فأخذت الخورية تتململ، وتفح في فراشها، سألها الخوري عن مصيبتها فما ردت جوابا، فتوهم أنها آسفة على ما أنفقت لأن حاشية الخوري رقيقة، فتركها وقعد يصلي صلاة «الستار والليل»، ثم اتكأ قرب الموقد فغفي، وسمع دقا على الباب، فاستيقظ مذعورا يرسم إشارة الصليب ويغمغم، وهب إلى قنديله يشعله، وتلفلف بجبته، وقبل أن يمشي إلى الهيكل نكز الخورية بعصاه، فقعدت تتمطى.
ولم يبتعد عن البيت بضع خطوات حتى أخذته أفكار غريبة، ورأى رؤى مخيفة، فمات فزعا ... وهم بالرجوع إلى البيت ولكنه تجلد، وأكثر من إشارات الصليب والصلاة، فاشتد عزمه وتبدد كل شيء ... وبلغ الكنيسة غير مصدق أنه فيها، وتعلق بحبل الجرس فدقه بعد عناء بضع ضربات، وصعد إلى الخورس وهو يرتل الأناشيد البيعية ليتشجع، أوقد السرج والشموع بيد ترتجف وجلد يقشعر، وكان كلما شجع نفسه ازداد خوفا ورعبا.
وانتقل أخيرا إلى زاوية الكنيسة الشمالية، وأخذ يقلب الكتب البيعية مفتشا عن رتبة الغطاس وقداسه لعله ينسى مخاوفه، فاستوى قدامه شاب غريب رأى فيه ملامح من يسوع، فصاح الخوري بالسريانية: «بار حايو داكاس بت ميته.» فمد الشاب يديه نحو الخوري مفتوحتين، فزاده إيمانا بأنه المسيح، فخر أمامه ساجدا، وأغمي عليه.
وأقبل الشمامسة الذين يلبون دعوة الجرس قبل الرعية، فرأوا الخوري نصر الله منبطحا على البلاط كالميت، فأسرع أحدهم إلى الماء ينضحه به، وأحرق آخر رقعة أدناها من منخريه، وقرع ثالث الجرس قرعا عنيفا، ثم دقه الضربات المعلومة بين الأهالي للاستغاثة، فانصبوا على الكنيسة كالسيل، وكانت الخورية آخر من جاء.
رأت زوجها صريعا فانحنت فوق رأسه تولول وتبربر: راح الخوري، يا ويلي! مات، مات خوري نصر الله، يخرب بيتك يا عزرايل، ومطت ياء عزرايل ولامه مطا طويلا جدا، انتهى بنتف شعرها، وقعدت تزحر وتطحر، وأخيرا أرسلت صوتا رعب السامعين: خرب بيتي يا ناس، يا حسرتي عليك يا خورية نصر الله.
ففتح الخوري عينيه، ولكنه لم يتكلم، فهدأت الخورية وعاودها - حالا - الإيمان بالحبل، وآمنت أكثر من ذي قبل؛ لأن ما أصاب الخوري أصاب زكريا تماما، وفي الهيكل، وعن يمينه أيضا ...
وأشار الخوري بجمع كفه إلى الناس، فتهللت الخورية وكادت ترقص ... وبعد قليل غمغم الخوري بعض كلمات ثم انفك لسانه، فخبر الشعب كيف رأى الدايم أول مرة في البيت، عندما فر إلى الباب، ثم كيف ظهر له في الهيكل وعاينه وجها لوجه، فسجدوا شاكرين الله إلا الخورية، فالرؤيا لم تعجبها لأنها كانت تحلم بأخرى، غير أنها سلمت وقنعت قائلة في قلبها: تقبر الأولاد، السلامة غنيمة.
وبعد قليل، نشط الخوري وشعر أن شبابه يتجدد كالنسر، فأقام قداسا صارخا رنانا بوجه يقطر منه الإيمان، واحتفل برتبة الغطاس احتفالا دام ساعة وأكثر، فكان يمغط الترانيم والتهاليل، وإن رأى من شماس فتورا أو تراخيا غمزه وانتخى، ثم ختم القداس بمرح يشبه رقص داود أمام التابوت.
وعند الضحى طاف في القرية يرش ماء الغطاس على البيوت، فاستقبلته الرعية بإجلال وفرح عظيمين؛ إن قعد قعدوا حواليه، وإن مشى مشوا خلفه، فعاد إلى بيته عصر النهار فارغا دلوه من الماء، ولكنه مليء بشالك وأنصاف بشالك وزهراويات وأرباع مجيدية، فقد أجزل الجميع عطاءه حتى الأرامل، وابن المذبح من المذبح يعيش.
وتناقلت الألسن خبر العجيبة العظمى، فجاء الزوار من أماكن بعيدة يلتمسون البركة والدعاء، ومن لم يجد الخوري اكتفى بمقابلة الخورية وسمع من فمها حكاية «الدايم»، وكثيرا ما كانت تهم بقص حكاية حبلها، فتبتسم ابتسامة قليلة ثم لا تقول شيئا.
ناپیژندل شوی مخ