ـ[يتمة الدهر في محاسن أهل العصر]ـ
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: ٤٢٩هـ)
المحقق: د. مفيد محمد قمحية
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت/لبنان
الطبعة: الأولى، ١٤٠٣هـ١٩٨٣م
عدد الأجزاء: ٤
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 1
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله خير مَا بُدِئَ بِهِ الْكَلَام وَختم وَصلى الله على النَّبِي الْمُصْطَفى وَآله وَسلم
أما بعد فَإِن محَاسِن أَصْنَاف الْأَدَب كَثِيرَة ونكتها قَليلَة وأنوار الْأَقَاوِيل مَوْجُودَة وثمارها عزيزة وأجسام النثر وَالنّظم جمة وأرواحهما نزرة وقشورهما معرضة ولبوبهما معوزة
وَلما كَانَ الشّعْر عُمْدَة الْأَدَب وَعلم الْعَرَب الَّذِي اخْتصّت بِهِ عَن سَائِر الْأُمَم وبلسانهم جَاءَ كتاب الله الْمنزل على النَّبِي مِنْهُم الْمُرْسل ﷺ كَانَت أشعار
1 / 25
الإسلاميين أرق من أشعار الجاهليين وأشعار الْمُحدثين ألطف من أشعار الْمُتَقَدِّمين وأشعار المولدين أبدع من أشعار الْمُحدثين وَكَانَت أشعار العصريين أجمع لنوادر المحاسن وأنظم للطائف الْبَدَائِع من أشعار سَائِر الْمَذْكُورين لانتهائها إِلَى أبعد غايات الْحسن وبلوغها أقْصَى نهايات الْجَوْدَة والظرف تكَاد تخرج من بَاب الْإِعْجَاب إِلَى الإعجاز وَمن حد الشّعْر إِلَى السحر فَكَأَن الزَّمَان ادخر لنا من نتائج خواطرهم وثمرات قرائحهم وأبكار أفكارهم أتم الْأَلْفَاظ والمعاني اسْتِيفَاء لأقسام البراعة وأوفرها نَصِيبا من كَمَال الصَّنْعَة ورونق الطلاوة
(وكذاك قد سَاد النَّبِي مُحَمَّد ... كل الْأَنَام وَكَانَ آخر مُرْسل)
وَقد سبق مؤلفو الْكتب إِلَى تَرْتِيب الْمُتَقَدِّمين من الشُّعَرَاء وَذكر طبقاتهم ودرجاتهم وَتَدْوِين كلماتهم والانتخاب من قصائدهم ومقطوعاتهم فكم من كتاب فاخر عملوه وَعقد باهر نظموه لَا يشينه الْآن إِلَّا نبو الْعين من إخلاق جدته وبلى بردته وَمَج السّمع لمردداته وملالة الْقلب من مكرراته
وَبقيت محَاسِن أهل الْعَصْر الَّتِي مَعهَا رواء الحداثة وَلَذَّة الْجدّة وحلاوة قرب الْعَهْد وازدياد الْجَوْدَة على كَثْرَة النَّقْد غير محصورة بِكِتَاب يضم نشرها وينظم شذرها ويشد أزرها وَلَا مَجْمُوعَة فِي مُصَنف يُقيد شواردها ويخلد فوائدها وَقد كنت تصديت لعمل ذَلِك فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وثلثمائة والعمر فِي إقباله والشباب بمائه فافتتحته باسم بعض الوزراء مجريا إِيَّاه مجْرى مَا يتَقرَّب بِهِ أهل الْأَدَب إِلَى ذَوي الأخطار والرتب وَمُقِيمًا ثمار الْوَرق مقَام نثار الْوَرق وكتبته فِي مُدَّة تقصر عَن إِعْطَاء الْكتاب حَقه وَلَا تتسع لتوفية شَرطه
1 / 26
فارتفع كعجالة الرَّاكِب وقبسة العجلان وقضيت بِهِ حَاجَة فِي نَفسِي.
