بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري في كتابه المصنف في أخبار الوزراء والكتاب:
روى عن كعب الأحبار إنه قال:
أول من وضع الكتاب السرياني وسائر الكتب آدم عليه السلام قبل موته بثلاث مائة سنة، ثم كتبها في الطين، ثم طبخه. فلما انقضى ما كان أصاب الأرض من الغرق، وجد كل قوم كتابهم فكتبوه، فكان إسماعيل وجد كتاب العرب.
وروي: أن إدريس أول من خط بالقلم بعد آدم.
وروي: أن أول من وضع الكتاب بالعربية إسماعيل بن إبراهيم، وكان أول من نطق بالعربية، فوضع الكتاب على لفظه ومنطقه.
وروي في خبر آخر: أن أول من كتب بالعربية ثلاثة رهط من بولان، يقال لأحدهم: مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر ابن جدرة.
وروي أيضا: أن أول من كتب بالعربية من العرب حرب بن أمية ابن عبد شمس.
وكان أول من رتب طبقات الناس، وصنف طبقات الكتاب، وبين منازلهم جمشيد بن أونجهان.
وكان لهراسب بن فنوخا بن كيمنش أول من دون الدواوين، وحضر الأعمال والحسبانات، وانتخب الجنود، وجد في عمارة الأرضين، وجباية الخراج لأرزاق الجيش، وبنى مدينة بلخ.
اخبرني عبد الواحد بن محمد إنه سمع محمد بن واضح يقول:
رأيت بأصبهان كتبا قديمة للأكاسرة إلى عمالهم في الخراج والعمارة، صدورها، إذا كان الكتاب إلى جماعة: خلدتم، وإذا كان إلى واحد: خلدت. ثم يذكر بعد ذلك ما يريد.
وكان للأكاسرة أربعة خواتيم، فكان على خاتم الحرب والشرط: الإنارة، وعلى خاتم الخراج والعمارة: التأييد، وعلى خاتم البريد: الوحاء، وعلى خاتم المظالم: العدل.
وكان لملوك فارس ديوانان، أحدهما: ديوان الخراج، والآخر ديوان النفقات. فكان كل ما يرد ديوان الخراج، وكل ما ينفق ويخرج في جيش أو غيره ففي ديوان النفقات.
وكان من رسم ملوك الفرس أن يلبس أهل كل طبقة، ممن في خدمتهم، لبسة لا يلبسها أحد
مخ ۱
[2]
ممن في غير تلك الطبقة، فإذا وصل الرجل إلى الملك عرف بلبسته صناعته، والطبقة التي هو فيها.
فكان الكتاب جميعا في الحضر يلبسون لبستهم المعهودة، فإذا سافر الملك تزيوا بزي المقاتلة.
وكانت ملوك فارس جميعا تغلظ على من زور أو نقش خاتما على خاتم الملك، وتلحقه من العقوبة بأهل الجنايات العظائم.
وكانت ملوك فارس تسمي كتاب الرسائل تراجمة الملوك، وكانوا يقولون لهم: لا تحملكم الرغبة في تخفيف الكلام على حذف معانيه، وترك ترتيبه والإبلاغ فيه، وتوهين حججه.
وكان الرسم جاريا في أيام الفرس، أن يجتمع أحداث الكتاب ومن نشأ منهم بباب الملك، متعرضين للأعمال، فيأمر الملك رؤساء كتابه بامتحانهم، والتفتيش عن عقولهم، فمن رضي منهم عرض عليه اسمه، وأمر بملازمة الباب، ليستعان به، ثم أمر الملك بضمهم إلى العمال، وتصريفهم في الأعمال، وتنقلهم على قدر آثارهم وكفاياتهم من الحال إلى الحال، حتى ينتهي بكل واحد منهم إلى ما يستحقه من المنزلة. ولم يكن يهيأ لأحد، ممن عرفه الملك وعرض عليه اسمه، أن يتصرف مع أحد من الناس إلا عن أمر الملك وإذنه.
وكانت الملوك تقدم الكتاب، وتعرف فضل صناعة الكتابة، وتحظى أهلها، لما يجمعونه من فضل الرأي إلى الصناعة، وتقول: هم نظام الأمور، وكمال الملك، وبهاء السلطان، وهم الألسنة الناطقة عن الملوك، وخزان أموالهم، وأمناؤهم على رعيتهم وبلادهم.
