أسماء المشخصين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
أسماء المشخصين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الوزير ابن زيدون مع ولادة بنت المستكفي
الوزير ابن زيدون مع ولادة بنت المستكفي
تأليف
إبراهيم الأحدب الطرابلسي
أسماء المشخصين
ابن زيدون:
ذو الوزارتين أبو الوليد.
أبو المحاسن:
صاحبه ونديمه.
أبو عامر:
الوزير ابن عبدوس الملقب بالفار.
صاحبه حسان.
ولادة بنت المستكفي.
مهجة القرطبية:
صاحبتها.
أم رحمة:
عجوز يرسلها أبو عامر إلى ولادة.
أربع جوار:
لولادة يحضرن معها ينشدنها الأغاني.
جنديان:
من جنود ملك قرطبة. «محل وقوعات هذه الرواية في قرطبة من الأندلس.»
الفصل الأول
الواقعة الأولى (ولادة - جواريها - مهجة)
ولادة :
أناجي اشتياقي والجوى يعلن النجوى
وأضرع من وجدي لمولاي بالشكوى
وأهفو بقلب رائع الشوق راعه
لفرط الذي ألقاه من شدة الأهوا
وإن كان ما بي لا يحل محرم
عراه ولا يسطو على محكم التقوى
فهل من أرجي طعم من بقربه
يعين على وصلي ولا يضمر السلوى
فأنعشن بالمغنى فؤادي الذي غدا
بما راح يروي من حديث الهوى يروى (مع الجواري.)
الجواري (عروض) :
يا قلب ليه لا تنثني
دور
جسمي فني لما عني
وجدا بمن قلبي خطف
دور
من منجدي من مسعدي
يوما بمن حاز الشرف
خانة
مولى سما بدر السما
قدرا له كل عرف
غطة
ذاك الذي في حبه
قلبي غدا عاني الأسف
ولادة :
ترجمتن بلساني، وأعربتن عما في جناني، وشرحتن وجدي بأبي الوليد، وولهي الذي ما عليه مزيد، ذاك الوزير الذي عقل فؤادي هواه، وران على قلبي تعشق محياه، كما أني كلفة بآدابه الغر، وصبة بإنشاد أشعاره الزهر، لا سيما أبياته الحسان التي رجحت بها للشعر أوزان، وقد شبب فيها بمحاسني الفضاحة، واصطبح بإدارة راحها من وجهي على الصباحة، ووصف فتور أجفاني وفتونها، وحاور البدائع بحور عيوني لما ورد من المعاني عيونها، وتغزل بلين قوامي إذ مالت به نسيم الدلال، وخلب الألباب بنعت عطفه إذ جار على القلوب بالاعتدال، من ذلك قوله وقد أصاب سهم لحظي منه الغرض، وترك فؤاده واجبا بمسنون ما له فرض.
أصبت قلبي بسهم قد قضى غرضا
وسن مشروع تهيامي بما فرضا
فرحت أعرض عن صحبي مجيب ندا
هواك رغم عذول بيننا اعتراضا
يا غادة شمت برقا من مباسمها
أنشا سحاب دموع للأسى ومضا
يا من سخطت على الدنيا إذا منعت
قربي ولم ألق منها بالوصال رضا
جرى القضا أنني لا أستفيق هوى
ومن يرد لمشروع الغرام قضا
لله ضوء محياك الذي طلعت
شمس الضحى منه فوق الرمح حين أضا
ونظم ثغر إذا ما لاح جوهره
غدا له كل در فائق عرضا
هنالك القلب يقضي ما يؤمله
وما عليه إذا عانى الردى وقضا
مهجة :
لقد أجاد بالإنشاء والإنشاد، وحرك بما سكن إليه قلب الجماد، وهذه الأبيات زهيرية الغرام وإن لم تكن حوليات صدرت عن فؤاد صادره الجوى، وأورده بلا صدر مشروع الهوى، فهل جمعك وإياه مكان تمتعت بلا عين فيه العينان، وأبدت حركات الجفون عبارات الضمائر، وأعربت نفثات العيون عن السرائر أو كانت النظرة عن عرض فأثرت بفؤاده، وأنبتت سنبل العشق بدون حصاده؟
ولادة :
إن النظر كان عن غير قصد وإن أصاب السهم فؤاده بالعمد.
مهجة :
إذن؛ كيف كان ذلك الأمر الذي أضرم بأدنى شرارة في أحشائه الجمر؟
ولادة :
إني كنت سانحة في ساحة القصر، وقد هصرت يد نسيم العجب قوامي أي هصر، فنظرت في شمائلي التي تسير بمعناها الشمائل وفكرت في روض وجناتي التي تفتحت بها ورود الخمائل؛ فعوذت محاسني بياسين من إصابة العين، وأنشدت بألحان الحجاز هذين البيتين:
أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكن عاشقي من لثم ثغري
وأعطي قبلتي من يشتهيها
ثم تلفت كما يفعل الغزال وأملت عطفي بيد الدلال، فألفيت الوزير ابن زيدون يرنو إلي ويريد أن يلقي بنفسه علي، فأجفلت من أمامه خوف الافتضاح، ومصافحة أكف المنون بأعمال الصفاح فكان كل منا مصابا بسهم هواه، يشكو بألسنة الضمائر حر جواه، وقد بلغني أنه كلف بجمالي وأسير بحبائل دلالي ، وأنا أعاني لواعج الوجد كذلك، وأرقب لرؤيته طلعة البدر في الليل الحالك، فترجمن عن ولهي بالمغنى، ولا تجاوزن إصابة المعنى.
الجواري (عروض إيلا وصلمه) :
آه وا شوقي لأوقات الوصال
والهوى نحوي براح الأنس مال
ويميني في حما مهد اللقا
بالتهاني قابلت منه الشمال (عروض ما عندنا غير الشجون شهناز بوسليك):
هيهات أن تخفي العيون
سرا لذي وجد مصون
والحسن يدعو ذا الهوى
كن مغرما بي فيكون
الواقعة الثانية (الحاضرون - الوزير أبو عامر)
وأنا امرء بيد الجوى
قنصته أشراك الهوى
وبهوة البلوى هوى
لما رنت منك الجفون
الجوارى (كرك حجاز) :
دور
روعتنا فاعتزلنا
أفلم تكن بالحبيب
دخلت من غير إذن مثل
الرقيب المريب
الوزير (منه) :
دور
نعم دخلت ولكن
أرشدني عرف طيب
من ورد خد شهي
عسى يكون نصيبي
جواري (منه) :
دور
فلا ترم نيل أنس
من ذات حسن عجيب
لها هوى في كريم
سواك مولى أديب
وزير :
يا ذات الدلال وربة الجمال، قد استفزني إنشاد بيت المعالي مع بيت القبلة التي تشتهيها آمالي، فحققي ما أعربه ذلك المغنى وأفهمه اللفظ من المعنى، وما عليك إذا جدت على الفقير البائس بحقيقة ما أنشدته من تلك النفائس؟ فيتحقق صدق الكلام بمطابقة الواقع، ويكون حظي بطلعة محياك سعيد الطالع.
ولادة :
هيهات ذلك أن يكون! تلك نفثات أشفع بتشديد عزائمها سحر العيون، أما بلغك عني ما شاع في الأنام، من أن ما أنشده هو حبائل العشق والغرام، أصيد به من يدعي قوة الباس، وأترك أسد العرين يدين لظبي الكناس؛ فلا يكن لك طمع في تقبيلي وإن مت أسفا، وقضيت بتكليف نفسك ما لا يمكن كلفا، ألم أكن معدودة من أفاضل الشعراء، وقد رفع لي عند فريق الأدب أعظم لواء، وهم يقولون - أيها الوزير - ما لا يفعلون، وفي كل واد من شعوب الكلام يهيمون، فاقصر طرفك على لمح محاسني دون مد يد، وإلا أقيم عليك من ماضي جفني أعظم حد، ولا أزيدك على هذا الشرح الآن وها أنا تاركة لك المكان.
الوزير :
قفي قليلا أيتها الشمس وتداركي بنفيس أنسك النفس.
الواقعة الثالثة (الوزير أبو عامر)
الوزير أبو عامر :
هيهات أن يكون للشمس عند غروبها مطلع، وما أوتي عاشق قبلي آية يوشع ...
يا ظبية أوقعت قلبي بأشراك
من الجفون ولم أجنح لإشراك
وصيرتني بأدنى لحظة قنصا
معقول عقل بهدب الجفن عيناك
هواك حل بقلبي عاقدا أبدا
له بتحريم طرفي غير مرآك
وصرت أرقب شهب الأفق من وله
إذا ذكرت ابتساما من ثناياك
والبدر في ليل تم أستريح له
إذ لا أرى كنهه إلا محياك
وما ذكرتك إلا رحت منتشيا
من خمرة مزجت طيبا بذكراك
فهل سبيل إلى وصل يكون به
جمع لشمل محب بات يهواك
فألقط الدر من لفظ يدير على
سمعي قديم حديث منه حلاك
وللعيون بأسرار الهوى نبأ
عن الضمير إذا وافت لنجواك
سهم الفتون عن قسي الحواجب، ندب فؤادي لمشروع الغرام الواجب، ورسول العشق بوحي الجفون لبى دعوته بالتصديق قلبي المفتون، وبأدني لمحة من ذلك المحيا الجميل؛ رحت بلا عقل ولا قود قتيل جفنها الكليل.
الواقعة الرابعة (الوزير أبو عامر - صاحبه حسان)
حسان :
أحترم حضرة الوزير بتقديم السلام، وأخصه بمزيد الثناء والاحترام.
وزير :
وعليك أزكى التحية ونفحات الثناء المسكية ... هل سمعت ما أحدث به نفسي وأشرح به أخبار أمسي.
حسان :
نعم سمعتك تنشد فؤادا ضل في تيه الغرام، وتسجع على أفنان الأماني بفنون الهيام، فأي سهم أصابك؟ وما الذي بناب ضاريه نابك؟
وزير :
سمعت من هذا المكان إنشاد بيتين، فأسرعت لأقتص عين الأثر بلا عين، فوجدت به بديعة جمال فتان، في أحداقها لسكر الألباب أقداح خمرة الحان، تفسد عقيدة الناسك بما في ورد خديها من الصلاح، وتتعب القلوب براحة لطفها دون راح، فاستعدتها ذلك الإنشاد وطلبت بالخبر تحقيق خبرها المستفاد، فأتلعت جيدها ونفثت من ألفاظها سحرا أو سكرا، وشرحت بلا تورية لكليمها صدرا، ومشت أمامي مشي السحاب لا ريث ولا عجل، وتركتني بما أدارته علي من خمر حديثها أعثر بدموع الخجل، فهل عندك من هذا النبأ العظيم أثر، أقف من رفع مبتدئه على حقيقة الخبر، فقد ذهبت والقلب معها رهين، وخلفتني بلطف شمائلها لا أعرف الشمال من اليمين، فعرفني حديثها المرفوع، واحمل إلي من بيان شأنها ما يجمل به للسرور موضوع، وأزل بتعريف إشارتك ذلك الإبهام، واكشف في مجاز كلامك عن حقيقة أمرها بالتمام.
حسان :
كيف تم لك رؤية الشمس في الأرض، وعرضت نفسك للعناء بما يطول به العرض، ووقعت من أجفان ظبية الأندلس في أشراك، وألقيت فؤادك من غاب أهدابها في براثن كل فتان فتاك، وتركته من وجناتها يصلى بنار تلظى فكان بها الأشقى، ولم تتق بكف النظر مرامي سهام عينيها كما يفعل الأتقى، كيف كان حالك وقد أتلعت نحوك جيد ريم رامه، وما شأن صبرك وقد شهدت شهد مبسمها ولم تذق منه المدامة؟ وأين ذهب لبك وهي ببرد المحاسن تميل، وأنى تكحلت بالكرى وقد أبصرت كحل أجفانها بدون ميل؟ ومن ثبت فؤادك على ما ألقي عليه من وحي العيون وهل بقي لك عقل وأنت مصاب بسهام هاتيك الجفون؟ لله محاسن تلك الأحداق، وتعطف ذلك القوام الذي أقام حرب الهوى على ساق! وتفتح ورود تلك الوجنات الشهية بكف الحياء، ونفحات هاتيك الأنفاس الزكية بما يكبو من عرفه الكباء! ماذا أقول بوصف تلك الغيداء الحوراء اللعساء اللمياء الهيفاء الوطفاء الحسناء؟! وخلاصة ما أقول في نعتها بإجمال الكلام: إن الشمس تشرق من غلالتها ويمتد من سناها بدر التمام.
الوزير :
فصمت عرى اصطباري، وأعدمتني قراري، وأضعت مني الحواس، وأسكرتني بلا كاس، وتركت فرائصي ترتعد ولظى مهجتي تتقد، وجعلت قلبي يخفق كقرط تلك الحسناء البهية، وصيرت حظي أسود كنقطة خالها المسكية، ونبهتني على ما خفي عني من بدائع صفاتها؛ إذ لم أستطع أن أثبت نظري في جنان وجناتها، فمن تلك الرواح الرود، والغادة التي حسنها مشهود، أفصح بالتعريف، وأحسن بيانها بالتلطيف.
حسان :
تلك التي ثلث محياها النيرين، وأبان فرقها ضياء الفرقدين، وسرى النسيم يقض في الرياض المسك من أخلاقها، وفاقت بلقيس على عرش الجمال وإن لم يطمع أحد بكشف ساقها، واستحوذت بقرطيها على ملك الخافقين، وطلعت الشمس والقمر من وجنتيها في المشرقين، مع أدب غض نضير، وطبع تعبر عن لطفه أنفاس العبير؛ وبالجملة لا يرى مثلها على الإطلاق، ولا يطرب الحجاز بغير وصفها في شام ولا عراق.
الوزير :
كفاني ما دار على سمعي من كئوس تلك الأوصاف، وحسبك ما أسلفته من محاسن نعتها التي أسكرتني ولا سكر السلاف، فمن تكون صرح باسمها الكريم، وأنقذ فؤادي بعذب ذكرها من العذاب الأليم.
حسان :
ذكرت أمرا تلذ مني المبادرة إليه بدون توان، فاعذرني عن إطالة الشرح من غير تبيان، وسيظهر الصبح لذي عينين، وتسمع أذناك ما تعض به اليدين، ويرتفع ببنان الإشارة الإبهام، لمن كان ينظر بعين البصيرة والسلام.
الوزير :
رويدك أيها الخليل! أثرت الغليل بقلب عليل.
الواقعة الخامسة (الوزير أبو عامر)
الوزير أبو عامر :
وضع في أحشائي جزل الغضا، وأضرم فيه النيران ومضى، فليتني لم أطلعه على أسراري، وأعرب له عما في طي إضماري، فكيف يكون الخلاص من حبائل القناص مع أني لم أقف على الحقيقة في ذلك المجاز، وحال بيني وبين الدخول إلى حرم التلاقي حجاز، فهل أحد يكشف لي ذلك الأمر، ويوقفني على معرفة من تركت فؤادي على الجمر، الصواب أن أذهب بنفسي لاستطلاع خبرها، والوقوف على تميز الحال باقتصاص عين أثرها، وبعد ذلك يكون إدراك الوطر، وقضاء حاجة النفس بمواتاة القدر، وسأحلق في السعي بدون تقصير، وأبذل وسعي لوقوف عرفات الوصل من غير تأخير.