وَأَنا لَا أَحسب المستعيرين يتعاورونه والمنتسخين يتداولونه حَتَّى يصير من أنفس مَا تشح عَلَيْهِ أنفس أدباء الإخوان وتسير بِهِ الركْبَان إِلَى أقاصي الْبلدَانِ فتواترت الْأَخْبَار وَشهِدت الْآثَار بحرص أهل الْفضل على غدره وعدهم إِيَّاه من فرص الْعُمر وغرره واهتزازهم لزهره واقتفارهم لفقره وَحين أعرته على الْأَيَّام بَصرِي وأعدت فِيهِ نَظَرِي تبينت مصداق مَا قرأته فِي بعض الْكتب أَن أول مَا يَبْدُو من ضعف ابْن آدم أَنه لَا يكْتب كتابا فيبيت عِنْده لَيْلَة إِلَّا أحب فِي غدها أَن يزِيد فِيهِ أَو ينقص مِنْهُ هَذَا فِي لَيْلَة وَاحِدَة فَكيف فِي سِنِين عدَّة
ورأيتني أحاضر بأخوات كَثِيرَة لما فِيهِ وَقعت بِأخرَة إِلَى وزيادات جمة عَلَيْهِ حصلت من أَفْوَاه الروَاة لدي فَقلت إِن كَانَ لهَذَا الْكتاب مَحل من نفوس الأدباء وموقع من قُلُوب الْفُضَلَاء كالعادة فِيمَا لم يقرع من قبل آذانهم وَلم يُصَافح أذهانهم فَلم لَا أبلغ بِهِ الْمبلغ الَّذِي يسْتَحق حسن الإحماد ويستوجب من الِاعْتِدَاد أوفر الْأَعْدَاد وَلم لَا أبسط فِيهِ عنان الْكَلَام وأرمي فِي الإشباع والإتمام هدف المرام فَجعلت أبنيه وأنقضة وأزيده وأنقصه وأمحوه وأثبته وأنتسخه ثمَّ أنسخه وَرُبمَا أفتتحه وَلَا أختتمه وأنتصفه فَلَا أستتمه وَالْأَيَّام تحجز وتعد وَلَا تنجز إِلَى أَن أدْركْت عصر السن والحنكة وشارفت
1 / 27
أَوَان الثَّبَات والمسكة فاختلست لمْعَة من ظلمَة الدَّهْر وانتهزت رقدة من عين الزَّمَان واغتنمت نبوة من أَنْيَاب النوائب وخفة من زحمة الشوائب واستمررت فِي تَقْرِير هَذِه النُّسْخَة الْأَخِيرَة وتحريرها من بَين النّسخ الْكَثِيرَة بعد أَن غيرت ترتيبها وجددت تبويبها وأعدت ترصيفها وأحكمت تأليفها وَصَارَ مثلي فِيهَا كَمثل من يتأنق فِي بِنَاء دَاره الَّتِي هِيَ عشه وفيهَا عيشه فَلَا يزَال ينْقض أَرْكَانهَا وَيُعِيد بنيانها ويستجدها على أنحاء عدَّة وهيئات مُخْتَلفَة ويستضيف إِلَيْهَا مجَالِس كالطواوس ويستحدث فِيهَا كنائس كالعرائس ثمَّ يقورها آخر الْأَمر قوراء توسع الْعين قُرَّة وَالنَّفس مَسَرَّة ويدعها حسناء تخجل مِنْهَا الدّور وتتقاصر عَنْهَا الْقُصُور
فَإِن مَاتَ فِيهَا مغفورا لَهُ انْتقل من جنَّة إِلَى أُخْرَى وَورد من جنَّة الدُّنْيَا على جنَّة المأوى
فَهَذِهِ النُّسْخَة الْآن تجمع من بَدَائِع أَعْيَان الْفضل ونجوم الأَرْض من أهل الْعَصْر وَمن تقدمهم قَلِيلا وسبقهم يَسِيرا مَا لم تَأْخُذ الْكتب العتيقة غرره وَلم تفتض عذره وَلم ينتقص قدم الْعَهْد وتطاول الْمدَّة زبره وتشتمل من نسج طباعهم وسبك أفهامهم وصوغ أذهانهم على الْحلَل الفاخرة الفائقة والحلى الرائقة الشائقة وتتضمن من طرفهم وملحهم لطائف أمتع من بواكير الرياحين وَالثِّمَار وَأطيب من فوح نسيم الأسحار بروائح الْأَنْوَار والأزهار مَا
