Writing of the Sunnah in the time of the Prophet ﷺ and the Companions and its impact on preserving the Sunnah
كتابة السنة النبوية في عهد النبي ﷺ والصحابة وأثرها في حفظ السنة النبوية
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
ژانرونه
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهذا بحث عن "كتابة السنة النبوية في عهد النبي ﷺ والصحابة وأثرها في حفظ السنة النبوية" للمشاركة به في فعاليات ندوة "السنة والسيرة النبوية".
والتي تعقد تحت عنوان: "عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية" ومما لا شك فيه أن لكتابة السنة النبوية في عهد النبي ﷺ والصحابة أكبر الأثر في حفظها وفي تيسير تدوينها التدوين الرسمي العام بعد ذلك؛ لأن الكتابة في العهد النبوي وإن كانت كتابة خاصة ببعض الصحابة، إلا أنها كانت تشمل عددًا كبيرًا من الأحاديث النبوية، التي تتميز بأنها صحيحة وليس فيها أحاديث ضعيفة؛ لأن أسباب الضعف والوضع لم تكن ظهرت بعد.
كما أن لهذه الصحف خصوصية هامة وهي أنها أخذت من فم الرسول ﷺ مباشرة، وليس بين بعض الصحابة الذين كتبوها وبين الرسول ﷺ أحد ولا واسطة فكانت بهذا أحاديث في أعلى درجات الصحة.
كما أن هذه الصحف التي كتبت في العهد النبوي تؤلف العدد الأكبر من الأحاديث التي دونت بعد ذلك في عصر التدوين الرسمي، وقد
1 / 1
كتبوا في وقت لم يكن الكذب قد شاع، ولم يظهر بعدُ أهلُ الوضع والتحريف، فهم عدول وهم خير القرون، وكان الصحابة الذين كتبوا في عهد النبي ﷺ على درجة عالية من الحفظ والضبط والإتقان.
وهذه المراحل التي كتب فيها الحديث من عهد النبي ﷺ وعهد الصحابة والعهود التالية، كان لها أكبر الأثر في حفظ السنة النبوية وصيانتها.
وبالله التوفيق؛ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 2
كتابة السنة النبوية في عهد النبي ﷺ والصحابة وأثرها في حفظ السنة النبوية
الدكتور: أحمد عمر هاشم
بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف السنة لغةً واصطلاحًا:
السنة في اللغة:
تطلق السنة في اللغة بعدة إطلاقات، فتطلق ويراد بها الوجه لصقالته وملاسته، وقيل: دائرته، وقيل: الصورة، وقيل: الجبهة والجبينان، وكله من الصقالة والأسالة، ووجه مسنون: مخروط أسيل كأنه قد سُنَّ عنه اللحمُ، وسُنة الوجه دوائره، وسنة الوجه صورته، قال ذو الرمة:
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاءُ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ
ومثله للأعشى:
كَرِيمًا شَمَائِلُهُ مِنْ بَنِي ... معَاويَةَ الأَكْرَمِيْنَ السُّنَنْ
والسنة: الصورة وما أقبل عليك من الوجه، وقيل: سنة الخد صفحته (١) . أ. هـ.
وقال الأزهري: السنة الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أهل السُّنة، معناه من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة، والسُّنة: الطبيعة، وبه يفسر بعضهم قول الأعشى السابق:
كَرِيمًا شَمَائِلُهُ مِنْ بَنِي ... معَاويَةَ الأَكْرَمِيْنَ السُّنَنْ (٢)
وقد سبق بيان أنَّ بعضهم فسر السنن في هذا البيت بالوجوه، أمَّا
_________
(١) لسان العرب ج١٣ ص٢٢٤ ط بيروت.
(٢) تاج العروس ج١٣ ص٣٤٤ ط بيروت.