والله يقضي ما يشا
فأخضع لأحكام القضا
وأضرع إليه مقابلا
أفعال ربك بالرضا
الواقعة السادسة (الوزير أبو الوليد ابن زيدون - ونديمه أبو المحاسن)
أبو الوليد :
عيني إلى الحين قادتني بلمحة من
رمت فؤادي بسهم قد أصاب غرض
ولفتة الجيد تبدي جوهرا عرضت
قلبي على سيف جفن للنفوس عرض (عروض بر ملك نغمه حجاز همايون):
لمحة الطرف بتفريق البال
تيمتني في هوى عيني غزال
ساحة القصر جلته سانحا
يتهادى بين عجب واختيال
يا نظرة أثر سهمها بالفؤاد تركتني أهيم من الغرام في ألف واد، جنتها على القلب العين بلمح محيا الشمس بدون غين، تلك التي أسرت فؤادي وسرت، وجارت علي لما أجرت دموعي وجرت، وليس لي صبر على حلو حديثها الشهي، والنظر إلى طلعة وجهها البهي، ومطارحتها نوادر الآداب ومغازلة عينيها بما يفتح لمحاسن أغزالي الباب، فأشنف آذاني بلآلئ إنشائها وإنشادها، ويتعبد طرفي في زوايا أصداغها إذا أسعفت أشواقي بمرادها، فأنشدها ما يطيب في السمع ويعذب في الأذواق، ويترنم به ركب الحجاز إذا راعت النوى قلوب العشاق ... إن عشق ولادة أيها النديم ليس بقلبي المعنى سواه غريم، فكيف يكون الطريق إلى طروق حماها، ووصول النفس من أنس وصالها إلى مناها، وقد أحدقت بها سمر الرماح، وحفت بخبائها بيض الصفاح، وأذن السمهرية مصغية للسمع وجفن الحسام منتبه لتفريق الجمع، فهل من حيلة تفتح باب النجاح، فأحمد سراها إن رأيت من فرق تلك العقيلة الصباح، أشر علي بما هو الصواب، وسدد بخطابك الجواب.
النديم :
الخطب أيها الوزير الجليل وإن كان عظيما إذا نظر إليه بطرف غير كليل، يهون إذا تلقيته بدرع الحجا، وأعددت لدفعه جنة حسن الرجا، وإني أحدثك بحديث يغنيك عن القديم، ويوضح لك طريق الأنس في الليل البهيم، وهو أن ولادة لها بك هوى شغلها عن طيب الوسن، وشرع لها معاطاة كئوس الوله وسن، وكلفها بك غدا لها طبعا بدون تكلف، ولا يرى لعطفها بغير نسيم ذكرك تعطف، حتى إن ناديها الذي هو جامع الأنس وقبلة المتأدبين، وحلبة جياد الأدب بعصابة الشعراء المجلين، لا ترتاح إليه بدون ذكر آدابك، ولا تخطب فيه إلا بإظهار اشتياقها إلى خطابك، وحيث عرفت ولهك بها فسوف أطلعها على حقيقة الحال، وأتلو عليها فصل غرامك للدخول من باب الوصال، وأصنع يدا عندها بسعي القدم، وأفوز بشكرك إذا فزت من نعيم وصلها بالنعم.
أبو الوليد :
أحسنت أيها النديم برفع هذا الخبر، وخففت عني بعض ما أجده من معاناة الفكر، فتمم مشروعك الحسن، ومن على خليلك بإسداء المنن؛ فقد قوي أملي بإدراك المنى، وأنارت ليل رجائي من محياها بأبهى سنا، غير أنه رفع إلي خبر بالابتداء، جر علي بعامل القلق أنواع البلاء، وهو أن الوزير أبا عامر الملقب بالفار، أصبح بحب ولادة عاني القلب مسلوب القرار، وقد طلب منها ما لا تصل إليه مناه، ولا تخيله له الأحلام الباطلة في كراه؛ فقوبل منها بأقبح رد، وكاد سيف ناظرها يقيم عليه الحد، ونفرت منه أشد نفار، وتركته وقد فاض دم قلبه وفار، فهو الآن ينصب لصيد تلك الغزالة شراك الاحتيال، ويفوق لإصابة غرض وصلها نبال الآمال، فلذلك أتأرق حرقا، وأتحرق أرقا.
النديم :
هيهات أن يصل إلى الشمس من تعلق بحبالها، أو تشرق في أفق آماله من طمع بخيالها، وحجا ولادة وهي ذات حزم يمنع أن يخطر في خاطر ذلك الوهم، وحيث ردت رسائل دمعه بالنهر، ومنعت عن يتيم ثغرها بصده يد القهر، فما يرومه منها أمر لا يكون، ودون وروده من محياها ورد حياض المنون، ولا تتوهم أنه يصدق على ولادة وإن كانت من ربات الخدور، ما أنشده بشار بن برد وهو عنه مأثور:
لا يؤيسنك من مخدرة
قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة
والصعب يركب بعدما جمحا
أبو الوليد :
نعم إن ولادة أجل من أن تنقاد بخداع، أو تميل بهصر أعطافها يد الأطماع، ولكن ربما كان أبو عامر يريد استعمال العجائز، ليستبيح بطوافها في حرم المنى ما هو لمثله غير جائز، ولا يخفى أن العجوز تؤلف بين الضب والحوت، وتقود الجمل الصعب بخيط العنكبوت، فربما أثر بولادة تشديد عزائم رقياها، فانقادت بحبائل خداعها لإجابة دعواها.
النديم :
علاقة ولادة بك تبطل رقيا سحرها وترد سهام كيدها في نحرها، فلا تدرك أثرا من إصابة العين، ويرجع مسعاها بخفي حنين، فأزل ذلك الجزع من فؤادك فستجري الأمور بمشيئة الله وفق مرادك، وها أنا ذا على عزم المسير إلى ما فيه سرورك أيها الوزير.
الوزير :
الآن سكن روعي والبال، وخف ما أقاسيه من البلبال. (عروض أيها المجاوز بالأسل، حجازا كرك):
أيها النديم لذا الأمر سر بلا توان
وارفع الحديث بما تدري محسن البيان
واردعن ولادة بالجهر منعش الجنان
واشرح الفؤاد مع الصدر رغم من لحان
نديم :
أمرك المطاع بلا مين أيها الوزير
والصباح بان لذي عين مشرقا منير
وانجلى لديك سنا العين والهنا يدير
خمرة السرور بلا عين في حما الأمان (عروض عنق المليج الغالي.)
الوزير :
القلب بالأفكار
لقد غدا يصلى بنار
هل ينطفي أواري
حان الردى مما أداري
نديم :
فسل مراما فيه الهنا
مولى تسامى يدني المنا
وزير نديم :
اسبل لنا أنعاما
يا ربنا حسن الستار
الفصل الثاني
الواقعة الأولى (ولادة - جواريها - مهجة)
ولادة :
أسامر في ليلي سنا طلعة البدر
لبعدك عن عيني وإن كنت في صدري
هواك له شغل بقلبي شاغل
به ضقت ذرعا وهو - إن حققوا - عذري
ولا أستطيب الشهد من بعد ما قضى
علي بما مر البعاد من الصبر
وما خامرتني الراح من كف شادن
يدير بعينيه كئوسا من الخمر
ولكنني نشوى بذكراك والهوى
أعاني به سكرا طويلا على سكر
فيا من غرامي لا يزال غريمه
ويهفو به كف الصبابة من ذكري
ترقب إذا جن الظلام زيارتي
فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح
وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسري
وزرني ولا تخش الأسنة شرعا
فمن رام بيضا لا يخاف من السمر
كم ذا أنادي من ظمأ الفؤاد وجوابي الصدى، وأعشو في ليل الوجد ولا أجد على النار هدى، وفؤادي الكليم بموسى اليأس والجوى، يشب نار الخليل به نمرود الهوان والهوى، ونفحات نسيم الأسحار إذا سرت في الروض المعطار، تحيل بردها بالتعصد أنفاسي، وإن كانت ذكية وتضيع بإضاعة طيبها حواسي، وإن اهتدى بها البرية، يا ويح العاشق الهائم في أودية الغرام، كم ذا يعاني في ليل أمانيه من لواعج الشوق والهيام.
لحاظكم تجرحنا في الحشا
ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا
فما الذي أوجب جرح الصدود
فاشرحن شوقي بالألحان، وأثرن لواعج الأشجان.
الجواري (عروض كل أنوطما) :
دور
طال ليلي وغرامي لا يطاق
وفؤادي من أواري باحتراق
وشجوني سجعت ورق اللوى
من معانيها بما العشاق شاق
ولادة :
أواه من العشق وعناه.
الجواري :
دور
قد كفى يا ربة الحسن العجيب
ما تعانين من الوجد المذيب
سوف يقضي الله بالفتح القريب
بتلاق لك في الآفاق فاق
الواقعة الثانية (الحاضرات - الوزير أبو عامر)
أبو عامر (عروض، شجني يفوق) :
دور
وأنا كليمك والذبيح
يا ربة الوجه المليح
مني علي بما به
قلبي المعذب يستريح
الجواري (منه) :
دور
كم ذا تروع سربنا
عمدا وتظهر كربنا
دعنا وباعد قربنا
فسواك ذلك يستبيح
أبو عامر :
إلام هذا النفار والدلال، وإظهار الجفا والملال، وأنس جمالك أنيق، وطبعك الكريم رقيق، وحضرتك مطمح نظر الأدباء، وناديك يجاب فيه نداء الشعراء، وقد قلت يا بديعة الجمال، ما أعرب - والبيت الحرام - عن السحر الحلال.
لحاظكم تجرحنا في الحشا
ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا
فما الذي أوجب جرح الصدود
فاحكمي بفتواك الصحيحة، وداوي بلطف كلامك كبدي الجريحة، واستعملي الرفق بالعشاق، وقيديني رقيق حبك على الإطلاق.
ولادة :
أيها الشيخ، إن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وهو - سبحانه وتعالى - مالك الأشياء، ولم يلق لك في فؤادي من المحبة ما يبيحك من دينار خدي أقل حبة، فلا تطلب ما لست له بواجد، ولا تضرب لنيل الجواهر في حديد بارد، وتلك الفتوى نفث بها في روعي روح الغرام، لمن جرح فؤادي من حركات جفنه حد الحسام.
قد جرح القلب غزال جنى
طرفي بخديه جني الورود
وما اكتفى بالحد من جفنه
حتى بصدي جاز تلك الحدود
فلا تطل الأمل وأنت قصير الباع، بأن تشم طيب وصلي وإن ضاع، ودعني أسامر ذكر سواك، وحول وجهك عني لئلا يقع ما لا يرضيك في قفاك.
أبو عامر :
يا ويح محب غير محبوب، حسناته تعد من الذنوب، ماذا جنيت أيتها الشمس المنيرة؟ وماذا الذي جررته في هواك من الجريرة؟ مع أني لم أتعرف بطيب النشر من ذكر اسمك، ولم أضف إلى إدراك هذه الوسامة حقيقة وسمك، فهل لك أن تعرفيني؟ وإن مت بعد ذلك فلا تقبليني.
ولادة :
ويحك ما أنت وهذا السؤال أيها الطفيلي الذي يقترح ، ويفسد علي من لذتي ما يظن أنه به يصطلح؟ قد استنوق الجمل بما كذبت به الأمل، إن جهلك بي معرب عن بلادتك، وغلظ طبعك وسماجتك، إني أعرف وإن لم أضع النقاب بالوسامة؛ إذا كان ابن جلا يعرف بوضع العمامة، ومن يجهل الشمس وهي لا تتعدد؟ أو ينكر البدر في الدجى وسناه يتوقد؟ فمر عن منادمة الغزالة أيها الفار إلي حيث يعوي الذيب، ولا تطمع أن أشتغل بك وإن كنت امرأ القيس عن ذكري حبيب.
أبو عامر :
يا ربة الحسن والإحسان، كفاك ما أثرت في فؤادي من النيران، فهل كلمة منك رقيقة الحاشية ينتعش بها فؤاد ناره وارية، ويعلق بها الأمل الكاذب، مندوب قلب بالأسى واجب، وإلا ففي الحين الحين، يدعني أثرا بلا عين.
ولادة :
كلا ليس لك إلا أقبح رد، ولا يجمعني بك مكان من بعد، فإنك كثير الكلام قليل الحياء، تستعمل زخرف القول بإبهام أنك من الشعراء، سيري بنا فقد أضعنا الزمان مع حيوان، بهيم في صورة إنسان.
أبو عامر :
مهلا يا راحة الأرواح، حتى يطلع الصباح، يا ذات البرد المذهب عودي وأنا أذهب.
الواقعة الثالثة (أبو عامر)
أبو عامر :
هيهات أن تعود! ويثمر لأملك في رياض قربها عود، فلا تغترر برقة خدها المورد، فإن في الياقوت طبع الجلمد.
يا ويح صب يعنيه الهوى أبدا
بمن يجد بقتلي حسنها عبثا
رقيا عزائم سحر القول أبطلها
جفن لها فيه هاروت لقد نفثا
أين صاحبي حسان، فأطلعه على ما كان، وإن كان يستعمل إطالة الشرح ويزيد الفؤاد قرحا على قرح، وقد فهمت من تلك الفتانة أنها تسامر ذكر حبيب، له من سهام محاسن عينيها أوفر نصيب، فهي مشغولة به عن الميل إلى سواه، مشغوفة دون ذكر أحد بذكراه، فمن يكون ذلك الحبيب، الذي أصبح هواه لقلبي أنكى من الرقيب؟ وها حسان مقبل فأسأله عنه، وآخذ حديث أحواله منه.
الواقعة الرابعة (أبو عامر - حسان)
حسان :
عم مساء أيها الوزير الجليل، والكامل الفاضل النبيل.
أبو عامر :
أهلا وسهلا بك أيها الخليل، جئت في وقت يتمنى فيه الطبيب العليل؛ فقد تفاقم خطب ما أطلنا به الخطاب، وأغلق دون فتح أمانينا الباب، وضل العقل في تيه الغرام ولا طريق إلى السلوى، ولم أذق المن لما مر علي من علقم البلوى.
حسان :
ماذا حدث بعد ذلك المقام، مما أضل فؤادك في أودية الغرام؟
أبو عامر :
قد عدت إلى هذا المكان بعدك ثانية، متبعا أثر من لها القلب مملوك والعين جارية؛ فألفيت جواريها تنشد من الأوج ما يطرب العراق، طال ليلي وغرامي لا يطاق، فأخبرتها أني كليم غرامها والذبيح، وسألتها أن تمن علي بما يرتاح إليه فؤادي الجريح، فصرحت بأن ذلك لا يكون، وكلمت قلبي بسيف الجفون فاستعملت بمراجعتها زخرف الكلام، وطفت في حرم احترامها لأفوز من ركن وصلها بالاستلام، فلم أنل منها إلا شدة النفار، وتضحية آمالي بعد رمي الجمار، وسألتها بلسان الضراعة عن اسمها الكريم؛ فاستجهلتني وقالت: من ينكر البدر في الليل البهيم، وكلامها الجامع بتوجيه المراجعة متشابه الأطراف، لم تخرج به عن القول بالموجب في مقابلة استخدام الاستعطاف، وقد استعملت بإشارتها الإبهام عند تحريك الأصابع، بما فهمت منه بالتلميح أن لها حبيبا هواه لفؤادها رائع، ولم ينجح لديها حسن البيان بعد براعة المنزع، واستعمل سيف جفنها مع عدم مراعاة النظر براعة المطلع، فراجعت تعطف أعطافها بانسجام المدامع؛ لم تلتفت إلي ووارت من إشراق محياها تلك المطالع.
