الله يعلم فالأيام قد طويت
طي البساط على الأسرار والحكم
الفصل التاسع
أظمتني الدنيا فلما جئتها
مستسقيا مطرت علي مصائبا
وصلنا إلى الكوخ بعد الجهد والعناء فوضعنا حملنا ودق الخادم الباب بشدة حتى فتحت العجوز، وحين دخلنا وجدت الكوخ محلا مكونا من شبه حجرة مسقوفة بالأعشاب كائنة في سفح الجبل، ولما استقر بنا المكان قالت العجوز: يا ولدي، ما هذا؟
فقال لها: اسكتي ولا تفتحي فاك، وأنت يا سيدي فابق هنا حتى أعود إليك، وإذا غبت فلا تستبطئني. ثم حمل القتيل وخرج مسرعا، أما أنا فاعتنيت بشأن الشاب وكشفت عن جرحه، فلما رأتني العجوز أخذتها الشفقة وشرعت تسألني عن سر المسألة، فلم أجبها بشيء سوى أن ذلك الشاب أخي وقد ضربه اللصوص بمدية وأنا أخاف أن يموت، فقربت منه وأخذت تجس نبضه ثم قالت: «إنه حي، وسيعيش.» - ولكن الجرح بليغ يا أمي، وهيهات أن يعيش! - الأمل بالله يا ولدي، هو الذي يحيي العظام وهي رميم، ولكن أين ذهب ولدي؟ وماذا كان يحمل؟ - لا تخافي عليه فسوف يعود حالا.
ثم سألتها أن توقد نارا لتدفئة المحل ففعلت، كل ذلك والشاب لا يبدي أدنى حراك حتى قطعت الأمل من حياته، ولم يوجد هناك طبيب يدعوه الإنسان ليتدارك الأمر، وللأسف لم أتمم دراستي فأعرف ما يجب علي اتخاذه فحرت في أمري وقلت في سري: ربما كان عندهم في تلك البلاد من يعرف الطب، فسألت العجوز فقالت إن فلانا وأم فلان تعرف مداواة الأمراض، ومع علمي أن معرفة تلك النساء ليست إلا من باب الدجل سألتها أن تدعو لي امرأة في الصباح تثق بمهارتها وكتمها للسر، وصدق المثل المصري «الغريق يستند على القش»، ولبثت على أحر من الجمر أنتظر عودة الخادم وأحسب في نفسي ألف حساب إذا علم سيدي الحاج علي بأني أنا الذي قتل أحد أعوانه، وأنا الذي خلص غريمه، وأنا الذي اكتشف سر المسألة، وأنا الذي أحسن إليه وأكرم وفادته، وأنا الذي يقابل جميله بمثل هذه الفعال، ولكن كان يقف أمام تلك الأفكار العديدة فكر واحد وهو أني خلصت أخي وأخذت بثأره، وإن لم يكن الجريح أخي فإني عملت ما توجبه علي الذمة والمروءة وحب الإنسانية، رضي أو غضب بكر.
وبينما أنا غارق في بحار التأملات والجريح بجانبي لا يبدي حراكا وإذا به قد تنهد وحاول أن يقوم فلم يقدر، فلما رأيت ذلك دنوت منه ومسكت يده، وكان نور الفجر قد ملأ المكان وقاربت الشمس على الشروق، فلما رآني ورأى المحل ظهر كأنه منذعر لوجوده بين قوم لا يعرفهم وفي مكان لم يره، وكنت قد ضمدت جراحه، ثم قال بصوت منخفض متقطع: «أين أنا؟ أين أنت يا أسما؟ يا حبيبتي يا أسما»، فمددت له يدي وأسندت رأسه على ذراعي، وتأملت وجهه فوإن كان مصفرا خائر القوى إلا أن ملامح الجمال كانت بادية عليه وعذرت التي هوته ولقد شعرت نحوه بمحبة لم أشعر بمثلها أبدا، وحين وقعت عيني على عينيه شعرت بتيار كتيار الكهرباء يسري في مفاصلي حتى إني لم أتمالك نفسي وكدت أسقط على الأرض، لولا تذكري بأني قمت بواجب لا بد من القيام به خير قيام وأنه يجب علي أن أشد عزيمتي وأتجلد أمام الخطوب حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وإذا بطارق يطرق الباب بعنف، فقلت في سري: ماذا جرى؟ وهل هذا الخادم أم رجال الشرطة؟
ناپیژندل شوی مخ