1 / 3
رأي الآخرين فمعناها الطبيعة. وقال الراغب (١): "سنة النبي ﷺ طريقته التي كان يتحراها، وسُنة الله ﷿ قد تقال لطريقة حِكْمته وطريقة طاعته". والسنة: السيرةُ حسنةً كانت أو قبيحةً، قال خالد بن عتبة الهذلي:
فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سيرةٍ أَنتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيْرُهَا
وفي الكتاب العزيز: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾ [الكهف:٥٥] . قال الزجاج: "سنة الأولين أنهم عاينوا العذاب"، وسننتها سَنًَّا واستننتها: سِرْتُها، وسننت لكم سنة فاتبعوها، وفي الحديث: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة.." (٢)، يريد مَنْ عَمِلَها ليُقتدى به فيها، وكل من بدأ أمرًا عمل به قومٌ بعده قيل هو الذي سَنَّهُ.
وقد تكرر ذكر السنة وما تصرف منها والأصل فيها الطريقة
_________
(١) المفردات ٤٢٩.
(٢) وروى الإمام مسلم عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) صحيح مسلم ج٢ ص٧٠٥، وأخرجه الترمذي بلفظ: (من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئًا ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئًا) الترمذي ج٤ ص١٤٩، وقال: حديث حسن وأخرجه الإمام أحمد بنحوه في مسنده ج١ ص١٩٣ (الفتح الرباني) وأخرجه الدارمي ج١ ص١٠٧.
1 / 4
والسيرة. وإذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبيُّ ﷺ ونهى عنه وندب إليه قولًا وفعلًا، ولهذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنة؛ أي: القرآن والحديث (١) . أ.؟.
وقد وردت في القرآن الكريم في مواضع متعددة بمعنى العادة المستمرة والطريقة المتبعة فقال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ﴾ [آل عمران:١٣٧] . وقال ﷿: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ [الإسراء:٧٧] . وقال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح:٢٣] .
_________
(١) لسان العرب ج١٣ ص٢٢٥ ط بيروت.
تعريف السنة في الشرع: ظهرت للسنة تعريفاتٌ مختلفةٌ في لسان أهل الشرع، وكان هذا حسبَ اختلاف الأغراض التي اتجه إليها العلماء مِنْ أبحاثهم، فبعد أن تشعبت العلوم التي تبحث في السنة برزت هذه التعريفات محددة الغرض في كل اتجاه: "فعلماء أصول الفقه عنوا بالبحث عن الأدلة الشرعية، وعلماء الحديث عنوا بنقل ما أضيف إلى النبي ﷺ، وعلماء الفقه عنوا بالبحث عن الأحكام الشرعية من فرض وواجب ومندوب وحرام ومكروه، والمتصدرون للوعظ والإرشاد عنوا بكل ما أمر به الشرع أو نهى عنه" (٢) . _________ (٢) الحديث والمحدثون ص١.
تعريف السنة في الشرع: ظهرت للسنة تعريفاتٌ مختلفةٌ في لسان أهل الشرع، وكان هذا حسبَ اختلاف الأغراض التي اتجه إليها العلماء مِنْ أبحاثهم، فبعد أن تشعبت العلوم التي تبحث في السنة برزت هذه التعريفات محددة الغرض في كل اتجاه: "فعلماء أصول الفقه عنوا بالبحث عن الأدلة الشرعية، وعلماء الحديث عنوا بنقل ما أضيف إلى النبي ﷺ، وعلماء الفقه عنوا بالبحث عن الأحكام الشرعية من فرض وواجب ومندوب وحرام ومكروه، والمتصدرون للوعظ والإرشاد عنوا بكل ما أمر به الشرع أو نهى عنه" (٢) . _________ (٢) الحديث والمحدثون ص١.
1 / 5
أما علماء الأصول: فعرَّفوا السُّنة بأنها: هي كل ما روي عن النبي ﷺ مما ليس قرآنًا من أقوال أو أفعال أو تقريرات مما يصلح أن يكون دليلًا لحكم شرعي.
وبعض الأصوليين أطلق لفظ السنة على ما عمل به أصحاب الرسول صلوات الله وسلامه عليه، سواءً كان ذلك في القرآن أو مأثورًا عن الرسول ﷺ، أو اجتهد فيه الصحابة كجمع المصحف وتدوين الدواوين.
وأما علماء الفقه: فعرَّفوا السنة بأنها: هي ما ثبت عن النبي ﷺ من غير افتراض ولا وجوب فهي عندهم صفة شرعية للفعل المطلوب طلبًا غير جازم، ولا يُعاقب على تركه "وتطلق على ما يقابل البدعة كقولهم: فلان من أهل السنة" (١) . أ. هـ.