حسان :
ما شاء الله لك معرفة بفن البديع، تطلع منه في كلامك أزهار الربيع! فهل عانيت مع ذلك علم المعاني، ووصلت إلى أبيات الوصل بعد الفصل من أبواب تلك المغاني، وقرعت باب الإنشاء للدخول إلى القصر، وفزت عند استعمال الإيجاز والإطناب من أفنان الفنون بالهصر، وعرفت أحوال الإسناد وحصلت من متعلقات الفعل على غاية المراد؟ عجل بتتميم الفائدة واشتغل عن النساء بما يقرى من المائدة.
أبو عامر :
بالله عليك أيها الخليل لا تتعمل العبث عند الجد بفؤادي العليل، واستمع تمام حديثي مع تلك الرعبوبة، والمهاة التي يطلب باز جفونها فؤادي وهي له مطلوبة، فإنها بعد إطالة المجادلة بما لا يقوى عليه الحديد تركت مرسلات دموعي ما عليها مزيد، وخرجت تجر ذوائبها على مران القوام، وخلفتني مسلسلا بسلاسل الوجد والغرام، فعرفني من هي ومن حبيبها، وانشر لدي نوافج أخبار عنها يضوع ولا يضيع طيبها.
حسان :
أعجل لك بفائدة إحدى القضيتين أيها المغبون، إن حبيبها الذي تشبب به هو أبو الوليد الوزير ابن زيدون؛ فتهيأ أيها الأعزل لكفاح من رمحه الأصم، واستعد لنطاحه وإن كنت في الحقيقة أجم.
أبو عامر :
آه! كيف حصل على ميلها إليه وتعويلها بإخلاص محبتها عليه؟ وهل وصلت حبل رجائه، وأسعفته بإسعاد وفائه؟
أبو عامر :
بالله عليك، استعمل الإيجاز، ودع الاستعارات في سلوك هذا المجاز.
حسان :
لا بد من ذكر مقدمة أمام المقصود، يطيب بعدها لمن يشرع في بيان القضايا ورود.
حسان :
اعلم أنهم اختلفوا في حد العشق ورسمه، وكشف حقيقته وما يعرب عن وسمه، فقال فيثاغورس: العشق طمع يتولد في الفؤاد، ويتحرك وينمو ثم يتربى وتجتمع له دواد، وكلما قوي وهاج؛ زاد صاحبه في اللجاج، وتمادى في الطمع والحرص على المطلب، حتى يؤدي به إلى الهم المقلق واحتراق الدم المفضي إلى العطب، وقال أفلاطون: العشق قوة غريزية متولدة من وسواس الطمع، وأشباح التخيل ممن إليه نزع محدث للشجاع جبنا وللجبان شجاعة، يكسو كل إنسان ما يباين طباعه، وقال ابن سينا: العشق مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا لمن فيه نظر يجلبه المرء في نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور، وقال بعض الأدباء الظرفاء مخالفا لهذه النصوص، العشق عبارة عن طلب ذلك الفعل المخصوص من شخص مخصوص، وقيل: العشق من الجنون، وهو - على ما قيل - فنون.
أبو عامر (عروض البدر أضحى خدامك) :
خرجت في هذ القصد
عما يرى الصب المغبون
وجزت حدا بالحد
على فتى عان مفتون
فدع أحاديثا يعدي
سماعها القلب المحزون
وكيف عمالي تبدي
مما به أغدو مجنون
حسان (منه) :
لا بد من طول الشرح
بما به يبدو المحدود
إن رمت ترقى للصرح
بالعشق والوجد المورود
هيئ فؤادا للجرح
بحد صمصام محدود
وسوف من بعد الصبح
للخلد تغدو في أخدود
أبو عامر :
كفى ما ذكرته أيها الخليل من هذا الشرح الطويل، فإن العشق معلوم عند كل إنسان لا ينتطح بعدم معرفته فذان، وهو يحرك الساكن ويسكن المحرك، ويسبر غوره بالذوق ويدرك، فعرفني تلك الحبيبة وحال الحبيب، وداو قروح فؤادي أيها الطبيب.
حسان :
أبيت إلا التصريح، وأغضيت عن التلويح والتلميح، إن عشق الوزير ابن زيدون جره السمع والنظر بالاتفاق، وهما إلى الآن لم يحصل بينهما تلاق، وتلك الغزالة التي سهام عينيها تبري ولا تشفي هي ملكة المحاسن في الأندلس ولادة بنت المستكفي، وهي أشهر من أن تذكر، ولها أحسن مخبر وأجمل منظر، وقد أوقعت نفسك بعشقها للأخطار، ولسوف تقضي في محبتها دون قضاء الأوطار، وقد عرضت لك بما أطلت من الشرح، أن لا تصعد بأمانيك إلى الصرح، فأصم الهوى سمعك أن يلج ذلك فيه، وعددت ما قلته لك من زخرف التمويه، فها أنا ذاهب لمعاطاة أشغالي أيها الوزير، ودم أنت هنا لأباطيل الأماني نجيا وسمير.
العشق يورد من وافى موارده
من العنا والأسى ما يمنع الصدرا
وربما قد قضى دون المنى أسفا
وليس يقضي بلا مال له وطرا (عروض يا أهيل الحبش):
هكذا قد حكم
في البرايا حكم
حكمه في الأمم
ليس بالمنكر (ويتهيأ للذهاب.)
أبو عامر :
قف قليلا هنا
وأنلني المنى
بعد هذا العنا
والبلا الأكبر
حسان (منه) :
أنت عاني خطر
دون نيل الوطر
فارتقب للقدر
والردى الأحمر (ويذهب.)
الواقعة الخامسة (أبو عامر)
أبو عامر :
لم تخرج عن عادتك بالذهاب بعد أن تغلق دون فتح مطالبي الباب، قد اشتد علي خطب الغرام بعد تلك الخطبة التي أطال بعرضها الكلام، فكيف الحال يكون مع الوزير ابن زيدون والمحبوبة ولادة التي تصيد الصيد، ولدى محاسنها الأحرار من جملة العبيد؟ ولم يفدني تجاهل العارف لذة خطاب، ولم أحصل على ما يبري جواي من سلسبيل جواب، وقد ملأ هوى ابن زيدون فؤادها فلم يبق فيه مكان تفرغ فيه صبابة من صبابة إنسان، فما تكون الحيلة لاستعطاف تلك الجميلة، أرى من الصواب الذي يفتح الباب أن أرسل لها جارتنا العجوز أم رحمة، التي هي أموه من ظلمة، فلعلها تفك طلسم ذلك الكنز برقياها، فتصل النفس من روضة حسنها إلى مشتهاها، ينبغي المبادرة لهذا الأمر، بدون تأخير وكم يسر ناله المرء بعدما حال دونه كل عسر.
الواقعة السادسة (ولادة - مهجة - جواريها)
ولادة :
الحمد لله الذي ذهب ذلك الفدم الثقيل، واسترحنا في مراجعته من إطالة القال والقيل، تعالي نبدي درس الأشجان ونعيد بالتقرير ما كان بلغني أن الوزير ابن زيدون متهافت على وصالي، وكلف بأن يجني في رياض التلاقي ثمار دلالي، ويقطف ببنان النظر ورد الحياء والخفر، وقد تقاضاني على لسان نديمه وعدا بذلك صادقا، يصل به معشوق على رغم الرقيب عاشقا، فأجبت ذلك النديم بما تم منه عرف نجاح آماله، ولم أسرع كأم خارجة إلى الدخول من باب وصاله، وربما يجيء إلى هنا ليأخذ الجواب الشافي، فما ترين والأمر عندك ليس بخافي.
مهجة :
ما دمت حريصة على لقائه، وكلفة بوصله ووفائه، فالصواب أن تجيبي مطلوبه، وتحققي بأنس التلاقي مرغوبه، لكن يحسن تلاقي الاثنين، لدفع التهمة عنك بلا عين، وإلا سارت بأخباركما الركبان، وأشاعوا أنه كان ما كان، وإني لأعلم أنك طاهرة عفيفة نقية لم يشم خمارك أحد من عموم البرية، لكن ورد في المثل: من يسمع يخل، فتكثر الظنون، ويشيع السر المصون.
ولادة :
أوضحت العبارة، وأحسنت الإشارة، فالتلاقي يكون كما قلت حسب ما يقتضيه عفافي، بما ينفي التهمة عنا وأنت لنا كثالثة الأثافي، أشعر بقادم علينا، كأنه حاضر لدينا، فلعله نديم أبي الوليد جاء لتحقيق الوعد دون الوعيد.
مهجة :
هو ذاك بدون مين، والصحيح لاح لذي عينين.
الواقعة السابعة (الحاضرات - نديم)
النديم :
أهديك يا من لها الحسن البديع ثنا
يضوع في طيه نشر النسيم سحر
كما أصوغ بمعناك الجليل حلى
نظم لكل مجيد في الأنام سحر
ولادة :
وأنت مني لك الشكر الجزيل بما
يعتو لمعناه من صاغ الحلى وشعر
فاستجل أنس محيا لاح شمس ضحا
أو نور بدر تجلى في ظلام شعر
نديم :
هل تم شيء بتحشمه المتقاضي، بإبداء ما عرضته لديك في اليوم الماضي.
ولادة :
قل ما تريد بلا احتشام، فما دون الجواري إخفاء كلام.
نديم :
قد لمحت لك أمس، بكلف الوزير بك يا طلعة الشمس، وأنه معنى بجمالك، وحريص على وصالك فأجبت بما علق الأمل بالنجاح، وأسفر بعد طول السرى عن طلعة الصباح، وها أنا حضرت الآن لآخذ على صدق وعدك الضمان، وهو حسن الإجابة منك بنعم؛ إذ كان هذا من أجل النعم، فهل يجوز الاجتماع بما يمنع النواظر والأسماع، حيث يطيب الحديث والقديم، ويسرح الطرف في روض النعيم؟
ولادة :
إني أتمنى قرب أبي الوليد، وأريد من وصله ما يريد، وفي غد إذا أوتي القدر، يزهو بنور الشمس أفق القمر فأبلغه عني التحية وعرفه نتيجة القضية وقل له: قضي الأمر، وفاز ابن زيدون من دون عمر.
نديم :
إذن؛ أذهب إليه على هذا الضمان؟
ولادة :
اذهب إليه بسلام وأمان.
الواقعة الثامنة (ولادة - جواريها - مهجة)
ولادة :
شنفن الأسماع بشرح الحال، بما يكون مقدمة للسرور الوصال.
الجواري (عروض نبه الندمان صاحي) :
دور
أيها القلب تهنا، سوف تحظى باللقا
وفؤادي ما تمنا، نال من بعد الشقا
أبعد الحساد عنا، يا سميعا للدعاء
وأنلنا العفو منا، بختام الأنبياء
دور
نار مصباح السرور، ودنا وعد المزار
فإذا للحظ سيري، حيث جام الأنس دار
وسنا البدر المنير، لاح مع شمس النهار
ولنا فضل القدير، بالهنا يرخي الستار
الفصل الثالث
الواقعة الأولى (ولادة - جواريها - مهجة)
ولادة :
حان ابن زيدون حين فيه تولينا
وصلا فيدني تلاقينا أمانينا
يا من عن البدر تغني العين طلعته
ولفظه عن كئوس الراح يغنينا
هزتنا للأنس أرواح السرور كما
في روض أفراحنا هزت أفانينا
فشنفونا بألحان العراق على
ميل السماع بما يصبي ويشجينا
فعن قريب على رغم الرقيب نرى
أبا الوليد يحيينا فيحيينا (نوبة سماع ...)
جواري :
قم لنحو الحان
ولازم حضرة الندمان فهي منهل
واشدوا بالألحان
ورنم في صبا الناي لي والحسيني
يا مدير الراح
أدر لي الخمر بالأقداح وتعلل
مع رشا إذ لاح
يحاكي الغصن بالميل والرديني
أيضا:
طاب وقتى طاب، وانمحى غيني
وجلا الأكواب، أكحل العين
بدر حسن لاح، وجهه الوضاح
فيه لا بالراح، غبت عن أيني
قده الفتان، فاق غصن البان
طرفه الوسنان، سل سيفين
ماس كالغصن، في ربى الحسن
آه لو يدني، طلعة العين
بالحشا قد صال، لحظه الفصال
وبدا يختال، تحت بردين
يا أخا الحب، لا تطل عتبي
قد غدا قلبي، بين سكرين
خمر أشواقي، عين ترياقي
فامل يا ساقي، منه كأسين
أيضا:
ما أسعد الصبحية، بالطلعة البدرية
والشمس منها تجري، كواكب درية
عن ذي الجمال السامي، لم تلوني لوامي
لا والعذار اللامي، والطرة السينية
من لي به من أغيد، ريم يصيد الأصيد
حلو التثني مفرد، ذو قامة خطية
إن لم تعدني عدني، فالشوق داء مضني
يا يوسفي الحسن، أحزاني يعقوبية
هيفاء حان حيني، بقدها الرديني
وحشية العينين، فتانة إنسية
إن رمت بالأفراح، تمحو دجى الأتراح
فاشرب عجوز الراح، من راحة الصبية
للحان والألحان، والروح والريحان
هيا أخا الأشجان، نسكر مع الجمعية
ولادة :
قد انتعشنا يا مهجة بالسماع، وضاع من عرف ارتياحنا ما ضاع، وتصاعدت لاجتلاء طلعة أبي الوليد كوامن الشوق الذي ما عليه مزيد، فمتى ينجاب قناع هذا الفراق ونحتسي على رغم الرقيب كئوس التلاق؟
مهجة :
لا تكوني يا سيدتي في ضجر، فقريبا نأنس بروية القمر من سنا ابن زيدون صاحب الرفعة والشئون.
ولادة :
أعياني يا مهجة الانتظار، فهيا لنستطلع ما صار، ونعلم أسباب التأخير فقد توالى الزفير.
الواقعة الثانية (أبو الوليد ابن زيدون)
أبو الوليد ابن زيدون :
هيهات تقضى كما نهوى أمانينا
ودونها حال سعي من أعادينا
فما الذي أرتجيه بعدما حكمت
أيدي العدا ببعاد من تهانينا
وعهد ولادة أني أواصلها
بما يطيب برياه تلاقينا
وما درت أنني وافيت أودعها
قلبي بتوديعها طوعا لوالينا
سعي العدا ساءني عند المليك بها
والدهر عون لها لا كان ساعينا
يا من هواها غريمي لم يطل أمل
بأن نشم ورودا أو رياحينا
فابقي على الود فالأفكار تجمعنا
إذا غدت ألسن الشكوى تناجينا (لحن شورى حزبه أكرك):
يا ربة الوجه الجميل
قد راعني خطب جليل
وافى بأنواع العنا
في مهجتي أضحى نزيل
دور
يا منيتي سعي العدا
ظلما علينا قد عدا
والقلب أورده الردى
روع يقول ولا يقيل
دور
وافيت صبا ذا التياع
أقضي حقوقا للوداع
هل بعده يقضى اجتماع
ويفوز بالقرب الخليل
حال القدر بالقضاء دون القدر بأنس اللقاء، وحول عهد الفرح بالاجتماع إلى موقف الفراق والوداع، فهل لولادة روح الأرواح علم بما أسفر عنه هذا الصباح؟ وهل عندها خبر، أو تطارحها فكر بأني جئت لوداعها دون أنس التلاق؟ وأن هذا الاجتماع القصير منبئ عن طول الفراق، إني لأشفق على ولادة غاية الإشفاق من أن يفاجئها من خبر هذا الرزء ما لا يطاق، وها هي والجواري معها قادمة، وليس بما دهم من الأمر عالمة ... سأكتم الحال عنها بالابتداء، وإن كان لا بد من رفع جبره بالانتهاء.
