Writing of Hadith: Between Prohibition and Permission
كتابة الحديث بين النهي والإذن
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
ژانرونه
كتابة الحديث بين النهي والإذن
الدكتور: أحمد بن محمد حميِّد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كتب على نفسه الرحمة، وأشهد أن محمدًا النبيَّ الأميَّ عبدُه ورسولُه أقام به الحجة على العالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام الطيبين وسلم تسليمًا أما بعد:
فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بنعم عظيمة وآلاء جسيمة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، فهي أمة الوسط، الشهيدة على الناس، وأكمل لها الدين وأتمَّ عليها النعمة، وتعهد بحفظ الدين وإظهاره على الدين كله ولو كره الكافرون، وحمل هذا الدين أقوامٌ نصحوا لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فحملوا العلم، واستفرغوا الوسع، وبذلوا الجهد، وواصلوا الليل بالنهار حتى وصل هذا العلم لمن بعدهم غضًّا طريًّا، وقد اتخذوا في نقله وسائل متعددة، واشترطوا شروطًا دقيقة في نقله ونقلته، بما لم يسبقوا إليه من الأمم السابقة، فرضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء، وكان من جملة الوسائل التي ساهمت في حفظ مصدري الدين الأساسين الكتاب والسنة تدوينهما وحفظهما في صحف وكتب حتى وصلت إلينا، وهي وإن لم تكن شرطًا في نقل العلم فإن وجودها مع توافر الشروط التي شرطها الأئمة ﵏ يزيد العلم وثوقًا، ويحفظه من الزيادة والنقص. واندراس العلم لأن حملته يفنون، وأما كتبهم فلا، وقد حث النبي ﷺ على كتابة العلم وحفظه وتبليغه دل على هذا قوله وفعله والوقائع المتكاثرة وكلها
1 / 1
تبين أن النبي ﷺ استخدم الكتابة وحث على استعمالها، وقد ورد عنه أيضًا أحاديث فيها نهي صريح عن كتابة السنة، واستغلها المناوئون للسنة ليستدلوا بها على أن السنة لم تدون على عهد النبي ﷺ وأن الصحابة امتثلوا لهذا النهي فلم يكتبوا، وأن كثيرًا من السنة لم تُدون، وهذا الأمر وإن كان عماده أوهى من بيت العنكبوت إلا أنهم طاروا به وزوقوه وجعلوه مطية لهم للطعن في السنة من وجه خفي، وهم يظنون أن عدم تدوينه - على زعمهم- أضاع كثيرًا من الأحاديث، وأن ما حفظ لا يسلم من التبديل والتغيير؛ لأن الحافظة خوانة، والذاكرة عرضة للنسيان، وجهلوا أو تجاهلوا ما لهذه الأمة الأميّة من خصائص لم تكن لمن سبق وأغمضوا أعينهم عن الوقائع المتكاثرة التي حصل فيها تدوين للسنة النبوية، وأغمضوا أعينهم كذلك من أن كراهة بعض الصحابة لكتابة الحديث ليس من أجل ما ذكر من نهي المصطفى ﷺ وإنما لأمور ذكروا عللها؛ ولذا كان لابد من تأصيل هذه المسألة وبيان أثرها، ولقد كان هذا الموضوع يراودني، وجمعت فيه نبذًا حتى هيأ الله لي هذه الفرصة الطيبة من خلال هذه الندوة المباركة - إن شاء الله تعالى- ندوة عناية المملكة العربية السعودية - وفقها الله - بالسنّة والسيرة النبوية، وكان أحد موضوعات محاورها "كتابة حديث النبي ﷺ بين النهي والإذن" فوافق مرادي وتقوًّتْ بها النية على استكمال هذا الموضوع، وقد وفق الله تعالى أن كتبت هذا البحث وفق الخطة التالية:
1 / 2
المقدمة.
الفصل الأول: وفيه مبحثان:
المبحث الأول: تعريف الكتابة في اللغة والاصطلاح.
المبحث الثاني: إطلاقات الكتابة في الشرع.
الفصل الثاني: الكتابة زمن البعثة النبوية وفيه مبحثان:
المبحث الأول: علاقة العرب زمن البعثة بالكتابة.
المبحث الثاني: الكتبة في العهد النبوي، والسبل التي وجهت إليها كتابتهم.
الفصل الثالث: فضل الكتابة وأثرها وفيه مبحثان:
المبحث الأول: فضل الكتابة.
المبحث الثاني: أثر الكتابة في حفظ العلم وقيمته.
الفصل الرابع: كتابة السنة على ضوء الأحاديث وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في النهي عن الكتابة.
المبحث الثاني: الأحاديث المتضمنة إباحة الكتابة.
