لم تقابل مارجريت في حياتها رجلا مولعا بالكتب كالبروفيسور رينمارك، سوى والدها. فمعارفها من الشبان كانوا نادرا ما يقرءون أي شيء سوى الصحف الأسبوعية، وكانوا يبدون بعض الاهتمام بمطالعة الكتيب الأصفر، الذي كان يوزع مجانا ويحمل اسم البقال مطبوعا على ظهره. صحيح أن العلاجات العجيبة المدونة في هذا الكتيب لم تكن مثيرة للاهتمام، وكان معظم قرائها من كبار السن، لكن الشباب كانوا يستمتعون بالدعابات الموجودة أسفل كل صفحة، وكان عيبها الوحيد أن المرء لم يكن بإمكانه إلقاء تلك الدعابات في تجمعات تقشير التفاح من أجل تجفيفه وحفظه أو أي تجمع اجتماعي آخر؛ لأن كل فرد في هذا الجمع يكون قد قرأها سلفا. كانت قلة قليلة من الشباب تأتي إليها على استحياء لاستعارة كتاب من المكتبة، ولكن كان واضحا أنهم ليسوا مهتمين بالكتاب قدر اهتمامهم بأمينة المكتبة، وحين كانت هذه الحقيقة تتجلى للفتاة، كانت تستاء من ذلك. كان شباب الحي يظنون مارجريت فتاة باردة ومغرورة، أو «متغطرسة»، على حد تعبيرهم.
لذا كان رجل مثل رينمارك بمثابة مفاجأة سارة لفتاة كهذه. فقد كان يستطيع التحدث عن أشياء أخرى غير الطقس والماشية والتوقعات المتعلقة بالمحاصيل. صحيح أن المحادثة في بدايتها لم تشمل مارجريت، لكنها أصغت إلى كل كلمة فيها باهتمام. كان أبوها وأمها متلهفين لسماع أخبار ابنهما، ثم سرعان ما انجرفت المحادثة من هذا الموضوع الذي حاز كل اهتمامهم إلى الحديث عن الحياة الجامعية، والاختلافات بين المدينة والريف. وأخيرا، نهض المزارع متنهدا ليرحل. فلا يوجد متسع من الوقت للأحاديث المسلية في مزرعة ما دام في ضوء النهار بقية. وبدأت مارجريت، حين تذكرت واجبات أمانة المكتبة، في نقل الكتب من العربة إلى الغرفة الأمامية. أما رينمارك، الذي كان بطيئا في معظم تصرفاته، فكان سريعا كفاية لعرض مساعدته هذه المرة، لكنه احمر خجلا بعض الشيء وهو يفعل ذلك؛ لأنه لم يكن معتادا المكوث برفقة النساء.
قال لها: «أتمنى أن تسمحي لي بنقل الكتب. وأود أن تمنحيني حق الاطلاع على هذه الكتب في بعض الأحيان، مع أنني لا أملك امتياز استعارتها؛ لأنني لست من سكان البلدة الدافعين لضرائبها.»
أجابت مارجريت بابتسامة: «يبدو أن أمينة المكتبة لديها حرية التصرف في مسألة الإعارة. ولا أحد لديه صلاحية مراجعة سجلاتها أو توبيخها إن أعارت الكتب بشيء من التهور. لذا فإن كنت تريد استعارة كتب، فكل ما عليك أن تطلبها.» «يمكنك أن تكوني على يقين من أنني سأستفيد من هذه الرخصة. لكن ضميري سيكون أكثر ارتياحا إذا سمح لي بحملها إلى الداخل.» «مسموح لك بالمساعدة في حملها. فأنا أيضا أحب حملها. فلا شيء أمتع من أن يحتضن المرء حفنة من الكتب ملء ذراعيه.»
وبينما كان رينمارك يتأمل الفتاة الحسناء، ووجهها متقد بالحماسة، خطرت بباله فجأة فكرة مربكة بأن عبارتها ربما لا تكون دقيقة. لم تخطر بباله فكرة كهذه من قبل، فملأته آنذاك بارتباك ممزوج بالذنب. قابلت عيناه نظرة عينيها الصافية الصادقة للحظة، ثم قال متلعثما تلعثما أخرق: «أنا ... أنا أيضا مغرم بالكتب.»
