مع المعلمين
المقدمة
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأكرم، الذي دلَّ الأمة على الخير وسلك بها الطريق الأمَمَ الأقوم.
أما بعد
فإن المعلمين هم حُماةُ الثُّغور، ومربو الأجيال، وسُقَاةُ الغرس، وعُمَّارُ المدارس، المستحقون لأجر الجهاد، وشكر العباد، والثواب من الله يوم المعاد.
ثم إن الحديث عن المعلمين ذو شجون؛ فلهم هموم وشؤون، ولهم آمال وآلام، وعليهم واجبات وتبعات.
ولقد يسر الله أن جمعت بعض الخواطر والنقول في هذا الشأن؛ فأحببت نشرها في صفحات؛ عسى أن تعم الفائدة بها.
وقد جاءت تلك الصفحات حاملةً المسمى الآتي:
مع المعلمين
فهي تدور مع المعلمين في شجونهم وشؤونهم، وفي أدبهم في أنفسهم، ومع زملائهم وطلابهم، إلى غير ذلك مما يدور في فلكهم.
فيا معاشر المعلمين سلامٌ من الله عليكم، وتحيات مباركاتٌ تُزجى إليكم، وثناء عليكم يَأْرَج كالمسك من محبٍّ لكم.
ثم إن هذه الصفحات مهداة إليكم فعسى أن تنال رضاكم، وتجد قبولًا عندكم.
فإلى تلك الصفحات، والله المستعان وعليه التكلان.
1 / 1
١ - استحضار فضل العلم والتعليم:
فللعلم شأن جلل، وفضل عظيم، ومكانة سامقة، فيحسن بالمعلمين أن يستحضروا هذا المعنى، ويضعوه نصب أعينهم وفي سويداء قلوبهم؛ فما يقدمونه في سبيل العلم يعلي ذكرهم، ويزكي علومهم، ويعود بالنفع عليهم وعلى أمتهم.
ولهذا فلا غرو أن تتظاهر آثار الشرع، وأقوال السلف، وكلمات الحكماء في بيان فضل العلم ونشره بين الناس.
قال -تعالى -: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: ١١) .
قال ابن عباس ﵄: العلماء فوق المؤمنين مائة درجة، ما بين الدرجتين مائة عام. (١)
قال وهب ابن منبه: يتشعب من العلم الشرفُ وإن كان صاحبه دَنِيًّا، والعز وإن كان صاحبه مهينًا، والقرب وإن كان قصيًّا، والغنى وإن كان فقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا. (٢)
_________
(١) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص٢٧.
(٢) تذكرة السامع والمتكلم ص٣٤.
1 / 2
وقال أبو الوليد الباجي في وصيته لولديه: والعلم لا يفضي بصاحبه إلا إلى السعادة، ولا يقصر عن درجة الرفعة والكرامة، قليله ينفع، وكثيره يعلي ويرفع، كنز يزكو على كل حال، ويكثر مع الإنفاق، ولا يغصبه غاصب، ولا يُخاف عليه سارق ولا محارب؛ فاجتهدا في تحصيله، واستعذبا التعب في حفظه والسهر في درسه، والنصب الطويل في جمعه، وواظبا على تقييده وروايته، ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته. (١)
وقال ابن حزم: لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك، وأن العلماء يجلونك - لكان ذلك سببًا إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر فضله في الدنيا والآخرة؟.
ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء، ويغبط نظراءه من الجهال - لكان ذلك سببًا إلى وجوب الفرار عنه، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة؟ . (٢)
وعن سفيان الثوري والشافعي ﵄: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم. (٣)
_________
(١) النصيحة الولدية، نصيحة أبي الوليد الباجي لولديه تحقيق إبراهيم باجس ص١٦.
(٢) الأخلاق والسير في مداواة النفوس لابن حزم ص٢١.
(٣) تذكرة السامع والمتكلم ص٣٦.