الفصل الخامس: فهم الأحاديث السابقة وحكم كتابة الحديث وفيه مبحثان:
المبحث الأول: العلماء وموقفهم من الكتابة للحديث على ضوء ما ورد.
المبحث الثاني: فهم المخالفين لأحاديث النهي والإباحة.
الخاتمة وفيها نتائج البحث.
فهرس المراجع.
فهرس الموضوعات.
1 / 3
وكانت أبرز ملامح منهج البحث ما يلي:
١- تأصيل عناصره قدر الإمكان من الكتاب والسنة، وعزو الأقوال إلى قائليها وبيان موضعها.
٢- عزوت الآية بذكر رقمها من السورة عقب إيرادها.
٣- خَرَّجْتُ الأحاديث في الحاشية إلا أحاديث النهي والإباحة فإنها من صلب البحث.
٤- عزوت إلى الكتاب والباب والجزء إذا كان الحديث في الكتب الستة، فإن ذكرت الرقم بين قوسين فهو رقم الحديث في الكتاب، وإن جردته منه فهو رقم الصفحة، وإن كان من غير الكتب الستة اقتصرت على الجزء والصفحة أو الرقم بالقيد المذكور.
٥- الأحاديث التي أوردها للاستشهاد اقتصرت على ما في الصحيحين أو أحدهما، فإن لم يكن فيهما عمدت إلى الثابت من غيرهما ودراسة سنده والحكم عليه مع الاستعانة بأقوال أهل العلم إن وجدت.
٦- ما أوردته من أحاديث وكان في الصحيحين أو أحدهما اقتصرت بالعزو إليهما عن العزو إلى غيرهما وكذا الحكم عليها، إذ وجودها فيهما كاف عن الحكم بصحته، ما لم يكن فيه علة نص عليها أحد الأئمة الذين يُعْتَدُّ بهم.
٧- توسعت في تخريج ودراسة الأحاديث المتضمنة النهي عن الكتابة أو الإباحة؛ لأن قيمة الكلام عليها تقوم على مدى ثبوتها.
1 / 4
٨- اقتصرت في التخريج إذا ما كان من طريق شيخ واشترك أكثر من مصدر في تخريج هذا الطريق على أعلى المصادر، إلا إذا كانت هناك فائدة من زيادة أو نحوها.
٩- إذا كان سبب حسن الحديث أو ضعفه أحد الرواة فإني أحيل على تهذيب الكمال أو لسان الميزان، وإحالتي عليهما من باب الاختصار إذ إن هذه الإحالة تقتضي الرجوع إلى مصادر ترجمة كل راو في تلك الكتب.
١٠- رأيت من تمام الفائدة أن أشير إلى من كره الكتابة من الصحابة ﵃ وتخريج ما ورد عنهم وعلاقة هذه الكراهة بما ورد من النهي عنها.
١١- لما كان هذا البحث يخاطب المتخصصين فإني لم أترجم لأحد من العلماء الواردين في البحث؛ لشهرتهم عند أهل العلم.
١٢- اختصرت أسماء الكتب عن ذكرها كاملة ولا يخفى هذا عن أهل العلم.
١٣- كل ما ورد في هذا البحث من علماء الإسلام الذين لهم بادرة السبق، وأسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء سائلًا أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أتقدم بالشكر لله تعالى أولًا أن وفقني إلى كتابة هذا البحث، وثم الشكر لولاة الأمر في هذا البلد المبارك على عنايتهم بالعلم وأهله، ثم إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد‘ ممثلةً في مجمع الملك فهد حفظه الله لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة على إتاحة الفرصة لكاتب هذا البحث للمشاركة في هذه الندوة سائلًا الله للجميع التوفيق والسداد.
1 / 5
الفصل الأول: في تعريف الكتابة وإطلاقاتها في الشرع
المبحث الأول: في تعريف الكتابة في اللغة والاصطلاح
أولًا: الكتابة في اللغة
...
الفصل الأول: في تعريف الكتابة وإطلاقاتها في الشرع
المبحث الأول: تعريف الكتابة في اللغة والاصطلاح
أولًا: الكتابة في اللغة:
الكتابة مصدر من كتب الشيءَ يكتُبُه كَتْبًا وكِتابًا، وكتابةً أصلها من الكَتْبِ - بفتح الكاف وإسكان التاء هو ضم أديم إلى أديم بالخياطة، والكُتْبَةُ بالضم السير يخرز به، وكتب الدابة يكتبُها ويكتِبها كتبًا، وكتبَ عليها: خُزِمَ حياؤها بحلقة حديد، وجُمِعَ شفراها لئلا يُنْزى عليها.
