مقدمة الكتاب
النيل
الصحراء
الفلاح
راعي الغنم
حياة الريف
قنال السويس
رأس البر
عيد النيروز1
الأهرام
أبو الهول1
ليالي رمضان
وادي الملوك
أنس الوجود
معبد حاتاسو
الكرنك
الرامسيوم
خرائب سقارة
قلعة صلاح الدين
طور سيناء
تمثالا ممنون
فصل ختامي
مقدمة الكتاب
النيل
الصحراء
الفلاح
راعي الغنم
حياة الريف
قنال السويس
رأس البر
عيد النيروز1
الأهرام
أبو الهول1
ليالي رمضان
وادي الملوك
أنس الوجود
معبد حاتاسو
الكرنك
الرامسيوم
خرائب سقارة
قلعة صلاح الدين
طور سيناء
تمثالا ممنون
فصل ختامي
وطن الفراعنة
وطن الفراعنة
مثل من الشعر القومي
تأليف
أحمد زكي أبو شادي
مقدمة الكتاب
جمعني بطائفة من أفاضل الأدباء مجمع جرى فيه الحديث عن المؤلفات الدراسية الحديثة، وعن أثرها المفيد في تهذيب النشء، وعما لا يزال ينقص النهضة الدراسية من التأليف الشعري الذي يبث الروح الفنية قدر ما يبث الروح القومية في النفوس، فاقترح علي سد هذا الفراغ بمثل هذا الكتاب، ولكني ما أقدمت أخيرا على تلبية هذا الاقتراح إلا شغفا بموضوعه، لا ثقة بإمكاني التام، فهو جهد المقل الموزع الخاطر، ولكنه جهد المخلص أيضا، وحسبي ذلك عذرا وشفيعا. وقد آثرت الإنشاء والتجديد فيما وقع عليه اختياري، ولم أقتبس من سالف نظمي شيئا في هذا الكتاب الذي أعددته للناشئات والناشئين في المدارس الثانوية.
وحبا في تقسيم الفائدة تقسيما مناسبا، قد جزأت الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، متدرجا في الموضوعات والأساليب، وقد راعيت الإيجاز المجدي، كما راعيت السلاسة في التعبير؛ فهي أوجب ما يكون في مثل هذا التأليف، تسهيلا للحفظ، وتشويقا إلى الموضوع.
ورجائي أن أكون قد توفقت بهذا الكتاب إلى إسداء بعض الخدمة الوطنية الواجبة في مجال التأليف الدراسي، تثبيتا للحكمة الخالدة: «حب الوطن من الإيمان.»
أحمد زكي أبو شادي
19 يناير سنة 1926
النيل
يجري بماء حياتنا وحياته
فكأنما صرنا سري
1
نباته!
من موجه يوحى خفوق قلوبنا
ودماؤنا من لونه وصفاته
لولاه كانت «مصر» قفرا قاحلا
وبه ترى الجنات من جناته!
يجري بغالي الرزق جري موفق
للبر لا يمتن من حسناته
وسخاؤه يأبى الرجوع لبذله
فيذوق ملح البحر عذب فراته
حتى الهواء فلطفه من جوده
حتى النسيم فطبعه من ذاته
2
وترى المروج يمينه وشماله
صور الجمال حنت على مرآته!
أو كالعساكر في عمائم قطنه
رفعت تحيتها على راياته!
3
مخضرة بأهلة من زهره
4
بسامة تفتر عن آياته
وترى الحقول قصائدا منظومة
بالرائع الفتان من أبياته!
شيخ الجدود وليس يعرف مولدا
لكن عمر الخلد من غاياته!
فحقوقه التقديس فوق محبة
وحقوقنا مقرونة بحياته
وإذا أتيت له تناشد نصحه
ألفيت غالي النصح في شاراته
5
يوحي ويرشد في صموت بالغ
صمت القرون تشام في لمحاته
وتهزه طربا حماسة أهله
سيان في الفتيان أو فتياته
6
يا «نيل» لن ينسى عهودك شارب
مما منحت وذاكر لحماته
7
الصحراء
تمتد كالأمل الجميل النائي
تقسو عليه عواصف الهوجاء
1
وتحد «وادي النيل» غير جزوعة
بسلاحها المتألق الوضاء
حصن الطبيعة قد حبته وفية
لسلامة الملك العزيز الماء
كالكوثر المأمول ليس يناله
إلا الصبور على جهاد ظماء
2
فإذا تهاونا بحفظ سياجها
فقل السلام إذن على الخضراء!
3
ولربما شاقت عواطف مغرم
وسمت بدائعها لعين الرائي
فلها صفات غير قيظ ظهيرة
في الصيف أو قر بليل شتاء
4
في وحشة الليل البهيم أنيسة
بالراقصات: الأنجم الزهراء
5
والبدر أجمل من يطل مسودا
يدعو مجابا ألسن الشعراء
6
ومتى أتى الفجر الجريح وبعده
جيش الشروق مضرجا بدماء
بزغت ذكاء وللسلام بزوغها
فتعيد للأحياء نور رجاء
7
فإذا الرمال من الندى وشعاعها
ما بين دمع هوى ونار حياء!
متألقات كالجواهر إنما
توحي القناعة: نعمة السعداء
وتمر قافلة فتحسب أنها
حقا تفتش عن خفي هناء!
8
تمشي على ثقة المؤمر ما له
جزع ولا يخشى هبوب شقاء
وإذا الزوابع روعت لم تعتبر
هجماتها أقسى من الأحياء!
حتى إذا حان الغروب تجلببت
للنابهين بفتنة الأضواء
ودعت عقول المبصرين لسجدة
لله محيي الكون بالآلاء!
9
الفلاح
لمثل جهدك قدرا يخفض القلم
وينظم المدح أخيار الألى نظموا
يا حارث الأرض في صبر وفي دعة
1
لولاك ما قام ملك أو سما علم
ويا قنوعا بعيش كله تعب
إن المتاعب فخر أصله الشمم
تخذت من صبغة الجوزاء صافية
لون الرداء يحلي رمزه الكرم
2
أو السمو بنفس تشرئب إلى
نبل الحياة ولا يهوي بها
3
السقم
تركت في الجهل والأمراض فاتكة
والله ينكر أهواء الألى ظلموا
ومن جهودك يروى النبت ملتجئا
قبل المياه ومما تبعث الهمم
حتى خلقت «لمصر» الخلد معترفا
به، وحجت إلى جناته الأمم!
