یا اخوتی
يا إخوتي: قصائد مختارة من شعر أنجاريتي
ژانرونه
هل نخلص من هذا كله إلى أن أنجاريتي شاعر غامض وملغز كما قيل عنه، ولا يزال يقال؟ لا يمكننا القول بأن شعره سهل، ولكن صعوبته لا تجيز لنا أن نصفه بالغموض، بل إننا حين نقرأ شعره لن نفهم هذا الوصف ولن نصدقه، وربما نسلم - بعد كل ما قيل - بأن إلغازه نابع من جوهرية الشعر نفسه وطبيعته الأصيلة، ولغته المفارقة للغة الطبيعية التي هي مجرد أداة للتواصل والتوصيل والممارسة؛ ومن ثم يمكننا أن نؤكد في النهاية أن غموضه - لو صبرنا عليه! - هو الغموض الأصيل، وليس الغموض الزائف الذي يأتي من تشوش الفكرة وتشتت الإحساس، ومن تعقيد البنية اللغوية والنحوية أو كسرها بغير ضرورة فنية أو نفسية أو موسيقية، أو من غرابة المصطلح والخروج المتعمد على المألوف في ترتيب عناصر العبارة وتسلسل الأفكار والأبيات في القصيدة الواحدة انسياقا وراء الادعاء والحذلقة والنشوز، لا استجابة لنداء التجربة الشعرية. ذلك هو الغموض الكاشف أو القابل للكشف عنه، وألغازه لا تحتاج إلى حل؛ لأنها تتصل بلغز الحياة والكون، وتنبع من قلب وجودنا الشقي ومن طبيعة الشعر، ورؤية الشاعر نفسه.
لهذا أرجوك يا قارئي الكريم أن تعيد التأمل في القصيدة الشهيرة التي افتتحت بها هذه المجموعة المختارة، وذكرتها في الفقرة السابقة: أتجلى باللامحدود. لقد ضيعت الترجمة المد الموسيقي في الفعل والاسم الأصليين، بالإضافة إلى أن التجلي لا يعبر بدقة عن الإشراق وإشعاعاته وأبعاده التاريخية والصوفية والشعرية في التراث الغربي والشرقي القديم والوسيط والحديث. ومع كل الجناية التي ترتكبها الترجمة - وترجمة الشعر بوجه خاص! - فسوف تشعر يا قارئي بأن اللغز في هذه القصيدة الفريدة لا يحتاج إلى حل، وأن السر فيه هو السر المكشوف، أو القابل للكشف عنه (سواء بفعل القراءة المبدعة، أو بفعل الوجد والعشق والتوق - أو النهم كما يقول الشاعر نفسه! - إلى الأبدي اللامحدود).
وإذا مضيت في القراءة فستجد ألغازا أخرى تصلك بألغاز أولية أو جوهرية قائمة في تكوين المخلوق الذي لا يكف عن الحنين إلى الخالق، وفي الشوق إلى البراءة وإلى النور الأولى إلى حد الصراخ والارتعاش في الليل والبحر الذي تهوي سفننا الغريقة في أعماقه، وتتحطم دائما على صخوره. (ز)
إن أنس فلن أنسى ذلك اليوم الذي رأيته فيه لأول وآخر مرة. كان ذلك في سنة 1953م، وكنت في منحة صيفية لاستكمال دراسة اللغة الإيطالية في جامعة الأجانب الإيطالية العريقة الساحرة في مدينة «بيروجيا»، (وهو نوع من السياحة الثقافية الراقية، ليتنا نفطن إليه ونقتدي به).
وكان من عادة هذه الجامعة أن تستضيف عددا من كبار الأساتذة العلماء والأدباء والمفكرين؛ ليحاضروا الطلاب الأجانب - بجانب الدروس اللغوية - في موضوعات تخصصهم، أو ليحدثوهم عن سيرة حياتهم وفكرهم، ويقرءوا عليهم شيئا من إنتاجهم. وبعد أن استمعنا في ذلك اليوم إلى محاضرة «جوسيبي أنجاريتي» - الذي لم أكن سمعت عنه أو قرأت له أبدا - وجدت الطالبات والطلاب يهرعون إليه ويلتفون حوله ويمطرونه بأسئلتهم أو يطلبون منه التوقيع باسمه على النسخ التي اشتروها من دواوينه وترجماته ومقالاته. وقفت ساكنا تمر يدي على ذقني كما هي عادتي في مواقف التأمل والحيرة، وتتردد نظرات عيني بين الرجل الطويل النحيل المحني الظهر، بعينيه الضيقتين خلف الزجاج السميك للنظارة الطبية، وبين يده التي لا تتوقف عن الامتداد للأيدي الشابة بالسلام، أو بالقلم الذي يوقع به على الكتب والألبومات، وكنت تائها كاليتيم في الزفة . ويبدو أن شعري الأسود وعيني السوداوين وملامحي التي قيل لي أحيانا: إنها طبق الأصل المنقوش على جدران المعابد والمقابر المصرية القديمة، يبدو أنها لفتت نظره في اتجاهي، ففوجئت بالرأس الأشيب الوقور والوجه الأبيض العريض يقترب مني، وينحني فوق قامتي القصيرة وبالصوت الأجش الخفيض يسألني: وأنت، من أي بلد أنت؟ أفقت على السؤال الذي فهمته لحسن حظي، وقلت: من مصر. عاد الصوت يسأل: من القاهرة؟ قلت: نعم. درست في جامعتها، في كلية الآداب. قال الرجل، وهو يعتدل بقامته الطويلة ويمد ذراعه؛ ليربت بكفه على كتفي: أنا مثلك مصري، ولكن من الإسكندرية، ولدت في الإسكندرية ... آه! من زمن طويل...