حملا معا الكتب التي بلغت عدة مئات، ثم شرعا في ترتيبها.
سألها قائلا: «أليس لديك فهرس بالكتب؟». «لا. لم يبد قط أننا نحتاج إليه. فالناس يأتون ويستعيرون أي كتاب يعجبهم.» «نعم. ولكن يظل من الضروري فهرسة محتويات كل مكتبة. فالفهرسة فن في حد ذاتها. لقد كنت أمنحها اهتماما جما، وسأوضح لك كيفية إجرائها، إن كنت تريدين المعرفة.» «أوه، أود ذلك.» «كيف تحتفظين بسجل الكتب المستعارة؟» «أكتفي بكتابة اسم الشخص وعنوان الكتاب والتاريخ في هذا الدفتر الفارغ. وحين يعاد الكتاب، أشطب بياناته المسجلة.»
قال رينمارك بارتياب: «فهمت.» «ليست طريقة صحيحة، أليست كذلك؟ أتوجد طريقة أفضل؟» «حسنا، في حالة مكتبة صغيرة، يفترض أن تفي هذه الطريقة بالغرض، ولكن إذا كنت تتولين مسئولية الكثير من الكتب، فأظن أن هذه الطريقة قد تحدث التباسا.» «هلا تخبرني بالطريقة الصحيحة. أود أن أعرف، حتى وإن كانت مكتبة صغيرة.» «توجد عدة طرق، لكني لست متيقنا على الإطلاق من أن طريقتك ليست الأبسط؛ ومن ثم الأفضل في هذه الحالة.»
قالت مارجريت ضاحكة: «لن تتخلص من إلحاحي هكذا. فمجموعة الكتب تبقى مجموعة من الكتب، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، وتستحق الاحترام وأفضل معاملة. والآن، ما الطريقة المتبعة في المكتبات الكبيرة؟» «حسنا، أقترح نظام البطاقات، وإن كانت القصاصات الورقية ستفي بالغرض. حين يريد أي شخص استعارة كتاب، اجعليه يصنع بطاقة، ويذكر فيها التاريخ واسم الكتاب أو رقمه، ثم يجب عليه أن يوقع على البطاقة، وهكذا فقط. لن يستطيع إنكار أنه استعار الكتاب؛ لأن لديك توقيعه الذي يثبت ذلك. وترتب القصاصات في صندوق حسب التاريخ، وحين يعاد الكتاب، تمزقين ورقة التسجيل.» «أظنها فكرة ممتازة، وسأتبعها.» «إذن، دعيني أرسل إلى تورنتو وأحضر لك بضع مئات من البطاقات. ستصل إلينا هنا في غضون يوم أو اثنين.» «أوه، لا أريد أن أكبدك هذا العناء.» «لا عناء إطلاقا. والآن، وقد انتهينا من تلك المسألة، فلنشرع في الفهرسة. ألديك دفتر فارغ في أي مكان هنا؟ سنعد أولا قائمة أبجدية، ثم سنرتب الكتب تحت عناوين التاريخ والسير الذاتية والأدب القصصي، وما إلى ذلك.»
ومع أن إعداد الفهرس يبدو بسيطا، فقد استغرق وقتا طويلا. كان كلاهما منهمكا في مهمته. صحيح أن طريق الفهرسة في حد ذاته مستقيم وضيق، لكنه شهد في هذه الحالة قدرا هائلا من الانحرافات الجانبية اللطيفة جعلت التقدم السريع فيه مستبعدا. فمجرد ذكر عنوان كتاب أمام قارئ من شأنه أن يثير لديه ذكريات. كانت مارجريت تملي الأسماء على رينمارك، الذي كان يدونها بدوره على قصاصات ورقية كانت كل منها تحمل حرفا.
ناپیژندل شوی مخ