وأنت في كل أمر يستعان به
أما الجزاء فجهد ذاهب ودم
واليوم فجرك بعد الليل منبثق
4
فعش لشعبك لا يسري لك الندم
مكللا برضاء «التاج» محتكما
إلى حمى العدل، فهو السيد الحكم
مبجلا من شباب اليوم زهرته
فهم غراسك لم ينسوا وما سئموا
وهم رجال الغد البسام مشرقه
فثق بعهد لهم يسمو به القسم
وسوف تعرف أعيادا محجلة
5
تعتز فيها فلا عسف
6
ولا خدم
فالشعب نهضته إنهاض جملته
7
لا أن يكون به راع ولا غنم
والقدر للناس بالأعمال نافعة
وبالمآثر تستهدي بها الشيم
8
راعي الغنم
تخذ الوفاء
1
رفيقه ودليلا
ومضى وما خشي الضلال سبيلا
يرعاه كلب بالولاء وحذقه
يرعى له غنما تركن طويلا
مثل التعاون لا يشوب جماله
ضجر فلا يشقي الخليل خليلا
أعجب بإنسان يقاد بكلبه
نفعا، ويخدم بكرة وأصيلا
2
وينام ملء النفس من أحلامه
أنى يشاء ولا يخاف مقيلا
كل المروج
3
السامحات مقامه
كل الغصون له تعد ظليلا
يكفيه بعض حشائش ترضى بها
أغنامه
4
ليرى الهناء جزيلا
يكفيه من أنس تحية عابر
أو
5
من نسيم قد يمر بليلا
وإذا تملكه الخيال لبرهة
فحدوده أن يستطيب رحيلا
كالحظ ليس له مقام ثابت
ويظل بالوعد الصدوق بخيلا!
ولقد أتيت له وفيض خواطري
شغف بمرأى يستحب جميلا
وعصاه من خلف على كتفيه لا
تعني سوى سحر الهنيء أحيلا!
قلت: «السلام عليك» قال: «... ورحمة»
6
وأخذت أسمع للبساطة قيلا
7
لغة الحكيم يرى الحياة جليلة
للمرء إن عرف الإله جليلا
متنعما بنعيمه عن فطرة
لا عن مظاهر كم رمته مهيلا
8
وإذا بصاحبه الوفي
9
وجمعه
غادون
10
وهو الفيلسوف أصيلا!
ولهم بمدرسة الطبيعة وعظها
وعظا بإسداء الحبور كفيلا
حياة الريف
حييت يا ملك الحياة الوافي
بالتاج والآلاء والأعراف
1
الشمس تاجك والعطايا جمة
والجود من صور النمير الصافي
ومن الأزاهر والنخيل وعسكر
شتى الفروع منوع الأوصاف
النحل بعض جيوشه وطيوره
مثل الهوى وتصاحب الألاف
2
والناس في صدق المحبة واحد
جمع يدين هدى بغير خلاف
فيك الأمير وخادم من زمرة
في المؤمنين وجملة الأضياف
فيك الطيور أقمن عيدا دائما
وحكمن أن الدهر سوف يصافي
فيك الحقول بدمعها وسرورها
مثل العروس بكت بيوم زفاف
فيك الجداول بالغناء شجية
أبدا تلقن صنعة العزاف
فيك البهائم لا تعد سوائما
3
عند الحسود لصفوها الطواف
فيك المشاهد لا تضن بطبها
وتجدد الآمال والألطاف
4
ويزور من أهل المدائن بائس
فيعود في حلل الضياء الضافي
5
متمتعا بجديد عمر باسم
وبلذة الأحلام والأطياف
6
يذر
7
الغرور وقد تحول مؤمنا
بالريف معطي الرزق للآلاف
يشفي النفوس الواهنات بزورة
بينا احتكام
8
المدن ليس بشاف
رئة البلاد المنعشات وقلبها
و«النيل» شريان الدم الرفاف
9
قل للجهول بسره وبقدره
لولاه لم نظفر بخير واف
فاستبق للريف الكريم جلالة
والجأ إليه من الزمان الجافي
قنال السويس
ناج العزيز من الخيال
في وصف مفخرة «القنال»
واستوح
1
ماضي «مصر» عن
مجهود أبطال الرجال
الحافريه بعزمة
من قبل هندسة ومال
والواصلي البحرين
2
من
عرق الجباه ومن فعال!
والصابرين على المصا
عب قد تنوء بها الجبال
ما بين تسخير وتح
قير ولكن للجلال!
3
حتى اغتدوا أحدوثة ال
أجيال في صنع المحال!
فإذا السفين بفضلهم
صارت تسير على الرمال!
4
لا تلمح العين البعي
دة غير أصباغ غوال
من صفرة الذهب الأصيل
لحمرة تشجي الخيال
والماء مخفي كما
تخفى الحقيقة في جدال
ما بين منثور النخي
ل وبين منظوم التلال
حتى تلوح بحيرة
فتضمه ضم الوصال
في أرض قدسي الزما
ن
5
مثالها فذ المثال
ودعوه مفتاح الديا
ر وبعض عنوان المآل
وهو الأحق بأن يسم
ى درب «مصر» إلى الكمال
6
السائل الأبناء للت
فكير في حال وحال
كم من شعوب بالملا
حة أسست ملكا فصال
أحلام آمال مضت
لا تتركوها للزوال!
رأس البر
أشرقت راقصة بغير إزار
وفتنت غانية عن الأزهار!
1
خلقتك أمواج تجود بتبرها
2
وطهرت «بالنيل» الطهور الجاري
في كل عام لا يضن بفيضه
من ضاحك الجنات والآثار
يهدي إليك حنانها وسؤالها
وخصائص الأسرار والأخبار!
فكأن رملك في توهج نوره
سير القرون تطلعت للقاري!
وكتابة للفيلسوف خفية
عن أعين الجهال والأغرار
لله ساعات السرور قضيتها
متوسدا كنف الجمال العاري
متغزلا بحلى الطبيعة لم تدع
ظمأ إلى المتروك من أوطار
ومشببا بالبحر أحسب نثره
لرشاشه الضاحي قشور دراري
3
ومناجيا شمس الغروب تساؤلا
عما تحجب من جديد نهار
4
وإذا نزعت إلى السباحة لاهيا
ألقيت هم النفس للتيار!
والناس حولي في حبور دافق
يأبون ما اعتادوه من أسوار
فأرى السماحة والرشاقة حرة
وتحرر الجنسين من أستار
وأرى الفضيلة في أحب صفاتها
وأرى القناعة في أجل إطار
أين التفت فصورة من لذة
وبكل مرأى مستطاب قرار
ومجالس السمار
5
وهي كثيرة
تمتاز بالإنعاش لا الإسكار
وفخورة الأعشاش في إعزازها
وهنائها كمنازل الأطيار
مصرية القسمات
6
ليس يشوبها
تحنان أهليها لبعد ديار
لم تعدم الإيناس رغم بساطة
والكبرياء على العزوف الزاري
7
وتقول «للمصري»: عندك متعتي
قبل النزوع إلى هوى الأسفار!
