على ما قالت العلماء في حمّاد وخلَف وابن دأْب وأضرابِهم، ممن نحلَ القدماء شعرَه فاندمج في أثناء شعرهم، وغلب في أضعافه، وصعُب على أهل العناية إفرادُه وتعسّر، مع شدة الصعوبة حتى تكلّف فلْي الدواوين واستقراءُ القصائد فنُفِي منها ما لعلّه أمتن وأفخم، وأجمع لوجوه الجوْدة وأسباب الاختيار مما أثبت وقُبِل. وهؤلاء مُحدثون حضريّون، وفي العصر الذي فسد فيه اللسان، واختلطت اللغة وحُظِر الاحتجاجُ بالشعر، وانقضى مَنْ جعله الرواة ساقة الشعراء.
فإن قلت: فما بالُ هذا النّمط والطريقة، وهذه المنقَبة والفضيلة ينفردُ بها الواحد في العصر وهو مشحون بالشعر، وكان فيما مضى يشمل الدّهْماء ويعم الكافة؟ قلت لك: كانت العرب ومَنْ تبعها من السلَف تجري على عادةٍ في تفخيم اللفظ وجمال المنطق لم تألفْ غيرَه، ولا أنِسها سواه، وكان الشعرُ أحدَ أقسام منطقها، ومن حقّه أن يُختص بفضل تهذيب، ويُفرَد بزيادة عناية، فإذا اجتمعت تلك العادة والطبيعة، وانضاف إليها التعمّل والصنعة خرج كما تراه فخمًا جزْلًا قويًا متينًا.
وقد كان القومُ يختلفون في ذلك، وتتباينُ فيه أحوالهم، فيرقّ شعرُ أحدهم، ويصلُب شعرُ الآخر، ويسهل لفظُ أحدهم، ويتوعّر منطقُ غيره؛ وإنما ذلك بحسَبِ
1 / 17