وكتّبَ الشيء تكتيبًا هيَّأه، وأكتبتُ القربة إذا شددتها بالوكاء.
فالكتابة إذًا مأخوذة من الضم والجمع، ولذا سميت الخيل كتيبة، ويتحصل فيها جمع الحروف بعضها إلى بعض ولذا سميت كتابة (١) .
_________
(١) انظر: مختار الصحاح / ٥٦٢، لسان العرب ٣/٢١٦، القاموس المحيط ١/١٢١.
ثانيًا: تعريف الكتابة في الاصطلاح تعددت تعريفات الكتابة ولعل أجمعها: ما عرفها به ابن خلدون فقال: - بعد أن ذكرها في الصناعات - هي رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس (٢) . _________ (٢) مقدمة ابن خلدون /٤١٧.
ثانيًا: تعريف الكتابة في الاصطلاح تعددت تعريفات الكتابة ولعل أجمعها: ما عرفها به ابن خلدون فقال: - بعد أن ذكرها في الصناعات - هي رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس (٢) . _________ (٢) مقدمة ابن خلدون /٤١٧.
1 / 7
فهذا تعريف مانع خرج به التصوير الذي يدل على الكلمات المسموعة والمراد بالكلمات المسموعة أصل الكلام لأن اكتسابه سماعي، وهذا الكلام معبّر عما في نفس المتكلم.
وهناك تعريفات أخرى أعرضت عنها إما لغموضها (١)، أو لقصورها عن المراد (٢) .
_________
(١) صبح الأعشى ٢/٨٢.
(٢) البرهان في علوم القرآن ١/٣٧٦، التوقيف على مهمات التعاريف /٦٠٠.
1 / 8
المبحث الثاني: إطلاقات الكتابة في الشرع:
قد جاءت الكتابة ومشتقاتها في القرآن الكريم والسنّة النبوية لتدل على عدة معانٍ.
فالأصل في الكتابة النظم بالخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ، ويطلق كل واحد منها على الآخر، ولذا سمى كلام الله وإن لم يكتب كتابًا، كما قال جل ذكره: ﴿الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:١، ٢] .
والكتاب اسم للصحيفة مع المكتوب فيه كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ﴾ [الأنعام:٧] .
والكتابة وسيلة لمقصد في النفس، فقد تطلق الوسيلة على الشيء المراد في النفس ولذلك أطلقت الكتابة على أمور عدة وردت في الوحيين منها:
١ـ العلم كما قال تعالى: ﴿أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾ [القلم:٤٧] .
٢ـ الحكم كما قال تعالى: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾ [الأنفال:٧٥] .
٣ـ تطلق على الفرض كما قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة:١٨٣] .
٤ـ تطلق على التقدير والإيجاب كما قال تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ
1 / 9
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة:٢١] .
٥ـ تطلق على التقدير والقضاء كما قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا﴾ [التوبة:٥١] .
٦ـ تطلق على الحجة الثابتة من الله تعالى كما قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ [الحج: ٨] .
٧ـ تطلق على اختلاق الشيء وافتعاله كما قال تعالى: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا﴾ [الفرقان:٥] .
٨ـ تطلق بأصلها اللغوي كما قال تعالى: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: ٥٣] . أي ضمنا في زمرتهم.
٩ـ وأهل الكتاب من أُنْزِل عليهم كتاب من الله كاليهود والنصارى، وورد في آيات عديدة.
١٠ـ يطلق الكتاب على الكتب السابقة كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ [يونس:٣٧] .
١١ـ يطلق على القرآن الكريم: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [آل عمران:٣] .
١٢ـ يطلق على الكتب المنزلة جميعًا كما قال تعالى: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
1 / 10
وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ﴾ [البقرة:٢٨٥] .
١٣ـ تطلق على ابتياع العبد نفسه من سيده، بما يؤديه من كسبه، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ﴾ [النور:٣٣] .
١٤ـ تطلق على من ضم اسمه في ديوان الغزاة كما في الحديث أن رجلًا قال للنبي ﷺ "إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا" (١) .
١٥ـ الكتيبة هي الطائفة من الجيش وتكرر ذكرها في الحديث (٢) .
_________
(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة أو كان له عذر هل يؤذن له رقم (٣٠٠٦) عن قتيبة، وفي النكاح باب لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ذو محرم رقم (٥٢٣٣) عن علي بن المديني، ومسلم في الحج باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوه رقم (٣٢٧٢) عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب أربعتهم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس ﵄ وتمامه قال ﷺ "انطلق فحج مع امرأتك".
(٢) مفردات القرآن /٦٣٨، النهاية في غريب الحديث ٤/١٤٧.