1 / 3
قال ابن جماعة بعد أن ساق جملة من الآثار عن السلف في فضل العلم: وقد ظهر بما ذكرنا أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوال العبادات البدنية من صلاة، وصيام، وتسبيح، ودعاء، ونحو ذلك؛ لأن نفعَ العلم يعم صاحبه والناسَ، والنوافل البدنية مقصورةٌ على صاحبها، ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات؛ فهي تفتقر إليه، وتتوقف عليه، لا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء -عليهم الصلاة والتسليم - وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيرُهُ من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياءَ الشريعة، وحفظ معالم الملة. (١)
هذا شيء من فضل العلم، أما فضل نشر العلم وبثه بين الناس فيكفي في ذلك قول المصطفى ": «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . (٢)
قال ابن جماعة في هذا الحديث: وأنا أقول: إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم؛ أما الصدقة فإقراؤه إياه العلم وإفادته إياه؛ ألا ترى إلى قوله في المصلي وحده: «من يتصدق على هذا» .
_________
(١) تذكرة السامع والمتكلم ص٣٧.
(٢) رواه مسلم (١٦٣١)، والترمذي (١٣٧٦)، والنسائي (٢٨٨٠) .
1 / 4
أي بالصلاة معه؛ لتحصل فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب المنتفع به فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة، وينال بها شرف الدنيا والآخرة.
وأما العلم المُنْتَفع به فظاهر؛ لأنه كان سببًا لإيصاله ذلك العلم إلى كل من انتفع به.
وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد المستقر على ألسنة أهل العلم والحديث قاطبة من الدعاء لمشايخهم وأئمتهم.
وبعض أهل العلم يدعون لكل من يذكر عنه شيء من العلم، وربما قرأ بعضهم الحديث بسنده، فيدعو لجميع رجال السند؛ فسبحان من اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل عطائه. (١)
قال الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي: فالمعلم مأجور على نفس تعليمه، سواء أفهم المتعلم أو لم يفهم؛ فإذا فهم ما علمه، وانتفع به بنفسه أو نفع به غيره - كان الأجر جاريًا للمعلم ما دام النفع متسلسلًا متصلًا.
وهذه تجارة بمثلها يتنافس المتنافسون؛ فعلى المعلم أن يسعى سعيًا شديدًا في إيجاد هذه التجارة؛ فهي من عمله وآثار عمله.
قال -تعالى -: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ (يس: ١٢) .
_________
(١) تذكرة السامع والمتكلم ص١٠٤ -١٠٥.
1 / 5
فـ ﴿مَا قَدَّمُوا﴾ ما باشروا عمله، ﴿وَآثَارَهُمْ﴾: ما ترتب على أعمالهم من المصالح والمنافع أو ضدها في حياتهم وبعد مماتهم. (١)
قال ابن جماعة: واعلم أن الطالب الصالح أعودُ على العالِم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب أهله إليه.
ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يُلْقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومِنْ بعدهم.
ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينفع الله بعلمه وهديه لكفاه ذلك الطالب عند الله -تعالى -؛ فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر. (٢)
فأكرم بالتعليم من مهنة، وأعظم به من شرف ومهمة.
أعَلِمْتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي ... يبني وينشئ أنفسًا وعقولا
(٣)
هذا وسيأتي مزيد بيان لفضل العلم والتعليم ضمنًا في الفقرات التالية.
_________
(١) الفتاوى السعدية ص٤٥٠ -٤٥١.
(٢) تذكرة السامع والمتكلم ص١٠٤، وانظر في فضل العلم إلى تذكرة السامع والمتكلم ص٢٧ -٣٩، ومفتاح دار السعادة لابن القيم ١ / ٤٨ -١٥٧، والعلم وأخلاق أهله لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ص٣ -١٦.
(٣) الشوقيات ١ / ١٨٠.