السنة في لسان علماء الوعظ والإرشاد: هي المقابلة للبدعة، فيقال عندهم: فلان على سُنَّةٍ إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي ﷺ سواءً كان ذلك مما نُصَّ عليه في الكتاب العزيز أولا، ويقال: فلان على بدعة إذا عمل على خلاف ذلك.
السنة في اصطلاح المحدثين: هي أقوال النبي ﷺ وأفعاله وصفاته وسيره ومغازيه وبعض أخباره، وقَصَرَ بعض العلماء التعريف على "أقوال النبي ﷺ وأفعاله وأحواله" (٢)، وهو يشتمل على ما سبق، لأن الأحوال
_________
(١) إرشاد الفحول ص:٣١.
(٢) تدريب الراوي ص: ٥
1 / 6
تتضمن أخلاقه الكريمة، وصفاته العظيمة وتتضمن أفعاله الحسنة. وقال بعض العلماء هي: "ما أضيف إلى النبي ﷺ قولًا أو فعلًا أو تقريرًا أو صفة" (١) . والتعريفان متقاربان. ويتفق كل منهما في أن السنة النبوية في اصطلاح علماء الحديث النبوي هي أقوال الرسول ﷺ وأفعاله وتقريراته وصفاته الخُلقية والخَلقية، فيدخل في هذا معظم ما يذكر في سيرته كوقت ميلاده ومكانه وتحنثه في غار حراء، وغير ذلك مما يذكر قبل البعثة أو بعدها.
_________
(١) قواعد التحديث ص:٦١.
1 / 7
منزلة السنة في الدين
السنة هي الأصل الثاني من أصول الإسلام
أجمع فقهاء المسلمين قديمًا وحديثًا من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا إلا من شذَّ من بعض الطوائف على الاحتجاج بها وعدِّها المصدر الثاني للدين بعد القرآن الكريم، فيجب اتباعها، وتحرم مخالفتها. وقد تضافرت الأدلة القطعية على ذلك، فأوجب الله سبحانه على الناس طاعة رسوله ﷺ وبيَّنَ أنه ﷺ هو المبيِّن لما أنزل من القرآن، وذلك بعد أن عصمه من الخطأ والهوى في كل أمر من الأمور ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم:٣-٥] . كما عصمه من الناس حين أمره بتبليغ ما أنزل إليه قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة الآية:٦٧] .
فهو إذًا قد مَهَّد لرسوله ﷺ طريق الدعوة، وذلَّلَ له مهمة تبليغها، فبَيَّنَ ﷾ للناس ما يأتي:
أولًا: وجوب طاعة الرسول ﷺ.
ثانيًا: أن الرسول ﷺ هو الذي يبين للناس كتابَ ربهم ﷾. وهذان الأمران متلازمان في إثبات حجية السنة؛ لأن الله تعالى
1 / 8
أوجب طاعة رسوله ﷺ؛ لأنه مبيِّن للناس ما أنزل إليهم، قال الشاطبي: "فإذا عمل المكلف وفق البيان أطاع الله فيما أراد وأطاع رسولَه في مقتضى بيانه، ولو عمل على مخالفة البيان عصى الله تعالى في عمله على مخالفة البيان، إذ صار عمله على خلاف ما أراد بكلامه وعصى رسوله في مقتضى بيانه" (١) .
وسأتناول الحديث عن هذين الأمرين وهما وجوب طاعةِ الرسول ﷺ، وبيان أن الرسول ﷺ هو الذي بيَّن للناس ما نُزِّل إليهم.
(١) وجوب طاعة الرسول ﷺ:
فرض الله ﷾ طاعة رسوله ﷺ، وورد الأمر بها في القرآن الكريم على وجوه كثيرة تختلف باختلاف أحوال المخاطبين ومشاربهم ونياتهم، فمنهم اليهودي الذي يحتاج إلى كثرة الأدلة، والمنافق الذي يحتاج إلى أسلوب التهديد، والمؤمن الذي يقبل الأمر ويعرف هداية الله من أقرب طريق. وقد سلكت آيات القرآن الكريم في بيان ذلك مسلكًا مناسبًا ونهجت منهجًا حكيمًا:
١- فقد دلت مرة على وجوب طاعة الرسول ﷺ، بالأمر بالإيمان بالرسل "وهذا يستلزم وجوب طاعة الرسول ﷺ، من ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
_________
(١) الموافقات (١٩:٤) .