1 / 28
لم تتضمنه النُّسْخَة السائرة الأولى
وَالشّرط فِي هَذِه الْأُخْرَى إِيرَاد لب اللب وحبة الْقلب وناظر الْعين ونكتة الْكَلِمَة وواسطة العقد وَنقش الفص مَعَ كَلَام فِي الْإِشَارَة إِلَى النَّظَائِر والأحاسن والسرقات وَأخذ فِي طَرِيق الِاخْتِصَار ونبذ من أَخْبَار الْمَذْكُورين وغرر من فصوص فُصُول المترسلين يمِيل إِلَى جَانب الِاقْتِصَار فَإِن وَقع فِي خلال مَا أكتبه الْبَيْت والبيتان مِمَّا لَيْسَ من أَبْيَات القصائد ووسائط القلائد فَلِأَن الْكَلَام مَعْقُود بِهِ وَالْمعْنَى لَا يتم دونه وَلِأَن مَا يتقدمه أَو يَلِيهِ مفتقر إِلَيْهِ أَو لِأَنَّهُ شعر ملك أَو أَمِير أَو وَزِير أَو رَئِيس خطير أَو إِمَام من أهل الْأَدَب وَالْعلم كَبِير
وَإِنَّمَا ينْفق مثل ذَلِك بالانتساب إِلَى قَائِله لَا بِكَثْرَة طائله
(وَخير الشّعْر أكْرمه رجَالًا ... وَشر الشّعْر مَا قَالَ العبيد)
وَإِن أخرت مُتَقَدما فعذري فِيهِ أَن الْعَرَب قد تبدأ بِذكر الشَّيْء والمقدم غَيره كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ﴿هُوَ الَّذِي خَلقكُم فمنكم كَافِر ومنكم مُؤمن﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿يَا مَرْيَم اقنتي لِرَبِّك واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ وكما قَالَ حسان ابْن ثَابت وَذكر بني هَاشم
(بهَا ليل مِنْهُم جَعْفَر وَابْن أمه ... عَليّ وَمِنْهُم أَحْمد المتخير) // من الطَّوِيل //
وكما قَالَ الصلتان الْعَبْدي
(فملتنا أننا مُسلمُونَ ... على دين صديقنا وَالنَّبِيّ) // من المتقارب //
1 / 29
وَإِن قدمت مُتَأَخِّرًا فسبيله على مَا قَالَ إِبْرَاهِيم الْموصِلِي لمسرور وَقد تقدمه فِي الْمسير إِن تقدمتك كنت مطرقا لَك وَإِن تَأَخَّرت فلحق الْخدمَة
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْمُزنِيّ للْملك نوح فِي مثل تِلْكَ الْحَال إِن تقدّمت فحاجب وَإِن تَأَخَّرت فَذَاك وَاجِب
ثمَّ إِن هَذَا الْكتاب الْمُقَرّر يَنْقَسِم إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام يشْتَمل كل قسم مِنْهَا على أَبْوَاب وفصول
الْقسم الأول فِي محَاسِن أشعار آل حمدَان وشعرائهم وَغَيرهم من أهل الشَّام وَمَا يجاورها ومصر والموصل وَالْمغْرب ولمع من أخبارهم
الْقسم الثَّانِي فِي محَاسِن أشعار أهل الْعرَاق وإنشاء الدولة الديلمية من طَبَقَات الأفاضل وَمَا يتَعَلَّق بهَا من أخبارهم ونوادرهم وفصوص من فُصُول المترسلين مِنْهُم
الْقسم الثَّالِث فِي محَاسِن أشعار أهل الْجبَال وَفَارِس وجرجان وطبرستان وأصفهان من وزراء الدولة الديلمية وكتابها وقضاتها وشعرائها وَسَائِر فضلائها وَمَا ينضاف إِلَيْهَا من أخبارهم وغرر ألفاظهم
