ومما يؤسف له أن المدنية الغربية غزت الشرق تحت دوي المدافع وصليل السيوف، فاستقبلت استقبالا سيئا، واعتقد المسلمون فيها أنها مدنية نصرانية لا عالمية، ولذلك كان الأقباط في مصر أقرب إلى قبولها والانتفاع بها من المسلمين.
على كل حال زاد ضغط الأمم الغربية على الشرق، وعاملوه معاملة قاسية كالتي ذكرناها، فزاد كره المسلمين للمسيحيين الفاتحين، وتمنوا الفرصة التي تسنح للتخلص منهم، وساعد على ذلك أن الطبقة الثانية من الحاكمين المستعمرين لم يكونوا كالأولين، مثل: اللورد كرومر في مصر؛ فقد كان أحكم وأحزم، وخلفه مثل: غورست وكتشنر فلم يكونا في حكمته ومهارته. وزادهم طموحا أن المصلحين الأولين، مثل: محمد بن عبد الوهاب، والسيد جمال الدين الأفغاني كانت قد نضجت تعاليمهما، وأثرت في المسلمين أثرا كبيرا، ثم كانت حركة تركيا الفتاة ودعوتها إلى الحكم الشوري وخلع نير الاستبداد. فطمح المسلمون في الأقطار الأخرى إلى أن ينالوا مثلما نالوا، فثارت مصر على الإنجليز، وثار المغاربة على الفرنسيين، وثار الهنود على الإنجليز، وثار العجم على روسيا وإنجلترا، وهكذا. فلما جاءت الحرب العالمية الأولى تنفس المسلمون الصعداء، وفرحوا لوقوع الدول الغربية بعضها في بعض، وعلموا أن المحاربين جميعا سيخرجون منهزمين سواء منهم الغالب والمغلوب. وجاءت تعاليم ولسن فقوت طموحهم وأملهم في المستقبل، فلما خاب رجاؤهم ثاروا ثورة أخرى، وغلوا ثالثة لما أعاد الدعاة مبادئ ولسن في الحرب العالمية الثانية ثم لم تحقق، ولكن كان المستعمرون مختلفين في السياسة الاستعمارية. ومن عادات الإنجليز أنهم يتنسمون الريح، ويبنون سياستهم على الحالة الجديدة، فإذا رأوا اتجاه شعبهم مثلا إلى الشيوعية توسعوا في الاشتراكية وفي الضمان الاجتماعي وأمثال ذلك، فلما أدركوا حالة الهند واستعدادهم للثورة انسحبوا منها، وساعدوا حركة الانفصال بين المسلمين في الباكستان والوثنيين في الهندستان، ولما رأوا شدة الحركة في مصر غيروا الألفاظ من احتلال إلى انتداب إلى مشاركة في الدفاع، وانسحبوا من المدن الكبيرة كالقاهرة والإسكندرية، ولما رأوا حرج موقفهم في فارس تخلوا عنها بعض الشيء، وكان من هزيمة فرنسا في الحروب واختلافها مع إنجلترا أن ألجئت إلى الانسحاب من سوريا ولبنان، فقوى ذلك من عزيمة المسلمين في البلاد الأخرى وتمنوا ما نالوا، ولا يزال الصراع قويا، والمطالبة بالاستقلال تزداد، ولا يدرى إلا الله ماذا سيكون بعد.
وكان من سياسة أمريكا وإنجلترا أن تكتلت الأمم الإسلامية لتجعل منها قوة لدفاع الشيوعية، فبدأت بتشجيع الجامعة العربية على الوجود، ولكن عملت هناك عوامل لم تجعل الجامعة العربية هي المثل الأعلى، وأهم ذلك سببان؛ السبب الأول: أنها كانت وليدة رغبة الإنجليز وتحت سيطرتهم؛ يصرفونها كيف يشاءون، فلم تفعل بوحي ضميرها ما ينبغي أن تفعله. والثاني: الخلاف بين رؤساء الشعوب، وخصوصا الخلاف بين البيت الهاشمي - وعلى رأسه ملك العراق وملك شرق الأردن - وبين السعوديين الذين يعتبرون في نظر الهاشميين مغتصبين، وقد أيدت مصر الحجاز فأوسعت بذلك شقة الخلاف. وليست تؤدي الجامعة العربية رسالتها كاملة إلا إذا تحررت من الإنجليز والأمريكان أولا، وبطل الخلاف بين البيوت المالكة ثانيا.
