Writing the Prophetic Hadith in the Era of the Prophet ﷺ: Between Prohibition and Permission
كتابة الحديث النبوي في عهد النبي ﷺ بين النهي والإذن
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
ژانرونه
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:
فإن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، فهي تلي كتاب الله تعالى في المكانة والتشريع ولا غنى عنها لمعرفة دين الله ومقاصده في كتابه الكريم، فهي إما موافقة لما جاء فيه أو مبينة له، أو موجبة لما سكت عنه.
لذلك كانت غرضًا لأعداء الدين من عرب ومستشرقين، فتارة يدخلون عليها من باب المكانة ويحاولون الانتقاص منها، وتارة يدخلون عليها من باب التوثيق، يريدون أن يلحقوا بها الزيف والبطلان، لكن الله ﷾ لهم بالمرصاد، فقد وعد -ووعده الحق- بحفظ هذا الدين وحفظ دعائمه وهما كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فقد تكفل الله بحفظ القرآن، وهذا يستلزم تكفله بحفظ بيانه وهو السنة قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة:١٩] فحفظ الله السنة قولًا وعملًا وتقريرًا في صدور الصحابة ﵃ وفي سطورهم حتى دونت وصنفت فيها المصنفات، إلا أن هناك ممن سبق ذكرهم من ادعى بأن السنة لم تكتب في حياة النبي ﷺ، ومنهم من ادعى بأنها بقيت طوال قرن أو أكثر يتناقلها العلماء حفظًا دون أن يكتب منها شيء، وحملهم على ذلك اشتهار حديث أبي سعيد الخدري ﵁ أن الرسول ﷺ نهى عن كتابة غير القرآن.
1 / 1
وبعض هؤلاء اعترف بكتابة الحديث في العصر النبوي، بعد اطلاعه على ما رواه الخطيب البغدادي في كتابه (تقييد العلم) من الأدلة على ذلك، ومنها: إذن النبي ﷺ بالكتابة وأمره بها وكتابة الصحابة رضوان الله عليهم بين يديه، إلا أنه حاول أن يدس السم بالعسل، ففرض خلافا بين أهل الحديث وأهل الرأي حول كتابة الأحاديث أدى إلى وضع كل مذهب لأحاديث تناسب رأيه مما أسفر عن وجود نوعين من الأحاديث المتضاربة، منها الذي ينهى عن الكتابة، ومنها ما يأذن بها وبذلك نسب وضع الأحاديث لكلتا الطائفتين، وغيَّب الحكمة من نهي النبي ﷺ عن الكتابة وإذنه بها، وعرَّض ما كتب من الحديث للتهمة بسبب نزاع هذين الفريقين
والحقيقة أنه ليس هناك صراع بين أهل الرأي وأهل الحديث على كتابة الحديث، فمن هؤلاء من كره الكتابة ومنهم من كتب، ومن الفريق الثاني أيضا مثل ذلك وقد تصدى العلماء للرد على هذه الافتراءات ردًا مدعما بالحجة والدليل (١) .
أما الأحاديث التي رويت عن النبي ﷺ في النهي عن كتابة الحديث والأحاديث التي وردت عنه في الإذن في ذلك فكان لي معها هذه الوقفات من خلال هذه المفصول بعد المقدمة المذكورة:
الفصل الأول: الكتابة في عهد النبي ﷺ وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الكتابة عند العرب قبل الإسلام.
_________
(١) انظر تصدير يوسف العش لكتاب " تقييد العلم "، ٢١.
1 / 2
والمبحث الثاني: الكتابة عند العرب بعد الإسلام.
الفصل الثاني: الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة والإذن فيها، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي.
المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في الإذن.
الفصل الثالث: التوفيق بين أحاديث النهي والإذن. وفيه مباحثان:
المبحث الأول: منهج التعليل.
المبحث الثاني: دفع التعارض.
ثم الخاتمة، وفهرس المصادر والمراجع، وفهرس الموضوعات.
هذا وأسأل الله سبحانه أن أكون وفقت في تجلية غموض هذا الموضوع الذي بحث فيه العلماء قديمًا وحديثًا، فإن كان ذلك فبفضل الله، وإن كانت الأخرى فأسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 3
الفصل الآول: الكتابة في عهد النبي ﷺ
المبحث الأول: الكتابة عند العرب قيل الإسلام
...