1 / 11
الفصل الثاني: الكتابة زمن البعثة النبوية
المبحث الأول: علاقة العرب زمن البعثة النبوية بالكتابة
كان المجتمع العربي الذي بعث الله تعالى فيه نبيه ﷺ مجتمعًا ثقافته ومعرفته محدودتان بسبب طبيعة معيشته، إذ كان أكثرهم بدوًا رحلًا منشغلين بالحل والترحال، أو حضرًا مستقرين في حواضر بسيطة عماد معيشتها على تحصيل الحاجيات الضرورية عن طريق التجارة والزراعة والرعي والصناعة، فكانت كما وصفها الله جل وعلا أمة أمية في مواضع عدة من كتابه الكريم، وكانت منته الكبرى عليهم بأن بعث فيهم خاتم النبيين ﷺ فنهض بها بعد أن كانت قعيدة، وملأها نورًا بالعلم والهداية بعد أن كانت تعيش في ظلمات الضلال والجهل والخرافة، وصارت به متبوعة عزيزة منيعة مرهوبة الجانب بعد أن كانت ذليلة ضعيفة، وجمعها بعد أن كانت مفرقة مشتتة، ومننه جل شأنه عليها به لا تعد ولا تحصى، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوامِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة:٢] . وقد فسّر النبي ﷺ معنى الأميين بقوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"، وعقد الإبهام في الثالثة، "والشهر هكذا وهكذا"، يعني تمام ثلاثين" (١) .
_________
(١) أخرجه البخاري في الصوم باب قول النبي ﷺ "لا نكتب ولا نحسب" رقم (١٩١٣) عن آدم بن أبي إياس، ومسلم في الصيام باب وجوب صيام رمضان برؤية الهلال رقم (٢٥١١) عن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن الأسود بن قيس عن سعيد بن عمرو بن سعيد عن ابن عمر ﵄ به واللفظ لمحمد بن جعفر.
1 / 13
وهذا الوصف خرج مخرج الغالب من العرب، فقد وجدت القراءة والكتابة عند بعضهم، ولكن هذا لا ينافي وصف الأمة بأنها أمية (١)، مثلما وجد منهم بعض الحنفاء ومن كان يتمسك بالكتاب الأول لم ينف أنها أمة جاهلية فالاعتبار للأغلب.
والجزيرة العربية قامت فيها مدنيات قديمة بائدة قبل عصور طويلة من زمن البعثة النبوية كالدولة المعينية (٢) والقتبانية (٣) والسبئي (٤) والحميرية (٥) وغيرها، وعن الأخيرة أخذ المناذرة (٦) خط، ومن عاصمة تلك الدولة وهي الحيرة أخذه
_________
(١) انظر أحكام القرآن للجصاص٥ /٣٣٥، فتح الباري ٥/١٢٧ وقد قال جماعة من المفسرين إن المراد بالأمية أي لا كتاب عندهم ولا أثر لرسالة سماوية فيهم، ولا منافاة بين القولين - والله أعلم - لأن لفظ الأمي يشمل المعنيين، وقد يكون المرء أميًا من جهة - بمعنى لا يحسن القراءة والكتابة - وعالمًا من جهة أخرى، كحال أكثر الأمة إبان تشرفها بحمل الرسالة، فهي أمية من الجهة الأولى، وعالمة من الجهة الثانية، وقد يكون المرء محسنًا للقراءة والكتابة، وهو أمي باعتبار عدم علمه بما يقرأ كما قص الله علينا من نبإ بعض أهل الكتاب أن منهم أميين وهم يتلون الكتاب، انظر مجموع الفتاوى ١٧/٤٣٤.
(٢) دولة قامت في اليمن ٢٠٠٠ق. م ونسبتها إلى عاصمتها معين الواقعة بين نجران وشمال حضرموت، وتوسعت حتى شمل نفوذها خارج الجزيرة العربية، وانتهت على يد السبئيين.
انظر دراسات في تاريخ العرب القديم /٢١٣.
(٣) من الدول القديمة في الجنوب العربي يرجع بعض الباحثين عهدها إلى ١١٠٠ق. م وقد تفردت بأنظمة تسير أمورها ومن أشهر مدنها قتبان وتمنع وحريب وغيرها.
المصدر السابق /٢٤٧.
(٤) من أشهر الدول القديمة في اليمن قص الله شيئًا من نبئها في سورة سبإ والنمل ومن مدنها الشهيرة صرواح ومأرب.
المصدر السابق /٢٧١.
(٥) آخر الدول التي قامت في اليمن ملوكها التبابعة من مدنها ظفار وجرش ونجران، وانتهت على يد الأحباش.
المصدر السابق /٣٣٥.