الواقعة الثالثة (ولادة - مهجة - جواريها - ابن زيدون)
ولادة :
تهديك شمس الضحى أزكى السلام وقد
وافت لتحظى بمجلى طلعة القمر
فاستجل ما طاب من آدابها وأدر
ما فاق طيبا معاني نسمة السحر
أبو الوليد :
أهلا وسهلا بمن للأنس قد خطرت
والقلب أصبح من وجدي على خطر
وافيت أحظى بآمال قضيت بها
وإن أحالت قضاء حكمة القدر
ولادة :
قد روعتني بذكر القضاء والقدر بما يشوب صفو أنسنا بالكدر، فهل حدث أمر مر به ما حلا أترع كأسا من هموم وملا؟
أبو الوليد :
لا تراعي أيتها السيدة الكريمة، والجوهرة التي لا تقام لها بملك الدنيا قيمة؛ إن ذكر القضاء والقدر طبيعي للشعراء، وحكم مسجل في جريدة حظوظ الأدباء؛ إذ لا يكاد يسلم أحد منهم جد في الطلب من أن تدركه حرفة الأدب.
ولادة :
هو ما قلت بدون مين، لا نزاع في الاثنين، لكن إسعاف القدر باجتماعنا لا ينكر، وتسجيل القضاء بحسنه بدون دافع مقرر، وذكرك لهما ينبئ عن منازعة أفكار خطرت لك بمعاناة أخطار، فهل تم أمر مهم أو لم بك من حادث ملم؟
أبو الوليد :
دعي ذكر ما يعترض في وجه السرور، ويطول في بيانه عتبنا على المقدور، والوقت أنفس من أن يضيع بما لا يضوع نشره، ويجرعنا مر الأسى بغصص التلهف ذكره، فهاتي حديث الأشواق وما تطرب بمعناه العشاق؛ فأشواقي إليك تنازعها الأشجان، وعيني الطائف دمعها في أقصى الوله ليست - وقدس حبك - عين سلوان، وبرد النسيم يذكو منه في فؤادي نار، وحبة قلبي صرفها الغرام من وجهك على دينار، وأنفاسي عند ذكراك تتصعد، وأنا القتيل بلا قود، وإن قتلت من حسام جفنك بمحدد، وطالما بت أناجي بلطائفك الضمير، وأسامر لطلعة محياك البدر المنير وأهيم في جميع النواحي بالنواح، وأرقب الشهب لسنا جيدك باكيا للصباح. (لحن أبكي فتبكي الحمام لكن):
دور
والآن حم اللقا ولكن
بما له سال دمع عيني
وفي فؤادي الغرام ساكن
بما يفاجي بجلب حيني
ولادة :
أثرت وجدي وكان كامن
ورعت لبي من غير مين
فأي شيء له السواكن
تحركت بعد طول بين
أبو الوليد :
لا بأس عليك فالحديث شجون، والمعاني تتفجر لها في أودية الكلام عيون، وأقول يا ذات الخفر وفائقة الشمس والقمر: لا كان الساعي بيننا ببين، وفاجأه في الحين خطب بحين، فاعذريني يا منية القلوب بما يصدع به فؤادي المكروب.
ولادة :
لم تخرج عما ابتدأت به الكلام، وتشابهت أطراف قولك بمراجعة الإبهام، فصرح بما تجد ودع الكناية والتلميح، وبدد استعارة نار الفؤاد بالتصريح، فلا أرى مجلسنا إلا مشوبا بكدر، وقد روعني في استهلاله ذكر القضاء والقدر، ولا أعلم سببا مني يحول دون الأمل، ويفضي إلى ما يعوق عن العلم بإخلاص العمل، وغرامي بك غريمه ألد الخصام، وولهي بك لم يشترك به أحد من الأنام، ولا أستطيب العيش إلا عند ذكراك، ولا أتعرف بنشر إلا إذا عرفت منه شذاك، فماذا حدث أيها الوزير حتى شرعت بتشويش الضمير؟ تفضل بالبيان وأرح يا جنة الروح الجنان.
أبو الوليد :
أسكرت أعضائي بلا جام، وعقلت لبي بهذا الكلام، فماذا أقول والفصيح لديك أبكم؟ وكيف أعرب عن سري والمنطيق عندك أعجم؟ (عروض يا غزالي كيف عني أبعدوك):
لازمة
كم أداري في الحشا حر الأوار
والجوى يذكو بنار فوق نار
دور
إن هذا موقف جر التياع
لمحب لك وافى للوداع
حظه كان بهذا الاجتماع
فرط وجد سالب منه القرار
ولادة، جواري :
آه يا كل المنى وا حربي
ما الذي قد حال دون الأرب
فلقد أوريت نار الكرب
بفؤاد ما له عنك اصطبار
ابن زيدون :
شرح حالي ربة الحسن عجيب
وهو في مغربنا أمر غريب
فاعذري من دمعه يجري صبيب
وعليه حادث الأيام جار
ولادة :
اكشف لي بحقك هذا الأمر، وإلا قتلت نفسي بيدي لا بيد عمرو، وصدري من القلق ضاق، وحاق ببدر سروري المحاق.
ابن زيدون :
إني أشفق عليك من إبداء خبر كان، وشرح ما كلم فؤادي بلسان العدوان.
ولادة :
لا تشفق علي أيها الوزير، وأعرب عما تجنه في الضمير، فقد أثار الجزع في القلب الجمر وفني الصبر ومر.
الوزير :
اعلمي أيتها الروح وعلاج الفؤاد المجروح، أن سعي الفئة الباغية للأذى لدى السلطان؛ روع سربي بمخاوف حالت دون كل أمان؛ إذ نقلت إليه ما اعتقد صدقه بدون تبين وهو محض مين، فأهدر دمي بسيف الظلم إذا بقيت في قرطبة طرفة عين، وقد أيقظ علي العيون في كل الجهات، وجعل حسناتي في وجوه ملكه سيئات، وحيث أخذ لي نديمي منك الضمان أن نلتقي لبث الأشواق في هذا المكان، خاطرت بنفسي لهذا الاجتماع، وأضمرت في سري أنه موقف الوداع، وتخطيت رقاب الخطية، وأشرفت بدرع المخاطر على حدود المشرفية، وحضرت لديك أخوض بدمي المراق، وهذا أيتها المليكة على رغم موقف الفراق، فأستودعك فؤادا هواك كليمه وغرامه بك غريمه، ملئ وجدا بجمالك، وذاب ولها بدلالك، فأكرمي مثواه وارحمي شكواه.
ولادة :
فؤادي أحوج إلى الرحمة مما علاه من الغمة؛ فقد لاعته الكروب، وراعه هول الخطوب.
الوزير (لحن عروض رب ساق أكرك) :
يا حياتي لا تراعي
من عنا هول الوداع
وارحمي فرط التياعي
بعد هذا الاجتماع
ولادة :
آه يا روح فؤادي
وحياتي والمراد
لا تخف إن ودادي
ثابت بعد البعاد
الوزير :
يا ذات الوجه الجميل، أزف وقت الرحيل، فزوديني من بديع المعاني ما يرتاح إليه فؤادي العاني، وأعطيني ضمانا على إخلاص الوداد، إذا طالت بيننا شقة البعاد؛ فبذلك تخف شجوني وترقأ عيوني ويسكن اضطراب فؤادي، وتهون علي شماتة الأعادي.
ولادة :
أواه ما أعظم هذا الخطب، وأشد وقع ذلك الكرب! كيف أتجرع الصبر وكل حلو لعيشي مر؟ أيها الحبيب الكريم والخليل العظيم، أقسم بصدق ودادك وسقيا عهد أملي بصوب عهادك، ليس في فؤادي لسواك مقيل، ولا يجمل بعيني بعدك وإن جمل بعيني بثينة جميل، فكن براحة من عشق ولادة من بعدك أيها الوزير، وقابلها بمثل ما تعانيه بك من إخلاص الضمير.
وزير :
إن قلبي لديك رهين، على أني أصدق بمحبتك ولا أمين، وغرامي بك لا يحول، ووجدي الآخر بك هو الأول، وها أنا بعد التماس الإذن منك ذاهب وقد سدت في وجه آمالي المذاهب.
ولادة :
تمهل أيها الخليل قليلا، واشف بحديثك من الفؤاد غليلا، هذا لعمري هول الموقف في الحشر، تطوى به صحف الأنس إلى يوم النشر.
الواقعة الرابعة (ابن زيدون - ولادة - مهجة - جواريها - منذر)
منذر :
تأخرت أيها الوزير عن الذهاب، وتجشمت ركوب الأخطار الصعاب، وعيون الأعداء لك بالمرصاد، وقد انتشر في قرطبة للبحث عليك غلاظ شداد، وقد علمت أن دمك هدر إن وقع عليك منهم نظر، فأسرع بالخروج من هذا المكان قبل أن تدخل في خبر كان.
الواقعة الخامسة (الوزير - ولادة - جواريها - مهجة)
الوزير :
ها أنا على نية الخروج بلا تأخير، وإن كان ذلك فوق كل عسير، فأستودعك مهجة هي في آخر رمق، وأعيذك بسر الخالق الأعظم من شر ما خلق.
ولادة :
رويدك أيها الحبيب، وتدارك عليلة فؤاد أنت لها الطبيب، ماذا جر علينا هذا الاجتماع، من عناء وبلاء والتياع.
الجميع (عروض شادن صاد قلوب الأمم أصبهان) :
قضي الأمر وقد حان الفراق
ووهى منا الجلد
يا ترى هل بعد هذا من تلاق
يحي جسما وخلد
أين قول ناد فيه الاتفاق
كل من وجد وجد
قطع وصل وصل قطع لا يطاق
وبلاء لا يحد
حل قرب شد للبعد وثاق
بقضاء لا يرد عناق
حكم الله على قلب الصدي
بعناء للأبد
من لقلب ذائب متقد
من هموم ونكد
هل تعنى مثلنا من أحد
وعلى الحين ورد
فلنؤمل فضل رب صمد
ما له كفو أحد
أن يعيد الأنس بعد الكمد
ويقينا من حسد
الواقعة السادسة ( ولادة - جواريها - مهجة)
ودع الصبر محب ودعك
ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن
زاد في تلك الخطا إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنا
حفظ الله زمانا أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم
بت أشكو قصر الليل معك
فاحفظ الود وصن سر التي
حبها دون السوى ما ضيعك
وأدم درس أحاديث الهوى
وارحمن قلبا معنى تبعك
واختم القلب كما عاهدتني
عن سوى عهدي وصن مستمعك
وبتذكاري أدر كأسا إذا
كان مر الصبر بعدي جرعك
غبت يا بدر الدجى عن ناظري
فمتى ينظر طرفي مطلعك
فأنشدن واقعة الحال واشرحن أحوال هذه الأحوال.
الجواري (عروض) :
بدري سرى واحتجبا
ونجم سعدي غربا
وخلف القلب على
جمر الفضا ملتهبا
أواه ما هذا الذي
قد كان من هذا النبا
يا منيتي صبرا وإن
لم يحل صبر مشربا
ولادة :
كيف العمل وقد انقطع الأمل، وفاجأت النوى بالنوائب، وأمطرت علينا سحب المصائب، وغدا لشأن الدموع بمنشآت الجوى شئون؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
مهجة :
كفاك هذا التلهف، وحسبك ما أبديت من التأسف، أتريدين أن تذهبي نفسك حسرات، وتكوني عبرة تبين مراسلات هذه العبرات؟ تجلدي وإن كان هذا الموقف يوهي الجلد، ويفتت - فضلا عن الغزالة - فؤاد الأسد، فكفي غرب المدامع التي تعانين بها الشرق، واستبقي على مهجتك بعض الرمق، وهيهات أن يفيد فرط الجزع، أو يرد ما فات شدة الهلع! ومن جملة لوازم العشق والجوى معاناة الفراق وهول النوى، فادرعي الصبر لأمة على هذا البين، فقد يجمع الله الشتيتين.
ولادة :
إن حلو الشهد مر في فمي
بعد ما جرعني الصاب المصاب
فإذن؛ كيف أرى الصبر على
ما أعاني من ولوع واكتئاب
أشعر بهينمة بشر ، فماذا يكون من الخبر؟ دفع الله عنا ما نكره، ولا أرانا فيه عبرة.
مهجة :
أرى اثنين يسترقان السمع من وراء الباب، وهما قد وصلا إلينا بلا ارتياب.
الواقعة السابعة (الحاضرات - اثنان سيافان)
أحدهما :
أين الوزير ابن زيدون الذي أهدر دمه وكان منه ما لا يكون؟ فقد بلغنا أنه حضر إلى هذا المكان، بعد ما كان منه ما كان.
الثاني :
نعم، وكان الحامل له على هذا الاجتماع، أن يقضي قبل وقوع ما يسوءه حقوق الوداع.
ولادة :
ليس لحضور ابن زيدون هنا أثر، وما تعرفنا له طيب خبر، كيف يحضر ابن زيدون لوداعي بلا سابقة معرفة، وهل تتحقق قبل وجود موصوف صفة، فمرا من هذا المكان، ولا تخرجا بإطالة الكلام عن حقوق الإنسان.
الأول :
ماذا على السائل حتى ينهر، ويرد بغليظ القول ويقهر، ولم يهمل لك وزن اعتبار، ولا نظر لك بعين احتقار.
ولادة :
مرا بالحفظ والسلام بدون زخرف كلام، ليس لكما طلبة علي، ولا لأميركما غريم لدي، ودخولكما بدون استئناس واستئذان ينافي ما ورد من محكم الفرقان، ومع ذلك ففيه من قلة الأدب ما يقضي لمتأمله بالعجب، والوقت عندي أنفس نفيس، وأجل من أن يضيع في خسيس، فوراءكما أوسع من أمام، فاذهبا بدون خصام.
الثاني :
قد ألزمتنا الحجة بما هو واضح المحجة، نلتمس منك السماح قبل أن نصافح من جفنك الصفاح، فهيا أيها المصون قبل فرار ابن زيدون؛ لأن أمر السلطان بقتله محتوم، جزاء فعله المشوم المذموم.
الأول :
نعم أيها الخليل، غضب مليكنا الجليل على أبي الوليد ما عليه مزيد، فبادر للقبض عليه وإيصال الردى إليه، أو نضعه في السجن مكبل؛ ليعفى عنه أو يقتل.
