85

اسلام ورځ

يوم الإسلام

ژانرونه

وإنما أصيب المسلمون بقولهم بسد باب الاجتهاد؛ لأسباب ثلاثة، أولها: كارثة المسلمين بضياع المعتزلة، وهم الفرقة العقلية في الإسلام، وانتصار أهل الحديث عليهم. والثاني: مهاجمة أهل التصوف للفقهاء بأنهم شكليون، ويعنون بالشكل أكثر مما يعنون بالروح، فاتفقوا مع المعتزلة في مناهضة الفقهاء، وكان على رأسهم سفيان الثوري الذي توغل في الروحانية مع اطلاعه الواسع في الفقهيات. والسبب الثالث: سقوط بغداد على يد التتر، وقد كانت بغداد إذ ذاك مركز الحضارة والثقافة الإسلاميتين، فأصيب العلماء بالفزع من جراء هذا السقوط، وغلبهم التشاؤم وودوا أن لو استطاعوا فقط حتى المحافظة على القديم من غير تجديد، وهم في ذلك معذورون بعض العذر. فانحبس الناس في التقليد. والاجتهاد الذي نريده هو الاجتهاد المطلق لا المقيد بمذهب. وهذا الاجتهاد المطلق هو الذي فعله معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وداود الظاهري، والطبري، وابن تيمية، وأمثالهم. وليس المسلمون مقيدين بالمذاهب الأربعة، فغيرهم من عشرات الأئمة لم يتقيد بمذهبهم.

والاجتهاد في عصرنا أسهل من الاجتهاد في عصرهم، فالمطابع نشرت عشرات التفسيرات للقرآن الكريم، وعشرات الكتب في جمع الحديث؛ وأصبحت المطالعة في الكتاب تغني عن الرحلات المختلفة إلى مصر والأندلس والحجاز، فقد كفانا المحدثون مئونة ذلك.

هذا إلى أن الله لم يخل الأمم الإسلامية في كل عصر من مسلمين أذكياء عقلاء، عارفين بكليات الشريعة الإسلامية ومقاصدها، قادرين على تطبيقها على الجزئيات. ثم إن المدنية الحديثة قابلت المسلمين بجزئيات لا عداد لها؛ فقد أصبحت طرق المعاهدات الجديدة تخالف في كثير من الأحيان طرق المعاملات القديمة، وتطور العالم الإسلامي في العشرين سنة الأخيرة ما لم يتطوره في مئات السنين الماضية؛ تدل على ذلك الأسئلة الكثيرة التي ترد على العلماء من كل قطر، في حل بعض الأمور وحرمتها. فما لم نواجه هذه المسائل بالاجتهاد المطلق تخلفنا كثيرا في الحياة، ولو واجهت هذه المسائل الأئمة الأربعة لأفتوا فيها فتاوى يضعون فيها إحدى عينيهم على كليات القرآن، والعين الأخرى على المدنية الحديثة؛ والله - تعالى - ينهى عن الغلو في الدين، والرسول يقول: «إن الإسلام يسر لا عسر» فهذه المشاكل لا تحل إلا باجتهاد مطلق؛ ولسنا نعني بالاجتهاد المطلق إعمال العقل وحده، والتقليد للأجنبي تقليدا أعمى، وإنما نعني اجتهادا من أهل الاجتهاد، اجتهادا يفهم الإسلام ومراميه، ويفهم المدنية الغربية ومراميها، ثم يحلل أو يحرم على مقتضى هاتين النظريتين.

فكل المجتهدين السابقين فعلوا مثل هذا؛ ونحن لسنا أقل منهم في مواجهة الصعاب، وقدرتنا على حلها، وفي التاريخ أمثلة كثيرة من هذا القبيل، وإن الذين أغلقوا باب الاجتهاد، أو فتحوا فقط باب الاجتهاد الضيق ضرونا ضررا بليغا، وجمدونا جمودا متحجرا، فأصبحنا كالنعامة تغمض عينيها عما سيؤذيها؛ وليس يحيا دين على ممر الأزمان إلا إذا كانت فيه صفه المرونة. نعم إن جماعة كالبابية والبهائية والقاديانية قالوا بهذا الاجتهاد، ولكنهم أفرطوا في الحرية بعض الأحيان إفراطا لا يرتضيه الإسلام، كالقول بأن الأنبياء لم يختموا بمحمد مخالفين النص القرآني:

وخاتم النبيين ، وغير هذا من أمور ليس هذا موضعها، فنحن محتاجون إلى نوع خاص من المجتهدين.

نوع يفهم الدين فهما دقيقا، ويفهم المدنية فهما عميقا، ثم يطبق تلك على الدين، مراعيا المصلحة العامة والعقل الواسع. أما أن يفهم الدين وحده كبعض علمائنا، أو أن يفهم الحضارة الغربية وحدها كبعض المتمدنين؛ فنظر بعين واحدة وهو لا يكفي. إنا لا نريد الاجتهاد لكل أحد، ولكن نريده بشروط كالتي قالها الأقدمون، وكل ما نخالفهم فيه أننا نثق بأنفسنا، ولا نقبل مركب النقص فينا، ونؤمن بفضل الله وسابغ عطاياه، وأن الأمة الإسلامية لم تصب بالعقم، فالأمهات اللاتي كن يلدن عباقرة حتى في الدين يلدن حتى اليوم هؤلاء العباقرة

3 ... ومما يؤسف له أن كثيرا من علمائنا الدينيين لم يتعبوا أنفسهم في فهم المدنية الحديثة كما أتعب علماء المسيحية أنفسهم في فهمها؛ فقل أن تجد عالما فاهما للمدنية الغربية، وربما كان السبب في كرهنا للمدنية الغربية أنها نشأت في أحضان النصرانية لا الإسلام، ولكن لا يمنعنا هذا - وقد تسلطت المدنية الغربية على العالم كله حتى الأمم الإسلامية - من فهم المدنية الغربية وأسرارها، وتحديد موقفنا أمامها.