1 / 6
٢ - استشعار المسؤولية:
فمسؤولية التعليم عظيمة، والأمانة الملقاة على عواتق أهله كبيرة؛ فما طريق المعلمين بلا حبةٍ، ولا مهمتهم بيسيرة؛ فلقد تحملوا الأمانة وهي ثقيلة، واستحقوا الإرث وهو ذو تبعات، وينتظر منهم ما ينتظره المدلج في الظلام من تباشير الصبح؛ فإن الأمة ترجو أن يبنى بهم جيل قوي الأسر، شديد العزائم، سديد الآراء، متين العلم، متماسك الأجزاء.
ولا يقال هذا الكلام؛ تهويلًا، وإنما يقال؛ ترويضا؛ فمن وطن نفسه على المكروه هانت عليه الشدائد، ووجد كل شيء باسما جميلًا محبوبًا.
ومن تخيل الراحة، وحكم أخيلتها في نفسه، ثم كذبته الآمال -كان بين عذابين، أمضَّهما كذب المخيلَة. (١)
قال ابن حزم: وطن نفسك على ما تكره يَقِلَّ هَمُّك إذا أتاك، ويعظمَ سرورُك ويتضاعف إذا آتاك ما تحب مما لم تكن قدَّرْتَه. (٢)
فيا معاشر المعلمين، إنكم عاملون فمسؤولون عن أعمالكم، فمجزيون عنها من الله، ومن الأمة، ومن التاريخ، ومن الجيل الذي تقومون عليه كيلًا بكيل، ووزنًا بوزن؛ فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ولكم من الله فضل جزيل، ومن التاريخ والأمة ثناء جميل.
_________
(١) انظر عيون البصائر للشيخ محمد البشير الإبراهيمي ص٢١٥ -٢١٩.
(٢) الأخلاق والسير في مداواة النفوس ص٢٦.
1 / 7
وإن قصرتم فقد أسأتم لأنفسكم ولأمتكم، وإن لما يبوء به المقصرون من الندامة والمرارة ما يحلو معه بخع النفوس، وإتلاف المهج.
وتلك هي الحالة التي نعيذ أنفسنا - معاشر المعلمين - بالله من تسبيب أسبابها، وتقريب وسائلها.
كيف وقد نهى ديننا الحنيف عن التقصير في الواجبات، ونعى التفريط في الحقوق، وبين آثاره وعواقبه، وحض على الأعمال في مواقيتها، وقبح الكسل، والتواكل، والإضاعة، فشرع لنا بذلك كل شرائع الحزم والقوة وضبط الوقت والنفس مالم يشرعه قانون، ولم تأت به عقلية.
وما أخَذَنا بذلك إلا ليأخذ بِحُجَزِنا عن التَّهَوّي في الكسل والبطالة، ويقينا تَجَرُّعَ مرارة الندم، وحرارة الحسرة. (١)
قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ (النساء: ٥٨) .
وقال ﷿: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب: ٧٢) .
وقال النبي ": «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» . (٢)
_________
(١) انظر عيون البصائر ص٢٨٨ -٢٨٩.
(٢) رواه البخاري (١٨٩٣)، ومسلم (١٨٢٩) .
1 / 8
فيا معاشر المعلمين، إنكم رعاة ومسؤولون عن رعيتكم، وإنكم بناة وإن الباني لمسؤول عما يقع في البناء من زيغ أو انحراف.
وإذا كان في الأنابيب حيف ... وقع الطيش في صدور الصِّعَاد
فالتعليم هو التكوين الأول للناشئة، وعلى أساسها يبنى مستقبلهم في الحياة؛ فإن كان هذا التكوين صالحًا كانوا صالحين لأمتهم ولأنفسهم، وإن كان مختلًا ناقصًا زائغًا بنيت حياة الجيل كله على فساد، وساءت آثاره في الأمة وكانت الأمية أصلح لها، وأسلم عاقبة.