الواقعة الثامنة (ولادة - مهجة - الجواري)
ولادة :
ما فيه ليت ولا لو فتنقصه
وإنما أدركته حرفة الأدب
يا ويح أهل الأدب! ماذا يحتملون من النصب؟ ... فأرحن قلبي من العناء بما يحسن به ختم مجلسنا من الغناء.
الجواري، مهجة (عروض مجذلي اقتصد نكدي) :
دور
لاعني عنا ترجى بالوجد
والأسى به وجبا
قد مضى لقا فرحي بالبعد
بعدما قد اقتربا
والجفا ظهر من عنا الكدر
مذ نأى القمر بعدما سفر
مبعدا منى منحي بالصد
حينما بها غربا
دور
منيتي ثقي بوفا أوطار
واطرحي به فكرا
وارقبي ورود صفا الأخبار
من فتى حكى القمرا
ربنا صدع للحشا الجزع
من أسى وقع زادنا هلع
فاعطفن لنا بشفا أفكار
منعما بما سترا
الفصل الرابع
الواقعة الأولى (ابن زيدون في السجن - 2 حرس)
ابن زيدون :
ما جال بعدك لحظي في سنا القمر
إلا ذكرتك ذكر العين بالأثر
وما استطلت زمام الليل من أسف
إلا على ليلة مرت مع القصر
يا ليت ذاك السواد الجون متصل
قد زيد فيه سواد القلب والبصر
لا يهنأ الشامت المرتاح خاطره
إني معنى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة
أم الكسوف لغير الشمس والقمر
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب
قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
ما عهد ولادة عندي يحل له
عقد وإن كان يقضي بالنوى عمري
فهل أقامت على حفظ الوداد كما
أقمت بعد نواها عاني الفكر (عروض شرفوا حي وزارو):
ليس للقلب قرار
وهو بالوجد بخاطر
وفؤادي فيه نار
شبها ذكر وخاطر
وبه للحب دار
وهو بالأشواق دائر
كيف يحلو لي اصطبار
بعد ما شقت مرائر
حكمت بيض الأيام بسود النوائب، وراع فؤادي منها كتائب، ووضع في رجلي الأدهم بعدما امتطيت صهوة الشهب قدرا، وأودعت في ظلمات السجن وكانت منازلي تنحط عن الشعور بمطالع أقمارها الشعرى، ولا بدع فهكذا عوائد الحدثان وتقلب الأحوال والزمان! لكن في الفؤاد مطارحة أفكار وخواطر، ومنازعة أوهام ينثر عقيق الدمع بتخيلاتها الشاعر بما تعانيه ولادة بعدي، وينازعها من أهوال بعدي، وقد تركتها باكية العين لما وقع الفراق والبين، فهل يصل إلي منها خبر، وأقف لها على أثر، يا ويح قلوب العشاق ماذا تتحمل من المشاق؟ ... أين نديمي أبو المحاسن فيعين على فك أسري، وينقذني من ظلمة هذا السجن، فأسير لما أريده وأسري، وأترك قرطبة التي بها منى النفس، وأذهب مفارقا برغمي طلعة الشمس وإن بعدت الدار ونأى المزار ... (لحن أكرك عشاق بياتي):
دور
كم أنادي، وفؤادي
بالجوى، مكمد
وغرامي، بازدياد
والحشا، يوقد
دور
ولمن أهوى ودادي
لم يكن ينقد
وله بعد البعاد
بالأسى مفرد
الواقعة الثانية (أبو الوليد - أبو المحاسن)
أبو المحاسن :
أحترم حضرة الوزير في هذا المكان، وإن كان يستشعر فيه الهوان.
الوزير :
أهلا بالنديم الجليل، والصديق النبيه النبيل، جئت في وقت ضقت به ذرعا؛ لاتساع الأفكار التي فرقت من شمل أنسي جمعا، وقد تمنيت حضورك أيها النديم؛ لأهتدي بسراج رأيك في هذا الليل البهيم، وأستطلعك أخبار ولادة بعدي، وما تعانيه من عناء بعدي، فأفدني ما به يستريح كليم وجد فؤاده ذبيح، وأنر أمامي من مشكاة رأيك مصباحا، وابدأ لفك أسري من مقفل هذا السجن مفتاحا، وعلل فؤادي الكليل بذكر الجميلة ذات الجميل.
النديم :
تجلد أيها الوزير الكريم، واصبر على ما ألم بك وإن كان فيه العذاب الأليم، ولا ترع بالسجن الذي أنت به مكمد، فأي حسام مطرور الحدين لا يغمد؟! ولك أسوة أيها الهمام بمن سجن قبلك من الكرام، وكم ملك وأمير وشريف وخطير، تعنى كل منهم بالقيود والأغلال، وعضت ساقه الأداهم بأنياب النوائب الثقال، وأما ولادة لا تفتر من ذكرك بألسنة الشكوى، ولا ترى سوى حديثك في خلدها إذا أخلدت إلى النجوى، والرأي عندي أن تستعمل الفرار، وتخرج أيها البدر من هذا السرار، وتجعل مطمح نظرك إشبيلية، مقر المعتضد عباد ذلك الملك الذي ينال مريد حضرته أقصى المراد، وتستديم وداد ولادة بإنشاء الرسائل، وتستدعي وفائها من رقائق الأشعار بأعظم الوسائل؛ فيخف ما بك من أثقال الغرام إذا لم تنل مرامي رجائك من وصلها المرام، فتدبر ذلك بعين التحقيق، والله - تعالى - ولي التوفيق.
الوزير :
أحسنت أيها النديم بما أشرت وأعدت قراري لنجاح الأمل بما قررت، لكن كيف يكون الخلاص والحرس شديد، وهم أيقاظ باسطون أكف الفتك في الوصيد، لا يغفل أحدهم عني طرفة عين، وهم آناء الليل وأطراف النهار من مضايقتي في أين. (لحن حجاز ضربه أبون هوسى):
عظمي وهن من فرط الحزن
والبين لي أنذر
ولا حسن ألقى في السجن
بقربه أعذر
ومدمعي القاني
بالويل ألقاني
فهل فتى يهدي للأمن
يكفي الذي أحذر
النديم :
صبرا يا مولى ذو قدر
لأمر من قدر
ليل المنى أبدى عن فجر
يبد لنا أسفر
الوزير :
هذا الحرس حاضر
لحالنا ناظر
كل لنا يرنو بالشذر
ووجهه منكسر
النديم :
لا بأس عليك أيها الوزير، إن الخطب - إن شاء الله - يسير؛ لأني أحضرت معي ما يهوي به كل أحد منهم إلى الهاوية، ويدعهم أعجاز نخل في المراقد خاوية، وهو شيء يغيب من شمه عن الحواس، ولا يبقى له سوى ضيق نفس كمن هو من حياته في درجة الباس، فاجعل يدك على أنفك حتى لا تغيب، واعجب بما تراه من الفعل العجيب.
وزير :
عجل أيها النديم بذلك، وخلص نفسي من هذه المهالك. (النديم: يخرج علبة بها شيء له رائحة ويشعله فيرتعد الحراس ويرقد.)
الوزير (عروض غصن بان جبينه يدر) :
يا إلهي ما عاد لي صبر لمتى أصبر؟
إن قلبي أذابه الجمر؛ فهو لا يفتر
نديم :
كن صبورا أمامنا الستر خاب من يضجر، فضل ربي من له الأمر دائما يستر. بادر فك القيود قبل أن يفيقوا؛ فيحولوا دون المراد ويعوقوا.
الوزير :
قد فككت القيد فسر أمامي دليلا واسأل مولاي سترا جميلا.
الواقعة الثالثة (اثنان من الحراس)
أحدهما :
ما الذي أصابنا وأي شيء نابنا؟ أين ابن زيدون؟ وكيف غفلت عنه العيون؟
الثاني :
هذا قيده ملقى هنا، يعرب أنه أفلت من شرك العنا، فما نصنع وأي شيء للحصول عليه ينجع.
الأول :
هيهات هيهات، إن الأمر فات فلا تضيع الزمان في هذا المكان، سر لنبحث عليه، ونجر البلاء إليه، وإلا فما يكون جوابنا لمالك الأمر إذا بلغه أنه أغفلنا وفر؟
الثاني :
أظن أن البحث عليه لا يجدي نفعا، ولا يصل أملنا بالقبض عليه قطعا، ولكن نسير على بركة الله فلعلنا أن نراه، ويكون لنا من أنفسنا عذر بعد ذلك، فسر أمامي في هذا الليل الحالك.
الفصل الخامس
الواقعة الأولى (ولادة - مهجة - الجواري)
ولادة :
إلام ألقى بأحكام النوى ترحا
ولا أرى بدلا يوما له فرحا
وأشتكي والصدى مما أحاوله
أرى جوابا إذا ناديت من سنحا
يا غائبا حضرت من بعده محن
نفت من الأنس في نادي المنى منحا
خلفت ولادة ثكلى الفؤادي لها
وجد أقام ودمع بالجوى ترحا
وورد وجنتها الزاكي استحال بما
بها ألم بهارا للجوى فضحا
وثغرها مر فيه الشهد بعدك من
صبر على حسن أيام مضت قبحا
فدم على الود واحفظ عهد من حفظت
لك العهود وإن ضاعت بما نضحا
لعل دهرا علينا بالفراق قضى
يلقى القضا بتلافينا إذا سمحا
فأعن على لسان الفؤاد بإعراب ألحان الإنشاد.
الجواري (عروض أخا الأنس عج بي) :
دور
إلى كم أنادي وما لي مجيب
ويذكو فؤادي، بحر اللهيب
وقدح الزناد، لبعد الحبيب
غدا في فؤادي وحالي العجيب
زاد شوقي فوق طوقي
بعد ذاك البين
فاعذروني وارحموني
حان حين الحين
ملئت النواحي بفرط النواح
وما القلب صاحي لمن كان صاح
وخاب اقتراحي صفا وقت راح
وعني صباحي نأي بالصباح
أين بدري، راح يسري
بالتجلي أين
هل يعاني ما أعاني
بالعنا والأين
ولادة :
يا مهجتي عيل اصطباري، واضطربت أفكاري، واستحوذ على فؤادي الياس وأصبح صدري في وسواس، وقد استحالت صبغة وجنتي الوردية بلون البهار، وحالت طلعة وجهي القمرية وكانت دونها شمس النهار، فيا ليت شعري أين أبو الوليد الآن؟ وماذا جرى عليه من الحدثان؟ آه! ما يكون العمل وقد كلح في عيني وجه الأمل؟ والقلب جريح، والجسم طليح، والدمع بعدل الغرام لبعد جيرتي جار، وركن الرجا بما فاض من نهره أنهار.
مهجه :
يا روحي ما هذا القلق الشديد؟ والجزع الذي يبيد، تصبري وإن لم يحل صبر، وكلي الحكم لمالك الأمر؛ فلا يدوم للدهر حال، ولا يبقى بدون أن يمر له حال، فالترح كالفرح بلا مين، وكل منهما عرض لا يبقي زمانين، والعسر واليسر ضدان لا بد أن يتصف بهما الإنسان، فتسلي بمذاكرة بدائع الأدب، ومطارحة نوادر العرب، وإنشاد رقائق الأشعار، واستماع أعراب الألحان من نغمات الأوتار، واحفظي بذلك ما بقي من صحتك، وأطفئي ببرد التسلي لهب حرقتك وإلا وردت الحين وصرت أثرا بعد عين.
ولادة :
إن ولهي بأبي الوليد حال دون كل مطلوب، وشغل أفكاري بما يمر عليها لم يحل به في عيني محبوب، فلا تكلفيني ما هو فوق طوقي، ولا تحمليني ما ينافي موضوع شوقي، أشعر بقادم يتأنى بمشيته، ويهمس بنقل خطوته، فلعله نديم أبي الوليد جاء يبدي لنا خبره ويعيد.
مهجة :
هو ذاك جاء يخاطر في هذا الدجا، فإن شاء الله - تعالى - تلقي بحضوره فرجا.
الواقعة الثانية (الحاضرات - أبو المحاسن)
نديم :
أحترم حضرة السيدة الجليلة المقام، بخضوع وثناء وسلام.
ولادة :
وعليك السلام وبكل احترام من فؤاد ذاب وجدا وهيام، أفدني خبر أبي الوليد بالتفصيل، واشف من فؤادي ببرد حديثك الغليل.
النديم :
إن خبر أبي الوليد غريب، وشرح حديثه عجيب، فقد مرت عليه أهوال، وحالت دون آماله أحوال؛ وذلك أنه بعدما انفصل من هذا المكان وقد غلب التوله على فؤاده وران، وطمس أمام عينه المذهب، ولا يدري أين يذهب، لقيه عدة من أعوان السلطان الذين انتشروا للبحث عليه في كل مكان، فقبضوا عليه وبسطوا يد العدوان لديه، ثم أودعوه في السجن بأمر سلطانهم، وضيقوا عليه الحرس فوق إمكانهم، ووضعوا في ساقه الأدهم بعد الأشهب، وحملوه على خطة خسف، وتركوه بها يعذب، فبقي يتعلل بذكراك في عامة أوقاته، ويجلو كئوس الغرام بمحاسن وصفك في جلواته، وهو مشفق على فؤادك بعد ذلك الموقف، ومتحرق على ما جرى من تلك الأهوال ومتأسف.
وما زال كذلك تحول دون مطالبه المهالك حتى حضرت لديه، وتمثلت بين يديه، وأعنته على الفرار، والخروج من ذلك السرار، وحسنت له الذهاب إلى إشبيلية مقر المعتضد عباد، حيث ينجو من ذلك الأسر الشديد ومعاناة غلاظ شداد، وبعدما استعملت شيئا سقط به الحرس، فك قيوده وخرج مع البازي برداء الغلس، وقد فاز بحضرة ذلك الملك الكريم، وتقلد وزارة دولته بكل تعظيم، وهو الآن يخطر بلباس الإجلال، ويجيب النداء بتوقيع الندى لفريق الآمال. إلا أنه مع ذلك فاتر النشاط يعاني حر الأوار ، ولا يستطيب برد الصفا بمعاقرة العقار؛ إذ كان اشتغال فؤاده بهواك حال دون راحته بتعب الفكر، فلذلك لا يفتر لسانه مع تلك الحرق لك من ذكر، وقد أرسلني إليك لاستدامة ودادك، واستمطار سقيا عهده بصوب عهادك، وأنه لا يحول عن وجده بك ولو بعد حين، ولا يتغير حبه وإن غير النأي المحبين.
ولادة :
خففت عني بعض ما أجد أيها النديم، وأرحت فؤادي من معاناة العذاب الأليم، حيث وصل الحبيب إلى بر الأمان، ونجا مما نصبه له العدا من شرك العدوان، وإن عروة ودي له لا تحل بيد سلوى، ولا يأنس ضميري بخاطر إذا لم يكن له به بنجوى، ولعل ساعد الأماني يساعد بجمع الشمل، فيدرج همزة القطع لبعدنا بضرورة الوصل، وإلا فاتصال أسرار الضمائر، وصفا القلوب والسرائر، وإعمال حركة الفكر بمناجاة الذكر يعلل فؤادي العليل، ويطفي بعض ما أجد من حر الغليل. (لحن عروض أيها المجاوز بالأسل بياتي):
أيها النديم صفا سري في هوى الحبيب
واحتوى سناه حما صدري؛ فهو لا يغيب
والحشا حواه فهل يدري حالي العجيب
والهوى يديم به أسري سائر الزمان
نديم :
ها أنا أسير لتدبيري باللقا سرور
أشرح الحديث بتقريري واضح الظهور
والهنا يطيب بتبشيري، والصفا يدور
والمنى يكون بتقديري في سما الآمان
وها أنا ذاهب أيتها السيدة الجليلة، لأصنع يدا لديك على قبح الزمان جميلة، فألتمس منك الأذن بالذهاب، وسيكون بمشيئة الله - تعالى - فوق ما ترومين الإياب.