لو كانت تعيش المدنية الغربية في بلاد غير بلادنا لاحتملنا ذلك؛ أما وهي تعيش في بلادنا بماديتها ومعنويتها فلا يصح أن نغمض النظر عنها، إن العلماء يلبسون من صنعها ويحلون بيوتهم بأثاثها، وآلات إذاعتها وتليفوناتها، ويزرعون بآلاتها، فلماذا لا يوسعون فهمهم لها، ويفتحون الطريق أمام خيراتها، ويغلقونه أمام شرورها، ويبصرون الناس بموقفهم منها؟

هذا هو الفرق العظيم بين رجال ديننا ورجال دينهم. يظهر ذلك في علمهم الواسع بأساليب سياستهم وتكوين رأيهم فيها، ويظهر ذلك أيضا في وعظهم ووعظنا، في كنائسهم ومساجدنا. فهم يتحدثون بل ويؤلفون بلغة العصر وروح العصر. وأشهد أني قرأت دائرة معارف بالإنجليزية للأطفال، فكان رجال الدين في كل عدد يعرضون لأحاديث التوراة والإنجيل وقصص الأنبياء بلغة فيها علم نفس، وفيها فهم لعلم الطبيعة والكيمياء، وفيها لغة تناسب عقول الأطفال والشبان وتستهويهم، وتوافق لغتهم التي يألفونها في كتب العلوم والآداب. أما نحن فمن أسباب انصراف ناشئتنا عن الدين أننا لا نعرف أن نخاطبهم بلغتهم التي يفهمونها، ثم هم إذا حدثت حوادث كغرق مركب كبير، وقيام حرب كبيرة، وحدوث أحداث سماوية صغيرة انتهزوا الفرصة فتكلموا بلغة الدين فيها؛ فكان كلامهم مقبولا. ونحن لا نتكلم إلا عن الماضي، وبلغة الماضي؛ فلا يكون كلامنا مقبولا. إن زعماء الإصلاح الذين نجحوا كان نجاحهم بمقدار فهمهم للمدنية الغربية وفهمهم للإسلام معا، كالسيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ومدحت باشا، والسيد أمير علي. أما من تخلف منهم، ولم يناسب إلا جزيرة العرب وأمثالها، كمحمد بن عبد الوهاب، فسبب عدم شيوع تعاليمه هو أنه اقتصر على فهم الإسلام دون الجانب الآخر من الحياة، حتى فهمه للإسلام كان فهما مقيدا بظروف الحياة في الجزيرة العربية قبل تطوره التطور الذي جاء بعد؛ فهو أشبه بابن عمر من عمر.

إن عمر بن الخطاب بعقله الواسع واجتهاده المعقول استطاع أن يشرع للفرس والروم، وهو البدوي وهم الممدنون: ووقف حد الشرب على أبي محجن الثقفي؛ لأنه أبلى في الحروب بلاء حسنا، ووقف حد القطع على من سرق ناقة؛ لأنه كان جائعا، ووقف الحدود في الحروب لما رأى أن بعض المحاربين إذا وقع عليهم الحد فروا إلى الأعداء، وهكذا ... وأباح أبو حنيفة قراءة الفاتحة بالفارسية لما رأى أن بعض من أسلم من الفرس لا يحسن العربية، وقال مالك بالمصالح المرسلة، وقال أبو حنيفة بالاستحسان؛ فلماذا لا نسير سيرهم ولا نعمل عملهم؟ إن حياة المسلمين كلها تغيرت بالمدنية الحديثة، من راديو يقرأ القرآن، وصناديق توفير مفتحة الأبواب، ولبس قبعة وغير ذلك من الماديات، وتغيرت أساليب الزواج، ووسائل السفر، وغير ذلك من العلوم والمعارف، فلماذا نقف أمامها ولا نبين رأي الإسلام فيها؟ الحق أنا في أشد الحاجة إلى ذلك، وإلا كان ما حدث لبعض الزعماء كمصطفى كمال وغيره من القادة، رأوا الجمود فكفروا بالدين، ونقلوا المدنية الغربية بحذافيرها من غير تفرقة بين نافع وضار، وما يناسب المسلمين وما لا يناسبهم. لو كان وقوف العلماء مغمضي العين عن المدنية الحديثة يقف سيرها لهان الأمر، ولكن المدنية الغربية تسير بسرعة سير الطائرات، رضيناها أم أبيناها، فلنحلل منها ما حلل الله. ولنحرم ما حرم، ولنستعمل عقولنا التي رزقنا الله مراعين ديننا الذي شرعه الله.

ناپیژندل شوی مخ