وكان ملوك فارس إذا أنفذوا جيشا أنفذوا معه وجها من وجوه كتابهم، وأمروا صاحب الجيش ألا يحل ولا يرتحل إلا برأيه، يبغون بذلك فضل رأى الكتاب وحزمه. ثم يقول الملك للكاتب المندوب للنفوذ معه:
قد علمت أن الأساورة سباع الإنس، وأنه لا عقوبة عليهم إلا في خلع يد من طاعة، أو فشل عن لقاء، أو هرب عن عدو، وما سوى ذلك فلا لوم عليهم فيه، وعليك أعتمد في تدبير هذا الجيش. فينفذ الكاتب مدبرا له، فإذا احتاج إلى مكاتبة بإعذار أو إنذار، أو إخبار أو استخبار، كتب فيه عن صاحب الجيش.
مخ ۲
وكان ملوك فارس، قبل أنوشروان، يقاسمون الناس على ثمارهم وغلاتهم، فكان أكثر ما
مخ ۳
[3]
يأخذونه الثلث، وأقله السدس، ويأخذون فيما بين ذلك على قدر الشرب والربع. فأمر قباد بن فيروز بمساحة الأرض، وعدد النخيل والشجر، وإحصاء الجماجم، وعزم على وضع وضائع الخراج، فهلك قبل تمام ذلك.
ولما ملك أنو شروان استتم المساحة والعدد وأحصى الجماجم، ثم جلس مجلسا عاما، وأمر كتابه بإحصاء جمل ذلك ففعلوا، فخاطب الناس بما رآه من ذلك، من وضع الخراج على جربان ما مسح من الأرض، وعلى ما عده من الشجر والنخل، وما أحصى من الناس، وأن يجبى ذلك في ثلاثة أنجم في كل أربعة أشهر الثلث، واستشارهم، فلم يشر أحد منهم بشيء، فأعد القول ثلاث مرات والناس صموت. فقام رجل من عرض الناس، فقال: أيها الملك، أتضع الخراج الباقي على الإنسان الفاني، وعلى كبد تموت، وعلى زرع يجف، ونهر يذهب، وعين تغور؟ فقال كسرى: يا ذا الكلفة المشئوم، من أي طبقات الناس أنت؟ فقال: أنا رجل من الكتاب، فقال كسرى لكتابه: اضربوه بالدوى حتى يموت. فضربه الكتاب تبريا إلى كسرى من رأيه، حتى مات، وقالوا: نحن راضون بما صنع الملك. فصنفت الوضائع على أصناف الغلات والنخل والشجر.
مخ ۴
ووجدت في عهد لسابور بن أردشير فصلا يخاطب فيه ابنه، يقول: وزيرك يكون مقبول القول عندك، قوى المنزلة لديك، يمنعه مكانه منك، وما يثق به من لطافة منزلته عندك من الخنوع لأحد، أو الضراعة إلى أحد، أو المداهنة لأحد في شيء مما تحت يديه، لتبعثه الثقة بك على محض النصيحة لك، والمنابذة لمن أراد غشك، وانتقاصك حقك، وإن أورد عليك رأيا يخالفك، ولا يوافق الصواب عندك، فلا تجبه جبة الظنين، ولا ترده عليه بالتجهم، فيفت في عضده ذلك، ويقبضه عن ابثاثك كل رأى يلوح صوابه، بل اقبل ما رضيت من رأيه، وعرفه ما تخوفت من ضرر الرأي الذي انصرفت عنه، لينتفعوا بأدبك فيما يستقبلون النظر فيه. واحذر كل الحذر من أن تنزل بهذه المنزلة سواه، ممن يطيف بك من خاصتك وخدمك، وأن تسهل منهم السبيل إلى الانبساط بالنطق عندك، والإفاضة في أمور رعيتك ومملكتك، فانه لا يوثق بصحة آرائهم، ولا يؤمن الانتشار فيما أفضى من السر إليهم.