1 / 9
وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [النساء:١٧١] . فالأمر بالإيمان بالرسل مع الإيمان بالله لا يكون إلا إذا كان مع الإيمان تصديق لما يبلغه الرسل عن الله وإذعان وطاعة لهديهم على هذا فرسولنا ﷺ يجب الإيمان به للأمر بالإيمان بالرسل، وطاعته واجبة كطاعتهم التي استلزمها الأمر بالإيمان بهم.
٢- ودلت الآيات أيضًا على وجوب طاعة الرسول ﷺ باقتران الأمر بالإيمان به مع الأمر بالإيمان بالله سبحانه قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النساء:١٣٦] . وقال الله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [التغابن:٨] . وقد أظهر الله تعالى في هذه الآيات وغيرها مكانة نبيه ﷺ، فنَصَّ على الإيمان به ولم يكتفِ بالأمر العام السابق رغم دخوله فيه؛ وذلك لأن رسالته خاتمة، وبعثته عامة، فاقتضت الحكمة أن يُخَصَّ بمزيد عنايته ويفهم من ذلك الأمر بطاعته، قال الإمام الشافعي ﵁: "وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل شأنه أن جعله علمًا لدينه لما افترض من طاعته وحرم من معصيته وأبان من فضيلته بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به فقال ﵎: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء:١٧١] . وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
1 / 10
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور:٦٢] . فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله" (١) . أ. هـ.
٣- كذلك دلت الآيات على وجوب طاعة الرسول ﷺ بإيجاب الله تعالى طاعة الرسل، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء:٦٤] . فطاعة الرسل إذًا هي الهدف من إرسالهم، ورسولنا ﷺ كواحد من الرسل داخل في مضمون الحكم العام فينطبق عليه الحكم بوجوب طاعته ولا سيما أن الرسل قبله كانت شرائعهم خاصة بطائفة معينة، أما رسولنا ﷺ فشريعته عامة وخاتمة، لذا كانت طاعته آكد وألزم.
٤- اقتران الأمر بطاعة الرسول بالأمر بطاعة الله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران:٣٢] . وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء:٥٩] والناظر إلى الآيات الواردة في وجوب طاعة الرسول ﷺ يرى أن منها ما جاء بالأمر بطاعة الله مقرونًا بالأمر بطاعة الرسول بالعطف بالواو كالآية الأولى، إذ يفيد ذلك مطلق الاشتراك
_________
(١) الرسالة للإمام الشافعي ص٧٣.
1 / 11
والجمع بينهما، أو بطريق العطف بها مع إعادة العامل إذ يفيد ذلك تأكيد عموم الطاعة في كل ما يصدر عن الرسول ﷺ ومنها ما جاء بتكرار العامل في شيئين مع العطف على الأخير بدون تكرار العامل كقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ بدون تكرار العامل في عطف أولي الأمر. وهذا يدل على أن أولي الأمر ليس لهم طاعة مستقلة، وليس لهم تشريع خاص يصدر عنهم يخالف الإسلام "وإنما يطاعون فيما شأنه أن يتلوه ويباشروه في إطار من الدين الذي شرعه الله قرآنًا كان أو سنة" (١) فطاعة الرسول إذًا واجبة في كل ما أتى به سواء كان في الكتاب الكريم أو ليس فيه.
٥- أمر الله بطاعة الرسول على الإنفراد، قال الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما﴾ [النساء:٦٥] . وقال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [النور:٥٦] . وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧] . ففي هذه الآيات نص صريح على وجوب طاعة الرسول والتسليم لحكمه واتباعه، وهذه الطاعة في حال حياته وبعد وفاته، ففي حال حياته كان الصحابة يتلقون أحكام
_________
(١) السنة النبوية ومكانتها في التشريع ص٥٨.