الْقسم الرَّابِع فِي محَاسِن أشعار أهل خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر من إنْشَاء الدولة السامانية والغزنية والطارئين على الحضرة ببخارى من الْآفَاق والمتصرفين على أَعْمَالهم وَمَا يستطرف من أخبارهم وخاصة أهل نيسابور
1 / 30
والغرباء الطارئين عَلَيْهَا والمقيمين بهَا
وَفِيمَا لم يَقع إِلَيّ من جنس هَذَا الْكتاب كَثْرَة وَلَعَلَّه يزِيد على مَا حصل لدي وَمن يقدر على حصر الأنفاس وَضبط بَنَات الأفكار وَفِي الزوايا خبايا وَلَا نِهَايَة للخواطر وَلَا مُنْقَطع لمواد المحاسن وَمَا على الْمُؤلف إِلَّا جهده وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب
1 / 31
الْقسم الأول فِي محَاسِن أشعار آل حمدَان وشعرائهم وَغَيرهم من أهل الشَّام وَمَا يجاورها من مصر والموصل ولمع من أخبارهم وَفِيه عشرَة أَبْوَاب
1 / 32
الْبَاب الأول من الْقسم الأول فِي فضل شعراء الشَّام على شعراء سَائِر الْبلدَانِ وَذكر السَّبَب فِي ذَلِك
لم يزل شعراء عرب الشَّام وَمَا يقاربها أشعر من شعراء عرب الْعرَاق وَمَا يجاورها فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَالْكَلَام يطول فِي ذكر الْمُتَقَدِّمين مِنْهُم فَأَما المحدثون فَخذ إِلَيْك مِنْهُم العتابي ومنصورا النمري والأشجع السّلمِيّ وَمُحَمّد بن زرْعَة الدِّمَشْقِي وَرَبِيعَة الرقي على أَن فِي الطائيين اللَّذين انْتَهَت إِلَيْهِمَا الرِّئَاسَة فِي هَذِه الصِّنَاعَة كِفَايَة وَهَا هما
وَمن مولدِي أهل الشَّام المعوج الرقي والمريمي والعباسي المصِّيصِي وَأَبُو الْفَتْح كشاجم والصنوبري وَأَبُو المعتصم الْأَنْطَاكِي وَهَؤُلَاء رياض الشّعْر وَحَدَائِق الظّرْف
فَأَما العصريون فَفِيمَا أسوقه من غرر أشعارهم أعدل الشَّهَادَات على تقدم أَقْدَامهم
وَالسَّبَب فِي تبريز الْقَوْم قَدِيما وحديثا على من سواهُم فِي الشّعْر قربهم من خطط الْعَرَب وَلَا سِيمَا أهل الْحجاز وبعدهم عَن بِلَاد الْعَجم وسلامة ألسنتهم
1 / 33
من الْفساد الْعَارِض لألسنة أهل الْعرَاق لمجاورة الْفرس والنبط ومداخلتهم إيَّاهُم وَلما جمع شعراء الْعَصْر من أهل الشَّام بَين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة ورزقوا ملوكا وأمراء من آل حمدَان وَبني وَرْقَاء هم بَقِيَّة الْعَرَب والمشغوفون بالأدب والمشهورون بالمجد وَالْكَرم وَالْجمع بَين أدوات السَّيْف والقلم وَمَا مِنْهُم إِلَّا أديب جواد يحب الشّعْر وينتقده ويثيب على الْجيد مِنْهُ فيجزل ويفضل انبعثت قرائحهم فِي الإجادة فقادوا محَاسِن الْكَلَام بألين زِمَام وأحسنوا وأبدعوا مَا شَاءُوا