ومن هذا العهد فصل، قال فيه:
وأعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج، ودروره بعمارة البلاد، وبلوغ الغاية في ذلك يكون
مخ ۵
[4]
باستصلاح أهله، بالعدل عليهم والمعونة لهم، فإن بعض الأمور لبعض سبب، وعوام الناس لخواصهم عدة، وبكل صنف منهم إلى الآخر حاجة، فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك. وليكونوا من أهل البصر والعفاف والكفاية، وأسند إلى كل امرئ منهم شقصا يضطلع به، ويمكنه الفراغ منه. فإن اطلعت على أن أحدا منهم خان أو تعدى، فنكل به، وبالغ في عقوبته. واحذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها إلا البعيد الصوت، العظيم شرف المنزلة. ولا تولين أحدا من قادة جندك، الذين اتخذتهم عدة الحرب، وجنة من الأعداء،
خراجا، فلعلك أن تهجم من بعضهم على خيانة للأموال، وتضييع للعمل، فإن سوغته المال، وأغضيت له على التضييع، كان ذلك هلاكا للمال، وإضرارا بالرعية، وداعية إلى فساد غيره، وان أنت كافأته على فعله استفسدته، وأذهبت بهاءه، وأضغنت صدره، وهذا أمر توقيه حزم، والإقدام عليه خرق، والتقصير فيه عجز. ثم اعلم إنه إذا تطعم جمع الأموال من غير الجهة التي تعود أخذها منها، اشتد ركوبه إلى الدنيا، وصار طلبه الأموال من غير الوجه الذي قرب به، وأعطى عليه. وليس شيء أفسد لسائر العمال والكتاب، ولا أدعى إلى خراب أماناتهم، وهلاك ما تحت أيديهم، من جهالة الملك، وقلة معرفته بحالاتهم، وتركه مكافأة المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فأكثر الفحص عن عمال الخراج وسيرهم وآثارهم، واختر لذلك العيون الموثوق بهم. واعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه وضياعه إلى خاصة الملك وبطانته، لأحد أمرين، أنت حرى بكراهتهما: أما لامتناع من جور العمال، وظلم الولاة، فتلك منزلة يظهر بها سوء أثر العمال، وضعف الملك، وإخلاله بما تحت يده، وأما لدفع ما يلزمهم من الحق والكسر له، فهذه خلة يفسد بها أدب الرعية، وتنتقض الملك، فاحذر ذلك، وعاقب الملجئين والملجأ إليهم.
مخ ۶
وفصل من كتاب لأردشير يخاطب به وزراءه: اعلموا أنكم إن هممتم ألا تستعينوا إلا بمن تكاملت فيه الخصال الرضية، وأحرز المذاهب المحمودة ، فقد رمتم شيئا عسيرا غير موجود. فاكتفوا من دين المرء وورعه، بأن يكون للكبائر والفواحش مجتنبا، ومن الإصرار على العسف والظلم مستوحشا، ومن أمانته وعفافه، أن يكون عما يعرض له من الطمع، وأمر في دخوله ظاهر نقص أو ضرر، ومن غنائه ونفاذه أن يكون بالعمل الذي تستعينون
مخ ۷
[5]
به فيه مضطلعا، وأن لا يضيع لكم فيما يلي من أموركم حقا. واعلموا أن لكم أعمالا يكفيكموها من دونكم، وأعمالا لا يضطلع بها سواكم، فاعرفوا حدود ذلك، ولا تتكلفوا ما يكفيكموه من تحت أيديكم، ولا تكلفوا ما يجب عليكم النظر فيه من سواكم، فإن حدث لكم فراغ بعد قضائكم ما عليكم، فاستعينوا بالتودع والراحة على ساعات الشغل.
وكان كشتاسب يقول للكتاب:
الزموا العفاف، وأدوا الأمانة في كل ما يفوض إليكم، واجمعوا على غزائزكم وعقولكم سماع الأدب، واستعملوا ما استفدتم من الأدب بما طبعت عليه عقولكم، وليكن اجتباؤكم بالقسط والمعدلة، ولا تزينوا لنا ما لا تليق بنا الأحدوثة به، والإيثار له.
ولما ملك أبرويز بن هرمز جمع رعيته وخطب عليهم خطبة، قال في فصل منها يخاطب وزيره:
اكتم السر، وأصدق الحديث، وأجهد في النصيحة، واحترس بالحذر، فعلي ألا أعجل عليك حتى أستأني، ولا أقبل عليك حتى أستيقن، ولا أطمع فيك فأغتالك.
وحكي أن الجور كثر الجور كثر في أيام الملك أنوشروان، فقال له موبذان موبذ:
أيها الملك، أني سمعت فقهاءنا يقولون: إنه متى لم يغمر العدل الجور في بلدة، ابتلى أهلها بعدو يغزوهم، وخيف تتابع الآفات عليهم، وقد خفنا ذلك بشيء قد فشا من جور أسبابك.