1 / 12
الشرع من القرآن الذي أخذوه عن رسولهم ﷺ إذ كان يبين لهم ما أنزل إليهم، كما كان يبين لهم كثيرًا من الأحكام حين تقع لهم الحوادث التي لم ينص عليها في القرآن، فهو إذًا يطبق لهم الأحكام من حلال أو حرام، مما كان مصدره القرآن أو الوحي الذي يوحيه الله له ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف:١٥٧] . وقد حثَّ الله ﷿ على الاستجابة لما يدعو له الرسول ﷺ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال:٢٤]، ولم يبح الله تعالى لمؤمن ولا مؤمنة مخالفة حكم الرسول أو أمره، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:٣٦]، وقد كان المسلمون ملتزمين حدود أمره ونهيه ومتبعين له في عبادتهم ومعاملاتهم وقد بلغ من طاعتهم للرسول ﷺ واقتدائهم به أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك ولم يجز واحد منهم لنفسه مراجعة الرسول ﷺ إلا إذا كان هناك أمر غريب عن عقولهم فيناقشونه ليعرفوا الحكمة فيه فقط كما لم يجز واحد منهم مراجعته في أمر "إلا إذا كان فعله أو قوله اجتهادًا منه في أمر دنيوي
1 / 13
كما في غزوة بدر حين راجعه الحباب بن المنذر في مكان النزول" (١) ومثل هذا إنما حدث تطبيقًا لمبدأ الشورى في الإسلام.
وإذا كان الحال هكذا في حياة الرسول ﷺ، فإنه أيضًا تجب طاعته واتباع سنته بعد وفاته، لأنه ﷺ حثَّ المسلمين أن يطيعوه ويتبعوه بعد وفاته تمسكًا بالكتاب والسنة وسيرًا على هديهما فقال ﷺ: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي" (٢)، وكما وجب على الصحابة بنص القرآن اتباع الرسول وطاعته في حياته وبعد مماته كما في الحديث السابق وجب على من بعدهم من المسلمين اتباع سنته بعد وفاته؛ لأن النصوص التي أوجبت طاعته عامة لم تقيد في ذلك بزمن حياته ولا بصحابته دون غيرهم؛ ولأن العلة جامعة بينهم وبين من بعدهم، وهي أنهم أتباع لرسول أَمَرَ اللهُ باتِّباعه وطاعته (٣)، لهذا كله تلقى الصحابة السنة النبوية وبلغوها إلى من بعدهم.
_________
(١) السنة ومكانتها في التشريع. ص:٦٦.
(٢) أخرجه مالك في الموطأ (٢/٨٩٩) برقم٣، والحاكم في المستدرك (٣/ ١٠٩، ١٤٨، ٥٣٣) وصححه، ووافقه الذهبي، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (٢/١٨٠) .
(٣) السنة ومكانتها في التشريع. ص:٦٧.
1 / 14
رواية السنة وكتابتها:
العهد النبوي:
اصطفى الله تعالى رسوله ﷺ ليبلغ الرسالة الإلهية إلى الناس جميعًا، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وأعدَّ الله تعالى رسوله ﷺ إعدادًا كاملًا فربَّاه بعنايته، وكلأه برعايته وعصمه من الناس وعلَّمه ما لم يكن يعلم، قال تعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء:١١٣] .
وقام الرسول ﷺ بأداء الرسالة خير قيام، وأدى الأمانة الإلهية على أكمل وجه، وتحمَّل في سبيلها ما تحمَّل، وصبر واستعذب الأذى حتى أرسى دعائم الدعوة وأقام دين الله تعالى.
العوامل التي دفعت الصحابة إلى العناية بالسنة:
تضافرت عوامل ثلاثة حفزت همم المسلمين إلى الإقبال الشديد على السنة الشريفة ومدارستها:
أولًا: القدوة الحسنة التي تمثلت في الرسول ﷺ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:٢١] .
1 / 15
ثانيًا: ما تضمنته آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة من الحث على العلم والعمل، بل كانت أولى آيات الوحي الإلهي من القرآن دعوة صريحة إلى العلم، توجه أنظار البشرية إليه، وتحض عليه، قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق:١-٥]، وقال تعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:١٢٢]، كما حض الرسول ﷺ على طلب العلم وتبليغه، عن ابن شهاب قال: قال حميد بن عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيبًا يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" (١) . وقال ﷺ: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فربَّ حامل فقه غير فقيه وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" (٢) .