وَأَخْبرنِي جمَاعَة من أَصْحَاب الصاحب أبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن عباد أَنه كَانَ يعجب بطريقتهم المثلى الَّتِي هِيَ طَريقَة البحتري فِي الجزالة والعذوبة والفصاحة والسلاسة ويحرص على تَحْصِيل الْجَدِيد من أشعارهم ويستملي الطارئين عَلَيْهِ من تِلْكَ الْبِلَاد مَا يَحْفَظُونَهُ من تِلْكَ الْبَدَائِع واللطائف حَتَّى كسر دفترا ضخم الحجم عَلَيْهَا وَكَانَ لَا يُفَارق مَجْلِسه وَلَا يمْلَأ أحد مِنْهُ عينه غَيره وَصَارَ مَا جمعه فِيهِ على طرف لِسَانه وَفِي سنّ قلمه فطورا يحاضر بِهِ فِي مخاطباته ومحاوراته وَتارَة يحله أَو يُورِدهُ كَمَا هُوَ فِي رسائله فَمن ذَلِك قَول الْقَائِل // من الطَّوِيل //
(سَلام على تِلْكَ الْمعَاهد إِنَّهَا ... شَرِيعَة وردي أَو مهب شمَالي)
(ليَالِي لم نحذر حزون قطيعة ... وَلم نمش إِلَّا فِي سهول وصال)
(فقد صرت أرْضى من سواكن أرْضهَا ... بخلب برق أَو بطيف خيال)
1 / 34
وَقَول الآخر // من الوافر //
(إِذا دنت الْمنَازل زَاد شوقي ... وَلَا سِيمَا إِذا بَدَت الْخيام)
(فلمح الْعين دون الْحَيّ شهر ... وَرجع الطّرف دون السّير عَام)
وَقَول الآخر من // الْخَفِيف //
(فسقى الله بَلْدَة أَنْت فِيهَا ... كدموعي عِنْد اعْتِرَاض الْفِرَاق)
(وأرانيك فالصبا قد ترقت ... يَا بروحي إِلَى أعالي التراقي)
وَقَول الآخر // من الطَّوِيل //
(وَوَاللَّه لَا فَارَقت عقدَة وده ... وَلَا حلت مَا عمرت عَن حفظ عَهده)
(وَلَا بُد أَن الدَّهْر كاشف أَهله ... وَيظْهر للْمولى مُوالَاة عَبده)
وَكَانَ أَبُو بكر الْخَوَارِزْمِيّ فِي ريعان عمره وعنفوان أمره قد دوخ بِلَاد الشَّام وَحصل من حَضْرَة سيف الدولة بحلب فِي مجمع الروَاة وَالشعرَاء ومطرح الغرباء الْفُضَلَاء فَأَقَامَ مَا أَقَامَ بهَا مَعَ أبي عبد الله بن خالويه وَأبي الْحسن الشمشاطي وَغَيرهمَا من أَئِمَّة الأدباء وَأبي الطّيب المتنبي وَأبي الْعَبَّاس النامي وَغَيرهمَا من فحول الشُّعَرَاء بَين علم يدرسه وأدب يقتبسه ومحاسن أَلْفَاظ يستفيدها وشوارد أشعار يصيدها وانقلب عَنْهَا وَهُوَ أحد أَفْرَاد الدَّهْر وأمراء النّظم والنثر وَكَانَ يَقُول مَا فتق قلبِي وشحذ فهمي وصقل ذهني وأرهف حد لساني وَبلغ هَذَا الْمبلغ بِي إِلَّا تِلْكَ الطوائف
1 / 35
الشامية واللطائف الحلبية الَّتِي علقت بحفظي وامتزجت بأجزاء نَفسِي وغصن الشَّبَاب رطيب ورداء الحداثة قشيب وَمَا كَانَ أَكثر مَا ينشدني ويكتبني مِمَّا يضن بِهِ على غَيْرِي من تِلْكَ الْغرَر الَّتِي تجْرِي مجْرى السحر وَالْملح الَّتِي يقطر مِنْهَا مَاء الظّرْف وَأَنا أَكتبهَا فِي أماكنها من أَبْوَاب هَذَا الْقسم الأول بِمَشِيئَة الله تَعَالَى
وَمِمَّنْ خرجته تِلْكَ الْبِلَاد وأخرجته وَكَلَامه مَقْبُول مَحْبُوب آخذ بِمَجَامِع الْقُلُوب القَاضِي أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْجِرْجَانِيّ فَإِنَّهُ جنى ثمارها واستصحب أنوارها حَتَّى ارْتقى إِلَى الْمحل الْعلي وتطبع بطبع البحتري
1 / 36
الْبَاب الثَّانِي ١ فِي ذكر سيف الدولة أبي الْحسن عَليّ بن عبد الله بن حمدَان وَسِيَاق قِطْعَة من أخباره وملح من أشعاره