(٦) دولة كانت تتبع الفرس تسكن الحيرة إلى الغرب من الفرات استمر حكمها نحو أربعمائة وخمس وستين سنة من عام ٢٦٨ - ٦٣٣م وسقطت على يد خالد بن الوليد ﵁.
المصدر السابق /٥٥٧.
1 / 14
أهل الحجاز وتعلموا منهم الكتابة كما هو مشهور عند أكثر أهل العلم (١)، وكان العرب يعظمون القراءة والكتابة ويعلون من شأن العالم بها، فكانوا يلقبون من أتقن الكتابة وأحسن العوم والرمي بالكامل (٢)؛ لأنهم يطلقون الكاتب على العالم، لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن يكون عنده علم ومعرفة (٣) .
وإنما لم يكن النشاط الكتابي ظاهرًا لأمور عديدة من أبرزها:
١- أنهم كانوا أمة بدوية بسيطة مقتصرة في حياتها على الضروريات، وإتقان الكتابة والمعرفة بها تابع للمدنية التي يعيشها أصحابها، فمتى توافرت أسباب المعيشة الضرورية انتقلوا إلى تحصيل الكماليات والتوسع فيها مثل الكتابة وتعاطي العلم ونحو ذلك (٤) .
٢- أنهم كانوا يعتمدون على الحفظ في الصدور لما آتاهم الله من قوة في الحافظة، وصفاء الطبع، وسيلان الذهن، وحدّة الخاطر فاستغنوا بها عن الكتابة (٥) .
٣- ندرة تحصيل أدوات الكتابة من أقلام وصحائف فلم يكن هناك انتشار لهذه الوسائل، وعمدوا إلى وسائل بدائية للكتابة من أمثال العظام
_________
(١) انظر فتوح البلدان /٤٥٦، المصاحف /٤، الأوائل /٥٧، مقدمة ابن خلدون /٤٢٨ والباحثون المعاصرون يختلفون اختلافًا شديدًا في منشأ الخط العربي ومصدره بناءً على ما توافر من نقوش أثرية مؤرخة في عهد الدول السابق ذكرها وغيرها.
(٢) الطبقات الكبرى ٣/٥٠٢، ٥٦٦، ٥٧٣.
(٣) النهاية في غريب الحديث والأثر ٤/١٤٨.
(٤) مقدمة ابن خلدون /٤٠٠.
(٥) هدى الساري/ ٦، مناهل العرفان ١/٢٨٦.
1 / 15
وألواح الخشب، وسعف النخيل والحجارة وتحصيل هذه الوسائل وإعداده صعب جدًا، فاقتصروا في الاستفادة بها على الضروريات من وثائق ومكاتبات ونحوهما (١) .
ويمكن أن تُحصر الأمور التي استفاد بها العرب من الكتابة على قلتها في جوانب شتى تظهر بالاستقراء مثل:
أـ كتب الديانات السابقة.
ب - كتابة العهود والمواثيق المنظمة لشؤون الأفراد والمجتمعات.
ج - الصكوك التجارية وحفظ الحقوق.
د - الرسائل الشخصية.
هـ - مكاتبة الرقيق.
وـ القصائد الشعرية والمفاخر القبلية والأنساب (٢) .
ز - الحكم والوصايا (٣) .
ح - كتب الأساطير القديمة (٤) .
ط - النقوش الحجرية كشواهد القبور (٥) .
وقد ورد عن العرب إقامة كتاتيب لتعليم القراءة والكتابة، في أماكن مختلفة مثل مكة المكرمة، والطائف ودومة الجندل.
_________
(١) مصادر الشعر الجاهلي /٧٧ فما بعدها.
(٢) مصادر الشعر الجاهلي /٦١ - ٧٣، ١٠٩، ١٦٤، ١٦٥.
(٣) المعمرون والوصايا/ ٢٣، ٢٤.
(٤) سيرة ابن هشام ١/٣٥٨.
(٥) في شمال غرب الجزيرة (الفهارس) .
1 / 16
وكان لأهل الكتاب اهتمام بتعليم الصبية القراءة والكتابة في الأماكن التي أقاموا فيها مثل المدينة المنورة (١) .
وكثير مما سبق ذكره من الشواهد يتوقف ثبوته على صحة سند روايته لكن وجود من يجيد القراءة والكتابة في عصر المبعث النبوي يدل على وجود حركة علمية - وإن كانت محدودة - خرّجت مثل أولئك الكتبة.
_________
(١) فتوح البلدان /٤٥٧، ٤٥٩.
