68

الفصل الحادي عشر

قال الراوي:

تأنق الربيع في شطآن وادي ضهر وتفننت به الحياة في إبداعها، فكانت أزهاره تتبرج في ألوانها، وأعشابه تمتد في نضرتها، والسماء تبسم فوقه بزرقتها، والطير يسبح في جوه المعطر، والظلال تنتشر تحت خمائله وتنحسر عن بطاحه، فكان منظره يشغل البصر والخاطر معا.

وكان سيف يخرج فيه من طي نفسه إلى عالم الحس، فيجد فيه راحة لم يذقها منذ حين. وكانت صورة خيلاء تلازمه في كل ركن ظليل وكل مرج نضير، وكلما وقع بصره على القرى المطمئنة التي تستند على جوانبه وترسل صورها على جداوله، تمنى لو كانت خيلاء معه في إحداها، يعيشان معا بعيدين عن ضيق غمدان الفسيح وعن بذخه الفقير، وينعمان وحدهما بحياة وادعة، يقنع فيها كل منهما بصاحبه ويتخذه صومعته، ويتنسكان معا في حبهما.

كان لا يمر يوم بغير أن يخرج إلى الوادي يسرح فيه وحده أو مع صاحبه الشيخ، ثم يعود إلى قصر جده يستزير طيف خيلاء.

ولكنه ما كاد يقضي هناك أياما، حتى جاءت إليه وفود تسعى من مواطن شتى لم يسبق له عهد بها، بل لم يسمع يوما بذكرها. وكانوا يأتون إليه في أول الأمر في سر الليل، ويجتمعون به حينا فرادى وثنى وثلاثا، يسمون أنفسهم له ويسمون له القبائل التي ينتسبون إليها، ويذكرون له طرفا من صلتهم القديمة بآبائه من جهتي أبيه وأمه. وكان يجد في لقائهم أنسا وفي أحاديثهم متعة، كأنه يطلع منهم على عالم جديد كان محجوبا عنه، فكان ينصت إليهم في شغف، ويحفظ الأسماء التي يرددونها، ويسألهم عن صلات العشائر والقبائل وعن تشابك الأنساب ومجامع الأصلاب. فإذا ما انصرفوا عنه أعاد ما قالوه في نفسه كأنه درس يحفظه. وتكاثرت الوفود شيئا بعد شيء، وتجرأت حتى كانت تلم بالقصر في ساعات النهار، وكثيرا ما كان يعود من نزهته فيجد بعضها في انتظاره منذ الصباح. وقد تردد اسم ذي يزن في فجاج اليمن كأن الرياح حملته معها، فكانت قبيلة تسمع أن أبا مرة عاد من مهربه وأقام في قصر صهره ذي جدن مهادنا لأبرهة، وتسمع أخرى أنه عاد خفية يدبر قتالا جديدا، وتسمع قرية أنه سيف بن ذي يزن الذي كان أبرهة يدعيه ويخلع عليه اسمه، عرف حقيقة نسبه وهاجر من صنعاء ليجمع قومه حوله، ويهب معهم مطالبا بالثأر لأبيه.

وكان سيف يستمع إلى هذه الأنباء في دهشة لا تخلو من ارتياح وبهجة، فإنه إن انقطع عن نسبة أبرهة قد وجد عوضا عنها بهذه الألوف التي تفتح له صدرها، وتهتف باسمه وأسماء آبائه في اعتزاز. وكان أحيانا يحس في نفسه حرجا أو نفورا من الأعراب الجفاة، الذين كانوا يلتفون به في غير تجمل، ويحيونه في غير تكلف، ويقحمون عليه قرابة لا يعرفها، فكان يقلق في مجلسه ويود لو قاموا عنه وخلوا بينه وبين الوحدة التي جاء ينشدها.

على أنه اعتاد كل يوم أن يعقد مجلسه في فناء القصر يتلقف من ضيوفه أخبار أبيه وجده وقومه، حتى انتزع من أحاديثهم صورة أبيه، وصار يراها من وراء ضبابها أكثر وضوحا وأقل شحوبا. وصار كلما سكن في خلوته يتمثلها ويسأل نفسه: أين يكون أبوه في تلك الساعة؟ وكان أحيانا يشرد مسحورا بها كأنه يراها تشير إليه أن يتبعها. أيستطيع في يوم من الأيام أن يرى ذلك الأب وأن يسند كتفه إليه؟ ولكنه كان كلما أجهده السبح وراء تلك الصورة اختفت عنه فجأة، كأنها كانت تسخر منه، فيذكر قول الشيخ أبي عاصم عندما قال له: «دع الصور في مراقدها ولا تقلقها»، فما جدوى ذلك الخيال العقيم الذي يضل معه وراء أمنية مجدبة، وتقطع ما بينه وبين الحقيقة الماثلة التي تملأ حياته؛ خيلاء. أيخرج من أرضه ويتركها وراءه ويهدر السعادة التي تثوي عندها في طلب خيال؟

وعاد ليلة من مجلسه بعد أن مضى أكثر الليل، وكان مجهدا ضيق الصدر، فأراد أن يذهب عنه الضيق بذكر خيلاء، ولكنه كلما تمثلها عادت إليه أصداء المجلس الذي كان فيه، فيشرد عنه ويستغرق في أمواج من الهم. وكأنه سمع هاتفا يهتف به في صوت يشبه الصوت الذي سمعه في كهف ينور قائلا: «ألست تطلب ملكا؟» وتمثلت له صورة العقارب والأفاعي والعظام والدماء، وأخاه «مسروق»، كأنه يراه عند باب غمدان. ألا يكون ذلك الذي يراه عند الباب هو يكسوم الغليظ القلب؟ إذن لجرد سيفه وأغمده في صدره بغير أن يحس أسفا.

أهو يطلب الملك حقا؟ إن هذه الجموع التي تلتف حوله في كل ليلة لا تكاد تدع له سلاما، وكأنها تصيح به هاتفة بصوت ساحرة الكهف قائلة: «ألست تطلب الملك؟»

ناپیژندل شوی مخ