قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن جبلة بن الأيهم لم يزل ملكًا مطاعًا في قومه غسان، يحبى إليه خراج الشام وتطيعه قبائل العرب فيها. فبعث رسول الله ﷺ تسليمًا وجبلة بن الأيهم ملك الشام. فتوفي رسول الله ﷺ فجلس أبو بكر، وأقام في الخلافة ما أقام وجبلة بن الأيهم ملك الشام. فلما كان في زمان عمر بن الخطاب أسلم جبلة بن الأيهم، وقدم المدينة في خمسمئة فارس من قومه أصحاب التيجان، وسار منها حتى دخل مكة حاجًّا. ويقال: إنه كان يطوف ذات يوم من أيام الحج عليه إزار وشي ورداء وشي، فوطئ إزاره رجل من فزارة، قال: فلطمه جبلة بن الأيهم لطمة هشّم بها أنفه، فقال: فأقبل الفزاري ودمه يسيل على صدره، حتى وقف على عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين أنصفني من هذا الملك الجبار جبلة بن الأيهم الجفني، لطمني لطمة، فتركني على هذه الحالة، قال: فدعا عمر بن الخطاب بجبلة بن الأيهم، فقال له: علام لطمت هذا الرجل؟ فقال له جبلة بن الأيهم: وطئ إزاري، فقال عمر بن الخطاب: أما أنت فقد أقررت، فإما تعطيه لطمة بلطمته، وإما أن ترضيه من مالك، فقال جبلة بن الأيهم: لا أفعل شيئًا مما ذكرت يا أمير المؤمنين، وهم جبلة بن الأيهم أن يثير الفتنة بينه وبين عمر بن الخطاب. قال: فدخل إليه الناس فكلموه، وسكنوا بعض ما كان به من الغضب، وناشدوه بالله ألا يجعلها فتنة، فأجابهم جبلة بن الأيهم إلى ذلك. فلما كان في بعض من الليل مضى إلى الشام جبلة بن الأيهم فيمن معه، ودخل في النصرانية، ومضى حتى دخل بلد الروم على هرقل بن قيصر مغضبًا حنقًا عاتبًا على عمر بن الخطاب.
وهذا مختصر من خبر جبلة بن الأيهم، والشرح يطول في ذلك. ويقال: إنه ندم على ما كان من تركه الإسلام ودخوله في النصرانية. وقال في ذلك شعرًا، يقول فيه:
تنصَّرتُ للإشفاقِ مِن عارِ لطمةٍ ... وما كانَ فيها لو تصبَّرتُ من ضررْ
تحمَّلِني منها لجاجٌ ونخوةٌ ... فبعتُ لها العينَ الصحيحةَ بالعورْ
فياليتَ لي بالشَّامِ أدنى معيشةٍ ... أجاورُ قومِي داني السَّمعِ والبصرْ
وياليتْ أُمِّيْ لم تلدنيْ وليتنِيْ ... رجعتُ إلى القولِ الَّذِي قالَ لي عُمرْ
وياليتني أرعى المخاضَ بعُقرةٍ ... وكُنتُ أَسيرًا في ربيعةَ أو مُضرْ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: ولقد كان لجبلة بن الأيهم عند دخوله في النصرانية أخبار وأحاديث، يطول شرحها، وهو الذي يقول فيه حسان بن ثابت الأنصاري لما وصل به بره من أرض الروم حيث يقول:
إنَّ ابن جفنةَ من بقيَّة معشرٍ ... لم تغذُهُم آباؤهُمْ باللُّومِ
لم ينسنيْ بالشَّامِ إذ هُو ربُّها ... كلَّا ولا مُتنصِّرًا بالرُّومِ
يُعطِي الجزيلَ ولا يراهُ عندهُ ... إلاّ كبعضِ عطيَّةِ المذمُومِ
جالَستُهُ يومًا فقرَّبَ مجلِسيْ ... وسعى عليَّ براحةِ الخرطُومِ
وصية كندة
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن كندة - وهو ثور بن المرتع، واسم المرتع نبت بن مالك بن زيد بن كهلان - وصى بنيه، وهم أثله ونحيب ومعاوية، وهو جدّ الملوك المتوجة من كندة، فقال لهم: يا بني احفظوا أنفسكم عما يشينها، وحثوها على ما يزينها. يا بني، ما أفلح غادر قط، ولا ساد خائن يومًا من الدهر، ولا عاش كريمًا إلا حميدًا، ولا مات جواد إلا فقيرًا ولست أرى شيئًا أذل من البخل، ولا أحسن من المنفرد الوحيد. ثم أنشأ يقول:
بَنِيَّ احفظُوا للدَّهرِ منِّي خصائلًا ... تعيشُوا بها بينَ الأنامِ مُلُوكًا
بَنِيَّ أقلُّ النَّاس مَنْ كانَ غادرًا ... فكانَ لإحرامِ الرِّجالِ هَتُوكا
وأكثرهُمْ من كانَ في العُرفِ آمرأً ... وكانَ لمذمُومِ الفعالِ ترُوكا
وأكرمُهُم من كان في سُبُلِ العُلا ... وفي مهيعِ المجدِ التَّليد سلُوكا
وأحملهم من كان يُلفَى لقومِهِ ... إذا ندبُوهُ للنِّزالِ وشيكا
وكان لدى الهيجاءِ في كُلِّ مشهدٍ ... قصُومًا لأقرانِ الرِّجال بتُوكا
وإيَّاكُمُ والبُخلُ فالبُخلُ ربُّهُ ... وإن كان ذا مالٍ يموتُ ضريكا
ولو عاشَ ما قد عاشَ لُقمانُ لم يكُنْ ... مع البُخلِ إلا خامِدًا وهلُوكا
1 / 35