الفصل الأول: الكتابة في عهد النبي ﷺ
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الكتابة عند العرب قبل الإسلام.
المبحث الثاني: الكتابة عند العرب بعد الإسلام.
1 / 4
المبحث الأول: الكتابة عند العرب قبل الإسلام
أثبتت الدراسات الحديثة للنقوش والبرديات الجاهلية أن العرب عرفوا الكتابة وكتبوا بالخط العربي الذي عرف فيما بعد بالخط الكوفي منذ مطلع القرن الرابع الميلادي أي قبل الإسلام بثلاثة قرون تقريبًا، كما عرفوا النقط والإعجام (١) .
وقد انتقلت الكتابة إلى العرب عن طريق "الأنبار" وهم تعلموها من أهل "الحيرة" التي عرفت فيما بعد "بالكوفة"؛ فقد كانت مركزًا ثقافيًا منذ زمن بعيد، واستخدمت فيها اللغة العربية في بلاط الحكام العرب.
وانتقلت الكتابة إلى الحجاز عن طريق "حرب بن أمية" وكان له صحبة مع "بشر بن عبد الملك" أخو "أكيدر" صاحب "دومة الجندل" بسبب تجارته إلى "العراق" فتعلم منه الكتابة، ثم سافرا معًا إلى مكة فتزوج "بشر" "الصهباء" أخت "أبي سفيان"، وتعلم منه الكتابة جماعة من أهل مكة (٢) .
ويذكر أنه ممن كان يكتب في تلك الفترة:"عبد المطلب" جد النبي ﷺ وكذلك جده الأكبر "قصي" (٣) .
ومن الطبيعي أن تنتشر الكتابة في "مكة" بعد ذلك بوصفها مركزًا دينيًا وتجاريًا، ولابد أن يكون هذا الانتشار عن طريق التعليم، إذ وجدت أماكن
_________
(١) مصادر الشعر الجاهلي، ٦١٩.
(٢) مناهل العرفان ١/٣٦٢.
(٣) تاريخ الطبري ١/١٠٨٤، طبقات ابن سعد ١/١/٣٨، عن دلائل التوثيق المبكر للسنة، د. امتياز أحمد، ١٥٦.
1 / 5
للتعليم في مكة (١)، والمدينة (٢)، ودومة الجندل (٣)، وغيرها.
كما كانت تعقد في مكة مجالس للعلم تتدارس فيها الأخبار والأشعار والأنساب، وكان منها مجالس أبي بكر ﵁، قال ابن عباس ﵄: "كانت قريش تألف منزل أبي بكر لخصلتين: العلم والطعام، فلما أسلم أسلم عامة من كان مُجالسه" (٤) .
وقد أدرك العرب قيمة الكتابة والكاتبين فأطلقوا صفة الكمال على من أتقن أمورا ثلاثة، أحدها: الكتابة. قال ابن سعد: "كان الكامل عندهم في الجاهلية وأول الإسلام الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي" (٥) .
قال في " مختار الصحاح: "والكاتب عند العرب العالم" (٦) .
أما الموضوعات التي أثر عن عرب الجاهلية كتابتها: فهي تشمل كل شؤون حياتهم الخاصة والعامة، فكانوا يكتبون أنسابهم (٧)، وأشعارهم (٨)، ومآثرهم، وحكم بلغائهم (٩)، وأيام حروبهم (١٠)، وعهودهم ومواثيقهم،
_________
(١) فتوح البلدان ٥٧٩.
(٢) فتوح البلدان ٥٨٣.
(٣) المحبر ٤٧٥.
(٤) البيان والتبيين ٤/٧٦.
(٥) طبقات ابن سعد ٣/٢/٩١.
(٦) مختار الصحاح ٥٦٢.
(٧) طبقات ابن سعد ٤/١/٣٢.
(٨) مصادر الشعر الجاهلي ١٠٧ - ١٢٣.
(٩) تاريخ الطبري ١/١٢٠٨، عن دلائل التوثيق المبكر للسنة ١٥٩.
(١٠) طبقات ابن سعد ٤/١/١/٣٢.
1 / 6
وأحلافهم (١)، ومراسلاتهم الشخصية (٢)، وديونهم فقد جاء في كتاب رسول ﷺ إلى ثقيف: "وما كان لثقيف من دَين في صحفهم اليوم الذي أسلموا عليه في الناس فإنه لهم" (٣) .