ودهشت للضحكة الطيبة الرنانة التي فجرت دوامة من ضحكات الشباب والشابات، الذين أحكموا حصارهم حول الشاعر الذي عرفت بعد ذلك من زميل إسباني أنه أكبر شعراء بلاده، وأحد المجددين بين الكبار للشعر الأوروبي عامة.
ربما أكون قد عاهدت نفسي منذ ذلك اللقاء أن أفرغ لدراسة هذا الشاعر والكتابة عنه في يوم من الأيام. وربما تكون ابتسامته الطيبة وربتة كفه على كتفي في حنان، وبريق الحب الذي لاحظته وهو يلمع ويخبو في العينين الذابلتين المرهقتين، ومبادرته لسؤال شاب صامت خجول وغارق في تيه الغربة، وعلى طريق اللغة التي لم يحسنها تماما (بل كاد يتخلى عنها بعد ذلك حين شغلته دراسته للألمانية عن التعمق الكافي في أدبها، بعد أن قطع شوطا لا بأس به في قراءة جحيم دانتي ومسرحيات بيراند للو)، أقول ربما يكون ذلك، لكنه قد عمل عمله في اللاوعي، وذكرني بعد ذلك في فترات متقطعة من حياتي بالعهد الذي قطعته على نفسي؛ ففي أواخر الستينيات أتيح لي - أثناء العمل الشاق الذي استغرق مني سنوات في تأليف كتابي المتواضع عن ثورة الشعر الأوروبي الحديث - أن أطلع على ترجمة ألمانية رائعة لمختارات من شعره بقلم الشاعرة العظيمة أنجورج باخمان (1926-1973م) رحمها الله، وأن أنقل منها للعربية ما يقرب من عشرين قصيدة. وفي أواخر الستينات أيضا - وكنت أيامها عضوا في هيئة تحرير مجلة «الفكر المعاصر» برئاسة الصديق الكبير فؤاد زكريا - كتبت عن الغموض في شعر أنجاريتي، كما أشرت لذلك في هامش سابق. وها أنا ذا أعود بعد نحو ثلاثين عاما، لا أدري كيف سرقها مني التعليم الجامعي العقيم الأليم؛ لكي أكرر المحاولة وأجدد عهد الوفاء للرجل الذي رحل عن عالمنا بعد كتابة المقال المشار إليه بسنتين. هل أستطيع أقول اليوم: إنني أنصفته وأديت حق الذكرى الحية التي ما تزال حاضرة في وعيي بالرغم من ضعف الذاكرة مع التقدم في العمر؟ مبلغ عملي - وأرجو أن أكون مخطئا - أن أحدا من أبناء وطني والوطن العربي لم يهتم بهذا الشاعر، الذي ولد في بلادنا وعاش تجارب طفولته وصباه وشبابه الباكر في الإسكندرية، الاهتمام الذي يستحقه، كما فعل عدد كبير من الأصدقاء والزملاء الأعزاء مع شاعر سكندري آخر من أصل يوناني، ولد وعاش ومات في المدينة الحبيبة نفسها، وأقصد به الشاعر العظيم: قنسطنطين كفافيس، الذي حظي بعناية أديب كبير وناقد تشكيلي ومترجم عن اليونانية الحديثة، وهو الدكتور: نعيم عطية، الذي نذكر له جهده وفضله منذ الستينيات في تقديم هذا الشاعر، إلى أن أسعدنا أخيرا بترجمة أعماله الكاملة. ولا بد أيضا من الإشادة بفضل زميل كريم، هو الدكتور: حمدي إبراهيم الذي شارك في ترجمة بعض قصائد كفافيس عن اليونانية، فضلا عن مساهمة الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف في تقديم مختارات عنه عن الإنجليزية، وعن عكوف شاعر قصيدة النثر المعروف: رفعت سلام في الوقت الحاضر على إعداد طبعة تضم شذرات ونصوصا لم يسبق نشرها عن ترجماتها الإنجليزية. هل يحق لي في النهاية أن أقول: إنني وفيت بالعهد وأنصفت الرجل الذي ولد على أرضنا وتنفس هواءنا، وجرب سماحة المصري وكرمه ورقته ووداعته وطيبة قلبه، وقدرته على إشعاع الفرح والحب من حوله، على الأقل في ذلك الزمن الذي عاشه الشاعر على أرضنا، وتحت سمائنا؟! لا أظن أنني أستطيع أن أقول هذا بضمير مستريح؛ فما زالت معرفتي بالشاعر قاصرة محدودة، والقصائد التي أقدمها في هذا الكتاب غير كافية للتعريف به وبعالمه وتجاربه في بلادنا وفي بلده الأصلي، لكنني قد فعلت ما في طاقتي وفي حدود المراجع القليلة التي عثرت عليها، وعلى الأخوات والإخوة العارفين باللغة الإيطالية والمتمكنين من آدابها أن يكملوا ما بدأت، ويصححوا ما وقعت فيه من أخطاء. (ح)
وقد اعتمدت في هذه المنتخبات على الترجمة الألمانية التي قامت بها الشاعرة الكبيرة إنجبورج باخمان، والدراسة التي ألحقتها بها،
9
مع الحرص على قراءة الأصل الإيطالي كلمة كلمة وسطرا سطرا - بمساعدة القاموس والترجمة! - ومراعاة الدقة والأمانة والتعاطف - إلى حد التقمص! - مع روح النص وجسده. أقصد مع معانيه ودلالاته الفكرية ومع كلماته وطعمها ولونها وجرسها وملامحها المحسوسة والملموسة، ولا يسمح المقام بالحديث عن أسلوبي في ترجمة الشعر، بعد أن كتبت عنه في مواضع أخرى
ناپیژندل شوی مخ