كَانَ بَنو حمدَان ملوكا وأمراء أوجههم للصباحة وألسنتهم للفصاحة وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة وَسيف الدولة مَشْهُور بسيادتهم وواسطة قلادتهم وَكَانَ ﵁ وأرضاه وَجعل الْجنَّة مَأْوَاه غرَّة الزَّمَان وعماد الْإِسْلَام وَمن بِهِ سداد الثغور وسداد الْأُمُور وَكَانَت وقائعه فِي عصاة الْعَرَب تكف بأسها وتنزع لباسها وتفل أنيابها وتذل صعابها وتكفي الرّعية سوء آدابها وغزواته تدْرك من طاغية الرّوم الثار وتحسم شرهم المثار وتحسن فِي الْإِسْلَام الْآثَار وحضرته مقصد الْوُفُود ومطلع الْجُود وقبلة الآمال ومحط الرّحال وموسم الأدباء وحلبة الشُّعَرَاء وَيُقَال إِنَّه لم يجْتَمع قطّ بِبَاب أحد من الْمُلُوك بعد الْخُلَفَاء مَا اجْتمع بِبَابِهِ من شُيُوخ الشّعْر ونجوم الدَّهْر وَإِنَّمَا السُّلْطَان سوق يجلب إِلَيْهَا مَا ينْفق لَدَيْهَا وَكَانَ أديبا شَاعِرًا محبا لجيد الشّعْر شَدِيد الاهتزاز لما يمدح بِهِ
1 / 37
فَلَو أدْرك ابْن الرُّومِي زَمَانه لما احْتَاجَ إِلَى أَن يَقُول // من الْكَامِل //
(ذهب الَّذين تهزهم مداحهم ... هز الكماة عوالي المران)
(كَانُوا إِذا امتدحوا رَأَوْا مَا فيهم ... ملأريحية مِنْهُم بمَكَان)
وَكَانَ كل من أبي مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الْفَيَّاض الْكَاتِب وَأبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الشمشاطي قد اخْتَار من مدائح الشُّعَرَاء لسيف الدولة عشرَة آلَاف بَيت كَقَوْل أبي الطّيب المتنبي // من الطَّوِيل //
(خليلي إِنِّي لَا أرى غير شَاعِر ... فَلم مِنْهُم الدَّعْوَى ومني القصائد)
(فَلَا تَعَجبا إِن السيوف كَثِيرَة ... وَلَكِن سيف الدولة الْيَوْم وَاحِد)
(لَهُ من كريم الطَّبْع فِي الْحَرْب منتض ... وَمن عَادَة الْإِحْسَان والصفح عَامِد)
(وَلما رَأَيْت النَّاس دون مَحَله ... تيقنت أَن الدَّهْر للنَّاس ناقد)
وَمن القصيدة المرقومة
(فَلم يبْق إِلَّا من حماها من الظبا ... لمى شفتيها والثدي النواهد)
(تبْكي عَلَيْهِنَّ الباطريق فِي الدجى ... وَهن لدينا ملقيات كواسد)
(بذا قَضَت الْأَيَّام مَا بَين أَهلهَا ... مصائب قوم عِنْد قوم فَوَائِد)
1 / 38
(وَمن شرف الْإِقْدَام أَنَّك فيهم ... على الْقَتْل مرموق كَأَنَّك شاكد)
(وَأَن دَمًا أجريته بك فاخر ... وَأَن فؤادا رعته لَك حَامِد)
(وكل يرى طرق الشجَاعَة والندى ... وَلَكِن طبع النَّفس للنَّفس قَائِد)
(نهبت من الْأَعْمَار مَا لَو حويته ... لهنئت الدُّنْيَا بأنك خَالِد)
(فَأَنت حسام الْملك وَالله ضَارب ... وَأَنت لِوَاء الدّين وَالله عَاقد)
(أحبك يَا شمس الزَّمَان وبدره ... وَإِن لامني فِيك السهى والفراقد)
(وَذَاكَ لِأَن الْفضل عنْدك باهر ... وَلَيْسَ لِأَن الْعَيْش عنْدك بَارِد)
وكقول السّري بن أَحْمد الْموصِلِي // من الوافر //