ثالثًا: الاستعداد الفطري، والذوق العربي الأصيل والذاكرة الواعية الأمينة التي كانوا عليها، مع ما استقر في نفوسهم من أهمية السنة النبوية
_________
(١) رواه البخاري في الصحيح (مع فتح الباري) ج١ ص: ١٥٠-١٥١ وأحمد في المسند عن أبي هريرة ج١٢ ص١٨٠ ورواه ابن ماجة ج١ ص٤٩ وانظر مجمع الزوائد (١/١٢١) .
(٢) رواه ابو داود في سننه (٣/٣٢١) برقم ٣٦٦٠ والترمذي في جامعه (٥/٣٣-٣٤) برقم ٢٦٥٦، وابن ماجة (١/٨٤) برقم ٢٣٠ وحسنه الترمذي
1 / 16
وأنها من مصادر التشريع الإسلامي، وقد حركت هذه العوامل قلوب المسلمين للالتفاف حول رسولهم ﷺ، لينهلوا من معين سنته المطهرة التي وجدوا فيها مادة خصبة لدنياهم وأخراهم، تكفل لهم سعادة الدارين؛ لأنَّ أحكامها الكريمة وآدابها الفاضلة تتعلق بالعقيدة وبالشريعة والأخلاق وتتعلق بجميع آدابهم وأحوالهم.
ونهج النبي ﷺ معهم منهج القرآن، يتدرج في انتزاع الشر والباطل، ويعمل على غرس الخير والحق، ويفتيهم في مسائلهم في كل مكان حسبما اتفق في الحل والترحال، وكان "المسجد" هو المكان المتعارف الذي تعاهدوا على حضور المجالس العلمية فيه، تلك المجالس التي يعقدها لهم رسولهم ﷺ تشرق بنور الله، وتنبثق منها الروحانية الصافية، فيتعلمون ويتفقهون ويعبدون فيها ربهم ويسبحون بالغدو والآصال. وكان الرسول ﷺ يتبع معهم أسمى الطرق في التعليم: ويتوخى مخاطبتهم بلغاتهم ولهجاتهم وعلى قدر عقولهم، متواضعًا حليمًا، ولم يحرم النساء من حقوقهن في العلم وإنما خصص لهن وقتًا يتلقين فيه العلم.
وقد بلغ من حرصه ﷺ على تعليم المسلمين أنه كان يكرر القول ثلاثًا، حتى يفهم عنه. وربما طرح المسألة على أصحابه (١)؛ ليختبر أفهامهم، ويجذب انتباههم، ويتحرَّى أن يكون التدريس والموعظة في الوقت الملائم والظروف المناسبة التي يتسنَّى لهم الحضور فيها، وتكون
_________
(١) فتح الباري ج١ ص١٣٦.
1 / 17
عقولهم يقظة واعيةً بعد صلاة الفجر وبعد العشاء ونحو ذلك.
تلقِّي الصحابة للحديث النبوي: حرص الرسول ﷺ على تبليغ المسلمين سنته الشريفة وحبب إلى أصحابه رضوان الله عليهم حفظ الحديث وتبليغه، فوضع منهج التلقي والتحديث، وأرسى بينهم قاعدة التثبت العلمي التي ساروا عليها، واتخذوها منهجًا في الرواية بعد ذلك وسار الصحابة في حرصهم على حضور مجالس الرسول ﷺ إلى جانب ما يقومون به من أمور المعاش. وإذا تعذر على بعضهم الحضور يتناوب مع غيره كما كان يفعل عمر ﵁، قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله ﷺ ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك" (١) . ولم يكن يتسنى للجميع سماع الحديث من الرسول ﷺ لما كانوا يقومون به من أعمال فكانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من أقرانهم وكانوا يشددون على مَنْ يسمعون منه، كما كانت القبائل البعيدة تبعث إلى النبي ﷺ من يتعلم أحكام الدين منه ثم يعود إليهم ليرشدهم ويعلمهم، وهكذا عاش الصحابة مع رسولهم ﷺ يشاهدون تصرفاته في عباداته _________ (١) صحيح البخاري (مع فتح الباري) ج١ ص١٦٧.
