظير مكافأة. وسواء وجد أم لم يوجد فقد حصلت الغاية. والفقهاء أنفسهم اختلفوا في هذا الاجتهاد؛ فمنهم من اكتفى بالاجتهاد في المذهب أو المذاهب، ومنهم من أجاز الاجتهاد المطلق محتجا بأنه لا معنى للنسخ في القرآن إلا هذا فآية تنسخ آية لتغير حكمها حسب الزمان والمكان.

وقد سأل أبو حيان مسكويه سؤالا آخر، وهو: هل الأحكام الشرعية متفقة مع مصالح العباد لا تخرج عنها؟ فأجابه مسكويه بالإيجاب وخصوصا في المعاملات؛ فإذا تبين أن نوعا من المعاملات لا يحقق مصلحة العباد في وقت من الأوقات أجاز الاجتهاد تغيير الحكم. ومصالح العباد كلمة تشتمل المحافظة على النفس والدين والمال كما نص على ذلك الشاطبي في الموافقات، وهذا واضح كل الوضوح في المعاملات المدنية، أما في العبادات فوجب أن نفعل بما أمر الله به إذا لم نفهم علته ما دام رضاء الله في ذلك، كما قال علي بن أبى طالب لو كان الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخفين خيرا من المسح على ظاهرهما، أما إذا نص على العلة فيها؛ فإن الحكم يدور معها وجودا وعدما.

وقد كان الإسلام مرنا بتشريعه نظرية التجديد؛ ذلك أن البشر في تغير مستمر؛ فقد بشر النبي بأن الله يبعث بعد عصر النبوة مجددين مصلحين، يرثون الأنبياء بالدعوة إلى إصلاح ما أفسده الظالمون، ويكونون حجة الله على الخلق، وقد بشر النبى بأن الله - تعالى - يبعث في الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وكان المجددون يبعثون بحسب الحاجة إلى التجديد، فكان الإمام عمر بن عبد العزيز مجددا في القرن الثاني لما بلي بنو أمية وأخلقوا، وما مزقوا بالشقاق وفرقوا. وكان الإمام أحمد بن حنبل مجددا في القرن الثالث لما أخلق بعض بني العباس من لباس السنة باتباع ما تشابه من الكتاب؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقالوا كان الأشعري مجددا في القرن الرابع بهذا المعنى، والغزالي مجددا في أواخر القرن الرابع وأول الخامس لما بزغت نزغات الفلاسفة وزندقة الباطنية، وكان ابن حزم مجددا في القرن السادس لما طغت الآراء على النصوص الشعرية، وكان ابن تيمية وابن القيم مجددين في آخر القرن السابع وأول الثامن لما مزقت البدع الفلسفية والكلامية والتصوفية والإلحادية تعاليم الإسلام، ثم ظهر مجددون آخرون في كل قرن، وكان تجديدهم منحصرا في قطر أو شعب؛ كالشاطبي صاحب الموافقات والاعتصام بالكتاب والسنة بالأندلس، وولي الله الدهلوي، والسيد محمد صديق خان في الهند، والمولى محمد بن بير علي البركوي في الترك، ومحمد بن عبد الوهاب في نجد، والشوكاني في اليمن. وقد كان المجددون أنواعا؛ منهم المجدد في العقائد الدينية، والمجدد في الأمور الحربية، والمجدد في الأمور السياسية كدعوة الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده إلى الجامعة العربية. والسر في التجديد أن العوامل الطبيعية والاجتماعية والسياسية تتغير كلما تغير الزمان، بل المسائل الاقتصادية من طرق البيع والشراء ونحوهما تتغير كلما تقدمت الإنسانية فلا بد من مواجهة هذه الأمور الجديدة بتشريع جديد، وهذا ما يفعله المجددون في كل زمان، وإلا ركدت الأمور وتعذر السير. والعادات والتقاليد تتغير بين جيل وآخر؛ كالذي نراه في الفروق بيننا وبين أولادنا، وبيننا وبين آبائنا وهذا أمر طبيعي. غاية الأمر أن التغير قد يكون عنيفا كالذي حدث في العصور الأخيرة، فإن المدنية الأوروبية قلبت الأوضاع رأسا على عقب، وقد يكون بطيئا كالفرق بين جيل في العصور الوسطى وجيل آخر. وقد أدرك الفقهاء ذلك وألف ابن عابدين رسالة في العرف والعمل به، وهي رسالة قيمة، كالذي قال: إنه في عصر من العصور كانت رؤية غرفة واحدة في البيت كافية لسقوط خيار الرؤية ممن رأى. فلما بنيت البيوت في المدنية الحديثة مختلفة الغرف كانت رؤية غرفة واحدة لا تسقط خيار الرؤية وأمثال ذلك كثيرة. وقد اضطر الشيخ محمد عبده أن يواجه مشاكل جديدة كان يستفتى فيها، ويضطر للإجابة عنها، كلبس البرنيطة، وأكل ذبائح أهل الكتاب، والتأمين على الحياة، وإيداع المال في صناديق التوفير، ونحو ذلك مما لم يكن معروفا قبل زمنه، وهكذا لكل عصر مقياس، وكل حدث يحتاج إلى فتوى. بل إن أهل عصر النبي

صلى الله عليه وسلم

وهو عصر واحد وأصحابه جيل واحد كان في زمانهم النسخ فقال الله - تعالى:

ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها .

إن الإسلام يدعو إلى تحرير العقل؛ وكم نعي على العرب الذين لا يستخدمون عقولهم، فلا يفقهون ولا يعقلون، وكم نعي أيضا على العرب تقليدهم لآبائهم وقولهم:

إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، ومدح معاذ بن جبل في استعماله عقله عند عدم النص، وكم كان يستشير أبا بكر وعمر بن الخطاب في رأيهما ويوازن بين هذه الآراء. ويقول عمر بن الخطاب: «كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.» وكان عمر بن الخطاب كبير العقل راعي غنم، لم يتثقف إلا بالإسلام؛ ومع ذلك استطاع أن يسوس فارس والروم - وهما الأمتان المتحضرتان - سياسة خيرا من سياستهما، وذلك بفضل عقله وفهمه الإسلام الصحيح وكلياته، وكتب الفقه في باب السير والحروب مملوءة بآراء عمر، فلا يمنع الإسلام والعقل من البحث واكتشاف المجهول، والسير وراء العلم وإخضاع الحياة للعلم والعقل إلى آخر حد. ولم يخرج المعتزلة عن الدين بسيرهم سيرا واسعا مع العلم، فكانوا لا يؤمنون بظهور الجن، ويحكمون العقل في الحديث، ويقولون بخلق القرآن، وينكرون الخرافات والأوهام، ومع ذلك فالرأي اتفق على إسلامهم، غاية الأمر أنهم نادوا بأن هناك دائرة للعلم ودائرة أخرى للدين لا يمكن للعلم فيها أن يثبت أو ينفي، لأنه لا قدرة له عليها، فكل مملكة الغيب من ملائكة، وجن، ويوم آخر، ووحي، ونحو ذلك لا يقدر العلم على نفيها أو إثباتها؛ فهذه هي وظيفة الدين لا العلم، والإيمان بها من جهة الدين لا ينافي العلم ولا يقيده، والعلم عاجز كل العجز عن إبداء رأي فيها. فكيف يستطيع العلم أن ينفي جنا أو أن يقول به، أو أن ينفي الحساب يوم القيامة أو يدلل عليه؟! إن هذه كلها أمور غيبية ترك للدين الحكم فيها، كما ترك للعلم الحكم في دائرته؛ ولذلك قالوا: إن الدين يبدأ حيث ينتهي العلم. فالإسلام يؤمن بالعلم، ويترك له حريته في دائرته، ويدعو إلى الدين والإيمان بعقائده في دائرته أيضا، والاكتفاء بأحدهما تقصير ضار. وكان المسلمون الأولون يؤمنون بهما معا ، ثم كفروا بالعلم فضلوا. والغربيون يؤمنون بالعلم فنجحوا في حياتهم الدنيا، وكفروا بالدين فضلوا، ولا منجى من الضلال إلا بالإيمان بهما معا؛ ففي الإيمان بالعلم حياة العقل، وفي الإيمان بالدين حياة القلب، ولا خير للإنسانية إلا بحياة العقل والقلب معا، ولا تصادم بين العلم والدين كما لا تصادم بين حاستي السمع والبصر، فلكل اختصاصه. ولا أمل في النجاح إلا بالرجوع إلى تعاليم الإسلام وسير المسلمين الأولين باستخدام العقل والقلب. وآية ذلك أن الغربيين في اعتمادهم الكلي على العقل وحده لم يسعدوا كما كان ينتظر، وكانت نهاية العلم ويلات الحرب والفزع والرعب والأسلحة النارية والقنبلة الذرية. وليس العلم هو الذي سبب الفزع والرعب، ولكن الذي سببهما هو أن العلم لم يدعم بالدين، والعقل لم يدعم بالقلب، وفي الإنسان عقل وقلب لا بد أن يغذيا، وما لم يغذ عضو هام كالقلب يشعر الإنسان بالسآمة والملل. ويعجبنى في ذلك تقسيم الأشياء إلى ثلاثة أقسام: ما يعلم، وما يمكن أن يعلم، وما لا يمكن أن يعلم. فما يعلم هو دائرة العقل أو الشهادة، وما يمكن أن يعلم هو دائرة الغيب، وما لا يمكن أن يعلم هو دائرة المستحيل. وفي الحق أن الإسلام وقف موقفا وسطا بين منكري العلم ومنكري القلب. ودعا إلى الإيمان بهما جميعا بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر؛ والعقل رمز إلى العلم، والقلب رمز للشعور. وما الإنسان من غير عقل أو شعور؟!

إنه إذا فقد العقل غرق في الخرافات والأوهام، فبنى تربيته وزراعته وتجارته على أوهام؛ وإذا ترك شعوره كان حجرا جامدا كقطعة الثلج.

ناپیژندل شوی مخ