على أن هذه المعرفة للقراءة والكتابة لم تكن عامة عند الجميع، فهي تختلف باختلاف البيئات والمواطن تطورًا وازدهارًا، فالقبيلة الواحدة قد يكون قسم منها ضاربًا في جوف الصحراء، وقسم تحضَّر واستقرَّ، وسكن المدن والقرى، وقسم بين هذين القسمين يبتعد في جوف الصحراء، ولكنه لا ينزل قلب المدن والقرى، وإنما يستوطن باديتها، وظاهرها، وعلى ذلك كانت قريش، والأوس، والخزرج وهذيل، وأكثر قبائل العرب (٤) .
وعن ذلك يقول "ابن فارس" -بعد أن عرض لذكر بعض الأعراب ممن كان لا يحسن الكتابة- " ... فأما من حكي عنه من الأعراب الذين لم يعرفوا الهمز والجر والكاف والدال فإنا لم نزعم أن العرب كلها مدرا ووبرا قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة ... " (٥) .
كما أن هذا لا ينافي ما وصفهم الله به في كتابه الكريم من أنهم أمة أمية وذلك في ثلاث آيات هي: قوله تعالى ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ﴾ [آل عمران:٢٠]، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ
_________
(١) مصادر الشعر الجاهلي ١٦٦.
(٢) صبح الأعشى ٦/٤٦٨.
(٣) الوثائق السياسية، محمد حميد الله، ١٨١، فقرة ١٠.
(٤) مصادر الشعر الجاهلي ٦١٨.
(٥) عن مصادر الشعر الجاهلي ٤٧.
1 / 7
عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران:٧٥]، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة:٢] . لأن الأمية بهذا المعنى كانت غالبة على كثرتهم والكتابة فيهم قليلة نادرة (١) .
وقد ادَّعى البعض أن وصف العرب بالأمية لا ينافي معرفتهم بالقراءة والكتابة، وأن المراد بالأمية هي الأمية الدينية أي الجهل بالشريعة؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وما كان محمد ﷺ أميًا إلا لأنه نبي هؤلاء الأميين لتعليمه إياهم شريعة الله (٢) .
وهو حمل لظاهر معنى النص القرآني على غير المراد منه من غير قرينة، وذلك لأنه يقتضي التفريق بين تفسير الأميين -وهم العرب- بأنهم جهلة الدين والشريعة، وبين تفسير ما وصف به الرسول ﷺ من الأمية في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ [الأعراف:١٥٧] بأنه الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وهو الأصل المراد من ظاهر النص والذي فهمه جمهور المفسرين، وبيَّنه قول رسول الله ﷺ: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" (٣) .
_________
(١) فتح الباري ٤/١٢٧.
(٢) انظر علوم الحديث صبحي الصالح ١٦، والسنة قبل التدوين ٢٩٦.
(٣) أخرجه البخاري في كتاب الصوم ٤/١٢٧، بشرحه فتح الباري.
1 / 8
المبحث الثاني: الكتابة عند العرب بعد الإسلام
رأينا في المبحث السابق كيف أن الكتابة كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام، لذلك نعجب لما ذكره بعض المؤرخين (١) من أسماء سبعة عشر رجلا من قريش هم فقط الذين يعرفون الكتابة عند دخول الإسلام. وقد استبعد بعض الباحثين أن تكون هذه الإحصائية دقيقة لما تتمتع به " مكة " من موقع جغرافي وتجاري وديني وخاصة أنه لم يذكر فيها بعض من اشتهر بالكتابة والعلم أمثال " أبي بكر الصديق " و" سفيان بن حرب " وغيرهم، إضافة إلى أنه ذكرت أسماء بعض النساء المسلمات الكاتبات، منهن أم المؤمنين "حفصة" ﵂ و" الشفاء بنت عبد الله القرشية " ﵂ وغيرهن (٢) .
وهذا يدل على أن ما ذكره بعض المؤرخين يفيد في قلة عدد الكاتبين حين ذاك دون حصرهم جميعًا.
وقد أحصى أحد الباحثين المعاصرين عدد المتعلمين في مكة عند ظهور الإسلام وجزم بأنه نحو سبعين متعلمًا (٣) .
أما في المدينة فلم يتجاوز عدد الذين يعرفون الكتابة على ما ذكره بعض المؤرخين أحد عشر رجلا، وما قيل في مكة يقال في المدينة.