تلقِّي الصحابة للحديث النبوي: حرص الرسول ﷺ على تبليغ المسلمين سنته الشريفة وحبب إلى أصحابه رضوان الله عليهم حفظ الحديث وتبليغه، فوضع منهج التلقي والتحديث، وأرسى بينهم قاعدة التثبت العلمي التي ساروا عليها، واتخذوها منهجًا في الرواية بعد ذلك وسار الصحابة في حرصهم على حضور مجالس الرسول ﷺ إلى جانب ما يقومون به من أمور المعاش. وإذا تعذر على بعضهم الحضور يتناوب مع غيره كما كان يفعل عمر ﵁، قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على رسول الله ﷺ ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك" (١) . ولم يكن يتسنى للجميع سماع الحديث من الرسول ﷺ لما كانوا يقومون به من أعمال فكانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من أقرانهم وكانوا يشددون على مَنْ يسمعون منه، كما كانت القبائل البعيدة تبعث إلى النبي ﷺ من يتعلم أحكام الدين منه ثم يعود إليهم ليرشدهم ويعلمهم، وهكذا عاش الصحابة مع رسولهم ﷺ يشاهدون تصرفاته في عباداته _________ (١) صحيح البخاري (مع فتح الباري) ج١ ص١٦٧.
1 / 18
ومعاملاته وإذا عنَّ لهم أمر من الأمور يحتاجون للبيان فيه رجعوا إليه يسألونه فيجيبهم، ويفتيهم.
كما كان ﷺ يعلم النساء أمور الدين ويخصص وقتًا يجلس لهن فيه وكانت أمهات المؤمنين على درجة سامية من العلم؛ لذا وجد النساء عندهن الإجابة عن أمورهن وأحوالهن التي يمنعهن الحياء من التصريح بها أمام الرسول ﷺ كالأمور الخاصة بهن وإلى جانب هذه العوامل السابقة كانت هناك طرق كثيرة ساعدت على انتشار السنة، وقوّى نشاطَها اجتهادُ الرسول ﷺ في التبليغ وأثر أمهات المؤمنين الذي لا ينكر، ومن ذلك بعوثه ﷺ إلى القبائل لتعليمهم وإرشادهم، وكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، كما كان لغزوة الفتح أثر كبير في نشر كثير من السنن حيث قام النبي ﷺ خطيبًا بين ألوف المسلمين وغيرهم، معلنًا العفو عن أعدائه ومبينًا كثيرًا من الأحكام التي تناقلها الناس وحملوا توجيهه وإرشاده إلى أهلهم.
وبعد أن استتب الأمر يمم النبي ﷺ وجهه شطر المسجد الحرام حاجًا ومعه ألوف من المسلمين ألقى فيهم خطبته الجامعة (١)، التي تعد منهاجًا عامًا للدعوة الإسلامية تضمنت كثيرًا من الأحكام والسنن وفيها بيَّن الرسول ﷺ مناسك الحج ووضع من آثار الجاهلية ما أبطله الإسلام، فكانت من أعظم عوامل انتشار السنة بين كثير من القبائل والعشائر.
_________
(١) صحيح مسلم بشرح النووي ج٣ ص٣٣٣ ط الشعب.
1 / 19
ومعلوم أن الصحابة ﵃-لم يكونوا في مستوى واحد من العلم بل كانت تتفاوت درجاتهم العلمية ما بين مكثر ومقل ومتوسط تبعًا لظروف كل واحد منهم، إذ كان من بينهم البدوي والحضري، والمنقطع للعبادة، والمشتغل بأمر المعاش فكان أكثرهم علمًا أسبقهم إسلامًا كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن مسعود، أو أكثرهم ملازمة لنبيه ﷺ كأبي هريرة، أو أكثرهم كتابةً كعبد الله بن عمرو بن العاص.
ولكن السمات العامة للمسلمين آنئذٍ تبرز لنا الدوافع القوية التي حفزتهم على تلقي السنة النبوية حتى أودعوها حوافظهم القوية وصدورهم الأمينة مما جعل السنة الشريفة محفوظة جنبًا إلى جنب مع القرآن، وتلك الدوافع هي اقتداؤهم بنبيهم واستعدادهم الفطري واستجابتهم للقرآن والسنة.
1 / 20