فقال: لم أعرف اليتم إلا في هذا اليوم يا أماه. عرفته اليوم جديدا.
فقالت في حزن: عرفنا معا كل ما تستطيع الأيام أن تمد به يديها. كنت أحملك على يدي طفلا وأبكي كما أبكي في هذه الساعة، وأسأل نفسي: ماذا يحمل الدهر لنا؟ وها أنا ذا أراك شابا وما زلت أسأل نفسي: ماذا يحمل الدهر في الغد؟
فقال سيف: لا يذهب بك الحزن إلى كل هذا أيها الأم العزيزة، فإني وإن كنت لا أزال محتميا بظلك أعرف كيف أواجه الحياة، وليس حزني من أجل نفسي، بل هو خالص لفقد قلب كريم.
فقالت: ما أكرم قلبك يا سيف! كأن قولك يؤنبني. لست أحب أن أكذبك يا ولدي كما كذبتك كثيرا، إنما أحزن من أجل نفسي ومن أجلك. ألم تر الحبشيين الواقفين عند بابي؟ هذا ولم يمض إلا أيام على السيد الجديد، يكسوم! ألا تعرف أنني لم أستطع أن أبعث إليك رسولا؟ أبى يكسوم أن يبعث إليك رسولي، أنا التي كنت بالأمس ملكة اليمن.
فقال سيف متماسكا: سلمت يا أماه ولا حمل لك الدهر إلا الكرامة. وإن كان أبرهة قد هلك فإنك أمي، وأنت بعد هذا أم مسروق بن أبرهة، فلا تجعلي هذه الأمور تضاعف أحزانك.
فمدت يدها إليه قائلة: اقترب مني يا سيف ودعني أبكي ساعة وأنت هنا. دعني أفتح لك صدري وأنفض ما فيه، لعله يلقي سمومه التي توقده. اقترب مني حتى لا يسمع هؤلاء الذين أقامهم يكسوم يحصون علي خطواتي ويحفظون همساتي.
فأمسك سيف بيدها قائلا: لا يذهب بك الحزن والهم إلى كل هذا، والجزع لا يغني شيئا من القضاء الواقع.
فقالت في أنة: ليس الحزن علتي، وليس الهم ما يحرقني. إنه قلبي الذي يخونني، إنه قلبي الذي يعصف بي. إن حياتي تجتمع في هذه الساعة تحت عيني كأنها صفحة أقرؤها، وكل سطر فيها يزيدني حيرة وعذابا. تقول إنك عرفت اليتم جديدا؟ ولكنني أقول إنني عرفت عاري جديدا. لا تنتفض هكذا كأنك تؤنبني. قلت إنني لن أكذبك مرة أخرى، تتمثل لي في هذه الساعة فداحة مصابي عندما دخلت إلى هذا القصر كأنني أمة. فلم أبقيت على حياتي؟ أأقول مرة أخرى: من أجلك أنت؟ كذبة أخرى؟ بل هو الخوف من الموت الذي حجزني عن الخطوة التي كانت واجبة علي. نعم، هو الخوف على الحياة الحقيرة التي طال فيها هواني، فبقيت هنا أحس البغضاء تملأ قلبي. اقترب مني يا سيف، فإن صوتي يعلو برغمي. كأن نظرتك تؤلمني.
فقال سيف في رقة: ليس بي إلا المواساة والرحمة.
فقالت: دعني أنفس عن صدري، لطالما كتمت ما في قلبي عنك، فدعني أنفضه مرة واحدة وإن ضاق به صدرك أنت. فلو ملكت أن أقطع نفسي أسفا لكان أروح لها.
ناپیژندل شوی مخ