قال الحكيم العربي:
إذا ما الجرح رمَّ على فساد ... تَبَيَّن فيه تفريط الطبيب
وقال شوقي:
وإذا المعلم ساء لحظَ بصيرةٍ ... جاءت على يده البصائرُ حُولا
(١)
إن تبعة ذلك تلقى على المعلمين الكرام؛ فلينظروا أي موقف أوقفتهم الأقدار فيه، وليشدوا الحيازيم لأداء الأمانة على وجهها، وليعلموا أنهم إنما يبنون للأمة من كل جيل ساقًا حتى يعلو البناء ويشمخ، وإن البناء لا يعلو قويًا، صحيحًا، متماسك الأجزاء، متعاصيًا على الهزات والزلازل - إلا إذا كان الأساس قويًا متينًا، متمكنًا ركينًا. (٢)
_________
(١) الشوقيات ١ / ١٨٣.
(٢) انظر آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ٣ / ١٦١ و١٥٧ وعيون البصائر ٢٨٨ و٢٨٩.
1 / 9
إذا كان الأمر كذلك فإنه لا يحسن بنا - معاشر المعلمين - أن نتنصل عن المسؤولية، أو أن نلقي بالتبعات على غيرنا، فنلقي بها على البيت، وفساد الزمان، وقلة المعين وما إلى ذلك..
بل نقوم بما هو فرض علينا، ونؤدي الأمانة المنوطة بنا على أكمل وجه وأتمه.
قال العلامة محمد البشير الإبراهيمي في وصيته للمعلمين: إنكم تجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك، رعاياها أطفال الأمة؛ فسُوسُوهُمْ بالرفق والإحسان، وتَدَرَّجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلةٍ أكملَ منها.
إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمة بين أيديكم، سلمتهم إليكم أطفالًا؛ لتردوها إليها رجالًا، وقدمتهم إليكم هياكل؛ لتنفخوا فيها الروح، وألفاظًا؛ لتعمروها بالمعاني، وأوعية؛ لتملؤها بالفضيلة والمعرفة. (١)
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الصدد أن مسؤولية التربية والتعليم لا تقتصر على معلمي الشريعة أو اللغة أو ما يدور في فلكهما.
_________
(١) آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ٣ / ١٦١.
1 / 10
بل هي عامة، ومناطة بكل معلم ومرب؛ فالعلم النافع الذي دل عليه الكتاب والسنة هو كل علم أثمر الثمار النافعة، وأوصل إلى المطالب العالية، فكل ما زكى الأعمال، ورقى الأرواح وهدى إلى السبيل - فهو من العلم النافع، لا فرق في ذلك بين ما تعلق بالدنيا أو بالآخرة؛ فشرف الدين لازم لشرف الدنيا، وسعادة المعاش مقترنة بسعادة المعاد.
والشريعة بكمالها وشمولها أمرت بتعلم جميع العلوم النافعة من العلم بالتوحيد وأصول الدين، ومن علوم الفقه والأحكام، ومن العلوم العربية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والحربية، والطبية، إلى غير ذلك من العلوم التي يكون بها قوام الأمة، وصلاح الأفراد والمجتمعات. (١)
_________
(١) انظر الدين الصحيح يحل جميع المشاكل للشيخ ابن سعدي ص٢٠، والدلائل القرآنية في أن العلوم النافعة داخلة في الدين الإسلامي للشيخ ابن سعدي ص٦، وانظر ومضات فكر للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ص١٣٤.
1 / 11
٣ - لزوم التقوى بكل حال:
فالتقوى هي العدة في الشدائد، والعون في الملمات، وهي مهبط الرَّوْح والطمأنينة، ومتنزل الصبر والسكينة، وهي مِرقاة العز، ومعراج السمو إلى السماء، وهي التي تُثبِّتُ الأقدام في المزالق، وتربط على القلوب في الفتن.
فما أحوجك أخي المعلم إلى تقوى الله ﷿ وما أجدرك بدوام مراقبة ربك في سرك وعلانيتك، وفي أقوالك وأعمالك؛ فإنك أمين على ما أودعك الله من العلوم، وما منحك من الحواس والفهوم.
ومن لزوم التقوى طهارةُ الباطن من الأخلاق الرديئة، والمحافظةُ على شعائر الإسلام كإقامة الصلاة في المساجد، وإفشاء السلام للخواص والعوام، وما يستتبع ذلك مما سيرد ذكره في ما سيأتي -إن شاء الله تعالى -. (١)
_________
(١) انظر تذكرة السامع والمتكلم ص٤٣، وعيون البصائر ص٢٩١.