ولادة :
سر محفوظا بعين العناية، مشكور المساعي في البداية والنهاية.
الواقعة الثالثة (ولادة - جواريها - مهجة)
ولادة :
أحمد الله على تخفيف بعض ما أعاني، وراحة أفكاري مما كان يجنه من الهموم جناني، وحيث نجا الوزير من توقع ذلك الخطر، وأسفعه القضا في إشبيلية بمواتاة القدر، فسوف يقضى بمشيئة الله - تعالى - اجتماعنا بالأشباح، وإن كنا دائما في اجتماع بتلاقي الأرواح.
الواقعة الرابعة (الحاضرات - امرأة عجوز)
العجوز :
مساء السيدة الجليلة سعيد، وقتيل عشقها وإن ألقى بيده إلى التهلكة شهيد، وخاطب وصلها نال فوق ما يتصوره الخاطر، إذا كان وزير جليلا كالوزير أبي عامر.
ولادة :
ومساؤك كما قلت أيتها العجوز الشوهاء، التي هي كثيرة الفضول قليلة الحياء، تجاوزت حد أداء التحية، وخرجت بدون مناسبة من قضية إلى قضية، وأكثرت من القول قبل الاستئناس، وتلبست بشر الوساوس الخناس، وكان الأولى بك أن تقتصري على الفقرة الأولى، ولا تبدي بلا فضل فوق الحاجة فضولا.
العجوز :
أرجوك السماح عما فهت به من الفضول، فإنه جرى على لساني لما شاهدت هذا الجمال الذي تعقل به العقول؛ فكان الكلام يجري على لساني بدون اختيار، فهو كما ترين من حركات أعضاي بالاضطرار، وإني لك أيتها السيدة رسول من عند من يسبق فعله بالمكارم ما يقول.
ولادة :
رجعت إلى ما ابتدأت به الكلام مما يعود عليك بالملام، فدعي وأنت جاثية زخرف المقال، فليست ولادة ممن يعلق بحبائل الاحتيال.
العجوز :
قطعت علي كلامي قبل أن أجيء لمبتدئه بخبر، وما علمت أن الذي يخطب الشمس يشرق من محياه القمر.
ولادة :
حسبك أيتها العجوز أن تذكري لدي ما لا يجوز، أين الشمس من القمر وهي في السماء الرابعة؟ وليس لسناه إشراق إذا تجلت طالعة، وهو يستمد النور من طلعة محياها، وهي متقدمة عليه وإن تلاها في دجاه بضحاها، فأهملي ذكر مرسلك لدي، ولا تضعي أحاديث الزور بين يدي؛ فإني لا أتصور تصديق رسالتك، ولا أتدبر بعين الفكر مباحث مقالتك.
العجوز :
كسرت قلبي أيتها السيدة بكلامك، وما تعديت بكلامي واجبات احترامك، وما عليك أن تسمعي ما أقول وإن لم تقبلي على تصديقه بالقبول، وإن اعتراض المتكلم قبل إتمام الكلام لا يليق بأدب المناظرة عند الجهابذة الأعلام، وقد أتيت إليك ناصحة، ولصدرك بآيات السرور شارحة، فتفضلي باستماع كلامي ولا تعجلي قبل استيفائه بملامي.
مهجة :
قد أنصفت بما قالت، وما تعدت عليك واستطالت، وما ضرك أن تسمعي ما تبديه، وتتدبري ما تقوله بدون تمويه، فتختاري منه ما يحلو دون ما يمر، وتدعي ما يسوء وتأخذي ما يسر.
ولادة :
إن للعجائز رقى تبطل كيد السحر؛ فأخاف أن تؤثر بي رقياها فيضيع السر.
مهجة :
إني آمنة عليك من رقيا سحرها، وحريصة على حفظك من كيد شرها.
عجوز :
نصحتك مهجة بإخلاص نية، وأحسنت إليك بصفاء الطوية فامتثلي إشارتها بموصول الكلام، واسمعي ما أقوله ولا تعارضيني قبل التمام.
ولادة :
إن كان لا بد من ذلك فلا تتجاوزي الحد، واعلمي أنني قاصرة الطرف أن تمد مني نحو محاسن الرجال يد، وإن كنت أحاضر الأدباء وأطارح الشعراء فغرضي لديهم اكتساب الأدب، وليس لي في ما وراء ذلك أرب.
العجوز :
أجبتني قبل السؤال، وقطعت قبل وصل الرجاء الآمال ... أمرك أيتها الواضحة الجبين، لست أميل عما قلت أو أمين.
ولادة :
إذن؛ هات ما عندك من النصح، قبل أن يسفر الصبح.
عجوز :
إن جمالك الغض باهر، ومحاسن محياك لم يشعر بمعانيها شاعر.
ولادة :
ما قلت حقيق، وهو بديهي التصديق.
عجوز :
نعم، ووجنتك الوردية شوكة جناها على القلوب قوية، وثناياك اللؤلئية شائقة شهية، وقوامك غصن البان، ثماره الجلنار والرمان.
ولادة :
ما قلت محقق برأي العين، لا نزاع فيه بين اثنين.
العجوز :
نعم، وإذا قيس فرعك بالليل ففرقه كالصبح واضح، وغمز جفنك إذا حكاه السيف فالقول فيه شارح.
ولادة :
فهت بما العلم فيه يقين، لا مجال فيه للظن والتخمين.
عجوز :
نعم، وكل شيء لك تم معناه، ودنا لمستحقيه جناه، والثمر متى أدرك وجب أن يجنى، وإلا أدركه الذبول لمن أمعن النظر في المعنى، فهل لك أيتها الشمس المضية أن تدركي نتيجة القضية.
ولادة :
عادت إلى نفثاتها السمية، ورقياها السحرية ... أخذت مني الجواب قبل هذا الخطاب.
العجوز :
نعم، وإني لك خاطبة من قبل أكمل فاضل، ومولى تقف في بابه لنيل الفواضل الأفاضل، وهو ألمعي أريب، وزكي أديب، له المقام الجليل، والقدر النبيل، والوجه الجميل، والمجد الأثيل، نسيج وحده، وعريق أصله وجده، تتهافت زليخا وبوران وشيرين على وصله، وتتمنى المتجردة أن تلتحف برداء فضله، وقد رددت رجاءه لما خطب منك الوصال، حين إنشاد بيتي القبلة والمعال، قبل أن تقفي على حقيقة أمره، وإيضاح معاني سره.
ولادة :
لعله الوزير أبو عامر الموسوم بالفار، ذاك الذي عري من كل فضل وتردى برداء العار، فإن كان ذاك؛ فيا ضيعة تلك الأوصاف التي فهت بها بدون إنصاف! كيف يستحق ذلك الفدم الثقيل أن يوصف بحسن أو ينعت بالجميل؟
العجوز :
نعم، هو الوزير أبو عامر، ذاك الذي منزل الفضائل به عامر، فقابلي غرامه بالرقة واللين، ولا تنهري سائل دمعه المسكين، وهو لك خير كفو وسمير، وهل يكون كفو الشمس إلا البدر المنير.
ولادة :
قد أخذت مني الجواب بما يتعلق بعموم الرجال، وفهمت ما أجبتك به في ابتداء السؤال، وخذي الآن الجواب بخصوص صاحبك المذكور، الذي حديث لؤمه مأثور ومشهور، وهو أني لا أرغب أن يكون لي من أقل العبيد، فضلا عن إجابة إرادته بما هو من نيله أبعد بعيد، ويكفيني شينا ما يلحقني من العار إذا قيل بين الناس: لحس الإناء الفار، فألقميه حجرا أن يفوه بذكري عند أحد، أو أن يعود لطلب ما لا يمكن أن تمتد إليه منه يد، وإني كنت أنزل بك الوبال، وأذيقك النكال لولا احترام الرسول الذي ينقل حديث مرسله بما يقول، فاذهبي من أمامي أيتها الداهية، واهوي بسوء فعلك إلى الهاوية، وكوني لصاحبك قواده، واستعملي الحيل المطلوبة عند غير ولادة، وأنتن نبن عني بصدها وزيادة ردها.
الجواري (عروض شادن صاد قلوب الأمم من العجم) :
إن قلبي دونه في شغل
وفؤادي في كمد
فاقطعي عنك دواعي الأمل
أن يراني للأبد
عجوز :
ارحمي لطفا محبا قد بلي
بهواك ذا نكد
جواري :
قد كفى ما قلت ذات الحيل
ورقاك في العقد
هل ترى الشمس لفار تنجلي
وهي في برج الأسد
عجوز :
دور
قابلي قولي برفق وارحمي
دمع صب لك جار
جواري :
اذهبي عني لقد فار دمي
لا ينال الشمس فار
كيف أعرى من معالي هممي
عند لبسي برد عار
عجوز :
خاب قصدي مع سعي القدم
وفؤادي ذو انكسار
جواري :
يا إلهي عد بفيض النعم
عند إسبال الستار
الفصل السادس
الواقعة الأولى (أبو عامر)
أبو عامر :
طال انتظاري للرسول وأدمعي
تهمي ولا تطفي حرارة أضلعي
فمتى توافي أم رحمة بالمنى
ممن أبت رحمى فؤاد موجع
هل أنعمت ولادة بإجابتي
فأرى لشمس الأنس أسعد مطلع
أو ردت الآمال خائبة كما
فعلت ولم تسمع لشكوى المولع
فإذن يكون الحين فاجأ مهجتي
ووردت بالقدر المحتم مصرعي
يا ويح حب لا يجاب نداؤه
بسوى الصدى عاني الفواد مروع
قادته لمحة طرفه لهوانه
بهوى فتاة لا ترق لمدمعي (عروض باسه يا باهي الشيم):
أجرت دموعي كالديم
نقيض طوفان
وما وفت حسب الكرم
بالوصل ولهان
أضحى بها عاني ألم
من حر وجد قد ألم
ولم يكن منها نعم
جواب من يرجو النعم
الواقعة الثانية (أبو عامر - حسان)
حسان (من اللحن) :
كفاك تشكو والصدى
جواب ظمآن
قد مال عن نهج الهدى
ذلا وخسران
إياك أن ترجو الندى
ممن لها تبدي الندى
وثغرها لن يوردا
إلا إذا ذقت الردى
أبو عامر (عروض سقى زمان البان) :
أسرفت يا حسان
بعذلك الولهان
أقصر ملامي، واسمع كلامي
وقصة الأشجان
حسان :
هيهات يا مسكين
أن تجني النسرين
في روض أنس، من خد شمس
فاقت على التحسين
أبو عامر :
ما هذا الخبر الذي يشتت الفكر، ويوهي الجلد، ويفطر الكبد.
حسان :
ما علينا أن نستعمل التمويه، وننتقل من الفن الذي كنا فيه، هات حدثني حديث تلك المعشوقة التي لا تزال نفسك إليها مشوقة، كيف تناجي حركات الضمير بتخيلات محاسنها أيها الوزير؟ وكيف كان صبرك على ظمأ كبدك الحرى دون ورد حلو لماها مع أنك لم تستطع صبرا.
أبو عامر :
كفاك يا حسان أن تعيد لي حديث ما كان، لا تسل عما أنت به أعرف، ولا تزد كلف قلب لا يدرك المنى ولو تكلف، وساعدني على إدراك المرام وأرحني من حمل أعباء الغرام.
حسان :
بلغني أن ولادة في شغل شاغل أن تخطر لها في بال، بما ينازعها في هوى ابن زيدون من البلبال، وليس لها أرب في سواه، ولا يهوي بأعطافها إلا نسيم هواه، فإذا لا يكن لك أمل أن تعل من ورد وصلها وإن كنت ذا علل، وقد نهيتك أن تطرق هذا الباب، فما استعذبت قولي حتى وقعت في العذاب.
أبو عامر :
كم أنت تروع بي وتمزق قلبي، فإما أن تمد نحوي ساعد المساعدة باللين، أو تدعني أعاني بتخيلات معانيها لوعة الأنين، فلم يبق لي اصطبار على احتمال ما تبديه وأنت خلي البال، لم يشعر قلبك بالخفقان إذا تصور الجمع بين القرط والخلخال، فيا ذل الفقير من الغني، ويا ويل الشجي من الخلي.
حسان :
كيف رأيت أيها الوزير حركات أعطافها إذ خامرها سكر الدلال، وسرعة انعطافها إذا هبت بشمائلها نسمة الشمال، وكيف تتلون وجنتها إذ ضرجها الحيا، وكللها بإشراق محياها البها، أفدني ما نسيته لطول العهد، ولا تخرج بتصور رسمه عن الحد.
أبو عامر (عروض أما ومن بالجمال أنعم) :
كفاك تشجي قلبا تألم
وهو بنار الأسى تضرم
وارحم فؤادا قد ذاب شوقا
لمن قلاني وليس يرحم
حسان (منه) :
يا حسن ولادة إذا ما
رنت بجفن للسحر علم
أبو عامر :
بالله كف الكلام عني
وارفق بمن بالأسى تكلم
حسان :
نعم وأبدت وردي خد
من لمس خز نراه أنعم
أبو عامر :
أواه أواه أواه! لا حول ولا قوة إلا بالله! (عروض نسمة الخزامة):
حسان، اعزب عني
لقد توالي حزني
حسان :
دعني أتمم لحني
وافهم معاني فني (عروض قم واسقني ترل.)
أبو عامر (منه) :
قد علاني الهم
من ذا الثقيل
وبراني الغم
ويلي يا ويلي (حسان أيضا ترل منه.)
أبو عامر :
قد ضاق صدري يا حسان، وما بقي لي جلد على مخاطبة إنسان، فاكفف عني غرب لسانك، وامض بالله لشانك.
حسان (عروض صيح بي خلى صيحا) :
يا هنا صب تهنا بمعانيها الحسان
وعليه قد تثنى بلقاها غصن بان
أبو عامر (منه) :
يا عنائي وشقائي بك إن طال الكلام
خلني عان بدائي، وامض عني بسلام
حسان (عروض ساعد الغزال المخضوب) :
هائم الفؤاد المسلوب يشتري اللقا
بعد ما زاده المحبوب بالجفا شقا
والهوى طالب مطلوب بالفنا بقا
أبو عامر :
قد كفى تسحر المكروب هذه الرقى
زدت ذا الغرام وسواس، في هوى قوام مياس، رد ما أرجي بالياس.
الواقعة الثالثة (أبو عامر - حسان - العجوز أم رحمة)
عجوز (من اللحن) :
والشقا عليك مكتوب، حيث لا لقا؛ فابك لا تدرك المرغوب منه مطلقا.
حسان (لحن حجاز) :
نلت التهاني بلا تواني من الأماني، فاطرب وعربد على المثاني بين الغواني، فالهوى وافاك ما اقتضى رجاك في حما الأمان.
