والطبيعة تروي فينا هذا التعطش العقلي؛ لأن البحث فيها يهدينا إلى ذلك الائتلاف الذي ننشده من وراء الاختلاف. ولكن هذا التفسير ليس في الحقيقة كاملا؛ فكثير من الحقائق الحسية والحوادث تخرج عن حد المعقول ولا يمكن الجمع بينها في وحدة شاملة مؤتلفة. والعلم يعترف بأن للأشياء خصائص مميزة، كما يعترف بأن بينها تشابها يكمن وراء اختلافها الظاهري. وقد أخطأ هجل حينما تصور أن الطبيعة كلها تخضع لأحكام العقل، وخلص من ذلك إلى إمكان استنتاج الحادث قبل وقوعه، وكم كنا نود لو كان الأمر كذلك!
لقد استطعنا إلى حد كبير أن نخضع العالم المادي إلى وحدة شاملة؛ فعالم الطبيعة يرى المادة كلها اليوم مكونة من عدد محدود من أشكال الطاقة، تختلف في صفاتها متفرقة عنها وهي متجمعة. إن بين ملايين الوحدات الذرية متجمعة والوحدة الذرية المفردة خلافا في النوع كما أن بينهما خلافا في الكم. والعلوم الطبيعية، كالطبيعة والكيمياء وعلم الحياة، تدرس المادة باعتبارها مكونة بدرجات مختلفة من الذرات مما يظهرها في صور مختلفة. والخصائص المميزة للأشياء - كما ندركها بالحواس - تتوقف على عدد الوحدات الذرية وترتيبها.
والعلم يصور العالم المادي على أنه مكون من صور مختلفة من مادة واحدة. أما الإدراك العام فينظر إلى هذه الصور المختلفة كأنها مستقلة، لكل منها وجودها الفردي، ولا علاقة بين إحداها والأخرى. وهذا خطأ؛ لأن هذه الصور المفردة المنفصلة بينها شبكة من العلاقات والروابط، كهربية ومغناطيسية وجاذبية وكيميائية، وعقلية في حالة الكائنات ذات الحس، وهذه الشبكة هي التي تعطي وجودها وحقيقتها معنى. إن الكائن المفرد لا معنى له إلا باعتباره جزءا من كل. أو بعبارة أخرى إنه ليس كائنا فرديا. والأشياء التي نسميها عادة كائنات أو مفردات - كالشجرة أو الرجل أو المنضدة - ليست - حقائق حسية كما قد يحسب الخياليون أعداء العقل، إنما هي مجردات من حقيقة مؤلفة من شبكة من العلاقات القائمة بين الأجزاء التي يتوقف وجود أحدها على الآخر، وهي أجزاء من كل كبير غير محدود؛ فالرجل مثلا لا يعد رجلا إلا بفضل علاقته بالكون المحيط، وجوده كله متوقف على جواره للأرض، وجاذبيتها القوية، وعلى إشعاعات من أنواع مختلفة تجعله معتمدا على أجسام سماوية نائية، وهو نتيجة لعملية كيميائية مستمرة. وهو من الناحية العقلية يتوقف وجوده على عقول معاصريه وأسلافه. إن الزعم القائل بأننا كائنات مستقلة، نعيش بين كائنات أخرى مستقلة، لا يقوم إلا على أساس من الجهل. وفي الوقت الحاضر فئة من الناس تصر على اعتبار الأفراد كائنات «حسية» مستقلة، وهم يزعمون أن هذه العقيدة - وإن تكن خاطئة - لا تضللنا بمقدار ما يضللنا أصحاب النظريات السياسية الذين يرون أن الأفراد يجب أن يضحى بهم في سبيل كليات عامة، كالأمة والدولة والحزب ومصير العنصر وما إلى ذلك. والواقع أن هناك درجات مختلفة من المجردات المشتقة من الحقائق الفردية؛ فالكليات التي تعالجها النظريات السياسية تنتمي إلى مجردات أرقى من المجردات التي تتمثل في الكائنات المفردة المستقلة، والتي يحسبها الرأي العام كائنات مستقلة حسية فعلا؛ فالنظريات السياسية أشد تجريدا من الكائنات المفردة. وأما الخطر الذي ينجم عن الاهتمام بالمجردات البعيدة ، كالأمة والدولة، فيمكن تفاديه إلى حد ما بإصرارنا على أن الأفراد من رجاء ونساء كائنات حسية، أشد حساسية من الأمة والدولة.