فنظر أنوشروان في ذلك، فاستقر عنده أن ظلما وجورا قد جرى، فصلب ثمانين رجلا منهم، من الكتاب خمسون رجلا، ومن العمال والأمناء ثلاثون رجلا.
وكانت الاكاسرة بعد أنوشروان تقول لأهل الخراج:
من كره منكم الأداء إلى العمال، فهذا بيت مالنا فأدوا اليه. فلم يكن عامل يبسط يده إلى ظلم أحد، خوفا من عدول الرعية إلى بيت المال بأداء الخراج، فيستدل بذلك على مذهبه.
ولم يكن يركب الهماليج في أيام الفرس إلا الملك والكاتب والقاضي.
مخ ۸
وكان أرسطاطاليس أدب الاسكندر، فلما نشأ الاسكندر وعلا، وعرف من أرسطاطاليس ما عرفه من عرفه من الحكمة، كان شبه الوزير له، وكان يعتمد عليه في الرأي والمشورة. فكتب إليه يخبره إنه قد كثر في خواصه وعسكره قوم ليس يأمنهم على نفسه، لما يرى من بعد هممهم وشجعانهم، وشذوذ آلتهم، وليس يرى لهم عقولا تفي بهذه الفضائل التي فيهم
مخ ۹
[6]
بقدر هممهم.
فكتب إليه أرسطاطاليس:
فهمت ما ذكرت عن القوم الذين ذكرت. فأما هممهم، فمن الوفاء بعد الهمة، وأما ما ذكرت من شجاعتهم مع نقص عقولهم، فمن كانت هذه حاله فرفهه في المعيشة، واخصصه بحسان النساء، فإن رفاهة العيش توهي العزم، وان حب النساء يحبب السلامة، ويباعد من ركوب المخاطرة، وليكن خلقك حسنا، تستدع به صفو النيات، وإخلاص المقالات، ولا تتناول من لذيذ العيش مالا يمكن أوساط أصحابك مثله، فليس مع الاستئثار محبة، ولا مع المؤاساة بغضة.
وأوصى أبرويز ابنه شيرويه وصية طولية، قال في فصل منها:
وليكن من تختاره لوزارتك أمرا كان متضعا فرفعته، وذا شرف كان مهتضما فاصطنعته، ولا تجعله امرأ أصبته بعقوبة فاتضع عنها، ولا امرأ أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحدا يقع في خلده أن إزالة سلطانك خير له، وأدعى إلى ثبوته، وإياك أن تستعمل ضرعا غمرا، ولا كبيرا مدبرا، قد أخذ الدهر من عقله، كما أخذت السن من جسمه.
وكانت الفرس تقول:
للوزير على الملك، وللكاتب على الصاحب، ثلاث خصال: رفع الحجاب عنه، واتهام الوشاة عليه، وإفشاء السر إليه.
وفي كتاب من كتب الهند:
إذا كان الوزير يساوي الملك في المال والهيبة والطاعة من الناس، فليصرعه الملك، فإن لم يفعل، فليعلم إنه المصروع.
ومما استحسنه من شدة التحرز ما حكي في كتاب من كتب الهند: أنه أهدى إلى بعض ملوكهم حلى وكسوة، وبحضرته امرأتان من نسائه، ووزير من وزرائه. فخير إحدى امرأتيه بين اللباس والحلية، فنظرت المرأة إلى الوزير كالمستشيرة له، فغمزها بإحدى عينيه على أخذ الكسوة، ولحظة الملك، فعدلت عما أشار به من الكسوة، واختارت الحلي، لئلا يفطن الملك للغمزة، ومكث الوزير أربعين سنة كاسرا عينه، ليظن الملك أنها عادة وخلقه.
مخ ۱۰
[7]
واستشار سابور ذو الأكتاف وزيرين كانا له، في أمر من أموره، فقال له أحدهما:
لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحدا إلا خاليا، فإنه أموت للسر، وأحزم في الرأي، وأدعى إلى السلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة بعض، لأن الواحد رهن بما أفضى إليه، وهو أحرى ألا يظهره، رهبة للملك، ورغبة إليه، وإذا كان عند اثنين فظهر، دخلت على الملك الشبهة، واتسعت على الرجلين المعاريض، فإن عاقبهما عاقب اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئا بجناية مجرم، وإن عفا عنهما، عفا عن واحد لا ذنب له، وعن الآخر والحجة عليه.