على أن هذه الحالة وإن كانت دقيقة إلا أنها لم تدم طويلا بعد انتشار الإسلام وما نزل من القرآن في الأمر بالقراءة في أول سورة منه، والأمر
_________
(١) انظر فتوح البلدان ٦٦٠، وابن سعد ٣/١/٤٤٨.
(٢) انظر دراسات في الحديث ٤٧، والسنة قبل التدوين ٢٩٦.
(٣) دلائل التوثيق المبكر، د. امتياز أحمد ١٧٦.
1 / 9
بكتابة ما يخص المسلم من أموال ومعاملات، إلى غير ذلك من الآيات التي جعلت الكتاب حجة، والآيات التي بينت فضل العلم والعلماء، وفي حث الرسول ﷺ على طلب العلم وما قام به من أعمال من شأنها أن تأخذ بأيدي الناس نحو حب العلم والمعرفة، من ذلك أمره ﷺ بتعليم الكتابة للرجال (١) والنساء (٢)، وإرسال المعلمين في كل جهة لنشر العلم حتى كان التعليم في البيوت وفي المساجد، ومن هذه الأماكن "دار الأرقم" في "مكة" و"دار القراء" في "المدينة" (٣) وغيرهما.
كما شجع بعض الصحابة على تعلم لغات أخرى فطلب من زيد بن ثابت أن يتعلم العبرية والسريانية فتعلمهما في خمسة عشر يومًا، فكان يكتب لرسول الله ﷺ إذا كتب ويقرأ له إذا كُتب إليه (٤) .
وقد أثمرت سياسة الرسول ﷺ التعليمية أينع الثمار، فأضحى بين يديه ﷺ خمسون كاتبًا يكتبون الوحي، والصدقات والمغانم وسائر العقود والمعاملات والمداينات والمعاهدات وكل ما يَهُمُّ الدولة الإسلامية في شؤونها السياسية والاجتماعية، اختصَّ كل كاتب منهم بكتابة نوع من هذه الأنواع (٥) .
_________
(١) كما في أسرى بدر حيث جعل فداء كل أسير تعليم القراءة لعشرة من صبيان المدينة.
(٢) حيث طلب من الشفاء أن تعلم حفصة ﵂ الكتابة، كما في مسند أحمد ٦/٣٧٢، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة ١٧٨) .
(٣) طبقات ابن سعد ٤/٢/١٥٠.
(٤) سنن أبي داود ٣/٣١٨.
(٥) التراتيب الإدارية ١/١١٥، وانظر كُتَّاب الوحي د. أحمد عيسى ص ٦٤ - ٧١، فقد أحصى منهم ٤٦ كاتبًا، وأحصى الأعظمي خمسين منهم في " كُتَّاب النبي ﷺ " وانظر كتابه دراسات في الحديث ٥٤.
1 / 10
وانتشرت الكتابة حتى اشتهرت بإتقانها بعض القبائل كقبيلة ثقيف في الطائف، مما دعا عمر بن الخطاب ﵁ أن يجعل كتبة المصحف من قريش وثقيف، ودعا عثمان إلى أن يقول: " اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف (١) .
وهذا يشير إلى كثرة عدد الكاتبين، الأمر الذي جعل الخليفة يتخير منهم من يراه صالحًا لهذا الأمر الجليل.
وبذلك تبين لنا أن الصحابة عرفوا الكتابة وأتقنوها، فهل قاموا بكتابة حديث رسول الله ﷺ كما كتبوا القرآن؟
لا شك أن هذا يحتاج إلى أمر وتكليف من رسول الله ﷺ كما هو الحال في أمره بكتابة القرآن.
فهل أمرهم بذلك أو نهاهم عنه؟
وهل كتب الصحابة شيئًا من الحديث في عهد الرسول ﷺ بدون أن يأمرهم بذلك؟
هذا ما ستجيب عنه الفصول التالية إن شاء الله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما سنتحدث عنه هو كتابة الحديث لا تدوينه أو تصنيفه، وأرى أن أعَرِّف بهذه المصطلحات كما عرفها علماء اللغة حتى يتضح المراد للقارىء الكريم.
فالكتابة هي: قال في اللسان: "كَتَبَ الشيء يكتبه كَتْبًا وكِتابًا وكِتابة، وكَتَبه: خَطَّه، فكتابة الشيء: خَطُّه" (٢) .
