Wisdom
الحكمة
خپرندوی
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
ژانرونه
الحكمة
الشيخ ناصر بن سليمان العمر
إلى متى عدم الحكمة؟
عندما ألقيت محاضرة (الحكمة) في الرياض، كان أول سؤال يرد إلي بعد الانتهاء من المحاضرة: (إلى متى الحكمة)؟ فازدادت قناعتي أن هذه الصحوة تحتاج إلى جهود مضاعفة لتوجيهها إلى المنهج الشرعي، منهج أهل السنة والجماعة، قبل أن تزل العقول والأقدام.
وإذا كانت بذلت جهود مباركة -ولا تزال تبذل- من أجل عودة الناس إلى دينهم وعقيدتهم، وحيث حققت هذه الجهود -بعد توفيق الله وبتوفيق منه ﷾ تلك الآثار الإيجابية التي نراها من عودة الأمة إلى الله جماعات وآحادا، رجالًا وركبانًا، فإن واجب العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يوجهوا جل اهتمامهم لتربية هذه الجموع، ويبينوا لهم الطريق الصحيح، لئلا تغرق السفينة بمن فيها، فإن العبرة ليست (بالكم) ! ولكن (بالكيف) !!.
ولذا رأيت أن من الحكمة طرح موضوع الحكمة بحكمة، وأسأل الله التوفيق والسداد وحسن القصد والمآل. المؤلف
1 / 1
تقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: ١٠٢) .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: ١) .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (الأحزاب: ٧٠، ٧١) .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
1 / 2
قال الله -جل وعلا-: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة: ٢٦٩) . وقال -سبحانه-: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: من الآية ١٢٥) .
فلما للحكمة من مكانة عظيمة من الكتاب والسنة، ولحاجة الأمة حاضرًا ومستقبلًا إليها في كل شؤونها، ولخفاء معنى الحكمة على كثير من المسلمين، فقد قمت ببحث هذا الموضوع في ضوء القرآن الكريم، مسترشدًا بآياته، مستشهدًا بقصصه، متأملًا لأوامره ونواهيه، مع النهل من معين السنة في فهم معنى الحكمة؛ لأن السنة هي المصدر الثاني من مصادر تفسير القرآن الكريم وفهمه.
كما أفدت من كلام السلف من الصحابة ومن بعدهم، توضيحًا لمعاني الحكمة ومدلولاتها، وقد بذلت جهدي، وحرصت على ضرب بعض الأمثلة من الواقع المعاصر تقريبًا للفهم، وتحقيقًا للقصد.
وقد عشت مع هذا الموضوع مدة طويلة متأملًا وباحثًا ومحققًا، ولم أقدم على تدوينه ونشره إلا بعد قناعتي بأنه قد استوى على سوقه، مع حاجة الناس إليه.
1 / 3
أسأل الله أن يحسن لنا المقاصد والنيات، وأن يوفقنا للحكمة في أقوالنا وأفعالنا، ونياتنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
1 / 4
أهمية الموضوع
تظهر أهمية موضوع الحكمة من خلال التأمل في العناصر التالية:
١- أن لفظ "الحكيم" ورد في القرآن الكريم عشرات المرات (١) .
٢- أن "الحكيم" اسم من أسماء الله -تعالى-.
٣- أن الله قد أمر بالحكمة، فقال -سبحانه-: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل: من الآية ١٢٥) .
٤- أن الله أثنى على صاحب الحكمة، فقال: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: من الآية ٢٦٩)، وامتن على لقمان حيث آتاه الحكمة، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ (لقمان: من الآية ١٢) .
٥- أن الله نسب الحكمة إلى نفسه، وجعل إيتاءها من عنده، فقال: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ (البقرة: من الآية ٢٦٩)، وقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ (لقمان: من الآية ١٢) . وقال: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (يوسف: من الآية ٢٢)، وقال: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (البقرة: من الآية ٢٥١) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
_________
(١) ورد بلفظ «حكيم» (٨١) مرة، و«حكيما» (١٦) مرة.
1 / 5
٦- أن الحكمة، هي: الفقه في دين الله، كما فسرها كثير من السلف، والرسول ﷺ يقول: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (١) .
٧- أن الحكمة ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها.
٨- أن الرسول ﷺ دعا لابن عمه، عبد الله بن عباس ﵄ فقال: «اللهم علمه الحكمة» (٢) .
٩- أن مدار نجاح الدعوات على الحكمة.
