الفصل التاسع
الحرب
إن الحرب والاستعداد لها والتهديد بإثارتها تسد - إن عاجلا أو آجلا - كل طريق يؤدي إلى ترقية المجتمع. هذه هي الحقيقة المرة التي لا مفر منها، الحقيقة التي اتضحت لنا من البحوث التي قدمناها في الفصول السابقة من هذا الكتاب.
والآن سوف نبحث بإيجاز شديد في طبيعة الحرب، وأسبابها، وما يمكن أن يحل محلها إذا أمكن لنا أن نستغني عنها، وطرق علاج هذا الجنون العسكري الذي أصاب الناس في هذه الأيام. (1) طبيعة الحرب (أ)
الحرب ظاهرة إنسانية محضة. إن الحيوانات الدنيا قد تتبارز، وهي في حرارة التهيج الجنسي، وقد تقتتل في سبيل القوت، أو لهوا ولعبا؛ فالذئب لا يلتهم الشاة إلا وهو جائع، وهو في هذا كالقصاب يقتل الذبيحة ليبيعها لنا طعاما نأكله. والهرة قد يحلو لها أن تلعب بالفأر فتقاتله من أجل ذلك، وهي حينئذ أشبه ما تكون بالصائد يخرج للصيد فيقتل في سبيل لهوه الحيوان. إن عمل الذئب والهرة، كعمل القصاب والصائد، ليس فيه من الروح الحربية - كما نعرفها - لمحة ولا إشارة. وكذلك القتال بين الكلاب الجائعة، أشبه ما يكون بالشجار بين السكارى في الحان - ليس من الحرب في شيء. إنما الحرب معناها الفتك بالألوف في نظام متعمد مقصود، أجل إن هناك حشرات اجتماعية تخرج إلى القتال في جيوش منظمة، ولكنها توجه هجماتها دائما نحو عدو من جنس آخر غير جنسها، إن الإنسان لفريد في تنظيم قتل الألوف من أبناء جنسه. (ب)
إن بعض علماء البيولوجيا - ومن أبرزهم سر أرثر كيث - يرون أن الحرب وسيلة الطبيعة في تطهير المجتمع، وهي الوسيلة التي تكفل له بقاء الأصلح من الأفراد والأمم المتمدنة. ولكن هذا زعم باطل؛ إذ إن الحرب تفتك بالشبان والأقوياء، وتبقي على المرضى والضعفاء. وليس هناك ما يحملنا على أن نعتقد أن الشعب الذي ألف وسائل العنف وأجاد فنون الحرب أرقى من الشعوب الأخرى؛ فليس أرقى الأمم أشدها جرأة على القتال. ولم يبرهن التاريخ على أن أقدر الناس على الحرب هم أصلحهم للبقاء. الحرب دائما تقضي على نخبة من الرجال الأقوياء الممتازين، وهي بالنسبة للأمم والشعوب لا تسير على قاعدة معروفة مرسومة؛ فهي أحيانا تضمن السيادة والبقاء للشعوب التي تجيد فن القتال، وأحيانا أخرى تنتهي بدمار هذه الشعوب وتبقي على الشعوب التي لا تتقن فنون الحرب. (ج)
توجد في العصر الحاضر مجتمعات إنسانية بدائية، مثل الإسكيمو، لا تعرف الحرب، بل ولا تخطر لها على بال. في حين أن كل المجتمعات المتحضرة مجتمعات محاربة، فهل الحرب والمدنية أمران متلازمان؟ وهل الحرب ضرورة للحضارة لا مفر منها؟ تدل البحوث الأثرية على أن المدنيات القديمة كانت تعرف الحرب وتجيدها، وأن الشعوب المتأخرة تتخذها وسيلة لتحقيق أغراضها؛ فهي إذا ليست من مستلزمات الحضارة وضروراتها. وأغلب الظن أن نشأة الحروب مرتبطة بظهور زعماء يحسون بالعظمة وتمتلئ رءوسهم بفكرة السيادة الشخصية والشهرة وخلود الاسم بعد الموت. وما تزال فكرة «المجد» و«الشهرة الخالدة» تختمر في رءوس الدكتاتوريين وقادة الحروب، وتلعب دورا هاما في إثارة الحروب، حتى في عصرنا هذا الذي تعد فيه الاعتبارات الاقتصادية ذات أهمية قصوى. (د)
يجب أن نعلم أن مدنيات العالم المختلفة قد وقفت من الحرب مواقف مختلفة؛ فالصينيون والهنود يختلفون في نظرتهم إليها عن أهل أوروبا. هؤلاء (أي الأوروبيون) يعبدون البطل العسكري، وهم منذ نشأة المسيحية يقدسون الرجل الذي يموت استشهادا في الجهاد. وليس كذلك الصينيون؛ فإن الإنسان المثالي عند كونفيوشس هو الإنسان العادل العاقل الشفيق المثقف، الذي يعيش مسالما في مجتمع منظم منسجم. والكنفوشية تؤثر حكمة العقل على الشجاعة البدنية، ويصرح أئمتها أن التضحية بالحياة قبل الأوان لا تليق بالرجل الحكيم. أما إعجاب الأوروبيين بالبطولة العسكرية وبالاستشهاد في القتال فقد حدا بأكثرهم إلى العقيدة بأن الميتة الطيبة خير من الحياة الطيبة، وأن المرء يستطيع أن يكفر عن حياة طويلة مليئة بالجرائم والآثام بعمل واحد ينم عن الشجاعة والبطولة. وصوفية لاوتسو
Lao Tsu
الصيني تتمم مذهب كونفيوشس العقلي؛ فالإنسان - عند لاوتسو - الذي يحب أن يعيش عيشة هادئة طيبة ينبغي له ألا يفرض شخصيته على غيره، وألا يشعر بأهميته، وألا يبدأ غيره بالعدوان، كما ينبغي له أن يتصف بالتواضع، وأن يرد الشر بالخير.
ناپیژندل شوی مخ