_________
(١) مصادر الشعر الجاهلي ٥٠.
(٢) لسان العرب، مادة كتب، ٣/٢١٦.
1 / 11
والتدوين هو: قال في اللسان: "والديوان مجتمع الصحف" (١)، وقال في تاج العروس (٢): "وقد دوَّنه تدوينًا جمعه". وعليه فالتدوين هو: جمع الصحف المفرقة في ديوان ليحفظها.
أما التصنيف: فقال في اللسان (٣): "والتصنيف تمييز الأشياء بعضها من بعض، وتصنيف الشيء جعله أصنافًا".
فالتدوين هو جمع المتفرق المشتت في ديوان أو في كتاب ليحفظ من الضياع، وهو أوسع من التقييد بمعناه المحدود، والتصنيف أدق من التدوين، فهو ترتيب ما دوِّن في فصول محددة وأبواب مميزة. والمقصود في بحثنا هو الكتابة فقط.
_________
(١) مادة دون، ١/١٣٩.
(٢) المصدر السابق فصل الدال باب النون، ٩/٢٠٤.
(٣) مادة صنف، ٢/٤٨٣.
1 / 12
الفصل الثاني: الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة والإذن فيها
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي
...
الفصل الثاني: الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة، والإذن فيها
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي.
المبحث الثاني: الأحاديث الواردة في الإذن.
1 / 13
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي عن كتابة الحديث النبوي
أولًا: الأحاديث المرفوعة
وهي مروية عن ثلاثة من الصحابة ﵃ هم: أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت أخرج رواياتهم الخطيب البغدادي في "تقييد العلم" سأذكرها بإيجاز ومن أخرجها من أصحاب الكتب المشهورة وأتبعها بما روي عن الصحابة من الأحاديث الموقوفة في هذا الموضوع.
أولًا: ما رواه أبو سعيد الخدري ﵁ في النهي:
أخرج الخطيب البغدادي في "تقييد العلم" بإسناده إلى عفان قال: ثنا همام أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري ﵁ أن النبي ﷺ قال: " لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن -قال (الصاغاني) غير القرآن- ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وقال: حدثوا عني ولا تكذبوا علي، ومن كذب علي - قال همام: أحسبه قال: متعمدًا - فليتبوأ مقعده من النار " (١) .
وفي رواية من طريق همام أيضًا زاد: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" (٢) .
قال الخطيب بعد رواية هذا الحديث: "تفرد همام برواية هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعا. وقد روي عن سفيان الثوري أيضًا عن زيد، ويقال إن المحفوظ رواية هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري من قوله غير
_________
(١) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الزهد، ١٨/١٢٩.
(٢) تقييد العلم ٣٠.
1 / 14
مرفوع إلى النبي ﷺ".
قلت: نسب ابن حجر هذا القول إلى البخاري فقال: "ومنهم من أعلَّ حديث أبي سعيد وقال الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره" (١) .
- وأخرج بسنده من طريق ابن عيينة عن ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي سعيد قال: "استأذنت النبي ﷺ أن أكتب الحديث، فأبى أن يأذن لي".
وفي رواية: " استأذنا النبي ﷺ في الكتاب، فأبى أن يأذن لنا " (٢) .
ثانيًا: ما رواه أبو هريرة ﵁ في النهي:
روى الخطيب بسنده من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نكتب الأحاديث فقال: "ما هذا الذي تكتبون؟ " قلنا: أحاديث سمعناها منك، قال: " أكتابًا غير الله تريدون؟ ما أضلَّ الأممَ من قبلكم إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله ".
قال أبو هريرة: فقلت أنتحدث عنك يا رسول الله؟ قال: "نعم تحدَّثوا عني ولا حرج، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
وفي رواية قلنا: فنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: "حدثوا ولا حرج،
_________
(١) فتح الباري ١ / ٢٠٨.
(٢) تقييد العلم ٣٠، وأخرجه الترمذي في كتاب العلم ٥/٤١.
1 / 15
فإنكم لم تحدثوا عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه ". قال أبو هريرة: "فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار".
وفي رواية: " أكتاب مع كتاب الله؟ أمحضوا كتاب الله وأخلصوه" (١) .