عيد النيروز1
عيد يجود به الربيع وطالما
وهب الربيع إلى النفوس حبورا
يمتاز بالذكر الجميل لأصله
فهو الممثل في الجمال عصورا
عشقته «فارس» ثم «مصر» فأسرفت
في منحه التزيين والتقديرا
وهبوا له النيران ليلة عرسه
والماء في صبح الهوى منثورا
2
والشمس ترعاه رعاية أمه
وتمج في فيه الشهي النورا
ولربما أوفى أبوه يرشه
بالدر من عليائه مأثورا
وترى النخيل مضحيا بحليه
لتكون رمزا للسلام نضيرا
متعانق الأقواس يستذري بها
فوق الجنان الزائنات قصورا
وترى الأساور في المعاصم بهجة
وترى الخواتم خوصه المضفورا
والبيض بالأصباغ مفرحة المنى
توحي جديدا للمنى وشعورا
وترى الكبار مع الصغار تآلفوا
وتقاسموا ملء النفوس سرورا
ثم المواكب نسقت بتفنن
واللهو يعدم في مداه نظيرا
وترى الفقير مع الغني تساويا
طربا فلا تجد الفقير فقيرا
والكل أقسم أن يبر بيومه
فرحا وعاهد أن يكون شكورا
لم ينظروا حسنا وحيدا عاتبا
إلا وكان بودهم معمورا
أو يشهدوا مرأى جميلا شائقا
إلا وصور عندهم تصويرا
في الذهن ينعشهم زمانا تاليا
حبا ونورا باسما وعبيرا
والرسم تذكار السعادة حرة
لولاه لم يك رسمها مأسورا!
3
الأهرام
أفنيت يا رمز الخلود الأعصرا
1
وبقيت للأمل المجدد مظهرا
أنشئت من بأس الملوك قبورهم
فمضوا وذكرك قاهر لن يقبرا
وبنيت بالعسف الشديد شهيدة
بالظلم، لكن صرت معنى أكبرا
عرف الجدود المجد دين ملوكهم
فبنوا خزائنه الرفيعات الذرى
وأبوا حقير الترب يلمس هيكلا
منهم ولو صار التراب مجوهرا!
2
حقدوا على الدنيا الخئونة حقدهم
واستصغروا للعقل أن يتقهقرا
فعلى رءوسك للملوك نداؤهم
ما زال بالحث العظيم مظفرا!
من ذا يراك وليس يخفق قلبه
عجبا، ويحجم عن مفاخرة الورى؟
من ذا يشيم
3
ثبوتك العالي ولا
يهتز للعلياء مهما قصرا؟
من ذا يراقب للغروب مناحة
ويظل كالصخر المدى متحجرا؟
قد قمت للإنسان غضبة ثائر
يأبى الفناء مدبرا ومفكرا
وبرزت «للمصري» معجز دينه
دين العظائم والبقاء مكررا
ورفعت للأحفاد خير منارة
عند المصائب يهتدون بها السرى
4
وشهدت من ماضي الحوادث مفجعا
يذرو
5
الجبال فما اهتززت على الثرى!
ولبثت يرقبك البنون لوعظهم
ويعزك النجم الفخيم محيرا!
6
ويقال: هندسة العجائب ... إنما «للنيل» أنت ذخيرة لا تشترى!
أبو الهول1
يا جاثما أعيا العقول صموته
وتظل قاهرة البحوث نعوته!
2
حتام تهزأ بالأنام وحالهم؟!
وكأنما أقسى البيان سكوته!
ونحت من صخر كحالك ثابت
هيهات يأبه للزمان ثبوته
3
ويقال: أنت «إله صبح» مقبل
للملك نحوك أهله وسموته
4
تبقى ويمضي من بناك وهكذا
الفن يبقى والأصيل
5
يفوته!
وتخال رمز جلال «مصر» وعزها
وبها الهياكل في الشروق بيوته!
قد كان تاجك حلية وضاءة
6
فإذا بتابوت العلى تابوته
لهفي على العهد الذي بك أشرقت
آياته وكأنني أعطيته
وكأنني أسقيت إكسير الهوى
فيه، وبالشعر الوفي رثيته!
وطغت عليك من الرمال كتائب
كالدهر يعبث بالجمال مروته
7
وتفتت الوجه الصبيح وما عنا
8
وكأنما مسك الفخار فتيته!
وكأن من ماضي الحروب
9
دلالة
وهي الوجوم الجم فيك رأيته!
بينا يهش لدى الشروق لزائر
مرآك، من رسل الأشعة قوته!
ألقاه عند الليل - والقمر الذي
يرعاه - يبكي عصره فبكيته!
وكذا البعاد عن الأعزة مرهق
والحسن يشقى إن مضى ملكوته
10
واليوم أقرئك التحية مكرما
مجدا، ولو أني استطعت فديته!
فالمجد للأجداد باعث مجدنا
والصيت في المجد المجدد صيته
والشعب إن لم يحتفظ بتراثه
ويزده سعيا فالتهاون موته!
ليالي رمضان
«شرقية» بجلالها وسماتها
1 «غربية» السهرات واللمعان
2
فإذا المؤذن مبدع بأذانه
وصداه محتكم على الآذان
وإذا المصابيح السنية لم تدع
حسنا يقاس بحسنها الفتان
وإذا التسامر بهجة ومحبة
والنوم مطرود عن الأجفان
وإذا المروءة والطهارة والهدى
مثلن تحقيقا وصدق عيان
يتذوق الإنسان منها حظه
بالعطف نحو شقيقه الإنسان
3
ويصيخ
4
للذكر الحكيم مرتلا
ومطبقا بالبر والإحسان
لا محض ألفاظ تقال بلا حجى
أو نظم أحكام بغير معان
وترى بجانبها مشاهد غارق
في اللهو محروم من الإيمان!
متفنن بطعامه وشرابه
متجاهل بؤس الشقي العاني
متدين لكن بلذة نفسه
وكذاك كم قتل النفوس أناني!
ولديه شهر الصوم شهر تحايل
في مطلب اللذات لا الغفران!
صور النقيضين الفريدين معا
ومشاهد النكران والعرفان!
