فقال صفوان: لست أدري كيف أبين لك ما أعنيه بقولي، فإني أحسه في نفسي غامضا لا أستطيع أن أجد له لفظا، أو لعلي أكون أصدق إذا قلت إن هذا الذي أحسه وأحاول أن أصفه لم يثر في نفسي إلا منذ لحظات، عندما وقع نظري على هذا الجمع يا ذا نفر. هؤلاء جميعا جاءوا لتحية أبرهة. مررت من باب القصر إلى هنا بين جموع لم أر مثلها يجتمع لملك من بيت تبع، فوا أسفا على ما سمعت في هذه الخطوات! لقد دفعني الفضول إلى أن أبطئ في سيري لأتسمع ما يقولون، فوا أسفا، لقد طرأ على الناس تبدل شامل جرفهم جميعا، حتى لقد سألت نفسي: ألم أنجرف معهم؟ كل ما سمعت منهم ثقيل على أذني، كريه إلى قلبي، وسرت أتسلل من بينهم مثل غريب في مدينة لا يعرف لسانها. كنت في شبابي أكره أشياء كثيرة في أهل جيلي، ولكني لا أستطيع أن أصف لك ما وقع في نفسي عندما سمعت هذه الأحاديث.
وأحسست في قلبي وحشة شديدة تشبه وحشة الطريد الذي يجد نفسه وحده في فلاة، هو تبدل جرف الجيل كله إلى حيث لا ندري.
فقال ذو نفر: أصداء بعيدة يا صديقي، ما عرفت أنك رضيت عن الناس قط.
فقال صفوان: لست أراجعك في قولك يا أبا الهيثم، عرفت نفسي ولم تخف عني عيوبي. كنت كما تقول لا أرضى عن كثير مما أرى، ولا يرضى كثير من الناس عني. كنت أرى قومي يتطاحنون على الصغائر ويتنافسون على التوافه ولا ينظرون إلا إلى ما تحت أقدامهم، ولكني كنت أعرف الذين لا أرضى عنهم وأعرف ماذا أنكر منهم. كنت أخالفهم أو يخالفونني، ولكنا كنا نختلف ومقاييسنا واحدة نقيس بها الأمور. وأما اليوم فقد رأيت الناس ينظرون إلى الأمور نظرة أخرى، ولهم مقاييس مبتدعة يقيسون بها قيم الأشياء، بل لقد وقع في روعي أنهم أصبحوا يخفون ما في قرارة نفوسهم ويتبعون طريقا رسمت لهم، لا يجرءون أن يتحولوا عنها. إنهم لا ينطقون بما في نفوسهم، بل يتحاورون في أقوال لقنت لهم. أظنني لم أزدك بإيضاحي إلا غموضا وإبهاما.
فتبسم ذو نفر قائلا: ألا نكون نحن الذين وقف الزمان بهم وهو يعدو بهؤلاء جامحا؟
فقال صفوان هادئا: قد يكون ذلك يا أبا الهيثم، إنك ما زلت أنفذ مني بصيرة وأفسح صدرا. أنت تستلهم الحقائق من كون أوسع من عالمي وأكثر صراحة.
وقال - كأنه يحدث نفسه: «وقف الزمان بنا وهو يعدو بهؤلاء.»
فقال ذو نفر مبادرا: عفوا يا أبا الهيثم، فإني لم أقف يوما لأفكر في مثل هذا الذي تقوله لي، وكأنني أحيانا أدرك طرفا مما تصفه لي، حقا إن الناس يستحسنون اليوم غير ما كنا نستحسن، وينكرون غير ما كنا ننكر، هم يرضون ويسخطون، أو يقبلون وينصرفون، ويحرمون أو يبيحون غير ما كانوا يفعلون من قبل. وقد صدقت في قولك إن ذلك التغير يجرفنا جميعا، وإلا فلم جئنا إلى هنا؟
وكان في صوته رنين الحزن. ثم مضى قائلا: سمعت إنك غاضب يا أبا عاصم.
فقال صفوان: لم أغضب على أحد بمقدار غضبي على نفسي. لم أغضب من أبرهة؛ لأنني عرفته هكذا منذ رأيته، يبذل كل شيء ويلين في القول حتى يطمئن، ثم لا يبالي بعد ذلك شيئا، فإذا احتاج إليك مرة أخرى تملق كبرياءك حتى ينال منك ما يريد. أما نحن، أما أنا، فإني أذللت نفسي ورضيت أن أحضر مجالسه، وأن أسمع من حوله يتحدثون عمن أعرفهم وأحمل لهم أطيب الذكرى، ويصفونهم بما أنكر ويقلبون الحقائق، فإذا النبل على لسانهم دناءة، وإذا الكرم لؤم. ثم رضيت آخر الأمر أن أجيء اليوم من داري البعيدة لأنحني لأبرهة مع الذين جاءوا للانحناء.
ناپیژندل شوی مخ