وفي رواية: بلغ رسول الله ﷺ أن ناسًا قد كتبوا حديثه، فصعد المنبر، فحَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: "ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم، إنما أنا بشر من كان عنده منها شيء فليأت به"، فجمعناها فأحرقت. فقلنا: يا رسول الله نتحدث عنك؟ قال: "تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" (٢) .
كل هذه الروايات من طريق عبد الرحمن بن زيد عن أبيه (٣) .
ثالثًا: ما رواه زيد بن ثابت ﵁ في النهي:
وأخرج الخطيب من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنسانًا يكتبه، فقال له زيد: "إن رسول الله ﷺ أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديثه" فمحاه.
وفي رواية: "أن النبي ﷺ نهى أن يكتب حديثه" (٤) .
_________
(١) تقييد العلم ٣٠، وأخرجه أحمد في مسنده (٣/١٢) .
(٢) تقييد العلم ٣٥.
(٣) وهو ضعيف، انظر: الجرح والتعديل (٢/٢٣٣)، ميزان الاعتدال ٢/٥٦٤، فكل هذه الروايات ضعيفة لضعفه.
(٤) التقييد ٣٥، ورواه أبو داود في السنن، كتاب العلم ٣ / ٣١٨ باللفظ الأول، وأحمد في المسند (٥/١٨٢)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (١/٢٧١)، والقاضي عياض في الإلماع: (١٤٨)، وهو منقطع، لأن المطلب لم يسمع من زيد كما في تهذيب التهذيب (١٠/١٧٩) .
1 / 16
ثانيًا: الأحاديث الموقوفة عن الصحابة ﵃ في النهي عن كتابة الحديث
وهي مروية عن سبعة من الصحابة ﵃ سأذكر لكل واحد منهم رواية أو أكثر بحيث تشتمل الرواية عنه على معظم المقاصد والأحكام التي أراد هؤلاء الصحابة إبلاغها لمن بعدهم، بخاصة أنه وردت عن بعضهم روايات مقرونة بالعلة التي ورد لأجلها النهي عن كتابة الحديث، وهي التي ستثري البحث أثناء التوفيق بين أدلة النهي عن الكتابة وأدلة الإذن.
وهؤلاء الصحابة هم: أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، والذين ذكرت رواياتهم علة النهي هم: عمر بن الخطاب، وأبو موسى الأشعري، وابن مسعود.
١ - الرواية عن أبي سعيد الخدري:
روى الخطيب من طريق أبي نضرة قال: قلنا لأبي سعيد "لو كتبتم لنا فإنا لا نحفظ"، قال: "لا نُكتبكم ولا نجعلها مصاحف؛ كان رسول الله ﷺ يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم" (١) .
وفي رواية: وكان أبو سعيد يقول: "تريدون أن تجعلوها مصاحف، فإن نبيكم ﷺ كان يحدثنا، فاحفظوا منا كما حفظنا" (٢) .
وفي رواية: "قال أتتخذونه قرآنًا، اسمعوا كما كنا نسمع".
وفي رواية قال: " قلنا لأبي سعيد إنا اكتتبنا حديثا من حديث رسول الله
_________
(١) رواه بهذا اللفظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم: (١/٢٧٣)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل: (٣٧٩) .
(٢) تقييد العلم: ٣٨، وبنحوه رواه الدارمي في سننه ١/١٣٣.
1 / 17
ﷺ " قال: " امحه ".
وفي رواية: قلت لأبي سعيد: " إنك تحدثنا بأحاديث معجبة، وإنا نخاف أن تزيد أو تنقص، فلو أنا كتبنا "، قال: " لن نكتبكم، ولن نجعله قرآنًا، ولكن احفظوا عنا كما حفظنا " (١) .
٢ - الرواية عن عبد الله بن مسعود ﵁:
وأخرج الخطيب من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ﵄ قال: كنا نسمع الشيء فنكتبه، ففطن لنا عبد الله، فدعا أم ولده، ودعا بالكتاب وبإجَّانة (٢) من ماء فغسله ".
وفي رواية من طريق مسروق قال: حَّدث ابن مسعود بحديث فقال ابنه: " ليس كما حدثت " قال: " وما علمك؟ " قال": كتبته "، قال: " فهلم الصحيفة "، فجاء بها فمحاها (٣) .
٣ - الرواية عن أبي موسى الأشعري ﵁:
وروى الخطيب من طريق أبي بردة قال: كتبت عن أبي كتبًا كثيرة فمحاها وقال: "خذ عنا كما أخذنا" (٤) .