١٠- الفهم الخاطئ لمعنى الحكمة من قبل كثير من الناس.
١١- مداهنة الظالمين، وضياع الحق، والسكوت على الباطل في كثير من بلاد المسلمين باسم الحكمة.
١٢- أن الحكمة ظلمت من قبل الخاصة والعامة، فالخاصة وهم بعض صغار طلاب العلم، فمنهم من يدعيها لنفسه، وينسب أعماله إلى الحكمة، وقليل ما هم.
والعامة يصفون كل من أمرهم بخلاف ما هم عليه من هوى أو شهوة، وأنكر بدعهم وضلالاتهم، يسمونه بعدم الحكمة، كالتطرف والعجلة، ونحو ذلك مما يضاد الحكمة.
١٣- أن الصحوة الإسلامية في يقظتها المعاصرة أحوج ما تكون إلى الحكماء.
_________
(١) البخاري (٧١)، ومسلم (١٠٣٧) عن معاوية ﵁.
(٢) البخاري (٣٧٥٦) .
1 / 6
١٤- أن بعض المواقف والأعمال التي قامت بها بعض الجماعات الإسلامية، وبعض الدعاة الغيورين كانت تفتقر إلى الحكمة، كالدخول في معارك عسكرية مع الأنظمة، حتى وإن كانت كافرة (١) وقد جرت مثل هذه الأعمال على أمتنا عمومًا، وعلى الدعاة خصوصًا الويلات.
ومثل ذلك أسلوب الاغتيالات، أو إحراق أماكن الفساد في بلد لا يملك فيه المسلمون السلطة.
وكل ذلك بسبب عدم الحكمة الناشئ عن الجهل في فهم النصوص ودلالاتها.
ومن خلال ما سبق تتضح أهمية الحكمة، بل أهمية الحديث عنها في ضوء القرآن الكريم.
_________
(١) وهذا لا يعني إبطال الجهاد، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة ولكن الجهاد له شروطه وأسبابه وأحكامه.
1 / 7
١- المعنى اللغوي للحكمة
قال ابن فارس: الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو: المنع، وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة؛ لأنها تمنعها.
والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، والمحكم: المجرب المنسوب إلى الحكمة، قال طرفة:
ليت المحكم والموعوظ صوتكما ... تحت التراب إذا ما الباطل انكشفا
أراد بالمحكم الشيخ المنسوب إلى الحكمة (١) .
وقال ابن منظور:
قيل: الحكيم:
ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (٢) .
وقال الجوهري:
الحكم: الحكمة من العلم.
وصاحب الحكمة: المتقن للأمور.
وقد حكم- بضم الكاف، أي: صار حكيما، قال النمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحكما
قال الأصمعي: أي: إذا حاولت أن تكون حكيما، والمحكم -بفتح الكاف- هو الشيخ المجرب، المنسوب إلى الحكمة (٣) .
وقال في (تاج العروس):
والحكمة -بالكسر- العدل في القضاء كالحكم، والحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والعمل بمقتضاها، ولهذا انقسمت إلى علمية وعملية، ويقال: هي هيئة القوة العقلية العلمية.
وقيل: الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعمل.
_________
(١) معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (حكم) جـ ٢ / ٩١.
(٢) لسان العرب مادة (حكم) ١٥ / ٣٠.
(٣) الصحاح مادة (حكم) ٥ / ١٩٠١.
1 / 8
فالحكمة من الله: معرفة الأشياء، وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان: معرفته، وفعل الخيرات.
وأحكمه إحكاما: أتقنه، ومنه قولهم للرجل إذا كان حكيما: قد أحكمته التجارب.
وأحكمه: منعه من الفساد (١) .
وفي (المصباح المنير): الحكمة وزان قصبة للدابة، سميت بذلك؛ لأنها تذللها لراكبها حتى تمنعها الجماح ونحوه.
ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال (٢) .
هذه أهم المعاني اللغوية التي وردت في الحكمة وأصلها.
وكلها تدور حول المنع؛ لأنها تمنع صاحبها من الوقوع فيما يذم فيه، أو ما قد يندم عليه، وتمنعه من اختيار المفضول دون الفاضل، أو المهم قبل الأهم.
_________
(١) تاج العروس مادة (حكم) ٨ / ٣٥٣.
(٢) المصباح المنير ١ / ٢٠٠.