1 / 12
٤ - الإقبال على القرآن وقراءته بتدبر وتعقل:
فالقرآن هو الذي ربى الأمة وأدبها، فزكى منها النفوس، وصفى القرائح، وأذكى الفِطَن، وجلا المواهب، وأرهف العزائم، وأعلى الهمم، وصقل الملكات، وقوَّى الإرادات، ومكَّن للخير في النفوس، وغرس الإيمان في الأفئدة، وملأ القلوب بالرحمة، وحفز الأيدي للعمل النافع، والأرجل للسعي المثمر، ثم ساق هذه القوى على ما في الأرض من شر وباطل وفساد فَطهرها منه تطهيرًا، وعمرها بالحق والإصلاح تعميرًا.
والقرآن هو الذي جلا العقول على النور الإلهي فأصبحت كشافة عن الحقائق العليا، وطهر النفوس من أدران السقوط والإسفاف إلى الدنايا فأصبحت نزاعة إلى المعالي، مُقْدِمَةً على العظائم؛ فلم يزل بها هذا القرآن حتى أخرج من رعاة النَّعم رعاة الأمم، وأخرج من خمول الأمية أعلامَ العلمِ والحكمة.
وبهذه الروح القرآنية اندفعت تلك النفوسُ بأصحابها تفتح الآذانَ قبل البلدان، وتمتلك بالعدل والإحسانِ الأرواحَ قبل الأشباح. (١)
فحقيق علينا -معاشر المعلمين - أن نقبل على كتاب ربنا -جل وعلا - قراءةً، وتدبرًا، وفهمًا، وعقلًا، واهتداءً بهديه، وتخلقًا بأخلاقه؛ لنحظى بأجلِّ الخيرة، ونظفر بحميد العاقبة.
_________
(١) انظر آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ١ / ٨٨ -٩٣ و٢٥٢ -٢٥٣، و٢٩٨.
1 / 13
٥ - ملازمة ذكر الله ﷿ -:
فبذكر الله تطمئن القلوب، وتزكو النفوس، وتزول الهموم والغموم.
قال -تعالى -: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: ٢٨) .
ثم إن ذكر الله يهون الصعاب، ويزيد في القوة، قال ابن القيم في معرض حديثه عن فضائل الذكر: إن الذكر يعطي الذاكرة قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه.
وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه، وكلامه، وإقدامه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر.
وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا. (١)
زيادة على ذلك فإن ملازمة الذكر يعد من أجل الأعمال إن لم يكن أجلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة ذكر الله دائمًا هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة. (٢)
وأفضل الذكر بعد القرآن تلك الكلمات الأربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وكذلك لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فهذه الكلمة لها تأثير عجيب في ثبات القلب، ومعاناة الأشغال، وركوب الأهوال. (٣)
_________
(١) الوابل الصيب لابن القيم ص١٠٦.
(٢) مجموع الفتاوى ١٠ / ٦٦٠.
(٣) انظر الوابل الصيب لابن القيم ص١٠٧.
1 / 14
٦ - وقل ربي زدني علمًا:
فلا تستنكف من التعلم، ولا تقنع بما لديك من العلم، فالعلم أساس ترفع عليه قواعد السعادة، ولا تنفتح كنوزه إلا بتدقيق النظر ممن تصدى للإفادة والاستفادة.
فيا أيها المعلم المبارك أعيذك بالله من صنيع بعض المعلمين؛ فما أن ينال الشهادة التي تؤهله للتعليم إلا وينبذ العلم وراءه ظهريًا، إما اشتغالًا عن العلم، أو زهدًا به، أو ظنًا منه أنه قد استولى بالشهادة على الأمد، وأدرك بها الغاية القصوى من العلم.
وما هي إلا مدة ثم ينسى كثيرًا مما تلقاه من العلم أيام الطلب، وإذا تمادى به الأمر كاد أن يعدَّ من جملة العوام.
