وبعد زمن قصير جاء قطار الرمل، فركبت معها وسار بنا سيره المعتاد بين الرياض الغناء وسكينة تحادثني عن والدي ووالدها، حتى جئنا محطة باخوص فوجدت والدي على المحطة، وحين رآني قبلني بين عيني وقبلت يده ثم سرنا وأنا على يمينه وسكينة على يساره حتى وصلنا المنزل، ولا تسل عن الأيام القلائل التي قضيتها وأنا كل يوم أتنزه مع سكينة. ولما انقضت الأيام عدت إلى المدرسة، وكانت تراسلني سكينة من وقت إلى آخر، إلى أن جاءت المسامحة الكبيرة. واعذرني أيها القارئ أن اختصرت في وصف تلك الأيام وشرحها؛ فإن ذكراها تجدد أحزاني وتضاعف همومي، عافاك الله من مثل مصائبي، إنه رءوف رحيم!
ولا أقول لك إن مدة المسامحة كانت كليل وصل في زمان هجر أو شجرة في صحراء أو نقطة بيضاء في صحيفة سوداء، وبعد انقضائها عدت إلى المدرسة، وما كان أصعب فراق سكينة! ولكن التعود على الفراق يخفف آلامه. ولما وصلت إلى المدرسة تقابلت مع إخواني كما تتقابل أعضاء العائلة مع بعضها بعد طول فراق، وبعد مضي شهر أتاني جواب من سكينة، هذا نصه:
إلى رفيق صباي: أمين
إذا صدق ما يقوله الناس أن قلوب المحبين ترى من وراء حجاب، فيحتمل إن كان عندك ما عندي أن يتخيل لك قرب مقابلتي؛ لأن وافرحتاه! والدي عزم على الإقامة في القاهرة مدة فصل الشتاء، ولو أنني أحزن لفراق الرمل ورياضه إلا أن سروري بلقياك واجتماعي بك من وقت لآخر يجعلني فرحة مسرورة بذهابي إلى القاهرة، وآمل أن تنتظرني على المحطة يوم الجمعة المقبل؛ لنذهب معا إلى المنزل الذي استأجرناه بالقاهرة لهذا المقصد. واقبل سلام حبيبتك.
سكينة
وددت لو منحني الخالق فصاحة سحبان لأشرح للقارئ مقدار السرور الذي سرى في فؤادي حين اطلعت على هذا الجواب، الذي أحفظه الآن بين أوراقي، ولعجزي عن الشرح أترك الأمر للقارئ النبيه ليتصور حالتي حينما أعلم أن رفيقة صباي وحبيبة فؤادي ستكون بالقرب مني، وأراها على الأقل كل أسبوع، ولا بد أن أذكر هنا أن حبي لها بعد المسامحة بلغ درجة الهيام ودخل في دور جديد، ورأيت محاسنها تزداد يوما عن يوم، فلله ما ألطف أخلاقها! وما أسحر عيونها!
ولكن حبي لها لم يكن له عندي هيئة غرام حينذاك، وطالما منعت نفسي عن التعلق بها لسببين؛ أولهما: أني لم أكن واثقا من حبها لي، وأنها ربما أحبت آخر، ثانيا: أن لم يكن لي أمل بزواجها لاختلاف آبائنا في درجة الثروة، فإن والدي لم يكن إلا تاجرا ووالدها من المثرين الكبار، ولكن لا ينفع العذل والمنع فإن الهوى أصاب فؤادا خاليا فتمكن، ولقد غرست بذوره في قلبي فنما وفرع. وما زلت أعد اللحظات وأستطيل الأوقات حتى جاء يوم الجمعة، فأخذت من الناظر إذنا في الصباح وذهبت لانتظارها، وما جاءت الساعة الحادية عشرة حتى أقبل القطار ورأيت سكينة ووالدها ووالدتها وخادمها وخادمتها، فسلمت عليهم، وحين سلمت على سكينة كان قلبي يخفق خفقانا لا مزيد عليه من شدة الهوى، ثم ركبنا عربتين في إحداهما سكينة ووالدتها وخادمتها، وفي الثانية والدها وأنا والخادم. ولما وصلنا إلى المنزل، وكان في شارع الإسماعيلية، وجدناه ذا حديقة غناء، ورأينا خادمهم الثاني موجودا هناك ومعدا الغداء ولوازم المنزل، وكان مفروشا من أصحابه كما هو الشأن في كثير من بيوت الإفرنج.
وبعد تناول الغداء خرج والد سكينة لبعض أشغال في القاهرة، وخرجت معها إلى الحديقة بعد أن استأذنت والدتها في ذلك، فلما استوى بنا الجلوس في قمرية «كشك» وسط الحديقة، قالت سكينة: «ما أسعدني الآن بوجودك معي!» فأجبتها والفرح ملء قلبي: «أنت تتكلمين بلسان فؤادي، فأنا أكثر منك سرورا»، فقالت: «ألم تر السبب في استئذان والدتي للتنزه معك؟» - لا شك أنك تحبين الحدائق، وتميلين إلى محاسن الطبيعة. - ذلك أمر ثانوي. - ولكن ما هو الأولي؟ - ظننتك تفهم، ولكن لو كان في قلبك ما في قلبي لفهمت القصد. - أما ما في قلبي فذلك موضوع آخر غير التنزه والفسحة والإذن والحديقة. - وهل تظن أن الذي في قلبي هو الفسحة؟ قلت لك: لو كان في قلبك ما في قلبي لفهمت. - آه لو تعلمين ما في قلبي! - وما فيه؟ - سؤال ليس له عندي جواب، أو بعبارة أخرى لا أقدر على إبدائه. - وما الذي يمنعك عن إبدائه؟ أليس بيننا من روابط المحبة الأخوية ما يجعلك على ثقة مني؟ أتخاف أن أفشيه إن كان سرا؟ - أنا واثق منك، ولكن ... - لا تجعل للكلفة بيننا مجالا، وأفصح عن مرادك.
فنظرت إلى جمالها الباهر فرشقتني عيونها بسهام شعرت لها بخفقان في قلبي، ولم أقدر أن أتفوه بكلمة واحدة بل مسكت يدها وضغطت عليها، ثم وضعتها على صدري، فاحمرت خدودها. ولما كانت هذه الفتاة في غاية من النباهة فهمت مرادي، وقالت: «أنا أشعر بخفقان في قلبك، ولعله ناشئ عما يسمونه بالغرام، فهل وقعت في شباك الهوى؟» - نعم، وقضي الأمر. - تنبه لنفسك فالغرام صعب.
هلا سمعت عن الهوى إن الهوى
ناپیژندل شوی مخ