المبحث الثاني: الكتبة في العهد النبوي والسبل التي وجهت إليها كتابتهم اتخذ رسول الله ﷺ من أصحابه الذين كانوا يحسنون الكتابة كتبة يكتبون بين يديه، وقد اعتنى العلماء بجمع أسمائهم، واختلفوا في تعدادهم، وتحصل لي من خلال الكتب التي عدّدتهم أربعة وأربعون كاتبًا (٢)،وجملة هؤلاء قد ينازع في ذكرهم، وقد يضاف إليهم آخرون وهذا يحتاج إلى تقصٍ واستقراء ودراسة أسانيد خبر كل واحد منهم. _________ (٢) تاريخ خليفة /٢٩٩، أنساب الأشراف ٢/١٩٢، تاريخ ابن جرير ٣/١٨٢، سنن البيهقي ١٠/١٢٦، تاريخ دمشق ٤/٣٢٤، الكامل في التاريخ ٢/١٣، سيرة الدمياطي /٦٧، عيون الأثر ٢/٣٨٣، زاد المعاد ١/١١٧، البداية والنهاية ٥/٣٣٩، الإشارة /٤٠٢، السيرة الحلبية ٣/٤٢٢، شرح المواهب اللدنية ٤/٥٣٣، وانظر: فتح الباري ٩/٢٢ والعجيب أنهم جميعًا ﵏ لم يذكروا عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ ضمن العدد المذكور، مع أن ما ورد في إثبات كتابته أصح بكثير ممن ينازع في ذكرهم ضمن الكتبة.
المبحث الثاني: الكتبة في العهد النبوي والسبل التي وجهت إليها كتابتهم اتخذ رسول الله ﷺ من أصحابه الذين كانوا يحسنون الكتابة كتبة يكتبون بين يديه، وقد اعتنى العلماء بجمع أسمائهم، واختلفوا في تعدادهم، وتحصل لي من خلال الكتب التي عدّدتهم أربعة وأربعون كاتبًا (٢)،وجملة هؤلاء قد ينازع في ذكرهم، وقد يضاف إليهم آخرون وهذا يحتاج إلى تقصٍ واستقراء ودراسة أسانيد خبر كل واحد منهم. _________ (٢) تاريخ خليفة /٢٩٩، أنساب الأشراف ٢/١٩٢، تاريخ ابن جرير ٣/١٨٢، سنن البيهقي ١٠/١٢٦، تاريخ دمشق ٤/٣٢٤، الكامل في التاريخ ٢/١٣، سيرة الدمياطي /٦٧، عيون الأثر ٢/٣٨٣، زاد المعاد ١/١١٧، البداية والنهاية ٥/٣٣٩، الإشارة /٤٠٢، السيرة الحلبية ٣/٤٢٢، شرح المواهب اللدنية ٤/٥٣٣، وانظر: فتح الباري ٩/٢٢ والعجيب أنهم جميعًا ﵏ لم يذكروا عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄ ضمن العدد المذكور، مع أن ما ورد في إثبات كتابته أصح بكثير ممن ينازع في ذكرهم ضمن الكتبة.
1 / 17
وإذا ثبت أن النبي ﷺ استفاد من هؤلاء الكتاب ﵃ فاستعماله لهم لا يخرج عن الوحيين الكتاب والسنّة.
فأما الأول فلا جدال في استعماله للكتبة في كتابة ما يوحى إليه من القرآن حيث كان يأمرهم بالكتابة عنه متى ما تنزل عليه الوحي، وهذا معلوم ضرورة لا يحتاج إلى شواهد وبيان.
وأما السنة وهي وحي من الله كما قال الله جل ذكره: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣، ٤] فكل ما صدر منه ﵊ من أقوال وأفعال وتقريرات وأحوال داخل في السنة وقد استعمل الكتابة في أمور كثيرة، مما يدل على مشروعية كتابة السنة وأنه قد كتب منها شيء كثير، وإن اتخذ البعض منها صور المراسلات والمعاهدات والوصايا أو بيان أحكام، فلا تخرج كلها عن السنة المطهرة، وقد ثبت أن الصحابة ﵃ كانوا يكتبون حديثه بنظره وإقراره كما قال عبد الله ابن عمرو ﵄ "بينما نحن حول رسول الله ﷺ نكتب إذ سئل أي المدينتين تفتح أولًا.... الحديث" (١) .