فما ذلك المسلك بسديد ولا رشيد؛ فلم يقض حق العلم، بل لم يدر ما شرف العلم ذلك الذي يطلبه لينال به رزقًا، أو ينافس به قرينًا، حتى إذا أدرك وظيفة، أو أنس من نفسه الفوز على القرين -أمسك عنانه ثانية، وتنحى عن الطلب جانبًا.
1 / 15
وإنما ترفع الأوطان رأسها، وتبرز في مظاهر عزتها بهمم أولئك الذين يقبلون على العلم بجد وثبات، ولا ينقطعون عنه إلا أن ينقطعوا عن الحياة، لا تحول بينهم وبين نفائس العلوم وعورةُ المسلك، ولا طول مسافة الطريق، بعزم يبلى الجديدان وهو صارم صقيل، وحرص لا يشفي غليله إلا أن يغترفوا من العلوم بأكواب طافحة. (١)
فالاشتغال بالعلم، والتزود منه -يثبته، ويزيده، ويفتح أبوابه.
ولو لم يأت من ذلك كله إلا أن الاشتغال بالعلم يقطع عن الرذائل، ويوصل إلى الفضائل.
قال ابن حزم: لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أن يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية، ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم، وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس -لكان ذلك أعظمَ داعٍ إليه، فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره؟ . (٢)
قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تَعَلَّم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده -فهو أجهل ما يكون. (٣)
كيف لا وهذا رسول الله " وهو المعلَّم والمزكَّى من الله ﷿ يأمره الله أن يقول: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: ١١٤) .
قال الإمام الشافعي:
_________
(١) انظر السعادة العظمى للشيخ محمد الخضر حسين ص٢ ورسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين ١ / ٨٥ و٨٩.
(٢) الأخلاق والسير ص٢١.
(٣) تذكرة السامع والمتكلم ص٦٠.
1 / 16
إذا هجع النُّوَّام أسبلت عبرتي ... وَرَدَّدْتُ بيتًا وهو من ألطف الشعر
أليس من الخسران أن لياليًا ... تَمُرُّ بلا علمٍ وتحسب من عمري
(١) .
قال أبو إسحاق الإلبيري في فضل العلم والمواظبة على طلبه:
أبا بكرٍ دعوتُك لو أَجَبْتَا ... إلى ما فيه حَظُّك إنْ عقلتا
إلى علم تكون به إِمامًا ... مطاعًا إن نهيت وإن أمرتا
وتجلو ما بعينك من عَشَاها ... وتهديك السبيلَ إذا ضللتا
وتحمل منه في ناديك تاجًا ... ويكسوك الجمالَ إذا اغْتَرَبْتَا
ينالك نَفْعُهُ ما دمت حَيًّا ... ويبقى ذُخْرُه لك إن ذهبتا
هو العَضْبُ المُهَنَّدُ ليس ينبو ... تصيب به مقاتل من ضربتا
وكنز لا تخاف عليه لِصًّا ... خفيف الحمل يوجد حيث كنتا
فلو قد ذقت من حلواه طعمًا ... لآثرت التعلم واجتهدتا
ولم يشغلك عنه هوىً مطاعٌ ... ولا دنيا بزخرفها فُتنتا
ولا ألهاك عنه أنيقُ روضٍ ... ولا خِدْرٌ بِرَبْرَبِهِ (٢) كَلِفتا
فَقُوتُ الروح أرواحُ المعاني ... وليس بأن طعمت وأن شربتا
فواظبْه وخذ بالجد فيه ... فإن أعطاكه الله أخذتا
(٣)
_________
(١) غذاء الألباب للسفاريني ٢ / ٤٤٤
(٢) الربرب: القطيع من البقر الوحشي، حيث شبه النساء الجميلات بالبقر الوحشي.
(٣) ديوان أبي إسحاق الإلبيري الأندلسي حققه د. محمد رضوان الداية ص٢٦.