_________
(١) تقييد العلم ٣٨، ورواه أبو خيثمة في كتاب العلم ٢٤ بمثله.
(٢) الإجانة: إناء تغسل فيه الثياب.
(٣) التقييد ٣٩.
(٤) تقييد العلم ٣٩، ورواه الدارمي في سننه ١/١٣٣، وابن عبد البر في جامع يبان العلم ١/٢٨٢، وإسناده صحيح. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١/١٥٦ بنحوه، وقال: (رواه الطبراني في الكبير والبزار بنحوه، إلا أن البزار قال: احفظ كما حفظنا عن رسول الله ﷺ، ورجاله رجال الصحيح)
1 / 18
٤ - الرواية عن أبي هريرة ﵁:
وروى الخطيب بإسناده إلى سعيد بن أبي الحسن قال: لم يكن من أصحاب النبي ﷺ أكثر من أبي هريرة حديثا عن رسول الله ﷺ، وإن مروان زَمَنَ هو على المدينة، أراد أن يُكتبه حديثه، فأبى وقال: " ارووا كما روينا " فلما أبى عليه، تغفله فأقعد له كاتبًا لَقِنًا ثَقِفًا، ودعاه، فجعل أبو هريرة يحدثه، ويكتب الكاتب، حتى استفرغ حديثه أجمع، قال ثم قال مروان: "تعلم أنا قد كتبنا حديثك أجمع؟ " قال: " وقد فعلتم؟ " قال: نعم قال: " فاقرأوه عليّ إذًا " قال فقرأوه عليه، فقال أبوهريرة: " أما إنكم قد حفظتم، وإن تطعني تمحه " قال فمحاه (١) .
وفي رواية عن أبي كثير قال سمعت أبا هريرة يقول: " لا نكتم ولا نُكتب" (٢) .
٥ - الرواية عن عبد الله بن عباس:
عن طاووس قال: إن كان الرجل يكتب إلى ابن عباس يسأله عن الأمر، فيقول للرجل الذي جاء: " أخبر صاحبك أن الأمر كذا وكذا، فإنّا لا نكتب في الصحف إلا الرسائل والقرآن " (٣) .
وعن سعيد بن جبير: أن ابن عباس ﵄ كان ينهى عن كتاب العلم، وأنه قال: " إنما أضل من قبلكم الكتب " (٤) .
_________
(١) تقييد العلم ٤١.
(٢) تقييد العلم ٤٢، ورواه الدارمي في سننه ١/١٣٣، وإسناده صحيح، وابن عبد البر في جامع بيان العلم ١/٢٨٢.
(٣) تقييد العلم ٤٢، وبنحوه في مصنف عبد الرزاق ١١/٢٥٨.
(٤) تقييد العلم ٤٣، ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ١/٢٨٠. وإسناده صحيح.
1 / 19
٦ - الرواية عن عبد الله بن عمر ﵄:
عن سعيد بن جبير قال: " كنا إذا اختلفنا في الشيء كتبته حتى ألقى به ابن عمر، ولو يعلم بالصحيفة معي، لكان الفيصل بيني وبينه " (١) .
العلة في كراهة كتابة الحديث كما وردت عن بعض الصحابة ﵃
١ - الرواية عن عمر بن الخطاب:
أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله ﷺ فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرًا ثم أصبح وقد عزم الله له، فقال: "إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبُّوا عليها، وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا" (٢) .
٢ - الرواية عن عبد الله بن مسعود ﵁:
قال: " إنما أهلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب وتركهم كتابهم " (٣) .
_________
(١) تقييد العلم ٤٤، وفي مصنف عبد الرزاق ٩/٥٤ واسناده صحيح. وابن عبد البر في جامع بيان العلم٠ ١/٢٨١) . (٢) تقييد العلم ٤٩، وفي مصنف عبد الرزاق ١١/٢٥٧ - ٢٥٨، وجامع بيان العلم ١/٢٧٤ ورجاله ثقات، إلا أن عروة لم يسمع من عمر كما في تهذيب التهذيب ٧/١٥٨، وقد رواه الخطيب من طريق آخر عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن عمر، عن عمر ﵁، أي بزيادة عبد الله (ص ٥٠) من تقييد العلم بنحوه، وإسناده صحيح.
(٣) تقييد العلم ٥٣، ورواه الدارمي في سننه (١/١٣٣) .
1 / 20