_________
(١) أخرجه أحمد ٢/١٦٧ عن يحيى بن إسحاق، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه رقم (١٥١٤) عن سعيد بن عفير، والطبراني في الكبير ١٣/٦٨ عن سعيد بن أبي مريم، والحاكم ٤/٥٥٥ عن ابن وهب أربعتهم عن يحيى بن أيوب عن أبي قبيل المعافري عن عبد الله ﵃. قال الحاكم: صحيح، وقال الذهبي في السير ٣/٨٧: حسن غريب، وهو كما قال يحيى بن أيوب هو الغافقي المصري مختلف فيه، وتكلم فيه من جهة حفظه، ويوجز ابن عدي حاله فيقول في الكامل ٧/٢٦٧٣ ولا أرى في حديثه إذا روى عنه ثقة أو هو يروى عن ثقة حديثًا منكرًا فأذكره، وهو عندي صدوق لا بأس به. وأما أبو قبيل فهو حيي ابن هانيء أطلق القول بتوثيقه أحمد وابن معين والعجلي وأبو زرعة وأحمد بن صالح، وروى الساجي منقطعًا عن يحيى بن معين أنه قال ضعيف، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان يخطئ، وتوثيق ابن معين الأول مقدم لصحة نسبته إليه ولموافقته الجماعة، وأما ابن حبان فمشهور بالشدة في الجرح كما هو معلوم من حاله ﵀، وانظر ترجمة أبي قبيل في تهذيب الكمال٧/٤٩٠، فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن والله أعلم.
1 / 18
واستقصاء ما كتبه رسول الله ﷺ مما يطول المقام بذكره وسأقتصر ههنا بإيراد بعض الشواهد التي تبين الوجوه التي استعملت فيها، وقيام الحجة بها من الصحيحين أو أحدهما:
أ- الرسائل الموجهة إلى ملوك الأرض في زمنه ﷺ يدعوهم إلى الله جل وعلا ويبين فيها واجبهم تجاه أقوامهم، وأن لهم ثواب قومهم مع ثوابهم إن هم أطاعوه، وإثمهم إن هم عصوه، وتضمنت تقرير الوحدانية لله وحده، وبعثته ﷺ إلى الناس كافة (١) .
ب- المعاهدات والصلح، وقد صالح النبي ﷺ وعاهد جماعة ودونت هذه المعاهدات والصلح وكتبها له أصحابه، وهي متضمنة أحكامًا واضحة في كيفية المعاهدات والأحكام المترتبة عليها (٢) .
ج- كتبه إلى عماله يبين لهم فيها ما يحتاجون إليه من أحكام شرعية وأمور تمس الحاجة إليها بتفصيل أحيانًا وبإجمال في أحيان أخرى.
د- كتابة لمن لم يستطع أن يحفظ الحديث الذي سمعه منه، وكتابة العلم تكون معينة على حفظ العلم وعدم نسيانه.
_________
(١) انظر كتابه ﷺ إلى هرقل في صحيح البخاري في بدء الوحي حديث رقم (٧) وفي الجهاد باب دعاء النبي ﷺ إلى الإسلام والنبوة رقم (٢٩٤٠)، وفي التفسير باب قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء رقم (٤٥٥٣)، وفي الاستئذان باب كيف يكتب الكتاب إلى أهل الكتاب رقم (٦٢٦٠)، وفي التوحيد باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها رقم (٦٥٤١)، ومسلم في الجهاد وباب كتب النبي ﷺ إلى هرقل رقم (٤٦٠٧) من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن أبي سفيان ﵃، وانظر طبقات ابن سعد ١/٢٢٢، وزاد المعاد ١/١١٩ فهناك نماذج كثيرة لهذا النوع.
(٢) انظر صلح الحديبية في صحيح البخاري كتاب الشروط باب الشروط في الجهاد والمصالحة رقم (٢٧٣١)، من حديث الزهري عن عروة عن مروان والمسور بن محزمة ﵃.
1 / 19
هـ- المكاتبات الحربية إلى الأعداء لمساءلتهم وإنذارهم وعرض ما لديه عليهم (١) .
ومكاتبات الأمان التي يؤمن بها الأعداء إذا سلّموا أو أسلموا (٢) .
ز- أمره ﷺ أن يكتب له أسماء الناس الذين أسلموا (٣) ليضع الأساس لمشروعية كتابة دواوين الجيوش (٤) .
ح- الكتابة عنه ﷺ تكون سببًا إلى رفع التنازع بين الأمة.
ط- نشر وتعميم الأحكام الشرعية إلى البلاد المجاورة (٥) .
هذه نماذج جمعتها من الصحيحين وفيها كفاية لبيان كيفية استفادة النبي ﷺ من الكتابة، وكتب السنة الأخرى تحتوي على نماذج كثيرة تحقق هذا المعنى.
