إنه يرعى أملاكهم الواسعة بعين يقظى، ويشفق كل الشفقة على «الشركاء» كما يريد جان، وروى لهم عن والده الشيخ أخبار رحمة وشفقة وعدل تذكر بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فتاق أصحابه إلى رؤية ذلك الأب الطريف وصاحوا جميعا: في الصيف، في الصيف.
وفيما هو يتدفق «كالنياغرا» إذا بالوالد العلامة الإداري الرحيم يقف بالباب، هو قادم من الضيعة، اضطرب جان أيما اضطراب، فمم يخاف يا ترى؟ إن والده غير بشع الصورة، هيكله فخم، وثيابه نظيفة جديدة، يعلق ساعة «ليبيه» ومفتاحها النحاسي مدلى على زناره الحريري المخطط، وسلسلتها فضة، وصديريته من المخمل الأسود الناعم، وكبرانه مطرز مزركش بخيوط من القصب الفضي، وشرواله من الصوف المارينوس الممتاز، وعلى جيبيه تطريز جميل معقوف من الجانبين، ولستيكه أيضا جميل الشكل جديد. إذن مم يستحي جان أفندي؟ إنه كان يحدث الناس أن والده من رجال الوقت، طقمه دائما من بابة نسيج وحده، أي كوبون.
وهجم الأب ليصافح ولده بعد هجران طويل، فإذا بحاجبي الولد قد قعدا ونونته انكمشت، أدرك الوالد ذلك فوقف مكانه وقال: «يا ذوات، منو منكم جان أفندي ابن الشيخ خليل عبدو؟» فأجابه ابنه: أنا هو، ماذا تريد يا عم؟
فأجابه: سيدنا الشيخ والدك كلفني بكلمة أقولها لك سرا. وانزويا في الغرفة ...
وجاء تموز فغلى الماء في الكوز، وتلاه آب اللهاب فعنت على بال جان الضيعة بعد غيبة طويلة لمشاهدة أمه العاجزة المشتاقة إليه، كان له استقبال، والكل يخاطبونه بيا أفندي، والكرماء الأسخياء بيا بك، أبوه معجب يضحك له إذا مشى، ويشعل له سيكارته كلما سحبها من جيبه، أمسى يصدق كل ما يرويه له من أخبار، كصداقته للمتصرف، فيقول مثلا: قلت لاوهانس، إذا كان الحديث مع الخاصة، وإذا ذكر دولته قدام العوام يقول: دولة أفندينا، ويعض على كلمة الباشا عضة مشومة فتخرج الباء كضربة الطبل، والشين كرشاش المضخة.
وخبر الضيعة عن ضيوف كرام سيزورونه، فباتت القرية تنتظرهم كل ساعة، وأخيرا صار الهزل جدا، ودنت حقا تلك الساعة الرهيبة.
أقبل الضيوف الكبار يسألون عن بيت جان أفندي، عن بيت الشيخ خليل عبدو، فدلوا على بيت حقير لا يصلح إصطبلا لخيولهم، وطلبوا جان فما وجدوه، أما والده «الشيخ» فحاول أن يتنكر فما قدر؛ لأن صورة ذلك الرسول اللبق لم تزل مرسومة في ذاكرتهم.
واستراح الزوار في ذلك البيت الحقير ممتعضين، أما جان أفندي فكان مستديرا منطويا على نفسه في قبو البقر، يضرب قلبه فوق المئة، يخاف أن يسألوا عن الجنائن المعلقة التي خبرهم عنها، وعن، وعن، فيعثروا عليه، ولكنهم اشمأزوا مما حدث، فانصرفوا ولم يسألوا عن شيء.
وخرج جان من مزربه ينفض القش اللاصق بطرفه المبلل ... وفيما هو يصلح ما أفسدته من هندامه تلك المفاجأة، جاءه خبيث يقول له: الحمد لله على السلامة.
فأجابه جان وقد أرشدته إلى المنفذ بديهته المعهودة: كيت وكيت من دينهم، الشبعان يفت للجوعان، نحن في انتظار الأوادم لا النصابين مثلهم ...
ناپیژندل شوی مخ