فالبلاغة تقوم على الوضوح والبعد عن التقعر والتكلف والمبالغة والتضخيم. والبلاغة ليست التلاعب بالألفاظ، وإن كان من الممكن أحيانا أن تقوم على ذلك، وقد قيل: البلاغة الإيجاز. ولعل أجمل وصف للبلاغة هو ما قاله الجاحظ: «البلاغة هي التي إن سمعها الجاهل ظن أنه قادر على مثلها.»
والبلاغة هي السهل الممتنع التي يتصور أي شخص أنه بسيط وفي متناول اليد. لكن الحقيقة هي أن أصعب شيء هو التوصل إلى أسلوب سهل وجزل عند القراءة، لكنه صعب ومجهد عند التأليف.
ولعل من أبرز أسباب تعقيد العربية ووقوع الغالبية في شرك الخطأ هو المفعول به. والمشكلة أن المفعول به في العربية لا يعرف من مكانه في الجملة، وإنما من إعرابه، وبالتالي من تشكيله.
وأرى أنه من الأقرب إلى المنطق أن نقول مثلا: رأيت رجل طويل يأكل خبز، بدلا من: رأيت رجلا طويلا يأكل خبزا.
والسبب الوحيد الذي يجعلنا نتمسك بالمفعول به (منونا) هو أننا ورثناه من نحاة العصور السالفة وأصبح مألوفا لآذاننا، لكنه من غير المنطقي أن نقبل هذا السبب ونستكين لثقافة الأذن.
وإذا قلنا: رأيت رجل طويل يأكل خبز، فهل يؤدي هذا للقارئ أو المستمع أي التباس في المعنى؟
وبغير مكابرة فإن الغالبية العظمى من العرب يخطئون في المفعول به عند الكتابة، كما أنهم لا يفهمون معنى بعض الجمل غير المشكلة بسبب ذوبان المفعول به وسط مفردات الجملة؛ حيث إن تركيبة اللغة العربية لا تحدد له مكانا محسوبا ومعروفا سلفا. •••
ومن أوضح الأدلة على معاندة قواعد العربية لسنة التطوير تربع المثنى على أصول النحو العربي حتى بداية القرن الحادي والعشرين؛ فالمثنى بالنسبة لكل لغات العالم أصبح كالديناصور الذي انقرض من على وجه الأرض. وغالبية اللغات الحية المتداولة اليوم لم يكن بها مثنى أصلا؛ فهذه الصيغة كانت شائعة في اللغات السامية القديمة، وقد اختفى مع اختفاء معظمها وألغي بصيغته القديمة في اللغات الباقية حتى اليوم مع عمليات التطوير التي قاموا بها.
وهناك بقايا مثنى تظهر بدرجات متفاوتة في بعض اللغات السامية الحالية، لكنها لا تصل إلى تعقيد قواعد المثنى في العربية، فالعبرية مثلا بها كلمات تعبر عن المثنى خاصة الأشياء المزدوجة في الطبيعة، مثل العينين، والقدمين، واليدين، وهكذا، لكن لا تنسب الأفعال فيها للمثنى، مثل «شربا» أو «قاما» أو غيرها كما في العربية، ولا يوجد مثنى للكلمات مثل «رجلان» أو «امرأتان».
ومعنى هذا أن غالبية لغات العالم أدركت أن المفرد والجمع يكفيان تماما للتعبير عن المعنى. وما زاد عن واحد يعتبر ببساطة جمعا، سواء أكان اثنين أو مائة أو أكثر، لكن المثنى الذي أصبح غائبا عن كل لغات العالم لازال محورا هاما للغة العربية حتى بداية القرن الواحد والعشرين.
ناپیژندل شوی مخ