1 / 9
الحكمة في القرآن الكريم
ورد لفظ الحكمة في القرآن الكريم عشرين مرة، في تسع عشرة آية، في اثنتي عشرة سورة، وقد ورد لعدة معان، وتفصيل ذلك كما يلي: اختلف المفسرون في تفسير الآيات الواردة بلفظ الحكمة، فنجد مقاتل -كما ذكر الرازي - يقول: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه:
أحدها: مواعظ القرآن، قال -تعالى- في سورة البقرة، الآية: ٢٣١: ﴿وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ (البقرة: من الآية ٢٣١) ومثلها في آل عمران.
وثانيهما: الحكمة بمعنى: الفهم والعلم، ومنه قوله - تعالى -: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: من الآية ١٢)، وفي سورة لقمان (الآية: ١٢) ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ (لقمان: من الآية ١٢) يعني: الفهم والعلم، وفي (الأنعام الآية: ٨٩): ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ (الأنعام: من الآية ٨٩) .
1 / 10
ثالثها: الحكمة بمعنى النبوة، ففي النساء ٥٤: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (النساء: من الآية ٥٤)، وفي (ص ٢٠) ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (ص: من الآية ٢٠) وفي البقرة: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (البقرة: من الآية ٢٥١) .
ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، ففي النحل ١٢٥ ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ﴾ (النحل: من الآية ١٢٥)، وفي (البقرة ٢٦٩) ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: من الآية ٢٦٩) (١) .
ويقول الفيروزآبادي: وردت -الحكمة- في القرآن على ستة أوجه:
الأول: بمعنى النبوة والرسالة، ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (آل عمران: من الآية ٤٨) . ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ﴾ (صّ: من الآية ٢٠) ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (البقرة: من الآية ٢٥١) . أي: النبوة.
الثاني: بمعنى القرآن والتفسير والتأويل، وإصابة القول فيه: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: من الآية ٢٦٩) .
_________
(١) انظر: التفسير الكبير للرازي ٧ / ٦٧ والحكمة في الدعوة إلى الله ص ٢٠.
1 / 11
الثالث: بمعنى فهم الدقائق والفقه في الدين ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: من الآية ١٢) .
الرابع: بمعنى: الوعظ والتذكير ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (النساء: من الآية ٥٤) . أي: المواعظ الحسنة، ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ (الأنعام: من الآية ٨٩) .
الخامس: آيات القرآن وأوامره ونواهيه ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل: من الآية ١٢٥) .
السادس: بمعنى حجة العقل على وفق أحكام الشريعة، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ (لقمان: من الآية ١٢) أي: قولًا يوافق العقل والشرع (١) .
وقال ابن كثير:
قال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله (٢) .
وقال -أيضًا-: روي عن ابن عباس مرفوعًا: الحكمة القرآن، يعني تفسيره.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ (البقرة: من الآية ٢٦٩) . ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن.
وقال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم.
_________
(١) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ٢ / ٤٩٠ والحكمة في الدعوة إلى الله ص١٨.
(٢) تفسير ابن كثير ١ / ٣٢٢.
1 / 12
وقال أبو مالك: الحكمة: السنة.
وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل.
وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي: الفقه في الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله.
قال السدي: الحكمة: النبوة.
وهذه الأقوال ذكرها ابن كثير ثم عقب قائلًا: والصحيح أن الحكمة -كما قال الجمهور- لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص (١) ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث (٢) .
وقال عبد الرحمن السعدي مفسرًا الحكمة:
الحكمة، هي: العلوم النافعة والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام (٣) .
وقال القاسمي في تفسير الحكمة:
قال كثيرون: الحكمة: إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى: معرفة الحق والعمل به (٤) .
وقال الرازي: والمراد بالحكمة: إما العلم، وإما فعل الصواب (٥) .
ونواصل الحديث عن (الحكمة) في كتاب الله كما بينها المفسرون.
فقد قال رشيد رضا مفسرًا:
_________
(١) لأن كل رسول نبي ولا عكس.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير ١ / ٣٢٢.
(٣) انظر: تفسير ابن سعدي ١ / ٣٣٢.
(٤) انظر: تفسير القاسمي ١ / ٢٤٥.
(٥) انظر: تفسير الرازي ٧ / ٦٧.
1 / 13
الحكمة: التمييز بين ما يقع في النفس من الإلهام الإلهي والوسواس الشيطاني (١) .