وروي أن داود أول من قال: أما بعد، وهو فصل الخطاب.
وروي أن أول من قال: أما بعد قس بن ساعدة.
أسماء من ثبت على كتابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب، وزيد بن ثابت.
وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه.
وكان المغيرة بن شعبة، والحصين بن نمير يكتبان مابين الناس.
وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.
وكان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي. وروي عنه إنه قال: كنت أكتب لرسول الله يوما، فقام لحاجة فقال لي:
ضع القلم على أذنك، فانه أذكر للمملى، وأقضى للحاجة.
وروي أن معيقيب بن أبي فاطمة، حليف بني أسد، كان يكتب مغانم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان حنظلة بن الربيع بن المرقع بن صيفي، ابن أخي أكثم بن
صيفي الأسدي، خليفة كل كاتب النبي إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمة، وقال له: الزمني، واذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا
مخ ۱۱
[8]
طعام ثلاثة أيام إلا أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم فتح مكة، فقال لحنظلة: الحق خالدا فقل له: لا تقتلن ذرية ولا عسيفا. ومات حنظلة بمدينة الرها، فقالت فيه امرأته:
يا عجب الدهر لمحزونة ... تبكي على ذي شيبة شاحب
إن تسأليني اليوم ما شفني ... أخبرك قولا ليس بالكاذب
أن سواد الرأس أودى به ... وجدي على حنظلة الكاتب
وكان عبد الله سعد بن أبى سرح يكتب له، ثم ارتد ولحق بالمشركين، فقال: إن محمدا ليكتب بما شئت. فسمع بذلك رجل من الأنصار، فحلف بالله إن أمكنه منه ليضربنه ضربة بالسيف. فلما كان يوم فتح مكة جاء به عثمان، وكان بينهما رضاع، فقال: يا رسول الله، هذا عبد الله قد أقبل تائبا، والأنصاري يطيف به ومعه سيفه، فأعاد عليه عثمان القول، فمد رسول الله يده فبايعه، وقال للأنصاري: لقد تلومتك أن توفي بنذرك، فقال:
هلا أومضت إلى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لي أن أومض.
وروي عن الشعبي:
أن رسول الله كتب أربعة كتب، في الأول: باسمك اللهم، فنزلت هود وفيها: {بسم الله مجراها ومرساها}. وكتب في الثاني: بسم الله، فنزلت بنو إسرائيل وفيها: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}. فكتب في الثالث: بسم الله الرحمن. ثم نزلت سورة النمل وفيها: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}، فكتب في الرابع: بسم الله الرحمن الرحيم.
أيام أبي بكر
رضي الله عنه
وكان يكتب لأبي بكر عثمان بن عفان وزيد بن ثابت.
وروي أن عبد الله بن الأرقم كتب له، وأن حنظلة بن الربيع كتب له أيضا.
أيام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
وكان يكتب لعمر زيد بن ثابت. وكتب له عبد الله بن الأرقم. وكتب له على ديوان الكوفة
مخ ۱۲
[9]
أبو الكوفة أبو جبيرة بن الضحاك الأنصاري.
وكان عمر يقول لكاتبه، ويكتب إلى عماله:
إن القوة على العمل ألا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إن فعلتم ذلك تداكت عليكم الأعمال، فلا تدرون بأيها تبتدون، وأيها تأخذون.
وكان عمر أول من دون الدواوين من العرب في الإسلام، وكان السبب في ذلك، أن أبا هريرة قدم عليه من البحرين ومعه مال، فلقي عمر، فقال له عمر: ماذا جئت به؟ قال خمس مائة ألف درهم، فقال عمر: أتدري ما تقول! قال: نعم، مائة ألف درهم، ومائة ألف درهم، ومائة ألف درهم، ومائة ألف درهم، فقال عمر: أطيب هو؟ قال: لا أدري. فصعد عمر المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلناه كيلا، وإن شئتم أن نعد عدا. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدونون ديوانا لهم. قال: دونوا الدواوين.
ولما أمر عمر الفيرزان حضره وقد بعث بعثا له، فقال له: هذا البعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلف منهم رجل وأخل بمكانه فما يدرى صاحبك. وأشار عليه بالديوان، وفسره له وشرحه، فوضع عمر الديوان.
ولما استكتب أبو موسى زياد ابن أبيه، كتب إليه عمر يستقدمه.
