صاحت مارجريت وهي تنتفض متراجعة: «أوه!» ثم تمالكت نفسها وقالت بسكتة لحظية في كلامها: «لقد ... لقد أفزعتني ... يا سيد ييتس.» «لا تناديني بالسيد ييتس بعد الآن يا مارجريت، بل قولي ديك. مارجريت، لقد أردت لقاءك على انفراد. وتعرفين سبب مجيئي.» حاول الإمساك بيديها، لكنها وضعتهما خلفها بإصرار، وبدا أنها تريد الانصراف وإن ظلت واقفة في مكانها. «مارجريت، لا شك أنك ترين حالي منذ فترة طويلة. أنا أحبك يا مارجريت، بكل إخلاص وصدق. ويكأنني كنت أحبك طوال حياتي. من المؤكد أني أحببتك منذ أول يوم رأيتك فيه.» «أوه، سيد ييتس، يجب ألا تحادثني هكذا.» «وأنى لي بطريقة أخرى أحادثك بها يا حبيبتي؟ من المستحيل أن يكون ذلك قد فاجأك يا مارجريت. فلا بد أنك تعرفينه منذ وقت طويل.» «لم أكن أعرف، بالطبع لم أكن أعرف ... إذا كنت جادا فيما تقول حقا.» «جادا في ذلك؟ لم أكن جادا في أي شيء قط كجديتي في ذلك. فذلك كل ما أبتغيه، ولا يهمني شيء سواه. أعترف بأنني تسكعت كثيرا في أرجاء العالم وخضت تجارب عديدة، لكني لم أقع في الحب من قبل، ولم أعرف معنى الحب قط إلى أن التقيتك. صدقيني إن ...» «من فضلك، من فضلك، لا تقل أي شيء آخر يا سيد ييتس. إذا كان ذلك صحيحا حقا، فلا أستطيع أن أخبرك بمدى أسفي. أرجو ألا يكون شيء مما قلت أو فعلت قد جعلك تعتقد أن ... أن ... أوه، لا أعرف ماذا أقول! لم أظن قط أنك من الممكن أن تأخذ أي شيء على محمل الجد.» «مستحيل أن تكوني قد أسأت الظن بي إلى هذا الحد يا مارجريت. لقد أساءه الآخرون، لكني لم أتوقع ذلك منك. أنت أفضل مني بكثير. ولا أحد يعرف ذلك جيدا كما أعرفه. لا أدعي أني جدير بك، لكني سأكون زوجا مخلصا لك.» وأردف ييتس بجدية منتحلا كلام رينمارك: «صحيح أن أي رجل يحظى بحب امرأة صالحة ينال بذلك أكثر مما يستحق، ولكن المؤكد أني لا أمنحك حبا كحبي لمجرد أن تدوسيه تحت قدميك بازدراء.» «لا أعامل حب... لا أعاملك بازدراء. كل ما أشعر به هو الأسف إذا كان كلامك حقيقيا.» «لماذا تقولين إذا كان حقيقيا؟ ألا تعرفين أنه حقيقي.» «إذن، فأنا آسفة جدا ... آسفة جدا جدا، وأرجو ألا يكون لي ذنب في ذلك. لكنك ستنساني قريبا. حين تعود إلى نيويورك ...»
قال الشاب بمرارة: «مارجريت، لن أنساك أبدا. فكري فيما تفعلينه قبل فوات الأوان. فكري في مدى أهمية ذلك لي ومدى تأثري به. إذا استقررت في النهاية على رفضي، فستدمرين حياتي. فأنا من الرجال الذين يمكن لامرأة أن تصلح حياتهم أو تفسدها. لذا أتوسل إليك ألا تفسدي حياة الرجل الذي يحبك.»
صاحت مارجريت بغضب مفاجئ قائلة: «لست مبعوثة في مهمة دينية. وإذا دمرت حياتك، فسيكون ذلك بسبب حماقتك، وليس بسبب أي من أفعالي. أرى أن قولك إني من سأتحمل مسئولية ذلك جبن منك. لا أريد التأثير في مستقبلك بطريقة أو بأخرى.»