أبو عامر (منه) :
أضرمت ناري، كيف احتيالي، والقلب صالي، ضاع اصطباري، قل احتمالي، فارثي لحالي، كيف كان الحال؟ أوضحي المقال واشرحي المعاني.
العجوز :
أخفق سعيي على كل حال، مع أني فهت لنجاح أمرك بالمحال، وألبستك حلى أوصاف أنت منها عار، وترديت لأجلك بما لاقيت منها رداء العار، وبالجملة إن ولادة لا تريد لقاءك، ولا تفي عن كراهتك بما يقتضي وفاءك، وقد راجعتها بإطالة الكلام، واستعملت التورية بإشارة الإبهام، وتدرجت بتشديد عزائم سحري حتى صرحت لها باسمك، وأعربت بانتحال أجمل وسامة لها عن وسمك؛ فنفرت مني والظبية شديدة النفار، وصرحت بأنه لا ينال الشمس فار، وتركتني لإخفاق السعي باكية العين، وردتني على قدم اليأس بخفي حنين، وخلاصة الأمر أنك لا تفوز منها بإسعاف ولا إسعاد، ودون مجنى ورد خديها خرط القتاد.
حسان (أكرك أصبهان) :
لك التهاني بالأسى مع الغراب
قد آن بعدي عنك من دون ارتياب
عجوز (منه) :
كذا أنا مشغولة أرجو الذهاب
وشرح حالي معرب متن الجواب
أبو عامر :
أواه قد أضرمتما نار الجوى بي
سيرا فيا ذلي ويا طول انتحابي
حسان، عجوز :
سرنا فدم عاني الأسى دون اقتراب
أبو عامر :
سيرا إلى مسعرة ذات التهاب
الواقعة الرابعة (أبو عامر)
أبو عامر :
حال بالقدر القضا دون إسعاف الآمال، ولم أستفد إلا العنا وإشمات العذال، وقد نصحني حسان قبل تزايد الأشجان، لكنه استعمل بشرح محاسنها الإطناب، وعذب قلبي بوصف ثناياها العذاب، وتلك العجوز التي ضمنت لي نجاح الأمل، لم أستفد من علمها إلا سوء العمل، فإذن؛ لم يبق لي إلا تجرع الصبر وإن كان مر المذاق، وقطع الأمل من سماع رنة خلخالها إذا دنى من قرطها الخفاق.
إني أضعت نفيس العمر مشتغلا
بمن غدت عن وفاء الصب في شغل
وقد أحالت رجائي بعدما نفدت
لنيل حالي لماها بالصفا حيلي
فلا مساعي فازت بالنجاح ولا
أصالة الرأي صانتني عن الخطل
فالآن أفزع للصبر الجميل على
ذاك الجمال إلى أن ينقضي أجلي
الواقعة الخامسة (ولادة - جواريها - مهجة)
ولادة :
متى بأنس اللقا تدنو لنا الدار
وتنجلي في سماء البشر أقمار
والبدر بالشمس يحظى في حما أسد
ولم يفز بالأماني عندها الفار
ومنية النفس تقضى بالعيون إذا
وفت بوحي عن الأفكار أسرار
إني أشم لطيب الوصل رائحة
جادت لها نفس للأنس معطار
على الوزير وفي وعد النديم بأن
يزور من حبها ما فيه أوزار
هنالك الوصل يغدو كاملا ولنا
تقضى بنادي الصفا للنفس أوطار
فنبن عني بإنشاد يكون به
للصدر شرح إذا ناجته أفكار
جواري (عروض بالله يا باهي الجمال) :
قلبي مريد للوصال، ينشي التمني
حيث بأعطاف الدلال، أبدى التثني
أبو الوليد ذو المعال لقياه يدني
لنا الأماني والنوال في كل أين
متى يوافينا الوزير بالأنس زائر
وينجلي البدر المنير للشمس باهر
يا صاحب الفضل الشهير عنك الأزاهر
تروي أحاديث العبير من غير مين
ولادة :
آه يا مهجتي! هل يفي النديم بوعده؟ فيدني لزيارتي من أعاني هول بعده، أو نسي ذاك الوعد لبعد الشقة، أو رأى أن القيام به يشق عليه بتحمل المشقة.
مهجة :
هيهات أن يتخلف أبو المحاسن عن عوائد الإحسان فيخلف ذلك الوعد الذي عقدته يمينه بأوثق الإيمان! فلا بد من القيام بوفائه وإن تجشم الأخطار وصافح أكف الصفاح وخطر على القنا الخطار، فلا يخطر لك ذكر بتخلف ذلك، فسوف يسفر الصبح بنجاح آمالك، وتقر العين بطلعة العين، ويجمل في أفق المسرة اقتران النيرين.
ولادة :
يا حبذا ذاك القران في حرم الصفا! إذا رمينا جمرات الهم بعد عرفات الوفا، وتمتعنا بلذة النظر بلا فسوق وعصيان، وجنينا ثمار الأدب في روض اللطائف من أفنان الافتنان، غير أن الأفكار تنازعني بأن يكون نمى إلى أبي الوليد، حديث خطبة العجوز لأبي عامر الكنود المريد، ويكون الراوي حرف الكلم عن مواضعه فوضع في سمعه خلاف ما حمل إلى مسامعه، فإن كان ذاك فقد ذهب العمر سدى، ورجعت بدون أن أجد على النار هدى.
مهجة :
لا أظن أن اعتقاد أبي الوليد بحسن طويتك، وصفا سريرتك في حبه وخلوص نيتك، يخامر أقل ريب بوهم شيطان يرجم بالغيب، وهذا أبو المحاسن يخطر في مشيته، ويباعد بالتقريب عند نقل خطوته، فلعله يريد القرب ورسول الحب.
الواقعة السادسة (الحاضرات - نديم)
نديم :
لك الهنا قد دنا غرس المنى ووفا
لك الزمان بإسعاف وإسعاد
أبو الوليد ابن زيدون على أثر
آت ليحظى بمجلى وجهك النادي
ولادة :
دامت مساعيك بالبشرى ولا برحت
آثار سعيك تحيي مهجة الصادي
وفيت كل الوفا فاسعد بطيب ثنا
مني يجود بريا طيبه الجادي
نديم :
إني بعدما نقلت خطاي من حضرتك الكريمة، وقد وعدتك أن أصنع يدا عندك بجميل الوفا وسيمه، ووافيت حضرة الوزير أبي الوليد، وأبديت لديه حديث الوعد دون الوعيد؛ فوجدته حريصا على زيارتك ومصغيا بالتدبير لمعاني عبارتك، وقد تهيأ للحضور إلى هذا المكان، وقريبا إن شاء الله يفرح الجنان، وقد نمى إليه خبر العجوز التي أرسلها أبو عامر لخطبة وصالك، واستثمار غرس آماله من رياض جمالك، وعلم إخفاق سعيها بردك الشديد، وسد باب مطالبها بسور من حديد؛ فاشتغل بإنشاء رسالة صكت وجهه وصفعت قفاه ومنعته أن يخطر له بخاطر ما كان به فاه، وبهذا السبب تأخر بعض التأخير، وهو الآن لأجل الحضور إلى هنا على قدم المسير.
ولادة :
شكرا لله أيها النديم صنعك، ولا فرق من وصل الأحبة جمعك، والحمد لله على نقل حديثي مع العجوز كما هو مسطور، ولم يحدث بحمله ما يحول موضوعه بيني وبين السرور، وقد أحسن أبو الوليد صنعه مع ذلك الفاجر الذي لبس برد الصغار من خطبتي، وما زال باستعمال الحيل يكابر، فالآن قطعت آماله وساءت أقواله وأفعاله، ولا تصنع عندي بشدة كراهته بدون مراء؛ لأن الحب في القلب والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وقد خاطبته بذلك من أول الأمر، فلم يرعوي وبقي يتجرع دون حلو القرب مر الصبر ، حتى كان ما كان وذاق الهوان.
نديم :
ذاك قدر بأمر القضا سجل عليه الذل والشقا، فما عليك أيتها السيدة بذلك عار، وإن قيل تجرأ على خطبة الشمس الفار، وهذا أبو الوليد قد حضر، وقد أسعفك بقربه القدر.
الواقعة السابعة (الحاضرون - ابن زيدون - غلام 3)
ابن زيدون :
أقدم إخلاص الضراعة والثنا
لمن من إسعافا ولطفا بقربنا
وجاد على طرفي بمرآك بعدما
عدا كيد خطب بالأسى راع سربنا
ولادة :
وإني أجيد الشكر للمالك الذي
علينا قضى بعد المساءة بالهنا
وأهلا وسهلا بالحبيب الذي خطا
لوصلي على هام الأسنة والقنا
هات أيها السيد الكريم حديث الأشواق، وما جرت به عند صلة القرب عوائد العشاق، فقد طالت بيننا شقة البين، وقرح أثر البكا بماجرى محاجر العين، فكيف عهدك بإنشاد بيتي المعالي والقبلة؛ ذينك الذين غرسا في فؤاد كل منا حب الحب وأنبتا سنبله، فالآن نجني بيد السرور ذلك الغرس، وينجلي محيا القمر بإشراق عين الشمس.
وزير :
حديث الأشواق أيتها السيدة طويل الشرح، وهو بقدح الزناد العفاف بري من القدح، وبعد رؤيتي هذا المحيا الحسن، لا يحسن إلا ذكر المنح دون المحن وإن راعتنا بالأهواء أهوال ووقعنا من الأحوال في أوحال، وعهدي بإنشاد ذينك البيتين حديث وإن أدرت بهما القديم، ولا يزال بسمعي عذب نعيمهما وإن حدث بعد ذلك عذاب أليم، وفؤاد كل منا بما في ضمير الآخر أعرف، وشرط العارف بعد تعريف ذاك النشر لا يعرف.
نديم :
أرى أن وجودي هنا جملة معترضة لغير فائدة، ولا يليق بالذي خف طبعه أن يثقل على المحبين عند صلة عائده، فألتمس الإذن بالذهاب، وإن كان ليس دوني في حضرة سيدي حجاب.
مهجة :
وأنا كذلك لا حاجة إلى وجودي هنا، وربما كان عائقا عن إدراك المنى، ولا يحسن وجود ثالث عند اجتماع المحبين، وهذا المعنى بديهي التصديق برأي العين، فعين واحدة تمنع لذة الاجتماع فكيف بنظر عيون وإصغاء أسماع؟ فسر أمامي يا أبا المحاسن ليبقى معين اللقا بينهما غير آسن.
وزير :
لا يبرح منكما أحد من مكانه، ولا يتصور شيئا غير ما رأته العين في جنانه، فلا يكون مني في مقابلة هذا الوجه الجميل إلا ما كان عند اجتماع بثينة وجميل، وإني أجل هذا الجمال أن يوصف بشين وهو لأوجه المحاسن برأي العين أجمل زين، ووجودكما شاهدين على ما يكون، يمنع حسن لقائنا أن تسيء به الظنون، فإذن كونا براحة أفكار، أن يكون لنا وراء ما رأيتماه وسمعتماه أوطار.
ولادة :
ما كان ظني بك يا مهجة أن يقع في فكرك ما ظنه أبو المحاسن أو تتخيلي ما يدع ماء جمالي بدنس الشين شراسن، وقد علمت حقيقة حالي ومنتهى قصدي وآمالي، وأن ما يجنه جناني من العفاف بدون مين، لا يزيله ما فاه به لسان الإنشاد ذينك البيتين، ولا أجتمع دون ثالث مع أحد، ولا يمد إلي بريبة ضمير يد، وأمر ما يكون بين النسا والرجال قد قطعت منه جميع الآمال، وأرى الحب به يدركه الفساد كما يشوه بقبحه محاسن الوداد، خلافا لما قاله أبو العبر، وكان فيه لمتأمليه العبر، وغاية ما في الباب من محاضرت الرجال مطارحة نوادر الأدب بما لا يحول بيني وبين الحلال، وشكوى أيام النوى، وبث أخبار الوجد والجوى، وإدارة راحة الأنس بأحاديث العشاق، وهيهات أن يطمع أحد - وإن قامت الحرب - بكشف الساق، فابقيا علينا في هذا المكان شاهدين وإن كان ثم أعظم شاهد لا تراه العين.
نديم :
اقبلي أيتها السيدة عثرة لساني، وإن كان لم يذعن لتصديقها جناني، وإن ضميري صحيح الاعتقاد أن لا يدرك هذا الجمال انتقاص ولا انتقاد، وإني قصدت بذهابي التخفيف وليس لنحو أفكاري فيما وراء ذلك تصريف.
مهجة :
وهكذا أنا يا راحة الأرواح، لا يخطر في خاطري أن تكتسبي ما فيه جناح، وها نحن في هذه الحضرة نمتع النواظر والأسماع بما يحلي أجياد اللطائف بعقود الإبداع، فخذا في حديثكما الأول، فلا ألطف منه ولا أحلى ولا أجمل! ولا تهملا في موضوعه حديث أبي عامر، ذاك الذي خرب بيت أنسه فهو غامر.
وزير :
ذكرتني يا مهجة ما شغل أفكاري زمانا، وجرعني معاناة القلق ألوانا، لكن صفا خاطر ولادة من كدر الخيانة، وانعقاد ضميرها على حفظ الأمانة أراحني من عنا الأفكار، وأزال ما كان يخطر في فكري من تسلط الفار، وقد بلغني أيتها السيدة حديثه معك من المطلع إلى المقطع، وسمعت خبر ردك له بما حلا وقعه في كل مسمع، وأدركت ما فاهت به تلك العجوز مما لا يدخل في سمع ولا يجوز، وقد أنشأت بسبب ذلك رسالة بديعة المقاصد، حللت بها بدائع أبيات من الشعر حلت أجياد القصائد، وجعلتها على لسانك جوابا لخطبته، ولما تجرأ عليه مما هو فوق رتبته، وقد بلغني أنها أخرسته بنطقها أن يفوه لك بذكر، أو يخلد أن يناجي خلده لوصلك بفكر، والنعل حاضرة إن عادت العقرب إلى الدبيب، وهيهات أن يكون لمثله في غرض هذه المحاسن سهم مصيب!
ولادة :
لا فض الله فاك أيها الوزير على إنشاء تلك الرسالة! وما أظهرته في كفاح ذلك المعتدي من البسالة، والحمد لله على تصديق برائتي لديك من الميل إليه، أو تعويلي بمقدار ذرة من المحبة التي خطبها عليه، فلا عاش من يصل حبل رجائه، ويفي إلى ظل وفائه.
وزير :
قد كفى ما أوردناه من ذكر ذلك الخاسئ الخاسر، فهاتي ما ترتاح إليه الأرواح وتستريح الخواطر؛ فإني لحديثك الحلو مشتاق، لا تنقضي مني إليه - وإن طال - أشواق، وعباراتك الشهية راحة آداب المحاضرة، وألفاظك الدرية زينة الدنيا وبهجة الآخرة.
ولادة :
سحرت لبي بنكت هذه المعاني الحسان، وأسكرت عقلي بما أدرته من نفثات اللسان، فما أحلى حديثك في الأذواق والأسماع! وما أخف معانيه وإن ثقل مقدارها على الطباع! هذا هو السحر الذي حل وإن عقد عليه الضمير، ولأسرار حروفه في العقول تأثير، فلا فل في هام البدائع غرب لسانك، ولا بلغ شانيك الأبتر أقل درجة من شأنك، وأرى إن شئت أن نطرب الأسماع ونجمل هذا المجلس بالألحان والسماع.