(أعزمتك الشهَاب أم النَّهَار ... أراحتك السَّحَاب أم الْبحار)
(خلقت منية وَمنى فأضحت ... تمور بك البسيطة أَو تمار)
(تحلي الدّين أَو تَحْمِي حماه ... فَأَنت عَلَيْهِ سور أَو سوار)
(سيوفك من شكاة الثغر برْء ... وَلَكِن للعدى فِيهَا بوار)
(وَكَفاك الْغَمَام الجون يسري ... وَفِي أحشائه مَاء ونار)
(يَمِين من سجيتها المنايا ... ويسري من عطيتها الْيَسَار)
(حَضَرنَا والملوك لَهُ قيام ... تغض نواظرا فِيهَا انكسار)
(وزرنا مِنْهُ لَيْث الغاب طلقا ... وَلم نر قبله ليثا يزار)
(فَكَانَ لجوهر الْمجد انتظام ... وَكَانَ لجوهر الْمَدْح انتثار)
1 / 39
(فعشت مُخَيّرا لَك فِي الْأَمَانِي ... وَكَانَ على الْعَدو لَك الْخِيَار)
(فضيفك للحيا المنهل ضيف ... وجارك للربيع الطلق جَار)
وكقول أبي فراس الْحَارِث بن سعيد // الْبَسِيط //
(أشدة مَا أرَاهُ فِيك أم كرم ... تجود بِالنَّفسِ والأرواح تصطلم)
(يَا باذل النَّفس وَالْأَمْوَال مُبْتَسِمًا ... أما يهولك لَا موت وَلَا عدم)
(لقد ظننتك بَين الجحفلين ترى ... أَن السَّلامَة من وَقع القنا تصم)
(نشدتك الله لَا تسمح بِنَفس علا ... حَيَاة صَاحبهَا تحيا بهَا أُمَم)
(إِذا لقِيت رقاق الْبيض مُنْفَردا ... تَحت العجاج فَلم تستكثر الخدم)
(تفدي بِنَفْسِك أَقْوَامًا صنعتهمو ... وَكَانَ حَقهم أَن يفتدوك هم)
(من ذَا يُقَاتل من تلقى الْقِتَال بِهِ ... وَلَيْسَ يفضل عَنْك الْخَيل والبهم)
(تضن بالطعن عَنَّا ضن ذِي بخل ... ومنك فِي كل حَال يعرف الْكَرم)
(لَا تبخلن على قوم إِذا قتلوا ... أثنى عَلَيْك بَنو الهيجاء دونهم)
(ألبست مَا لبسوا أركبت مَا ركبُوا ... عرفت مَا عرفُوا علمت مَا علمُوا)
(هم الفوارس فِي أَيْديهم أسل ... فَإِن رأوك فأسد والقنا أجم)
وكقول أبي الْعَبَّاس بن مُحَمَّد النامي
(خلقت كَمَا أرادتك الْمَعَالِي ... فَأَنت لمن رجاك كَمَا يُرِيد)
1 / 40
(عَجِيب أَن سَيْفك لَيْسَ يرْوى ... وسيفك فِي الوريد لَهُ وُرُود)
(وأعجب مِنْهُ رمحك حِين يسقى ... فيصحو وَهُوَ نشوان يميد) // من الوافر //
وكقول أبي الْفرج الببغاء
(نداك إِذا ضن الْغَمَام غمام ... وعزمك إِن فل الحسام حسام)
(فَهَذَا ينيل الرزق وَهُوَ ممنع ... وَذَاكَ يرد الْجَيْش وَهُوَ لهام)
(وَمن طلب الْأَعْدَاء بِالْمَالِ والظبا ... وبالسعد لم يبعد عَلَيْهِ مرام) // من الطَّوِيل //
وكقول أبي الْفرج الوأواء
(من قَاس جدواك بالسحاب فَمَا ... أنصف بالحكم بَين شكلين)
(أَنْت إِذا جدت ضَاحِك أبدا ... وَهُوَ إِذا جاد دامع الْعين) // من المنسرح //
وكقول أبي نصر بن نباتة وَهُوَ من شعراء الْعرَاق
(حاشاك أَن تدعيك الْعَرَب وَاحِدهَا ... يَا من ثرى قَدَمَيْهِ طِينَة الْعَرَب)
(فَإِن يكن لَك وَجه مثل أوجههم ... عِنْد العيان فَلَيْسَ الصفر كالذهب)