وقد دلت البحوث العلمية الحديثة على أن العالم الذي ندركه بالتجارب الحسية والإدراك الفطري العام ليس إلا جزءا صغيرا من العالم بوجه عام وهو جزء صغير منه لأننا نعيش في نقطة ضئيلة من الكون الواسع، ومعرفتنا بالأجزاء النائية من الكون ضيقة محدودة. ثم إن الأعضاء التي نستخدمها في الاتصال بالعالم الخارجي لا تستطيع فهم الحقيقة كلها. وحتى إن استطعنا أن نقوم برحلات كشفية في عالم الكواكب فسنظل عاجزين عن أن ندرك من الذبذبات الكهربية المغناطيسية ما هو أقصر من البنفسجية أو أطول من الحمراء، وسنظل عاجزين عن رؤية الجزئيات أو الإحساس بها برغم حجمها الكبير. ولا نستطيع أن ندرك الحد الأدنى من وحدة الزمن، وسوف نظل صما بالنسبة للأصوات التي تزيد في الارتفاع على حد محدود وسوف نظل محرومين من تلك الموهبة التي تعين الطيور المهاجرة على معرفة الاتجاه الصحيح، وهكذا. إن كل نوع من أنواع الحيوان يسكن كونا من صنعه الخاص، يشتقه من عالم الحقيقة عن طريق قواه الذهنية وأعضاء الإدراك لديه. والإنسان - بطبيعة الحال - أقوى ذهنا من الحيوان؛ فهو يستطيع أن يدرك شيئا عن العالم الأكبر الذي يحيطه بكونه الخاص. إنه قد لا يرى من الأشعة ما هو فوق البنفسجية، ولكنه يستنتج وجود الأشعة البنفسجية، بل ويستغلها، برغم أنه لا يدركها بإحدى حواسه، ولا بإدراكه الفطري العام. فالعالم المادي كما نتصوره إذا أوسع مما تدركه الحواس.
وأكتفي بهذا القدر عن الصورة العلمية للعالم المادي. ثم أحاول الكلام على الصورة العلمية للعقل. ليست هناك صورة علمية واحدة للعقل، بل هناك صور متعددة لا يمكن التوفيق بينها. يعتقد بعض العلماء أن العقل ليس إلا مظهرا من مظاهر المادة، يشبهها في كل صفاتها، وأن المخ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء. وأن النشاط العقلي كله يمكن تفسيره بالأفعال الشرطية المنعكسة. والعقل عندهم ليس سوى آلة تكونت أثناء التطور للحصول على الطعام، ولإرضاء الرغبة الجنسية، ولتوفير أسباب البقاء. ويرى آخرون - على العكس من ذلك - أن العقل لا يمكن إدراكه عن طريق المادة التي هي من خلق العقل، وإنما المرء لديه نوع من «الوعي» يمكنه من إصدار الحكم الصحيح على طبيعة العالم، فأي هذين الفريقين على صواب؟
إن البحث الحديث في الطب وفي علم النفس التجريبي قد ألقى ضوءا على طبيعة العقل، وعلى قيمته في العالم. يعتقد الأطباء أن كثيرا من حالات المرض ينشأ عن حالات عقلية خاصة؛ فالعقل كثيرا ما يحب أن يصاب صاحبه بعلة من العلل، أو قد يكون العقل مضطربا فيعجز عن أن يقي البدن شر المرض. ومهما تكن طبيعة العقل فإن مقاومة المرض تتوقف إلى حد كبير على الحالة النفسية للمريض. ولقد كان من الأبحاث التي دارت في المؤتمر الأمريكي لأمراض الأسنان الذي انعقد عام 1937 أن فساد الأسنان نفسه قد يكون ناشئا من أسباب عقلية. وكما أن العقل يسبب العلة فهو كذلك يجلب الشفاء، ولا شك أن المريض المتفائل أقرب إلى الشفاء من المريض القلق التعس. وقد دلت تجارب التنويم المغناطيسي على أن المنوم يستطيع في بعض الحالات أن يعالج النائم بما لديه من قوة التأثير، ويستعمل التنويم المغناطيسي كذلك للتخدير؛ فيمكن إجراء العمليات للنائم دون أن يحس.
وأمكن كذلك إثبات «انتقال الأفكار»
Telepathy ، ورؤية الأشياء قبل حدوثها، فكيف يتم انتقال الفكر؟ من الواضح أن هذه العملية تختلف عن انتقال الحديث بالراديو؛ لأن قوة الرسالة الفكرية لا تضعف بطول المسافة كما يضعف الحديث المذاع بالراديو. وقد قرر الأستاذ برود
C. D. Broad
أن هناك وسطا عقليا محضا تسبح فيه العقول والأفكار، ولما كنا نستطيع أن ننظر إلى الشيء قبل وقوعه فلا بد لنا أن نفرض وجود الوسط العقلي مستقلا عن الجسم وعن ظروف الحياة الجسمية المتصلة بالزمان والمكان. وإذا فأصحاب نظرية «الوعي» أقرب إلى الصواب من السلوكيين ومن أولئك الذين يعتقدون العقل مظهرا من مظاهر المادة. (ثم يحاول هكسلي بعد ذلك أن يثبت أن الإنسان هو أقدر الكائنات على التطور؛ ولذا فهو أقدرها على تحقيق المثل العليا، ولا أرى ضرورة لتلخيص هذا الجزء من هذا الفصل.)
ناپیژندل شوی مخ