فاستخلف زيادا على عمله، فلما قدم عليه عمن استخلفه، فأعلمه إنه استخلف زيادا، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنه ضابط لما ولى، خليق بكل خير.
وكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، والاستخلاف على العمل. فاستخلف زياد عمران بن حصين، وقدم عليه. فقال عمر، لئن كان أبو موسى استخلف حدثا لقد استخلف الحدث كهلا، ثم دعا بزياد، فقال له: ينبغي أن تكتب إلى خليفتك بما يجب أن يعمل به. فكتب إليه كتابا، ودفعه إلى عمر، فنظر فيه ثم قال: أعد، فكتب غيره، فقال له: أعد، فكتب الثالث، فقال عمر: لقد بلغ ما أدرت في الأول، ولكني ظننت إنه قد روى فيه، ثم بلغ في الثاني ما أردت أن أضع منه، لئلا يدخله العجب فيهلك.
مخ ۱۳
ولما رفع ضبة بن محصن العنزي والمتظلمون على أبي موسى ظلاماتهم إلى عمر، وشكوه، قالوا: وزيره له غلام ختار، ومائدة، وله برذون.
مخ ۱۴
[10]
ولما استحضر عمر زيادا، قال زياد: فأتيته وعلى ثياب كتان، وعلى خفان ساذجان، وفي يده مخصرة على رأسها حديد، فغمزها في خفي حتى خرقه وأدمى رجلي، فلما كان من الغد، رجعت إليه في خفين غليظين، وعلى ثوبان من قطن، فلما رآني قال: هكذا يا زياد! هكذا يا زياد! ثم قال لي: بكم أخذت هذين الخفين؟ قلت بواف - يريد درهما وافيا - فأعطاني درهما وقال: اشتر لي مثلهما.
قال: وكان عمر يملى على كاتب بين يديه، فكتب الكاتب غير ما قال عمر، فقال له زياد: يا أمير المؤمنين، قد كتب غير ما قلت. فنظر في الكتاب، فكان كما قال زياد، فقال عمر: أني علمت هذا؟ قال: رأيت رجع فيك وخطه، فرأيت ما أحارت كفه غير ما رجعت به شفتيك.
وكتب عمر إلى أبي موسى يأمره بحفر نهر لأهل البصرة، فحفر لهم النهر المعروف بنهر الأبلة.
وروى أن عمر وهب لزياد عند وصوله إليه ألف درهم، ثم تذكرها بعد، فقال: ضاع ألف أخذه زياد. فلما دخل عليه قال له: ما فعل ألفك؟ قال اشتريت به عبيدا وأعتقته، فقال: ما ضاع ألفك.
ثم قال له: يا زياد، هل أنت حامل كتابي إلى أبي موسى في عزلك عن كتابه؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، إن لم يكن ذلك عن سخط، قال: ليس عن سخط، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعية.
وكان عمر أول من قرر التأريخ من الهجرة، لأن أبا موسى كتب إليه: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ - وكانت العرب تؤرخ بعام الفيل - فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ بمبعث النبي، وقال بعضهم بمهاجره، فقال عمر: لا، بل بمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل. وكان ذلك في سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة من الهجرة.
ولما أجمعوا على ذلك قالوا: بأي الشهور نبدأ؟ فقال بعضهم: من شهر رمضان؟ فقال عمر: بل من المحرم، فهو منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام، فأجمعوا على المحرم .
وروي في خبر شاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ورد المدينة مهاجرا من مكة
مخ ۱۵
[11]
يوم الاثنين. لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ستة أربع من حين نبئ، أمر بالتاريخ، والأول أثبت وأصح.
وكان أبو الزناد، عبد الله بن ذكوان، يكتب ليحيى بن الحكم بن أبى العاص،
وهو والي المدينة، فغلا السعر بالمدينة، فقال بعض ظرفائهم:
ألم يحزنك أن السعر غال ... لقول أبى الزناد أيا غلام
فلو عاش الأنام بلا كلام ... لقلنا بعدها حرم الكلام
أيام عثمان
رضي الله عنه
وكان يكتب لعثمان بن عفان، مروان بن الحكم. وكان عبد الملك بن مروان يكتب له على ديوان المدينة، وأبو جبيرة الأنصاري على ديوان الكوفة. وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث، أحد كتاب النبي، يتقلد له يبت المال. وكان أبو غطفان بن عوف بن سعد بن دينار، من بني دهمان، من قيس عيلان، يكتب له أيضا. وكان يكتب له أهيب مولاه، وحمران بن أبان مولاه.
