وبت بليلة أنقد «4»، أرى الشر كأن قد «5»، إلى أن أصبحت وقواي متخاذلة، وأركاني متهافتة، خوف الإذن بالداء العياء، والداهية الدهياء، فأتاني حاجبه بعد فراغه من الإذن، داعيا وآدبا «6». فلم أدر أداع هو أم ناع؟ وآدب هو أم نادب؟ وطالع ضيافة أم طارق آفة؟ وخمنت في القري كناية عن المحذور، وتورية دون القدر المقدور. فركبت إليه، وسير عناني أحصف [40 ب] مرة «1» من بناني عليه «2»، إلى أن حصلت في مجلسه، فصادفت من حسن القيام وقوة الالتزام، وفرط الإكرام والإعظام، وفضل البر والإيناس، ونصرة الرجاء على اليأس، ما لم أكن عهدته فيما مضى من مجالسه ومآنسه. ومازال يرقيني ببشره «3»، ويسحرني بلطفه وبره، إلى أن «4» ثابت نفسي إلي، وانحلت عقدة الخوف علي، وتطاير الهم عني شعاعا، وذهب سوء الظن جفاء. ثم ناولني الرقاع الواردة عليه، فنشرتها عن أنياب الأراقم، وأقداح العلاقم «5»، وحمات «6» العقارب، على الرسم المعتاد من كيد الأقارب. ثم أقبل علي، فقال: كنت على أن أكتم «7» الأمير صورة ما ورد، صيانة لقلبه عن نوازع الظنون والأوهام، لكني فكرت في حكم الحال «8» التي تجمعني وإياه، فرأيت اطلاعه طلع ما كتب، والإفضاء إليه بحقيقة ما طلب، أملك لكونه، وأوقع لطائره، وأنفى لخلاج الشك عن خاطره. وأقسم بجميع ما يغلظ به أيمان البيعة، أنه لا يعدل خراج العراق بأسره، على نفاسة قدره، بشعرة من بدنه «9»، ولا بزئبر «10» من بزته، وأن [41 أ] جميع ما أملكه من صامت وناطق، وقاعد وقائم، حتى فص هذا الخاتم، وزر هذا القرطق «11»، وقاية لمهجته، ووقف على مصلحته، ومعد لدرء الحوادث عن ساحته، ومبتذل في الانتقام له، ممن نافسه في ملكه، ونازعه حق إرثه، حتى يأذن الله تعالى «1» في رده إلي بيته قرير العين، منشرح الصدر، صاعد النجم، ماضي الحكم على الخصم.
أيستحق من يسمح بمثل هذه الأكرومة «2» طوعا وطبعا لا عن رغبة في رغيبة، ولا ميل إلى نيل، ولا تطلع إلى وجه مطمع، أن يتغافل عن معونته وإرفاده، ويتجاهل دون ما ينجذب إليه زمام مراده؟! لا ورب الكعبة، وحق ركن الدولة. لا يعرف «3» الناس نسيان هذا الحق العظيم «4»، وقد استسهلت طريق المكافآت، وأصبت عون الله على حسن المجازاة، على أن الفضل له بسبقي «5» إلى البر وإن جهدت في المقابلة، وشددت إلى الغاية في المساجلة.
فتعجب الحاضرون من هذا الكلام، والكرم الذي عز سماع مثله في سالف الأيام.
واحتشد الصاحب من بعد لمصالح «6» أبي العباس تاش مناصحة لصاحبه، وكفالة عنه [41 ب] بما يقضي الحق عليه، ويقيد شرف الوفاء له. وبقي أبو العباس تاش بجرجان ثلاث «7» سنين نابي الجنب عن القرار، جافي الجفن دون الغرار، شوقا إلى خدمة سلطانه، وحرصا على عرفان حق اصطناعه وإحسانه، وإشفاقا من تأويل حساده في انتباذه عن خراسان إنكاره حق الولاء، ونزعه عن رقبته طوق الطاعة والوفاء. وجل همه معاودة بخارى لا ستئناف الخدمة، والسلامة من المذمة.
مخ ۸۱