من أخطر السخافات التي تستقي أصولها من فكرة قدسية العربية، هي أن المسيحيين لا علاقة لهم بلغة الضاد، وأن المسلمين وحدهم هم ملاك العربية والعارفون بأسرارها وآدابها. ومن الغريب أن الاضطلاع بتدريس العربية بالمدارس يقتصر على المسلمين وحدهم دون المسيحيين، بحجة أن الدين يقترن باللغة وأن مدرس اللغة لا بد أن يقوم بتدريس الدين كذلك. وقد استقرت هذه الأفكار في الأذهان على أنها واقع لا يجادل، وأصبح حجب تدريس العربية عن المسيحيين تكريسا لفكرة قدسية اللغة العربية.
لكن هذا الكلام لا يثبت أمام حقائق دامغة لا يمكن إنكارها، فالمسيحيون العرب لعبوا طوال حقب التاريخ دورا هاما في الحفاظ على اللغة العربية وتطويرها، وفي إبراز كنوزها جنبا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين، بل إن المسيحيين بدءوا هذا الدور قبل نزول القرآن على سيدنا محمد.
فالعربية بدأت قبل الإسلام بعدة قرون وتبلورت في صورتها التي نعرفها الآن قبل نحو مائة عام من البعثة النبوية الشريفة. ففي العصر الجاهلي كان هناك شعراء على أرقى مستوى ينظمون الشعر كسلاسل الذهب، ويلهبون المشاعر والعقول بأجمل المعاني.
وكان معظم هؤلاء من عبدة الأوثان، لكن بعضهم كانوا من المسيحيين، وحتى من اليهود. ومن أشهر الشعراء اليهود السموأل الذي يعد من فطاحل الشعر العربي القديم.
وكان من أبرز شعراء ما قبل الإسلام عدي بن زيد النصراني الذي كان يحظى بلقب «شاعر الحيرة الأوحد»؛ نظرا لمكانته الشعرية الضخمة وتفرد أسلوبه.
أما في جيل المخضرمين، فإن واحدا من أعلى الشعراء مكانة كان مسيحيا وهو الأعشى، وقد ولد قبل عام 570م، ومات بعد 625م بقليل حسب أفضل المصادر، وكان من أكثر العرب بلاغة وفصاحة لغوية.
وفي العصر الأموي لمع نجم عدة شعراء مسيحيين كان أبرزهم الأخطل والقطامي، وكانا يدينان بالمسيحية. ويحظى الأخطل بمكانة متميزة في تاريخ الأدب العربي. وفي الماضي كان رواة وذواقة الأدب مثل حماد الراوية وأبي عمرو بن العلاء يقدمونه على غالبية الشعراء المسلمين ويعتبرونه فحلا ذا نسب عربي صحيح ولغة عربية رصينة. وكان الأخطل يقول: «إن العالم بالشعر لا يبالي، وحق الصليب، إذا مر به البيت السائر الجيد، أمسلم قاله أم نصراني.»
وقد قام الأب لويس شيخو بتأليف كتاب بعنوان «شعراء النصرانية في الجاهلية» يعدد فيه من برزوا في الشعر قبل ظهور الإسلام، لكن يبدو أنه من فرط حماسته جعل كل من لم يثبت من شعره مباشرة أنه وثني، يدين بالمسيحية. وهو تجاوز غير مقبول علميا بطبيعة الحال، وبالتالي فقد جعل معظم شعراء العرب قبل الإسلام من المسيحيين. وكما جاء بمقدمة الكتاب، فقد تندر بذلك مارون عبود عندما قال عن لويس شيخو: «سمعنا بكتابه شعراء النصرانية فاستقدمناه، فإذا كل من عرفناهم من شعراء جاهليين قد خرجوا من تحت سن قلمه نصارى. كان التعميد بالماء فإذا به صار بالحبر.» •••
وكما أثبت في كتاب «الداء العربي»، فقد هدم الإسلام الأسس القبلية التي قام عليها مجتمع الجزيرة العربية في الجاهلية، فاستقرت بعد ظهوره مثل مختلفة تجعل لتقييم الإنسان معايير جديدة تماما، لكنه سرعان ما عاد الفكر القبلي يطل برأسه من جديد، وعادت العصبية القبلية تسيطر على العقول، وخاصة مع تولي الأمويين مقاليد الحكم. وكانت العصبية العربية تعطي فرصة للشعراء من غير المسلمين للنبوغ في مناخ يقيم الناس أساسا بمعيار العرق والانتماء العشائري.
ومع العباسيين تغيرت الأمور وضعفت شوكة العصبية العربية شيئا فشيئا وخاصة منذ ولاية المعتصم (795-842م) أي بعد نحو قرنين من وفاة الرسول، وغلبت عندئذ الصبغة الدينية على الخلافة مع سطوة الأعاجم الذين كانوا يزايدون في الدين نظرا لأنهم يستمدون قوتهم وشرعيتهم منه، فهم لا يستطيعون إثبات انتمائهم لقبائل عربية أصيلة، ولا تجري في دمائهم قطرة عربية واحدة.
ناپیژندل شوی مخ