_________
(١) كما في مكاتبة النبي ﷺ لأهل خيبر حينما قتل عبد الله بن سهل أخرجه البخاري في الأحكام باب كتاب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه رقم (٧١٩٢) عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل بن أبي أويس، ومسلم في القسامة رقم (٤٣٤٩) عن بشر بن عمر ثلاثتهم عن مالك عن أبي ليلى بن سهل عن سهل بن أبي حثمة عن كبار قومه به
(٢) كما في حديث مطاردة سراقة بن مالك ﵁ للنبي ﷺ وأبي بكر يوم الهجرة وكتابة أبي بكر ﵁ بأمر النبي ﷺ كتابًا لسراقة يؤمنه فيها أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب هجرة النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة رقم (٣٩٠٦) عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن مالك عن أبيه عن سراقة به.
(٣) أخرجه البخاري في الجهاد باب كتابة الإمام الناس رقم (٣٠٦٠) حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة ﵁ قال النبي ﷺ "اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس..... الحديث".
(٤) انظر ص ٥.
(٥) حديث ابن عباس أن النبي ﷺ كتب إلى أهل جُرش ينهاهم عن خليط التمر والزبيب، أخرجه مسلم في الأشربة باب بيان أن جميع ما ينبذ مما يتخذ من النخل والعنب يسمى خمرًا رقم (٥١٦٢) حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن الشيباني عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ﵄ به.
1 / 20
الفصل الثالث: فضل الكتابة، وأثرها
المبحث الأول: فضل الكتابة
استخلف الله جل وعلا آدم في الأرض، وتوالت عليه نعمه الجليلة، فخلقه من عدم، ورباه بالنعم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرةً وباطنة، وعلمه العلم الذي يكون به جديرًا لهذا الاستخلاف، وكان من أجل نعمه أن علمه البيان ليتعامل مع غيره، ويستفيد مما خلقه الله له فإن الإنسان تتمثل له المعاني في ذهنه، فيريد التعبير عنها فجعل له وسيلتين للبيان عما في ذهنه: أولاهما: البيان اللفظي، فجعل له آلة اللسان التي يعبر بها عن تلك المعاني ويترجم عنها بها لغيره، وثانيتهما: البيان الرسمي الخطي الذي يرسم به تلك الألفاظ فيتبين للناظر معانيها كما يتبين للسامع معاني الألفاظ، وقرر فضل البيان في سياق نعمه التي امتن بها على عباده فقال: ﴿الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن:١-٤]، وامتن بتعليم الكتابة والقراءة خاصة في أول سورة أنزلت على النبي ﷺ فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ١ـ ٥] .
وكان من جلال هذه النعمة أن ربط هذه النعم باسم الرحمن مفردًا، وباسم الأكرم على صيغة أفعل الذي هو الغاية في الكرم فلا شيء ولا نقص فيه (١) .
_________
(١) مجموع الفتاوى ١٦/٢٩٥، مفتاح دار السعادة ١/٢٧٨.
1 / 22
وقد تواردت الآيات والأحاديث في فضل الكتابة ومنزلتها من الشرع المطهر، فالقدر الذي هو ركن الإيمان السادس لا يتم الإيمان به إلا إذا آمن المرء أن الله كتب مقادير كل شيء بالقلم الذي قدّر به مقادير الخلائق قبل خلقها في كتاب عنده لا يضل ولا ينسى كما قال ﷺ "إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم، وأمره أن يكتب كل شيء" (١) . وهذا دليل على شرف الكتابة، فقد استأذن جماعة قتادة بن دعامة في الكتابة، فقالوا: نكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب (٢) .
والملائكة ﵈ يكتبون، وكل له اختصاص في كتابته. وشرف الكتابة وما يتعلق به مما يطول المقام بذكره. وكفى به شرفًا أن أقسم الله بالكتابة وآلتها وهي القلم كما قال تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم:١] .
قال الشمس ابن القيّم ﵀: "فأقسم الله بالكتاب وآلته وهو القلم وهو إحدى آياته وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه، وكتب به الوحي، وقُيِّد به الدين، وأثبتت به الشريعة، وحفظت به العلوم وقامت به مصالح العباد في المعاش والمعاد فوطدت به الممالك وأُمّنت به السبل والمسالك
_________
(١) أخرجه أبو يعلى ٣/٧ عن أحمد بن جميل وابن أبي عاصم في السنة ١/٥٠. عن يعمر بن بشر، وابن جرير في التفسير ١٤/١٦ عن نعيم بن حماد، وأبو نعيم في الحلية ٨/١٨١ عن أحمد بن يحيى الحلواني، وحبان ابن موسى خمستهم عن ابن المبارك عن رباح بن زيد عن عمر بن حبيب عن القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ﵄ به، وهذا إسناد صحيح وانظر في معناه التبيان في أقسام القرآن /٢٨.
(٢) تقييد العلم / ١٠٣.
1 / 23