قال الألوسي: وفي (البحر): إن فيها تسعة وعشرين قولًا لأهل العلم، قريب بعضها من بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحًا واقتصارًا على ما رآه القائل فردًا مهمًا من الحكمة، وإلا فهي في الأصل: مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها (٢) .
أما ابن عاشور فقد قال:
وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض، ولا يغلط في العلل والأسباب (٣) .
ونختم أقوال المفسرين في الحكمة بما ذكره سيد قطب ﵀ حيث فسر الحكمة بأنها:
القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال (٤) .
هذه خلاصة لأهم أقوال المفسرين في تفسير معنى الحكمة في كتاب الله، ونستطيع أن نقول: إن المفسرين فسروا الحكمة بتفسيرين:
الأول: النبوة.
الثاني: العلم والإتقان، والتوفيق، والبصيرة، والعمل الصائب، ومنع الظلم، ووضع الشيء في موضعه، وكلها معان متقاربة.
_________
(١) المنار ٣ / ٧٥.
(٢) روح المعاني ٢ / ٤١.
(٣) التحرير والتنوير ٣ / ٦١.
(٤) في ظلال القرآن ١ / ٣١٢.
1 / 14
الحكمة في السنة
السنة هي المفسرة للقرآن، وهي المصدر الثاني للتشريع، ولذا سأذكر بعض الأحاديث التي وردت في الحكمة مع الاختصار في ذلك:
وقد وردت بعض الأحاديث الصحيحة، وكثير من الأحاديث الضعيفة.
وسأقتصر على أهم الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، مع ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، وبخاصة المشتهر منها على الألسنة.
أولًا: الأحاديث الصحيحة:
١- عن ابن عباس ﵄ قال: «ضمني رسول الله ﷺ إلى صدره، وقال: " اللهم علمه الحكمة» (١) رواه البخاري.
قال البخاري: الحكمة: الإصابة في غير النبوة.
قال ابن حجر: واختلف المراد بالحكمة هنا:
فقيل: الإصابة في القول.
وقيل: الفهم عن الله.
وقيل: ما يشهد العقل بصحته.
وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس.
وقيل: سرعة الجواب بالصواب.
ومنهم من فسر الحكمة هنا بالقرآن (٢) .
٢- عن أنس بن مالك ﵁ قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله ﷺ قال: «فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري ثم أطبقه» رواه البخاري (٣) .
_________
(١) البخاري (٣٧٥٦) .
(٢) انظر: فتح الباري ٧ / ١٠٠ والحكمة في الدعوة إلى الله ص ٢٣.
(٣) البخاري (٣٤٩)، ومسلم (١٦٣) .
1 / 15
٣- وعن عبد الله ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (١) . رواه البخاري.
والحكمة هنا فسرت بالقرآن، كما وردت في حديث آخر. (٢)
٤- وعن أبي بن كعب ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «إن من الشعر حكمة» (٣) . حديث صحيح.
قال ابن حجر: إن من الشعر حكمة، أي: قولًا صادقًا مطابقًا للحق.
وقيل: أصل الحكمة: المنع، فالمعنى: إن من الشعر كلامًا نافعًا يمنع من السفه (٤) .
٥- وعن أبي هريرة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يمان والحكمة يمانية» حديث صحيح (٥) .
قال ابن الصلاح:
إن المراد بالحكمة: العلم المشتمل على المعرفة بالله (٦) .
ومعاني الحكمة في هذه الأحاديث قريبة من المعاني التي ذكرتها عند بيان الحكمة في كتاب الله.
_________
(١) البخاري (٧٣)، ومسلم (٨١٦) .
(٢) انظر: فتح الباري ١ / ١٦٧.
(٣) انظر: فتح الباري ١٠ / ٥٤٠، والحكمة في الدعوة إلى الله ص ٢٤.
(٤) البخاري (٦١٤٥) .
(٥) البخاري (٤٣٨٨)، ومسلم (٥٢) .
(٦) فتح الباري ٦ / ٥٣٢، والحكمة في الدعوة إلى الله ص ٢٤.
1 / 16
ولعل مما يجدر ذكره هنا أن هناك بعض الأحاديث المشتهرة على الألسنة في الحكمة مع أن أسانيدها ضعيفة، مع الإشارة إلى جودة معناها، وأنها لا تخرج عن كونها حكمًا، إذا ما يثبت صحة نسبتها إلى رسول الله ﷺ، ومنها:
١- «إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدًا في الدنيا وقلة منطق، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة» رواه أبو هريرة، وروي عن أبي خلاد، وهو ضعيف (١) .