سألها ييتس بعتاب رقيق: «ليس إلى الأبد يا مارجريت؟». «لا، بل إلى الأبد. فالرجل الذي يعتمد سلوكه الجيد أو السيئ على أي أحد سواه ليس هو الرجل المثالي الذي أتمناه.» «فلتخبريني إذن بسمات الرجل الذي تتمنين إياه، لعلني أحاول اكتسابها.»
التزمت مارجريت الصمت. «أتظنين أن محاولاتي لن تنفعني بشيء؟» «في رأيي، نعم.» «أريد أن أسألك سؤالا آخر يا مارجريت. ليس من حقي أن أسأله، لكني أتوسل إليك أن تجيبيني. أأنت واقعة في حب شخص آخر؟»
صاحت مارجريت بانفعال غاضب قائلة: «لا! كيف تجرؤ على أن تسألني سؤالا كهذا.» «أوه، هذه ليست جريمة؛ أقصد أن الوقوع في حب شخص آخر ليس كذلك. سأخبرك بالسبب الذي جرأني على هذا السؤال. أقسم بكل الآلهة أني سأفوز بك، إن لم يكن في العام الحالي، فسيكون في العام القادم إذن، وإن لم يكن القادم، فالذي يليه. لقد كان جبنا مني أن أقول ما قلته، لكني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك آنذاك حتى. وكل ما أريد معرفته أنك لا تحبين رجلا آخر.» «أرى أنك شديد القسوة في إلحاحك هكذا، في حين أنك قد عرفت الإجابة. لقد قلت لا. كلا ألبتة! أبدا! ... لا العام الحالي ولا أي عام آخر. ألا يكفي ذلك؟» «لا يكفيني. فكلمة «لا» من المرأة قد تعني «نعم» في النهاية.»
أجابت مارجريت وهي تنصب قامتها كأنها تهم بأداء غطسة أخيرة: «هذا صحيح يا سيد ييتس. هل تتذكر السؤال الذي سألته لي الآن؟ عما إذا كنت معجبة بشخص آخر؟ لقد قلت «لا». تلك ال «لا» كانت تعني «نعم».»
كان يقف بينها وبين النافذة؛ لذا لم تستطع الهرب بالطريقة التي جاءت بها. رأى أنها تفكر في الهرب، وبدا كأنه سيعترضها، لكنها كانت أسرع من رد فعله. ركضت حول المنزل، ثم سمع بابا يفتح ويغلق.
عرف أن مسعاه قد خاب. فاستدار في إحباط نحو السياج، وتسلقه ببطء من حيث قفز من فوقه بخفة شديدة قبل بضع دقائق، وسار على الطريق لاعنا قسمته ونصيبه. ومع أنه اعترف لها بأن كلامه عن تحطم حياته كان جبنا منه، فقد عرف في هذه اللحظة أن كل كلمة قالها كانت صحيحة. فما الذي يحمله المستقبل له؟ ولا حتى حافز للعيش. وجد نفسه يسير صوب الخيمة، لكنه لم يكن يريد لقاء رينمارك بحالته النفسية الحالية، فاستدار وخرج إلى طريق ريدج. كان متعبا ومحطما، وقرر البقاء في المخيم إلى أن يعتقلوه. لعلها تشفق عليه بعض الشيء حينئذ. من ذاك الرجل الآخر الذي تحبه؟ أم إنها قالت ذلك لمجرد أن تجعل رفضها نهائيا؟ وفي ظل حالة ييتس النفسية آنذاك، افترض الأسوأ، وتخيلها زوجة لأحد المزارعين من جيرانهم ... وربما ستوليكر حتى. قال لنفسه إن هؤلاء الفتيات الريفيات لم يؤمن قط بأن الرجل يستحق الإعجاب إلا إذا كان يملك مزرعة. فعزم في قرارة نفسه على أن يدخر أمواله ويشتري أراضي الحي كله، وحينئذ ستدرك أي رجل قد أضاعت من يديها. تسلق السياج ذا العوارض الأفقية المحاذي للطريق، وجلس على العارضة العلوية ساندا كعبيه على عارضة سفلية، كي يتسنى له الاستمتاع ببؤسه دون تعب المشي. تصور نفسه في خياله الخصب وقد صار يملك مساحة كبيرة من ذلك الجزء من البلاد في غضون سنوات قليلة، مع امتلاك رهون عقارية على جزء كبير من المساحة المتبقية، يشمل المزرعة المملوكة لزوج مارجريت. تصورها الآن وهي زوجة مزارع ذابلة تأتي إليه متوسلة أن يمد مهلة سداد الدين الذي تبلغ فائدته سبعة في المائة. كان يعرف أنه سيتصرف بشهامة في موقف كهذا، ويوافق بسمو مبهر على منح زوجها كل الوقت المطلوب. لعلها تدرك حينئذ الخطأ الذي ارتكبته. أو ربما ستكون الشهرة سبيله وليس الثروة. سوف يرن اسمه في كل أرجاء البلاد. فربما يصبح سياسيا بارزا، ويفلس كندا بقانون تعريفة جمركية صارم . لم يخطر بباله في هذه اللحظة ظلم تعريض كل الأبرياء للمعاناة بسبب تصرف طائش من فتاة منهم؛ لأنه كان مهانا وجريحا. لا مرارة أشد من تلك التي تظل تفتك برجل رفضته الفتاة التي يعشقها ما دامت قائمة. هامت عيناه ناحية الكتلة السوداء التي شكلها بيت آل هوارد. كان البيت مظلما كأفكاره. ثم التفت ببطء ورأى وميضا خافتا على الطريق من ضوء مرتعش صادر من نافذة غرفة الجلوس في بيت آل بارتليت، فبدا له ذلك بارقة من الأمل. ومع أنه شعر بأن الزمن قد توقف بعد ما حدث، كان مقتنعا بأن الوقت ليس متأخرا للغاية، وإلا لذهب آل بارتليت للنوم. من الصعب دائما على المرء إدراك أن أبشع الكوارث عادة ما تنتهي في بضع دقائق. بدا وكأن دهرا قد انقضى منذ أن غادر الخيمة مفعما بالتفاؤل. وحين نظر إلى الضوء، خطر بباله أن كيتي ربما تكون وحدها في غرفة الجلوس. على الأقل ما كانت لتعامله بمثل ذلك السوء الذي عاملته به الفتاة الأخرى، و... وكانت حسناء أيضا بالمناسبة. فطالما كان يفضل الشقراوات على السمراوات.
لا يعد السياج ذو العوارض الأفقية مقعدا مريحا. بل يستخدم في بعض أجزاء البلدة ليرسخ لدى الجالس عليه حقيقة ما يسببه من مشقة شديدة، وليكون تلميحا لطيفا إلى أن وجود هذا الجالس في هذا الجوار الملاصق غير مرغوب فيه. فطن ييتس إلى ذلك بابتسامة وهو ينزل منزلقا من على السياج ويتعثر في مصرف المياه المحاذي للطريق. كان باله منشغلا جدا إلى حد أنساه المصرف تماما. وبينما كان يسير على الطريق نحو بارقة الأمل التي أرشدته وسط التيه، تذكر أنه قد تهور وعرض كيتي على البروفيسور القاسي القلب. ولكن في كل الأحوال، لم يكن أحد يعرف بالواقعة التي حدثت قبل لحظات إلا هو ومارجريت، وكان على قناعة بأن مارجريت ليست بالفتاة التي تتباهى بالرجال الذين استحوذت على قلوبهم. وعلى أي حال، لم يكن ما حدث مهما. فالرجل سيد نفسه بالطبع.
ناپیژندل شوی مخ