(وَإِن يكن لَك نطق مثل نطقهم ... فَلَيْسَ مثل كَلَام الله فِي الْكتب) // من الْبَسِيط //
وَكَانَت غمائم جوده تفيض ومآثر كرمه تستفيض فتؤرخ بهَا أَيَّام الْمجد وتخلد فِي صَحَائِف حسن الذّكر
1 / 41
فصل فِي انفجار ينابيع جوده على الشُّعَرَاء
حَدثنِي أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْعلوِي الْحُسَيْنِي الْهَمدَانِي الْوَصِيّ قَالَ كنت وَاقِفًا فِي السماطين بَين يَدي سيف الدولة بحلب وَالشعرَاء ينشدونه فَتقدم إِلَيْهِ أَعْرَابِي رث الْهَيْئَة فَاسْتَأْذن الْحجاب فِي الإنشاد فأذنوا لَهُ فَأَنْشد
(أَنْت عَليّ وَهَذِه حلب ... قد نفذ الزَّاد وانْتهى الطّلب)
(بِهَذِهِ تَفْخَر الْبِلَاد ... وبالأمير تزهى على الورى الْعَرَب)
(وَعَبْدك الدَّهْر قد أضرّ بِنَا ... إِلَيْك من جور عَبدك الْهَرَب) // من المنسرح //
فَقَالَ سيف الدولة أَحْسَنت وَللَّه أَنْت وَأمر لَهُ بِمِائَتي دِينَار
وَحكى ابْن لَبِيب غُلَام أبي الْفرج الببغاء أَن سيف الدولة كَانَ قد أَمر بِضَرْب دَنَانِير للصلات فِي كل دِينَار مِنْهَا عشرَة مَثَاقِيل وَعَلِيهِ اسْمه وَصورته فَأمر يَوْمًا لأبي الْفرج مِنْهَا بِعشْرَة دَنَانِير فَقَالَ ارتجالا
(نَحن بجود الْأَمِير فِي حرم ... نرتع بَين السُّعُود وَالنعَم)
(أبدع من هَذِه الدَّنَانِير لم ... يجر قَدِيما فِي خاطر الْكَرم)
(فقد غَدَتْ باسمه وَصورته ... فِي دَهْرنَا عوذة من الْعَدَم) // من المنسرح //
فزاده عشرَة أُخْرَى
وَكَانَ أَبُو فراس يَوْمًا بَين يَدَيْهِ فِي نفر من ندمائه فَقَالَ لَهُم سيف الدولة
1 / 42
أَيّكُم يُجِيز قولي وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا سَيِّدي يَعْنِي أَبَا فراس
(لَك جسمي تعله ... فدمي لم تحله)
(لَك من قلبِي الْمَكَان ... فَلم لَا تحله) // من الْخَفِيف //
فارتجل أَبُو فراس وَقَالَ
(أَنا إِن كنت مَالِكًا ... فلي الْأَمر كُله)
فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَعْطَاهُ ضَيْعَة بمنبج تغل ألفي دِينَار
واستنشد سيف الدولة يَوْمًا أَبَا الطّيب المتنبي قصيدته الَّتِي أَولهَا
(على قدر أهل الْعَزْم تَأتي العزائم ... وَتَأْتِي على قدر الْكِرَام المكارم) // من الطَّوِيل //
وَكَانَ معجبا بهَا كثير الاستعادة لَهَا فَانْدفع أَبُو الطّيب المتنبي ينشدها فَلَمَّا بلغ قَوْله فِيهَا
(وقفت وَمَا فِي الْمَوْت شكّ لواقف ... كَأَنَّك فِي جفن الردى وَهُوَ نَائِم)
(تمر بك الْأَبْطَال كلمي هزيمَة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم)
قَالَ قد انتقدنا عَلَيْك هذَيْن الْبَيْتَيْنِ كَمَا انتقد على امْرِئ الْقَيْس بيتاه
(كَأَنِّي لم أركب جوادا للذة ... وَلم أتبطن كاعبا ذَات خلخال)
(وَلم أسبأ الزق الروي وَلم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال) // من الطَّوِيل //
1 / 43