وكان مما فتح عيون العرب، وأقض مضجعهم ما رأوا من تعاقد إنجلترا وفرنسا سنة 1904 على تقاسم النفوذ؛ فتطلق يد إنجلترا في مصر، وتطلق يد فرنسا في المغرب، ففهم العرب من ذلك أن المسألة هي تفاهم الغرب على السيطرة على الشرق.
وتكرر مثل ذلك بشكل أخس في الحرب العالمية الأولى؛ فقد اتفقت إنجلترا مع قادة العرب أن ينضموا إلى جانبهم، ويثوروا على الدولة العثمانية في نظير تعهد إنجلترا بالرضا عن إنشاء دولة عربية في الشرق.
وبينما هي تتفق مع العرب على ذلك كانت تتعاهد مع فرنسا على تقسيم النفوذ بينها وبين فرنسا على البلاد العربية، واستطاعت إنجلترا بمكرها ودهائها أن تخدع العرب بذكر عبارة مطاطة تخفي ما وراءها. فقد نصت في المعاهدة على أن ذلك الاتفاق يسري فيما عدا جنوب العراق حيث المصالح البريطانية تقتضي اتخاذ تدابير مخصوصة، وأيضا فيما عدا المناطق التي ليست بريطانيا العظمى حرة في التصرف بشئونها تصرفا منافيا لمصالح فرنسا، ففهم العرب من ذلك أن هذه العبارة في صك عهد السيد هنري مكماهون إنما يعني بها منطقة لبنان الضيقة. ففرحوا وانتشوا سرورا، بينما كان يقصد منها أبعد من لبنان بحيث تشمل سوريا وتضع العراقيل في سبيل إنشاء دولة عربية. فبينما كانت إنجلترا تعطي العرب باليمين كانت تتفق مع فرنسا لضعضعة حالة المسلمين والعرب باليسار.
وهكذا تكشفت المسألة بعد الحرب عن خديعة كبيرة ومؤامرة قاسية جرحت العرب في أعماق نفوسهم جرحا لا يندمل، وحتى كان من لورانس الضابط الكبير الإنجليزي الذي اشترك في الثورة العربية وسمي ملك العرب غير المتوج أن ثار على الإنجليز ثورة عنيفة، ورفض النياشين الإنجليزية التي عرضت عليه، والوظيفة التي أرادتها إنجلترا له، ولولا أن الملك فيصل هدأ الثورة العربية لاعتقاده أن العرب لا يستطيعون حربيا أن يتفوقوا على إنجلترا وفرنسا، وأنه يستطيع أن ينال بالمناورات السياسية السلمية ما لا يناله بالحرب، وأن ينفذ من بين الخلافات الناشبة بين فرنسا وإنجلترا ما يكسبه للعرب، أقول لولا ذلك لهبت نار الثورة في البلاد العربية غضبا على الإنجليز والفرنسيين واندلع لهيبها حتى لا يعلم إلا الله منتهاها.
ومع ذلك فقد عقد مؤتمر في سوريا أعلنوا فيه استقلالها، وشبت ثورة في العراق على الإنجليز مما جعل السلم والهدوء عسيرين.
وكانت معاهدة سيفر التي كان بمقتضاها احتلال القسطنطينية، والقضاء على الترك، كما قضوا على العرب من قبل؛ سبب ثورات تركية تحت قيادة مصطفى كمال وتنكيله باليونان أعظم تنكيل، وإلجاء فرنسا وإنجلترا إلى الاعتراف به، وبذلك ثار الترك والعرب معا ثورات عنيفة مملوءة بالحقد والغضب.
وليس هناك إلا أمل واحد وهو أن إنجلترا وفرنسا تبدلان موقفهما بعد أن أدركتا متاعبهما، فتريان أن استعمار البلاد الإسلامية لم يعد سهلا يسيرا كما كان من قبل، فتحولان وجهتيهما إلى جهة أخرى، وتغيران شعورهما العدائي إلى شعور مبني على الإخاء والمساواة، وتعتقدان أن من الخير مصادقة المسلمين، والأخذ بيدهم، وإشراكهم في بناء الحضارة معهم. والمسلمون من ناحيتهم يبادلونهم ودا بود، ويرقون أنفسهم، ويساهمون في بناء الحضارة معهم. ومن غير هذا تتسع الهوة، ويزداد النفور والشقاق، وتئول الحالة إلى أسوأ حال.
ناپیژندل شوی مخ