وبملئها نعم تزف لبائس
وبملئها مثل
5
من الحرمان
وفضائل التقوى النقية كلها
ومفاسد التمدين والخسران
عبر، فحبذ ما استطعت جميلها
فسعادة الإنسان بالوجدان
6
وادي الملوك
يحار من نظرة أو جولة فيه
من لا يراه بتصوير وتشبيه
1
فالشمس ما تركت نبتا ولا حجرا
إلا وقد حرقته أو ستذكيه
وليس فيه لنفس غير عاشقة
سر الجلال ولا عنوان ماضيه
ترى التلال البواكي بعد حرقتها
في مظهر من شقاء الملك تبديه
فالعالمون بها ظمأى لما خبأت
والجاهلون بتأويل وتمويه
جرداء معتزة في صمت عزلتها
حمراء زرقاء تخفي ما تعانيه
تحملت في قفار صون مملكة
وكم مليك أتى ميتا لتحميه!
رأى «تحتمس»
2
مرآها يجاذبه
وعزة في ثرى «الوادي» تناجيه
فاختاره مدفنا يأوي لرحمته
والموت رحمته النعمى لراجيه
كأنما الشمس قد حالت أشعتها
وكونت صور الرمل الذي فيه
فهو الجدير بتقدير الملوك له
وهو المضيء سخيا في دياجيه
فمن «رماسسة»
3
هموا بأمتهم
إلى «أمنحتب» هزوا رواسيه
كأنهم في خفي من مقابرهم
يطاولون أبيا من معاليه!
أو أنما للتلال الحانيات على
تلك الرموس فدى الوافي لفاديه
كانوا ملوكا حبوا «مصرا» جلالتها
وأكرموا تربها إكرام محييه
فليس بدعا إذا غطى هياكلهم
في سجدة الشاكر العاني لباريه!
ومن حقوق العلى إخفاء مرقدهم
فصاحب الكنز مهما اعتز يخفيه
وليس في البعث من حظ لمطمحهم
فخلدهم دائم والدهر راويه!
فإن بحثنا وأعلنا مفاخرهم
فإن بعثا لهم في الجيل يهديه!
وإن حجا لواد ضم سيرتهم
حج البنوة والإجلال والتيه!
أنس الوجود
قف للجديد من الجدود
يبدو على «أنس الوجود»
1
نبأ يردده الزما
ن ورب أنباء تعود
وبنشره سمح الرقي
ب «النيل» والخل الودود
من بعد عهد للوصا
ل وبعد تحقيق الوعود
2
لكن يحف سياجه
بجمالها الفذ الفريد
ولها من الجزر الجوا
ري أو لها مثل العبيد
3
وهي المتوجة السنى
في عزة المجد الوحيد «قدسية الأقداس» في
سر من العهد العهيد
4
وبه البخيلة تارة
بينا تبوح لمستزيد!
لا بدع إن توف الطبي
عة بالجنود وبالسدود
ويظن «شلالا»
5
وما
هو غير جند أو أسود
حرسوا السبيل لملكها
بين المهابة والسجود!
ولو انها في روعة ال
قهار والبأس الشديد
وكأن «بطليموس»
6
في
تكريمها خلف البنود!
فتحوا له حجراتها
و«المعبد» الفخم التليد
7
وكأن «إيزيس» الجمي
لة فيه تشرق من جديد!
و«سرير فرعون»
8
العظي
م يهش للأمل البعيد!
وكأنما «العمد»
9
التي
نصبت مواثيق العهود!
تبقى مسجلة الرعا
ية للفخار وللخلود
وكأنما مستحدث ال
أصباغ للمهج الشهود
شتى تحيات الكوا
كب بن في حلل الوفود!
معبد حاتاسو
الدير البحري
أبدعت معبد حسنك المعبود
وبررت بالأحفاد قبل جدود!
أنشأته ذكرى لبعثة نهضة
وتجارة وفروسة وعبيد
1
فإذا به الذكرى لعصرك خالدا
وكذا الخلود مصاحب لخلود!
ووهبته «لأمون»، وهو موفق
لرضائه المعشوق والمنشود
يقف البنون اليوم وقفة خشع
متباركين بحسنه المشهود
وتلال «طيبة» رانيات قربه
متدرجات
2
في صفوف شهود!
أو أنها نصبت سلالم رفعة
للشمس تاج نفوذك الممدود!
ودعيت أنت «الياصبات النيل» لم
ينصفك مادح عصرك المفقود!
كان المثال الفاتن السباق لم
يسبقه من جاءوا بكل جديد
فيه الحضارة والثقافة والحجى
بلغت أعز مراتب التأييد
ولو ان من صور «الأسود»
3
بواقيا
لسألتها فروت ألذ قصيد!
فكأنما غنيت بأعمدة العلى
4
الباقيات السامعات نشيدي!
وكأنما هي في قداسة رمزها
خصت بكل مظاهر التخليد!
أو أنما تصوير حسنك شطرها
5
خير الضمين لدائم التجديد!
وبزوغ شمسك ساطعا ميلادها
في الرسم لا يرضى ظلام مبيد!
ودقائق الفن التي لك صورت
ما صورت ضمنت غرام وجود!
وكأنما طافت بمقصوراتها
دنيا فلم أشعر بحس وحيد!
وكأنما ورديها
6
بجمالها
حلل الورود بدائم التعييد!
الكرنك
درج الزمان وأنت حي تعشق
ويعيد رونق غائب لك رونق!
1
رحلت مع البانين رحلة حبهم
رسل وما زال السنى بك يرمق!
2
ومن العجائب أن يزورك عاشق
فإذا تألق عطف حسنك يطرق!
تهفو لطلعتك العيون وإن تكن
حيرى يجاذبها الجمال المطلق!
وأمامها دول تناشدها الهوى
وصحائف تترى وجيش يحدق
3
وجلالة يعيا البيان بوصفها
مدت على الأميال وهي تحلق
عجزت مصورة الشموس برسمها
جمعا، ولم يظفر نظيم مشرق!
4
انظر إلى تلك الأسود جواثما
حرست طريقا للمعابد يطرق
5
غرسوا لها الأشجار عطف بنوة
ولو ان منها الذكر حي يعبق!
6
ورموا إلى تظليل من وفدوا إلى
عليائها وشموسها لا تحرق
فإذا وفدت إلى الهياكل هائبا
بدأ النخيل مع النسيم يصفق!
وأنست للأثر الفخيم محدثا
لك عن أعاجيب الذين تفرقوا!
وقرأت ثم سمعت ألف رواية
عن كل مفخرة لمجد تعشق
عبر «الفراعنة» الذين تفردوا
بالملك واستعلوا به واستوثقوا
وبنوا «لمصر» من السمو مكانة
حتى استعز وجل حكم مطلق!
أين التفت تر الفنون شواهدا
وتجد أحاديث الفخار تنمق
وتر الحروب مواثلا وكأنما
أنت الأسير وقد مضى بك فيلق!
وتجد «مسلات» الفخار مآذنا
و«عمود فرعون»
7
إزاءك ينطق!