ولما قصد المصريون في الدفعة الأولى عثمان بن عفان وجه إليهم بجابر بن عبد الله، حتى ردهم.
وروى عن جابر إنه قال: إن المصريين لما صاروا بأيلة راجعين عن عثمان، مر بهم راكب أنكروا شأنه، فأخذوه، فإذا هو غلام لعثمان على جمل له معروف، وكان عثمان يحج عليه، ففتشوه فوجدوا معه قصبة من رصاص، فيها صحيفة عليها خاتم عثمان، ففتحوا الصحيفة فإذا فيها كتاب من عثمان إلى عبد الله بن سعد، عامله على مصر، فيه: إذا قدم عليك فلان وفلان وفلان، فاضرب أعناقهم، وفلان وفلان وفلان فاقطع أيديهم وأرجلهم، فسمى الذين كانوا ساروا إلى عثمان، وانصرفوا عنه من أهل مصر.
فكروا راجعين حين وقفوا على ذلك، فأقرءوا الكتاب أصحاب رسول الله. فعاتب قوم عثمان على ذلك، فقال: أما الخط فخط كاتبي، وأما الخاتم فخاتمي، ولا والله ما أمرت بذلك - وكان بخط مروان بن الحكم - فقال القوم: إن كنت كاذبا فلا إمامة لك، وإن كنت صادقا
مخ ۱۶
[12]
فليس يجوز أن يكون إماما من كان بهذه المنزلة من الغفلة، حتى يقدم عليه كاتبه بهذا الأمر العظيم.
أيام علي بن أبي طالب
رضي الله عنه
وكان يكتب لعلي سعيد بن نمران الهمداني، وكان عبد الله بن جعفر يكتب له أيضا. وروي أن عبد الله بن جبير كتب له. وكان عبيد الله بن أبي رافع يكتب له.
وحكي عن عبيد الله هذا إنه قال:
كنت بين يدي علي بن أبي طالب، فقال: عبد الله، ألق دواتك، وأطل شباة قلمك، وفرج بين السطور، وقرمط بين الحروف.
ولما قدم على البصرة استتر عنه زياد، فلقيه عبد الرحمن بن أبي بكرة، فقال له: يا أصلع، أين عمك؟ فقال: أدلك عليه على أن تؤمنه، فأدخله عليه في دار أمه. فقال له علي: أين ما عندك من المال؟ فقال: عندي على حاله، فقال: مثلك فليؤتمن. ثم أقبل مع علي، فقال لأصحابه: أتاكم ابن بجدتها. فلما سار عن البصرة استعمله على الخراج والديوان، وقال له: أحفظ ما استكفيتك.
أيام معاوية بن أبي سفيان
وكان يكتب لمعاوية على الرسائل عبيد الله بن أوس الغساني، وكان يكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور الرومي.
وكان لمعاوية كاتب، يقال له: عبد الرحمن بن دراج - وكان له أخ، يقال له: عبيد الله بن دراج، وكانا مولييه - فقلده الخراج بالعراق، عن تقليده المغيرة الحرب بها، وطالب أهل السودان أن يهدوا له في النوروز والمهرجان، ففعلوا، فبلغ ذلك عشرة آلاف ألف درهم في سنة.
وكان عمرو بن سعيد بن العاص يكتب على ديوان الجند.
وكان معاوية أول من اتخذ ديوان الخاتم، وكان سبب ذلك: إنه كتب لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم إلى زياد، وهو عامله على العراق، ففض عمرو الكتاب وجعلها مائتي ألف
مخ ۱۷
[13]
درهم، فلما رفع زياد حسابه، قال معاوية: ما كتبت له إلا بمائة ألف درهم، وكتب إلى زياد بذلك، وأمره أن يأخذ المائة الألف منه، فحسبه بها. فاتخذ معاوية ديوان الخاتم، وقلده عبد الله ابن محمد الحميري، وكان قاضيا.
وكانت العرب إذا كتبت إلى أحد، شريفا كان أو مشروفا، بدأ الكاتب بنفسه إلى المكتوب إليه، وكتب: من فلان إلى فلان.