1 / 17
٧ - الإخلاصَ الإخلاصَ: (١)
فالإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقي للفلاح، والإخلاص هو الذي يحمل على مواصلة عمل الخير، وهو الذي يجعل في عزم الرجل متانة، ويربط على قلبه إلى أن يبلغ الغاية.
وكثير من العقبات لا يساعدك على العمل لتذليلها إلا الإخلاص.
ولولا الإخلاص يضعه الله في قلوب زاكيات لحرم الناس من خيرات كثيرة تقف دونها عقبات.
ومدار الإخلاص على أن يكون الباعث على العمل أولًا امتثال أمر الله، وابتغاء وجهه ﷿.
ولا حرج على من يطمح بعد ذلك إلى شيء آخر كالفوز بنعيم الآخرة، والنجاة من أليم عذابها.
بل لا يذهب بالإخلاص بعد ابتغاء وجه الله أن يخطر ببال الإنسان أن للعمل الصالح آثارًا طيبة في هذه الحياة الدنيا، كطمأنينة النفس، وأمنها من المخاوف، وصيانتها من مواقف الهون، إلى غير ذلك من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد بها إقبال النفوس على الطاعات قوة إلى قوة.
_________
(١) انظر أدب الطلب للشوكاني ص١٣٣ ورسائل الإصلاح ١ / ٩ -١٢، وآثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ٤ / ١٤٢، والمدرس ومهارات التوجيه للشيخ محمد الدويش ص٤٤ -٤٥.
1 / 18
والذي يرفع الشخص إلى أقصى درجات الفضل إنما هو الإخلاص الذي يجعله الإنسان حليف سيرته، فلا يقدم على عمل إلا وهو مستمسك بعروته الوثقى، ولا تبالغُ إذا قلت: إن النفس التي تتحرر من رق الأهواء ولا تسير إلا على ما يمليه عليها الإخلاص هي النفس المطمئنة بالإيمان، المؤدبة بحكمة الدين ومواعظه الحسنة؛ فذلك الإخلاص هو الذي يسمو سلطانهُ على كل سلطان، ويبلغ أن يكون مبدأً راسخًا تصدر عنه الأعمال بانتظام.
ثم إن العمل المثمر هو الذي ينبني على عقيدة؛ لئلا يتناقض، وما تدفعه إرادة؛ لئلا يتراجع، وما يحثه جهاد؛ لئلا يقف، وما يصحبه تجرد؛ لئلا يتهم، وما ينتشر؛ لئلا يضيق فيضيع، وما تكون غايته الخير؛ لئلا يكون فسادًا في الأرض.
وذلك إنما يكون بالإخلاص؛ فإن للإخلاص تأثيرًا عظيمًا في هذا الشأن؛ فمن تَعَكَّسَتْ عليه أمورُه، وتضايقت عليه مقاصده فليعلم أن بذنبه أصيب، وبقلة إخلاصه عوقب.
فإذا كان الإخلاص بهذه المثابة، وإذا كان له تلك المآثر فحقيق علينا -معاشر المعلمين - أن نضعه نصب أعيننا، وأن نجاهد أنفسنا على التحلي به، وأن نربي من تحت أيدينا عليه؛ لكي يتخرجوا رجالًا يقوم كل منهم بالعمل الذي يتولاه بحزم وإتقان.
1 / 19
وإن مما يعين على التحلي بالإخلاص أن تعلم أخي المعلم أن الإخلاص يثمر لك أن تتمتع بما يتمتع به غيرك من مزايا مادية، وإجازات وترقيات، وتزيد عليهم أن تتذوق عملك، وتعشق مهمتك، وتقبل عليها بكل ارتياح وسرور، وأن جميع ساعاتك التي تقضيها في إعداد دروسك، وفي ذهابك إلى المدرسة وإيابك منها مدخرة لك عند الله ﷿.
أما الآخرة -وهي المقصود الأعظم، والمطلب الأسمى -فهناك أي ثواب ستناله، وأي أجر ينتظرك؟ هذه أمور علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، والله يضاعف لمن يشاء.
1 / 20