ومشاهدا لا تنتهي ومعابدا
وهياكلا يعتز منها «الجوسق»
8
وتر «البحيرة»
9
في قداسة سرها
تترقب الليل الذي هو أشوق!
فإذا رجعت شهدت بين تخيل
عجبا من الوهم الذي يستغلق
عصر مضى بعجائب الدنيا به
ولنا به الوعظ الذي هو أصدق!
الرامسيوم
طأطئ لمقبرة العلى إجلالا
واملأ شعورك روعة وجلالا
وانظر إلى الملك العظيم مثاله
وهو الصريع مخلد أجيالا
نحتوه تمثالا لقوته فما
ترك الزمان تعاركا وقتالا
1
وبنوه أضعاف الحقيقة مظهرا
وكأنما المثال لم يتغالا!
2
وكأن بنيته قرينة عقله
وكأنما نحتوا حجاه مثالا
وإذا التفت إلى دقيق معالم «بالهيكل» الملقي عليك سؤالا
لم تستطع إلا الجواب بأنها
من معجز الفن الذي يتعالى!
وإذا أتى الليل الكريم بزورة
للبدر أنعش نوره الأطلالا
فتحس أنك في زمان سالف
هزج، ولا تجد الخيال خيالا
وتكاد تسمع من أناشيد به
سحرا وتبصر موكبا يتلالا!
وكأن «رمسيس» العظيم أمامهم
وكأنما سجدوا له إجلالا!
وكأن ما رسموا على جدرانه
ما كان لا ما قد يظن محالا
فترى من «الأرباب» - وهو تجاههم
وبنوه - جمعا لا ينال كمالا
3
وترى الوقائع صادقات والوغى
وترى الردى، وتشاهد الأبطالا
4
وترى «لرمسيس» الشجاع شجاعة
عند الهزيمة تهزم الأقيالا
5
والجيش خاذله وما هو خاذل
تاجا «لمصر» فلن يهاب قتالا
فيخوض في بأس الفريد ببأسه
ويرد وهو المستميت نصالا
فتظل في حلم العيان مثبتا
لا تستطيع وإن أردت زيالا
6
حتى ترى «صور الزمان» تمثلت
فيها الشهور وأبدعت أمثالا
7
فتعود للدنيا الجديدة آسفا
وتفوت من ملك القديم جمالا!
خرائب سقارة
ظنوك بعض دوارس الأطلال
وأراك مجمع ثروة وجلال
أولست للرب المعظم «سيقر»
الباعث الموتى على الأجيال؟
1
ورموس «منفيس» العزيزة في المدى
تبقى معيدة ذكرها المتوالي؟
2
نثرت حواليها الجنان، ومثلها
أهل مفاخرها لكل جمال
3
ومثال «رمسيس» العظيم بأرضها
مثل التواضع للسمو العالي
4
أو مظهر الحاني المحب لتربها
المستهين بما يلوم القالي!
أو أنه رمز الجريح لشعبه
أو مصرع المتهالك المتعالي!
أو أنه يأبى النهوض كنده
ماتا ممات المجد كالأبطال!
وترى «أبا الهول» الصغير
5
مفاخرا
بكنوزه متحديا لزوال!
يومي لزورة «زوزر» في قبره
متدرج الهرم الجميل الحالي
6
ولمبدع الفن الذي أخفاه في
بطن الثرى للباحث الجوال
فإذا «بهيكله» المحقق شاهد
عن عصره بدقائق الأعمال
7
وإذا «بأعمدة» يحدث فنها
عن سبق أهل «النيل» للآمال
سبقوا بها «الإغريق» سبق حضارة
ومهارة وتفنن وخيال
ومضوا وآلاف السنين فواصل
ما بين أمس مضى ويوم تال
ما الذنب ذنب نبوغهم إن يغمطوا
الذنب ذنب الجهل والجهال
وبحسب عقلك نظرة كشافة
نحو «السربيوم»
8
الخفي الخالي
لتحار في تكوينه وصفاته
وزوال ما أخفى لغير زوال
فمضت ذخائره وعوض بعدها
ذخرا من التفكير والإجلال
والذكر أكرم من متاع زائل
والحج للإعجاب رمز كمال
قلعة صلاح الدين
أنصفت آبية «صلاح الدين»
1
وثبت رغم عواصف التمدين
وحرست «قاهرة المعز»
2
وهكذا
من يحرس التاريخ جد ضنين
ومن الكرامة أن يعزك فاتح
ويلوذ في حصن لديك حصين
ومن الجلالة أن يوسد هانئا
في تربك «العلوي» حجة دين
3
دين النهوض بقدر «مصر» لأمسها
وعقيدة التجديد والتمكين
والخالق العصر الجديد كأنما
عهد «الرشيد» به أو «المأمون»!
ولى وكاد الملك بعد مماته
4
لولا تناجيه لحب بنين!
وحكمت سيدة يحف جلالها
من مجمع الحاجات كل ضمين
فكأن عندك دولة في ذاتها
تعتز بالمصنوع والمخزون
5
وكأن جامعك العظيم فدى له
أرواح من ماتوا ممات غبين
6
ولو انهم كانوا الطغاة وكم جنوا
وعتوا عتو جهالة وجنون
ذبحوا كذبح الشاء ذبح ضحية
ورموا كرمي الغادر المفتون
ومن القصاص لهم حياة حرة
للموطن المنهوك والمغبون
لله! ما أسناك! ليلة بهجة
والجامع الوضاء أنس عيون!
فتبين مئذنتاه حلية أرضنا
وهما شهابا روعة
7
وفنون!
وكذاك ما أشجاك قبل عشية
أو في الغروب وفي انعكاس شجون!
والزائر الراني بسورك حائر
ما بين عالم واقع وظنون!
طور سيناء
تمتع من مفاخر «طور سينا»
تجد برمالها ملكا ثمينا
وتصحب أين سرت جليل ماض
وتشهد في الطريق الأولينا
تجد فيها «الفراعنة» الأوالي
1
وتلق الصالحين «العابدينا»
2
ففي «وادي المغارة»
3
قد أعزوا
مناجمه فلم تبخل قرونا
يشيد بذكرها حمدا «سمركا»
و«خوفو» ما تمثل مستهينا
و«للرومان» ذكرى ما تقضت
و«دير» باركته «كاترينا»
4
يضم رفاتها بحنو أم
ويبعث نورها نورا مبينا
بناه لأخته نذرا جميلا
فعاش وعاش «جستنيان» فينا
كذاك الصالحات لها بقاء
وتطوي في جلالتها السنينا
وما كان اختلاف الدين يقضي
على سعي بنى الإحسان دينا
ومن عجب بناه بناء حصن
وكان بمظهر التقوى حصينا
ترى فيه «البروج» على «قلاع»
وحول بنائه السور الأمينا
وتلقى الجامع الراني إليه
خدينا صادقا صافى خدينا!
