أما أهل الشمال فقد كانت الكتابة تستخدم في أضيق نطاق ولأسباب تجارية أو ما شابه ذلك، وخاصة في المدن الكبيرة مثل مكة والطائف ويثرب. ويتفق علماء اللغة على أن المسيحيين كانوا وراء تطور الكتابة وخاصة في الحيرة وما جاورها. ويرجح المؤرخون أن القرشيين تعلموا خط الجزم من نصارى الحيرة في رحلاتهم التجارية إلى العراق فحملوه إلى مكة فظهرت فيها الكتابة قبل الإسلام.
وكان من أوائل الذين عرف عنهم الكتابة بالعربية زيد بن حماد، وعاش نحو عام 500 ميلاديا، أي قبل نحو 70 عاما من مولد الرسول، ثم ابنه الشاعر عدي بن زيد، المذكور من قبل، وكلاهما مسيحيان. •••
وبعد قرون منذ هذا العهد البعيد أسهم المسيحيون في أحد أهم الأنشطة الثقافية التي كان لها تأثير ضخم على اللغة وهي الترجمة. وهناك دراسات عديدة عن أثر حركة الترجمة وبيت الحكمة في توهج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. لكن أثرها الهام في اللغة لم يدرس حتى الآن بما فيه الكفاية.
وقد ظهرت بشائر الاتجاه إلى الترجمة عن اللغات الأخرى في العصر الأموي، لكنها لم تتحول إلى حركة منتظمة إلا مع العباسيين، حتى بلغت عصرها الذهبي في عهد المأمون مع إنشاء بيت الحكمة.
وتكاد حركة الترجمة إلى العربية في هذا العصر تقتصر على المسيحيين دون غيرهم. وكان معظم المترجمين الذين برعوا في هذا العصر من السريان النساطرة. ومن بينهم أبناء بختيشوع، وإسحق بن حنين بن إسحق، ويوحنا بن البطريق، ويوحنا بن ماسويه، على سبيل المثال لا الحصر. وكان يوحنا بن ماسويه، طبيب الخلفاء، يتولى إدارة بيت الحكمة مما يدل على المكانة التي كان يحظى بها المسيحيون في الحياة الثقافية في هذا العصر المتألق حضاريا.
لكن أوسع المترجمين صيتا وأكثرهم نشاطا كان حنين بن إسحق (808-873م) وهو من النساطرة، وقد ولد بالحيرة وعاش في بغداد وكان نجم نجوم بيت الحكمة. كما كان من ألمع المترجمين أيضا ابن لوقا (830-912م) المولود في بعلبك، وهو ملكي. كما برز يحيى بن عدي (893-974م) الملقب بالمنطقي.
وكما هو معروف فقد ترجمت الكثير من أعمال فطاحل الفكر الإغريقي من اليونانية إلى السريانية قبل ظهور الإسلام وبعد ذلك. لكن عملية الترجمة إلى العربية لعيون الكتب الفلسفية والعلمية لم تبدأ بطريقة منهجية إلا في منتصف القرن الثامن الميلادي.
ويورد كتاب «العرب من الرسالة إلى التاريخ» معلومات قيمة في هذا المجال مستندا إلى مراجع عربية أهمها الفهرست لابن النديم وتاريخ الحكماء لابن القطفي.
وطبقا للمعلومات الواردة في هذه المراجع فقد اضطلع بعملية الترجمة إلى العربية 56 مترجما أفنوا حياتهم لأداء هذه المهمة، وكانوا كلهم من المسيحيين. ويقول كتاب «العرب من الرسالة إلى التاريخ»: إنه كان هناك 12 مترجما خلال النصف الثاني من القرن الثامن، ثم 30 خلال القرن التاسع، وهو العصر الذهبي للترجمة ثم 14 في القرن العاشر. وهو يصنفهم كالتالي: 35 من النساطرة و10 من اليعاقبة و10 ملكيين وماروني واحد.
وكان لهؤلاء إسهام ضخم في إضفاء آفاق جديدة ليس للعقل العربي فحسب، وإنما للغة العربية كذلك، فقد اشتقوا كلمات جديدة على لغة العرب التقليدية، فأضفوا بذلك مزيدا من الحيوية والمرونة على العربية التي كانت آنذاك أرقى لغات العالم قاطبة.
ناپیژندل شوی مخ