وقد حكي أن العلاء بن الحضرمي كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من العلاء بن الحضرمي إلى محمد رسول الله، وكان عامله على البحرين. وعلى ذلك جرى الأمر إلى أيام معاوية، فأراد عبد الله بن عمر أن يكتب إليه، لما استجمع عليه، في حاجة، فأشار ولده أن يبدأ به في الكتاب، فكتب: إلى معاوية بن أبي سفيان، من عبد الله بن عمر.
وكان زياد يجلس في كل يوم للنظر في أسباب عمله إلا يوم الجمعة.
وخلا يوما يملي على كاتبه أسرارا له، وبحضرته عبيد الله ابنه، فنعس زيادا، فقام ينام، فقال: لعبيد الله: تعهد هذا، لا تغير شيئا مما رسمته له، فعرضت لعبيد الله حاجة إلى البول، واشتد ذلك به، فكره أن ينبه أباه، وكره أن يقوم عن الكاتب، فشد إبهاميه بخيط وختمهما، وقام لحاجته. فاستيقظ زياد قبل عودة عبيد الله، فلما نظر إلى الكاتب: سأله عن خبره، فخبره، فأحمد ذلك من فعل عبيد الله.
وذكر أن زيادا دخل يوما ديوانه، فوجد فيه كتابا، وفيه: ثلاثة دنان، فقال: من كتب هذا؟ فقيل: هذا الفتى، فقال: أخرجوه من ديواننا لئلا يفسده، وامح هذا واكتب: آدن.
وكان يكتب لزياد على الخراج زاذا نفروخ، ويكتب له على الرسائل عبد الله بن أبي بكرة، وجبير بن حية، وكان يكتب له أيضا مرداس مولاه.
وتوفي زياد يوم الثلاثاء لأربع خلون من شهر رمضان من سنة ثلاث وخمسين.
مخ ۱۸
وقد روى أن سليمان بن سعيد، مولى الحسين، كتب لمعاوية، وأن سليمان المشجعي، من قضاعة، كتب له على فلسطين. فكتب إلى سليمان هذا: اتخذ لي ضياعا، ولا تكن بالداروم المجذاب، ولا بقيسارية المغراق، واتخذها بمجاري السحاب. فاتخذ له البطنان من كورة عسقلان.
مخ ۱۹
[14]
وكتب له على بعض دواوينه عبيد الله بن نصر بن الحجاج بن علاء السلمي.
وروي أن حبيب بن عبد الملك بن مروان كتب له على ديوان المدينة . وكان يكتب له على ديوان خراج حمص ابن أوثال النصراني، وله بحمص قصر يعرف به.
وكان عبد الرحمن بن الوليد عاملا على حمص، فطالت إمرته، فخافه معاوية أنم يبايع له أهل الشام بالخلافة، لما كان عندهم من آثار أبيه، خالد بن الوليد، ولقائه عن المسلمين في أرض الروم، فدس إليه ابن أوثال من سقاه سما فمات. فجلس المهاجر بن خالد بن الوليد مع عروة بن الزبير بالمدينة، فقال عروة للمهاجر: هذا ابن أوثال يفخر بقتل عبد الرحمن. فخرج المهاجر من فوره حتى أتى دمشق، فسأل عن ابن أوثال، فأخبر إنه من كتاب معاوية، فوقف ناحية حتى خرج من ديوانه، فلما رآه المهاجر قال له: إن لي إليك حاجة، فاعدل معي، فعدل معه إلى زقاق يعرف بزقاق عطاف بدمشق، وكان معه سيف، فعلاه به فقتله. فأخذه معاوية فحبسه سنة، ثم خلاه.
وأهدى زياد إلى معاوية هدايا كثيرة، وكان فيها عقد جوهر نفيس، فأعجب به معاوية، فلما رأى ذلك زياد، قال له: يا أمير المؤمنين، دوخت لك العراق، وجبيت لك برها وبحرها، وغثها وسمينها، وحملت إليك لبها وقشورها. فقال له يزيد: لئن فعلت ذلك لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عز قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر! وما أمكنك ما اعتددت به إلا بنا، فقال له معاوية: حسبك! وريت بك زنادي!
ولم تزل العرب تفضل السيف على القلم، وفي ذلك يقول سليط بن جرير ابن لبيد بن عتبة بن خالد بن عبد عمرو النمرى:
أتحقرني ولست لذاك أهلا ... وتدني الأصغرين من الخوان
جهابذة وكتابا وليسوا ... بفرسان الكريهة والطعان
مخ ۲۰