وتحسب أن أطل عليه «موسى»
من «الجبل» المصاحبه قرينا!
5
كأن الأمس حين مضى سخيا
تخلف منه ما يجلو العيونا!
وحولك من مناظر رائعات
فنونا جمة تتلو فنونا!
فتخلع - في ادكار واعتبار
لها - نعليك إذ تحني الجبينا!
وتنظر للبواسق في رمال
يهزك هزها عطفا ولينا!
وتنظر في مرورك دون أهل «بواحة سدرة»
6
الحسن الرصينا
ومن عجب يضن له بحب
أناس لم يكن فيهم ضنينا!
وكم تلقى «نقوشا» أو «رموزا»
على الصخر الأصم روت يقينا
7 «وقبرا» قيل فيه ثوى نبي
8
وآخر يكتم السر الدفينا
وكم من موطن فيه جمال!
وآخر هيأ الموت اللعينا
9
فشاهد ما استطعت بها وحدث
لناسيها حديث الخالدينا
10
وقل هي بضعة من «مصر» أحرى
بحج الزائرين الذاكرينا!
فلن تبقى ديار نام عنها
ذووها واستهانوا غافلينا!
تمثالا ممنون
قاما شهيدي فخار
1
بان صاحبه
ولم ينل منهما ذل وساحبه!
ولا تحداهما النسيان في زمن
فالدهر بينهما يعتز جانبه!
تهدم «الهيكل» العاتي وقد بقيا
في جلسة السائل الجاني يحاسبه!
ومثلا صاحب الفن الذي ندبا
والدهر مثلهما في التوب نادبه!
إيها «أمنفيس» لا تجزع فما برحت
ذكراك ذكرى السنى المعشوق صاحبه
إن مضك الدهر في غلواء نشوته
وهز تمثالك «الزلزال»
2
غالبه
ففيه فلسفة الآسي لمنشئه
فكم تغنى لنور «الشمس» جاذبه
وفي «دموع الندى» شعر الحنان له
كأنها «أمه» مالت تداعبه!
حتى اطمأنا
3
فعاشا في سلام هوى
فلا «أنين» ولا شجو يصاحبه
4
فعش كذلك أنت اليوم في طرب
وانصت لشعبك فالذكرى تخاطبه
ومثل حبك لن يطوى على زمن
ومثل مجدك لن تخفى كواكبه
أليس من عجب أن عاد في بعث «ممنون» في صورة «التمثال» حاجبه؟!
أليس هذا دليل الجذب من عظم
يحس صدقا به ران يراقبه؟!
كأن «طروادة» اعتز الشهيد بها
فكافأته بإحسان يناسبه
ولم تجد غير شمس «النيل» مسعدة
وغير «طيبة» دارا لا تجانبه
وغير رسم «أمنفيس» يهش له
كلاهما فارس عزت كتائبه!
إن أنس لا أنس فجر الصبح عن كثب
والنور قد سال سيل التبر ذائبه!
على روائع «تمثاليك» في وهج
من فتنة النور كم يفتر ساكبه!
5
وللنسيم حفيف كله ورع
وللطيور نشيد لا أغالبه!
فكنت في موقف المذهول من شغف
بما يرى كالذي راقت مشاربه
6
كأنما كل حسي للجمال غدا
عبدا، ولكنما رقت مطالبه!
فقلت: رباه! هل شعب يمت كذا
للفن والعلم من تهوي رغائبه؟!
وقد شعرت بوحي هاتف فجرى
في النفس من ضرم الإيمان لاهبه!
فصل ختامي
أدب العصر بقلم الناظم
أما وقد اطلع القارئ على شعر هذا الكتاب، فمن الأمانة أن أتحدث إليه بكلمة نقدية في موضوعه، وببحث عام وجيز في أدب العصر، وإن كان شيء من هذا البحث قد ظهر في مجال آخر إما بقلمي أو بقلم صديقي الأستاذ حسن صالح الجداوي معبرا غالبا عن آرائنا المشتركة.
لقد وعدت في مقدمة الكتاب ببث الروح الفنية والروح القومية معا، كما وعدت بمراعاة الإيجاز المجدي والسلاسة في التعبير، فلنستعرض الآن بالنقد - زيادة للفائدة - قيمة هذا المجهود الصغير استعراضا يشترك فيه المؤلف والمعلم والطالب معا. •••
فأما عن الروح الفنية فرغم الإيجاز الذي لزمته قد حاولت بثها بلفتي النظر إلى وجهة الجمال في موضوع الوصف، وبالتصوير الخيالي الذي من شأنه أن ينمي قوة التخيل والتصور عند الطالب ويدفعه إلى التجرد من مألوف الدراسة المادية للشعر، فيقرأ الشعر حينئذ بوجدانه مصاحبا الشاعر في مشاهده وتفكيره وتصويره، فمن هذا القبيل هذه الأبيات من قصيدة «النيل»:
يجري بماء حياتنا وحياته
فكأنما صرنا سري نباته!
من موجه يوحى خفوق قلوبنا
ودماؤنا من لونه وصفاته
لولاه كانت «مصر» قفرا قاحلا
وبه ترى الجنات من جناته!
وترى المروج يمينه وشماله
صور الجمال حنت على مرآته
أو كالعساكر في عمائم قطنه
رفعت تحيتها على راياته!
وكذلك هذا البيت من قصيدة «الصحراء»:
تمتد كالأمل الجميل النائي
تقسو عليه عواصف الهوجاء
ثم هذه الأبيات:
ومتى أتى الفجر الجريح وبعده
جيش الشروق مضرجا بدماء
بزغت ذكاء وللسلام بزوغها
فتعيد للأحياء نور رجاء
فإذا الرمال من الندى وشعاعها
ما بين دمع هوى ونار حياء!