وزير :
أمرك ذات المعالي
بغية القلب السليب
شنفوا السمع وغنوا
حيث قد غاب الرقيب
زالت الأتراح عنا
بلقانا للحبيب
نوبة
زالت الأتراح عنا
بلقانا للحبيب
أيضا:
دور
نشأة الأرواح أغيد
ذو الهيف سبى الرجال
بدر الكمال
يا مليحا قد تفرد
بالمحاسن والجمال
جد بالوصال
أيضا:
أشرقت شمس الجمال
في حان التهاني
وجلا راح الوصال
مخضوب البنان
دور
شاقني لما تبدى
حياة الجنان
ينثني كالغصن قدا
ما بين الجنان
لنهود أم قدود
أم أغصان بان
سلبتني أم خدود
تحكي الأرجوان
دور
جذبت قلبي ولبي
خصور الحسان
واضطراب الردف يسبي
تحت الخيزران
دور
أهيف بالراح حيا
يوم المهرجان
وبلثم الثغر أحيا
فاني الافتنان
دور
هز خطي القوام
للحرب العوان
فعلى الدنيا سلامي
من هذا الطعان
أيضا:
لازمه
حسن توريد وجنة الوسنان
أصل سلبي حينما قد بان
فاضح الشهب شاغل اللب
فرقه يسبي بالسنا الولدان
دور
طاف بالراح مالك الأرواح
فيه قلبي قد غدا ولهان
قم بنا يا صاح نحتسي الأقداح
بدر أنسي لاح في سما الحان
دور
خلي مرآك تيم النساك
جد بقربي واترك الهجران
كل من يهواك ظل في أشراك
جل من أنشاك للورى فتان
أيضا:
بدر حسن لاح لي ينجلي
فوق غصن بالحلي
ينثني والحلل
يحمي ورد الخجل
بظباء الكحل
دور
يا حياتي قد توى من الجوى
مدنف واهي القوى
في تباريح النوى
فأزل عنه الجوى
بتوالي القبل
دور
وا عنائي في الغرام من غلام
لي لا يراعي زمام
لمشوق مستهام
فعلى روحي السلام
حان حين الأجل
دور
ما احتيالي في غزال كالهلال
ماس تيها ودلال
بين أرباب الجمال
ريقه العذب الزلال
سلسبيل العسل
وزير (إنشاد) :
لقد قضينا بحج الأنس فرض لقا
نلنا بسعي الأماني فيه كل صفا
كما التزمنا بإحرام العفاف به
تعريف طيب ضمير للمحب كفى
الجميع (عروض) :
العيون الكواسر سبوني
قد وفاني مرامي زماني
وانجلى بابتهاج جناني
فاجتلينا سرور التهاني زاهر
وانتشينا بالحميا
من جنى ورد المحيا
ورتعنا بهنا وأمان
واحتسينا راح أرواح التداني
دور
يا إلهي أنلنا رضاكا
وأرحمن من يرجي عطاكا
وهو لا يبتغي من سواكا ناصر
كلما أصبح حيا
لك بالتوحيد حيا
ذا يقين أنه يلقى هداكا
فاسبل الستر على عبد رجاكا
تذييل
وقد رأينا أن نذيل هذه الرواية البديعة المثال برسالة الوزير أبي الوليد بن زيدون الطائر الصيت لمكان المناسبة بينها وبين الرواية، ولما مر من الإشارة إليها إتماما للفائدة.
هذه الرسالة التي كتبها الوزير أبو الوليد بن زيدون عن لسان ولادة يذم ابن عبدوس
أما بعد؛ أيها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب، فإن العجب أكذب ومعرفة المرء نفسه أصوب، وإنك راسلتني مستهديا من صلتي ما صفرت منه أيدي أمثالك، متصديا من خلتي لما قرعت دونه أنوف أشكالك، مرسلا خليلتك مرتادة مستعملا عشيقتك قوادة، كاذبا نفسك أنك ستنزل عنها إلي وتخلف بعدها علي.
ولست بأول ذي همة
دعته لما ليس بالنائل
ولا شك أنها قلتك؛ إذ لم تضن بك، وملتك؛ إذ لم تغر عليك، فإنها أعذرت في السفارة لك، وما قصرت في النيابة عنك، زاعمة أن المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانية اسم أنت جسمه وهيولاه، قاطعة أنك انفردت بالجمال واستأثرت بالكمال، واستعليت في مراتب الجلال، واستوليت على محاسن الخلال حتى خيلت أن يوسف حاسنك فغضضت منه، وأن امرأة العزيز رأتك فسلت عنه، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت، والنطف عثر على فضل ما ركزت، وكسرى حمل غاشيتك، وقيصر رعى ماشيتك، والإسكندر قتل دارا في طاعتك، وأزدشير جاهد الطوائف بخروجهم عن جماعتك، والضحاك استدعى مسالمتك، وجذيمة الأبرش تمنى منادمتك، وشيرين قد نافست بوران فيك، وبلقيس غايرت الزباء عليك، وأن مالك بن نويرة إنما أردف لك، وعروة بن جعفر إنما رحل إليك، وكليب بن ربيعة إنما حمى المرعى بعزتك، وجساسا إنما قتله بأنفتك، ومهلهلا إنما طلب ثأره بهمتك، والسمؤال إنما وفى عن عهدك، والأحنف إنما احتبى في بردك، وحاتما إنما جاد بوفرك ولقي الأضياف ببشرك، وزيد بن مهلهل إنما ركب بفخذيك، والسليك بن السلكة إنما عدا على رجليك، وعامر بن مالك إنما لاعب الأسنة بيديك، وقيس بن زهير إنما استعان بدهائك، وإياس بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك، وسحبان إنما تكلم بلسانك، وعمرو بن الأهتم إنما سحر ببيانك.
وإن الصلح بين بكر وتغلب تم برسالتك، والحمالات بين عبس وذبيان أسندت إلى كفالتك، وأن احتيال هرم لعلقمة وعامر حتى رضيا كان ذلك عن إشارتك، وجوابه لعمر وقد سأله عن أيهما كان ينفر وقع عن إرادتك، وأن الحجاج تقلد ولاية العراق بجدك، وقتيبة فتح ما وراء النهر بسعدك، والمهلب أوهى شوكة الأزارقة بيدك وفرق ذات بينهم بكيدك، وأن هرمس أعطى بلينوس ما أخذ منك، وأفلاطون أورد على أرسطاليس ما نقل عنك، وبطليموس سوى الإصطرلاب بتدبيرك وصور الكرة على تقديرك، وبقراط علم العلل والأمراض بلطف حسك، وجالينوس عرف طبائع الحشائش بدقة حدسك، وكلاهما قلدك في العلاج، وسألك عن المزاج، واستوصفك تركيب الأعضاء، واستشارك في الداء والدواء، وأنك نهجت لأبي معشر طريق القضاء، وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء، وأعطيت النظام أصلا أدرك به الحقائق، وجعلت للكندي رسما استخرج به الدقائق، وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار والأنقار توليدك وابتداعك، وأن عبد الحميد بن يحيى باري أقلامك، وسهل بن هارون مدون كلامك، وعمرو بن بحر مستمليك، ومالك بن أنس مستفتيك، وأنك الذي أقام البراهين ووضع القوانين وحد الماهية وبين الكيفية والكمية وناظر في الجوهر والعرض وميز الصحة من المرض، وفك المعمى وفصل بين الاسم والمسمى، وصرف وقسم وعدل وقوم وصنف الأسماء والأفعال، وبوب الظرف والحال، وبنى وأعرب، ونفى وتعجب، ووصل وقطع، وثنى وجمع، وأظهر وأضمر، واستفهم وأخبر، وأهمل وقيد، وأرسل وأسند، وبحث ونظر، وتصفح الأديان، ورجح بين مذهبي ماني وغيلان، وأشار بذبح الجعد وقتل بشار بن برد، وأنك لو شئت خرقت العادات، وخالفت المعهودات، فأحلت البحار عذبة، وأعدت السلام رطبة، ونقلت غدا فصار أمسا، وزدت في العناصر فكانت خمسا، وأنك المقول فيه: كل الصيد في جوف الفرا.
وليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
والمعني بقول أبي تمام:
فلو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من شرف الطباع
والمراد بقول أبي الطيب:
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة
كنت البديع الفرد من أبياتها
فكدمت في غير مكدم، واستسمنت ذا ورم، ونفخت في غير ضرم، ولم تجد لريح مهزا ولا لشفرة محزا، بل رضيت من الغنيمة بالإياب وتمنيت الرجوع بخفي حنين؛ لأني قلت: لقد هان من بالت عليه الثعالب، وأنشدت:
على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
ونخرت وبسرت وعبست فكفرت، وابتدأت وأعدت وأبرقت وأرعدت، وهممت ولم أفعل، وكدت وليتني، ولولا أن للجوار ذمة وللضيافة حرمة لكان الجواب في قذال الدمستق، والنعل حاضرة إن عادت العقرب، والعقوبة ممكنة إن أصر المذنب، وهبها لم تلاحظك بعين كليلة عن عيوبك، ملؤها حبيبها، حسن فيها من تود، وكانت إنما حلتك بحلاك ووسمتك بسيماك ولم تعرك شهادة، ولا تكلفت لك زيادة بل صدقت سن بكرها فيما ذكرته عنك، ووضعت الهناء مواضع النقب بما نسبته إليك، ولم تكن كاذبة فيما أثنت به عليك، فالمعيدي تسمع به خير من أن تراه، هجين القذال أرعن السبال، طويل العنق والعلاوة، مفرط الحمق والغباوة، جافي الطبع سيئ الجابة والسمع، بغيض الهيئة، سخيف الذهاب والجيئة، ظاهر الوسواس منتن الأنفاس، كثير المعايب مشهور المثالب، كلامك تمتمة وحديثك غمغمة، وبيانك فهفهة وضحكك قهقهة، ومشيك هرولة، وغناك مسألة، ودينك زندقة، وعلمك مخرقة.
مساو لو قسمن على الغواني
لما أمهرن إلا بالطلاق
حتى إن باقلا موصوف بالبلاغة إذا قرن بك، وهبنقة مستوجب لاسم العقل إذا أضيف إليك، وطويسا مأثور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك، فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظفر، والجنة معك سقر، كيف رأيت لؤمك لكرمي كفاء، وضعتك لشرفي وفاء؟ وأنى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها، والطير إنما تقع على آلافها؟ وهلا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان، وقلت: الخبيث والطيب لا يستويان، وتمثلت:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان؟!
وذكرت أني علق لا يباع ممن زاد، وطائر لا يصيده من أراد، وغرض لا يصيبه إلا من أجاد، ما أحسبك إلا كنت قد تهيئت للتهنية، وترشحت للترفية، لولا أن جرح العجماء جبار للقيت من الكواعب ما لاقى يسار، فما هم إلا ببعض ما به هممت، ولا تعرض إلا لأيسر ما له تعرضت، أما ثاب إليك قول الشاعر:
بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع
وتنكح في أكفائها الحبطات
وهلا عشيت ولم تغتر وما أشك أنك تكون وافد البراجم، أو ترجع بصحيفة المتلمس أو أفعل بك ما فعل عقيل بن علفة بالجهني إذ جاءه خاطبا فدهن استه بزيت وقربه من قرية النمل، ومتى كثر تلاقينا واتصل ترائينا، فيدعوني إليك ما دعا ابنة الخس إلى عبدها من طول السواد وقرب الوساد؟ وهل فقدت الأراقم فأنكح في جنب؟ أو عضلني همام بن مرة فأقول: زوج من عود خير من قعود؟ ولعمري، لو بلغت هذا المبلغ لارتفعت عن هذه الحطة، ولا رضيت بهذه الخطة؛ فالنار ولا العار، والمنية ولا الدنية، والحرة تجوع ولا تأكل بثدييها.
فكيف وفي أبناء قومي منكح
وفتيان هزان الطوال الغرانقة؟
ما كنت لأتخطى المسك إلى الرماد، ولا أمتطي الثور بعد الجواد، فإنما يتيمم من لم يجد ماء، ويرعى الهشيم من عدم الجميم، ويركب الصعب من لا ذلول له، ولعلك إنما غرك من علمت صبوتي إليه، وشهدت مساعفتي له من أقمار العصر وريحان المصر الذين هم الكواكب علو همم والرياض طيب شيم.
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري
حن قدح ليس منها، ما أنت وهم؟ وأنى تقع منهم؟ وهل أنت إلا واو عمرو فيهم؟ وكالوشيظة في العظم بينهم؟ وإن كنت إنما بلغت قعر تابوتك، وتجافيت عن بعض قوتك، وعطرت أردانك، وجررت هميانك، واختلت في مشيتك، وحذفت فضول لحيتك، وأصلحت شاربك، ومططت حاجبك، ورققت خط عذارك، واستأنفت عقد إزارك؛ رجاء الاكتنان فيهم وطمعا في الاعتداد منهم، فظننت عجزا وأخطأت استك الحفرة، والله، لو كساك محرق البردين، وحلتك مارية بالقرطين وقلدك عمرو الصمصامة، وحملك الحارث على النعامة ما شككت فيك ولا سترت أباك ولا كنت إلا ذاك، وهبك ساميتهم في ذروة المجد والحسب، وجاريتهم في غاية الظرف والأدب، ألست تأوي إلى بيت قعيدته لكاع؛ إذ كلهم عزب خالي الذراع، وأين من انفرد به ممن لا غلب إلا على الأقل الأخس منه، وكم بين من يعتمدني بالقوة الظاهرة والشهوة الوافرة والنفس المصروفة إلي واللذة الموقوفة علي، وبين آخر قد نضب غديره ونزحت بيره، وذهب نشاطه ولم يبق إلا ضراطه، وهل يجتمع لي فيك إلا الحشف وسوء الكيلة، ويقترن علي بك إلا الغدة والموت في بيت سلولية.
تعالى الله يا سلم بن عمرو
أذل الحرص أعناق الرجال
ما كان أخلقك بأن تقدر بذرعك، وتربع بذلك على ظلعك، ولا تكن براقش الدالة على أهلها، وعنز السوء المستثيرة لحتفها، فما أراك إلا سقط بك العشاء على سرحان، وبك لا بظبي أعفر أعذرت أن أغنيت شيا، وأسمعت لو ناديت حيا «إن العصا قرعت لذي الحلم، والشيء تحقره وقد ينمي» وإن بادرت بالندامة ورجعت على نفسك بالملامة؛ كنت قد اشتريت العافية لك بالعافية منك، وإن قلت: جعجعة ولا طحن، ورب صلف تحت الراعدة، وأنشدت:
لا يؤيسنك من مخدرة
قول تغلظه وإن جرحا
فعدت لما نهيت عنه، وراجعت ما استعفيت منه، بعثت من يزعجك إلى الخضراء دفعا ويستحثك نحوها وكزا وصفعا، فإذا صرت إليها عبث أكاروها بك، وتسلط نواطيرها عليك، فمن قرعة معوجة تقوم في قفاك، ومن فجلة منتنة يرمى بها تحت خصاك؛ ذلك بما قدمت يداك لتذوق وبال أمرك وترى ميزان قدرك.
فمن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
ناپیژندل شوی مخ