٢- «الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» وفي لفظ: «حيث وجدها جذبها»، وهو مروي عن أبي هريرة وعلي، وهو ضعيف جدًا (٢) .
٣- «من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه» روي عن أبي أيوب، وهو ضعيف (٣) .
٤- «الطمع يذهب الحكمة من قلوب العلماء» روي عن أنس، وهو موضوع (٤) .
٥- «قلب ليس فيه حكمة كبيت خرب» روي عن ابن عمر، وهو ضعيف (٥) .
٦- «رأس الحكمة مخافة الله» روي عن ابن مسعود، وهو ضعيف (٦) .
٧- «الرفق رأس الحكمة» روي عن جرير، وهو ضعيف (٧) .
٨- «الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في العزلة، وواحد في الصمت» رواه أبو هريرة، وهو حديث ضعيف جدا (٨) .
٩- «الحكمة تزيد الشريف شرفا، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك» روي عن أنس، وهو ضعيف (٩) .
_________
(١) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (٥٠٨) .
(٢) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (٤٣٠٢) .
(٣) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (٥٣٦٩) .
(٤) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (٣٦٥٩) .
(٥) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (٤١٠٧) .
(٦) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (٣٠٦٦) .
(٧) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (٣١٥٩) .
(٨) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث ٢٧٨٧.
(٩) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (٢٧٨٦) .
1 / 17
١٠- «أنا دار الحكمة وعلي بابها» روي عن علي، وهو موضوع (١) .
_________
(١) انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (١٣١٣) .
1 / 18
الحكمة كما عرفها بعض العلماء
هناك عدة تعريفات أخرى للحكمة وهي لا تخرج عن معنى التعريفات السابقة، ولكن ذكرها يزيد الأمر وضوحا، ومن ذلك:
١- قيل: هي وضع الشيء في موضعه (١) .
٢- وقال ابن القيم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك، إنها: معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان (٢) .
٣- وقال رشيد رضا: الحكمة: العلم الصحيح، الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير (٣) .
٤- قال الرازي: حكم الحكمة والعقل، هو الحكم الصادق المبرأ من الزيغ والخلل، وحكم الحسن والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة (٤) .
وأخيرا: لعل خير خلاصة تجمع أغلب هذه المعاني التي وردت في الحكمة هي أنها: "فعل (٥) ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي" (٦) .
ولنأخذ، مثلا، يوضح ذلك:
الأمر بالصلاة، مما ينبغي، والأمر بشرب الخمر، لا ينبغي. وعلى الوجه الذي ينبغي، فقد يكون -الأمر بالصلاة- تذكيرا، أو أمرا، أو ضربا حسب الأحوال (٧) .
وفي الوقت الذي ينبغي، وذلك بمراعاة الزمان والمكان، وهذا له عدة صور وأحوال تجب مراعاتها.
_________
(١) معجم لغة الفقهاء ص ١٨٤، والحكمة في الدعوة إلى الله ص ٢٩.
(٢) التفسير القيم ص ٢٢٦.
(٣) المنار ٣ / ٧٧.
(٤) تفسير الرازي ٧ / ٦٧.
(٥) والقول فعل.
(٦) مدارج السالكين ٢ / ٤٧٩.
(٧) فأمر ابن سبع ليس كأمر ابن عشر، ولا كأمر ابن عشرين، وأمر الابن ليس كأمر الجار أو غيره، فلكل مقام مقال.
1 / 19
أقسام الحكمة
قال ابن القيم: والحكمة، حكمتان: علمية، وعملية. فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقا وأمرا، قدرا وشرعا. والعملية، كما قال صاحب المنازل: وضع الشيء في موضعه.
قال: وهي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه.
الدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحظ بره في منعه. ومن معاني هذه الدرجة قول أهل الإثبات والسنة: إنها -أي الحكمة- الغايات المحمودة المطلوبة له -سبحانه- بخلقه وأمره، التي أمر لأجلها، وقدر وخلق لأجلها.
الدرجة الثالثة: أن تبلغ في استدلالك البصيرة، وفي إرشادك الحقيقة، وفي إشاراتك الغاية. قال ابن القيم: يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم، وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة على سائر الأمة، وهي أعلى درجات العلماء (١) .
_________
(١) انظر: مدارج السالكين، منزلة الحكمة ٢ / ٤٧٨.
1 / 20