وليس من قصيدة في الكتاب إلا وفيها أمثلة من هذا القبيل داعية إلى شحذ الذهن وتغذية الخيال وحب التصوير الفني، فليس طالب الدراسة الثانوية في مستوى الطالب الابتدائي، ولا يجوز أن يناول الطالب الشعر بالملعقة، كما يقال في الأمثال ... وهذه الخطة التهذيبية قد اتبعها أخيرا أساتذة الأدب في مدارسنا الثانوية، فشجعوا الطلبة على دراسة وحفظ الشعر التصويري المشبع بالخيال؛ مثل شعر ابن حمديس، وابن خفاجة، ومن نحا نحوهما من نوابغ المتقدمين، وبذلك انقضى العهد الذي كان يرغم فيه الطالب على استظهار الكثير من النظيم المتجرد من الروح الفنية وآثار الخيال الجوال، فلم تكن فيه جاذبية لطالب الأدب، ولا غذاء نافع لملكته الأدبية، وانقضى العهد الذي كان يؤثر فيه الكلام المرصوف المنظوم على الشعر الحق، والأسلوب التقريري الخبري على الأسلوب الخيالي التصويري، والقول الساذج العاثر على الخيال الجريء الشرود، والتبسط والحشو في التعبير على الإيجاز الجميل، الذي تقوم فيه الكلمة بمقام البيت الكامل، فتفتق ذهن الطالب بتشجيع المعلم إياه، وتبعث فيه حدة التفكير والتخيل.
ومن أمثلة الإيجاز المتناهي الذي يتفق وأحسن التخيل التقديري في نظري قول خليل بك مطران في قصيدته «وقفة في ظل تمثال لرعمسيس الكبير»
1
مشيرا إلى الأمة المصرية وموقفها إزاء ملكها العظيم ونصبه:
إن بات في حجب باءت إلى نصب
يلوح منه لها معبودها الجاني
فبجلت تحت تاج الملك مدميها
وقبلت دمها في المرمر القاني
والشاهد كلمة «دمها»؛ فإن معاني كثيرة تنطوي تحتها
2
كأنما يريد الشاعر أن يقول إن هذا الملك في حياته خضب بدم ضحاياه من المصريين، فلما مات لم يسلم تمثاله من التخضيب، بل انتقل إليه ذلك التخضيب! أو كأنما يريد أن يقول إن دمه مثل أزكى الدماء المصرية، وقد كان مفديا في حياته، فلم يذهب الموت به، بل بقي ماثلا في تمثاله تكرمه الأمة وكأنما تكرم دمها؛ لأنه كان ملكها العظيم الشغوف بعظمتها، الحافظ لقوميتها، وقس على ذلك ما تؤثر أنت من التقدير الخيالي الذي تشير إليه هذه الكلمة.
يروى عن امرأة كعب بن الأشرف قولها لزوجها (عندما دعاه في الليل الذين يريدون قتله مظهرين الالتجاء إلى حصنه وقد نهته عن الخروج إليهم): «إنني أسمع صوتا يقطر منه الدم!» ومثل هذا التصوير الرائع الذي قالته على الفور سيدة عربية منذ قرون قلما يرضى عنه بعض علماء اللغة في هذا العصر إذا أنت أخفيت عنهم مصدره؛ وما ذلك إلا لأنهم أبعد الناس عن دراسة الخيال في الشعر، وإن كان الشعر العربي في عصور النهضة غنيا جدا بذلك الخيال،
3
ومع ذلك فهم يتعرضون للحكم على الشعر بدل الانقطاع إلى تعليم قواعد اللغة وأصولها وتاريخها ... فلا يرضيهم مثلا أن يقال: «وضرجت الحرب الهواء من القتلى!» إشارة إلى فظائع الحرب العالمية الهوائية بالطيارات والمناطيد، بينما هذا التعبير دون نظيره القديم شرودا في الخيال، وبينما هو أكثر انطباقا على العلم؛ لأن الهواء مادة يمكن تضريجها بالدم من وجهة نظرية، بينما الصوت ليس بمادة فيما نعلم، ومن الظلم أن تتهم لغتنا الشريفة بهذا الجمود، فإنما الذنب واقع على تقصير علماء اللغة أنفسهم في صيانة روح اللغة قبل هيكلها، وفي مراعاة أحاسن التقاليد الأدبية القديمة، تقاليد الإبداع والإنتاج والافتنان، بينما نعيش في عصر اللاسلكيات والراديوم والإلكترون، وفي زمن المعجزات العلمية التي من شأنها أن تفسح المجال للغة الخيال ولسعة التصوير وللابتكار في البيان والتعليل. •••
وأما الروح القومية فإن بثي لها عن طريق اختيار المواضيع ومغازيها، وعن أسلوبها المصري؛ فقد اجتهدت في اختيار مواضيع متنوعة مرتبطة بتاريخ مصر القديم وبحياتها الاجتماعية وبنهضتها الحديثة، فمن حق الأدب القومي أن نحفل بالمواضيع القومية الصميمة، ومهما كانت عنايتنا بتاريخ العرب فإن أبلغ حفاوتنا بالأدب من حق وطننا علينا، وفي كل موضوع عالجته حاولت أن أظهر ما يزينه من محامد وذكريات وطنية جليلة، أو صفاته الممتازة الجديرة بإعجابنا وتقديرنا؛ فلا خير في قصر عناية الطالب المصري على بغداد ودمشق وقرطبة، وطليطلة، أو في إغفاله وادي الملوك ومعبد حاتاسو وبقايا العظمة المدهشة لمصر القديمة، ومشاهد مصر الحديثة الناهضة، وإلا ضاع يقينا ركن من أركان التربية الوطنية، وما يقال عن الموضوع يصح أن يقال أيضا عن اللغة، لقد كان زمن يقرر فيه ابن جني
4
وكثيرون غيره «بأن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح»، وبجواز التوليد، وبإباحة ما يشاهدونه «من اختراعات الصناع لآلات صنائعهم من الأسماء: كالنجار، والصائغ، والحائك، والبناء، وكذلك الملاح»، وكان زمن يقول فيه ابن السيد البطليوسي ولا يخشى حرجا في كتابه «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب»: «الديوان اسم أعجمي عربته العرب ... والأصل في تسميتهم الديوان ديوانا أن كسرى أمر الكتاب أن يجتمعوا في دار ويعملوا له حساب السواد في ثلاثة أيام وأعجلهم فيه، فأخذوا في ذلك واطلع عليهم لينظر ما يصنعون، فنظر إليهم يحسبون بأسرع ما يمكن ويحسنون كذلك، فعجب من كثرة حركتهم وقال: أي «ديوانه»، ومعناه هؤلاء مجانين، وقيل: معناه شياطين، فسمي موضعهم ديوانا واستعملته العرب، وجعلوا كل محصل من كلام أو شعر ديوانا» ... وكان زمن يسمح فيه سيبويه وتلاميذه بالأخذ عن اللغات الأجنبية دون قيد سوى شرط واحد هو الاستعمال، وكان زمن يقرر فيه الإمام التنوخي في كتابه «الأقصى القريب في علم البيان»: إن «البلاغة تتعلق بالمعنى فقط، وهو أن يبلغ المعنى من نفس السامع مبلغه»، ويقرر أيضا: «أن العناية بالمعنى أعظم من العناية باللفظ لتمام غرض المتكلم من إفهام السامع، فلا يفي حسن اللفظ بما نقص من المعنى، والمعاني، وإن اختلفت في الجودة والرداءة فقد يراد الجيد لذاته، وقد يراد الرديء لذاته، فيقبح وضع الجيد في موضع الرديء، كما يقبح وضع الرديء في موضع الجيد، ويمدح المؤلف باتباع المعنى الذي لم يسبق إليه - وينبغي أن يقال الذي لم يسمعه قبل ابتداعه - فإن السبق إلى المعنى يقل لكثرة ما قال الناس: ولا فرق بين من لم يسبق وبين من لم يسمع؛ فإن كل واحد منهما مبتدع، وإنما ينقص من لم يسمع بقلة اطلاعه على كلام الناس، ولا يقدح ذلك في قريحته، بل تعظم لذلك» ... مضت تلك الأزمان فإذا بنا قبيل النهضة الأخيرة أمام الداعين إلى نكران ظروف مجتمعنا الحاضر يطالبوننا بأن نتقيد بأساليب الأسلاف الذين ما كانوا أنفسهم إبان قوتهم وعزتهم يعبئون بالتقيد، بل كانوا ينشدون الحرية دائما، وكانوا يعملون على نماء اللغة وازدهارها وزيادة ثروتها بالكثير من المعربات، حتى وإن لم يضطروا إليها، فكثرت مترادفاتهم وفاخروا بها، وبسعة أساليبهم، وبقابلية اللغة لاجتذاب حسنات سواها من اللغات دون أن تفقد هي شخصيتها ومميزاتها ... وقلما كنا نجد أسلوب الجاحظ الجميل - الذي هو أسلوب الفكر والبديهة والفطرة المصقولة - ينال من التحبيذ قدر ما كانت تنال رسائل «شمس المعالي قابوس بن وشمكير» المسماة «كمال البلاغة»، وما هي إلا أمثلة من التفنن السجعي الذي ما كان يستحق البعث ولفت الأنظار إليه من جديد.
ثم أشرقت شمس النهضة الأدبية الأخيرة فإذا علماء لغتنا المتبحرون يدركون خسارتنا الجسيمة بالاقتصار على ثروة الماضي التليدة بينما لدينا آلاف الكلمات الظريفة المصقولة الجميلة ما بين مشتقة ومعربة وموضوعة، فاختاروا منها الكثير وأباحوا استعمالها، وقاموا في شجاعة ونشاط مقام مجمع لغوي راشد، وأخص بالذكر من هؤلاء السادة الأعلام الأجلاء الشيخ إبراهيم اليازجي، والإمام الشرتوني، والعلامة الأب لويس معلوف اليسوعي، والمحقق الكبير الأب شيخو اليسوعي، فحفظوا في معاجمهم ومؤلفاتهم النفيسة الكثير من الألفاظ العصرية القيمة، وشجعوا الأدباء على استعمالها وإحيائها، فأصبحت شائعة في أرقى أمثلة الإنشاء والشعر العصري، وصارت مما يستحب؛ لأنها دليل على عصرنا الحاضر وعنوان أذواقنا وثقافتنا، وما يقال عن المفردات يقال عن بعض الأساليب المستحدثة، فأصبحت غاية ما يطالب به الأديب المعتدل الغيور على حرمة لغته أن يحافظ على شرف ديباجته الإنشائية دون أن يكون متطرفا في تجرده أو جامدا في أسلوبه، وعلى هذا، فكما أصبح دليلا على البلادة الذهنية أن يتهم القارئ الشعر التصويري الخيالي الجريء بالتعقيد فقد أصبح حجة على الناقد في تقعره أن يذم الأديب الذي يمثل عصره أصدق تمثيل في أسلوبه ولغته، مؤثرا عليه الناظم الصانع المتكلف الذي يقضي السنوات في نصب محاولا تقليد العربية الأولى، فلا هو يستطيع أن يملك ناصيتها كما يود ، ولا هو يخدم الأدب القومي كما يجب ...
5
ومن الألفاظ التي تعمدت استعمالها لأنها من أحسن الألفاظ العصرية البليغة كلمة: «توفقت» فإنها خير من «وفقت»؛ لأن لفظ: «توفق» بمعنى «كان مظهرا لتوفيق الله وتسهلت له طرق الخير»، بينما كلمة: «وفق» قاصرة على الدلالة على الإلهام والهدى (راجع «المنجد» للعلامة لويس معلوف)، وكذلك استعمالي كلمة: «بساطة» بدل: «سذاجة»؛ فإن الأولى تشير ضمنا إلى البشر وغنى النفس، بينما الثانية ذات تلميح إلى شيء من البله، وتعمدت التحرر من القيد العروضي في قصيدة «أبي الهول» كما فعل شوقي بك في قصيدته البيروتية، وما عدا هذه القصيدة فقد حافظت جهد الطاقة على الأساليب القديمة - خلافا لنزعتي ومذهبي - في جميع منظومات الكتاب، مكتفيا بالروح المصرية المشبعة بها، وحسبي أن أكون بذلك قد عبرت عن عواطفي ونظراتي الوطنية بلغة شريفة يصح أن تعد لسان الثقافة المصرية الحاضرة، لا بلغة غريبة عن بيان هذا العصر وذوقه. •••
لقد قام المجددون الجريئون من علماء لغتنا الفطاحل المعاصرين رغم تشتتهم مقام أكاديمية لغوية، وحفظوا أساليب البيان ومفردات التعبير لبيئاتنا العصرية، فساروا على سنة السلف الصالح في نشاطهم وإنتاجهم وإبداعهم وزادوا ثروة اللغة، وكانوا أئمة الأدباء في صدق التعبير والبر بعصرهم قبل سوالف العصور، وهذا الكتاب نتيجة طبيعية لهذه النهضة الأدبية؛ فلغته إجمالا لغة العصر، ومباحثه مفاخر الوطن ومظاهر حياته، وديباجته ليست مثل التقعر ولا أسلوب العامة، ونزعة الفكر والخيال فيه هي ثمرة اطلاعي الطويل على أدب الغرب؛ حيث القومية لها المكان المعلى من الإجلال، وحيث قضيت نصف حياتي العملية، فإذا لم أكن أرضيت به من لا يرضون عن استقلال الأدب المصري ولو استقلالا مقيدا، ولا يرتاحون إلا إلى صميم العربية فلا يرضون حتى عن الفيروزابادي، فلعلي أنصفت به بيئتي ووطني ... ويكفيني عوضا وجزاء حسنا أن أشجع به النقد الأدبي وحب البحث الشعري في نفوس قارئاته وقارئيه من طلاب الأدب.
أحمد زكي أبو شادي
ناپیژندل شوی مخ