ولكن أكثر المصانع - في ظل النظام السائد - أشبه ما تكون بدكتاتوريات صغيرة بعضها يميل إلى الخير وبعضها يميل إلى الشر، وطاعة العمال لرؤساء فرضوا عليهم فرضا بغير انتخاب محتمة في كلتا الحالتين. وهؤلاء العمال قد يكونون - من الوجهة النظرية - تابعين لدولة ديمقراطية، ولكنهم - في الواقع - ينفقون حياتهم رعايا لحكام مستبدين هم أصحاب المصانع التي يعملون بها. ومشروع دبريل يدخل الديمقراطية الحقة داخل المصنع، وبغير هذا المشروع أو ما يماثله لا فرق عند العامل بين أن يكون المصنع ملكا للدولة أو ملكا لفرد أو لجمعية تعاونية؛ لأن طاعته واجبة في جميع الأحوال، ولكنا إذا وضعنا مشروع دبريل موضع التنفيذ ظفرنا برضى العامل عن الإدارة، حتى إن تولاها من لا يحسنها؛ وذلك لأن العامل يعلم في قرارة نفسه أنه هو الذي اختار رئيسه، وأنه اشترك في وضع لائحة مصنعه. فهو مطمئن من الناحية النفسية.
ويعتقد لينين أن العامل لا يهتم بالديمقراطية لأنه فقير يملك عليه فقره كل تفكيره. ولكنا ينبغي في الواقع أن نرفع من مستواه المادي حتى يتوفر له الفراغ والمعرفة والعلم فيهتم بالديمقراطية والسياسة. ويجب ألا ننسى أن الناس أنماط مختلفة، فلا بد من إيجاد أنظمة مختلفة من الديمقراطية والحكم الذاتي، حتى يجد الرجل ذو الفكر المحدود مجالا لنوع قدرته السياسية في الجماعات المستقلة استقلالا ذاتيا داخل دوائر الصناعة أو التجارة أو الإدارة المحلية. وهكذا يصبح كل فرد عضوا في جماعة مستقلة ولا يخضع لغيره خضوعا أعمى.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى تطور اجتماعي طرأ علينا في العصر الحديث وكان له أثره في إحساسنا بروح الجماعة. وأسباب هذا التطور كثيرة أهمها ما يأتي:
أن تحديد النسل جعل الأسرة العادية قليلة العدد، ولأسباب متعددة سنبينها فيما بعد انتهى العهد الذي كان يتزوج فيه الابن ويقطن مع أبيه وجده. في ذلك العهد كانت الأسر الكبيرة والجماعات العائلية مجتمعات يتعلم فيها الأطفال فن التعاون وتحمل التبعات، غير أن هذه المدارس الساذجة التي كانت تبث في الفرد روح الجماعة قد زالت الآن من الوجود.
ثم إن طرق النقل الحديثة قد أدخلت تعديلا كبيرا على حياة القرى والمدن الصغيرة. إلى عهد قريب جدا كانت القرى تكفي حاجات نفسها بنفسها، فكان لكل مهنة رجل فني يمثلها. وكان الإنتاج المحلي إما يستهلك كله أو يستبدل به السكان محصولات أخرى من منتجات القرى المجاورة. وكان الرجل لا يغادر قريته، والأهالي يعتمدون على مواهب أبناء القرية أو المدينة في العلم واللهو وأمور الدين. أما اليوم فقد تغير كل شيء؛ ونظرا لما طرأ على طرق النقل من وسائل الترقية والتحسن اتصلت القرية ببقية العالم الاقتصادي؛ فهي تستورد حاجاتها كما تستورد الرجال الفنيين من بعيد، كما أن عددا كبيرا من السكان يخرج من القرية للعمل في المصانع والمكاتب والمدن الكبيرة النائية، وهم يستمتعون بالموسيقى والتمثيل غير معتمدين في ذلك على المواهب المحلية، بل على متن الأثير ودور الصورة المتحركة.
انقضى عهد كان فيه كل أفراد المجتمع يعيشون في بقعة واحدة. إنك اليوم - بفضل السيارات - قلما تجد القرويين في قراهم. فانحطت الجماعة القروية في لهوها وعبادتها وثقافتها؛ لأن الفرد يقضي شطرا كبيرا من حياته وفراغه في المدائن الكبرى. وقد عملت السيارة والتلفون على تفكيك روابط الجيرة. كما أن تقدم الصناعات قد أضعف كثيرا من الصلات الشخصية والروحية بين أعضاء المجتمع. وكذلك أدى تركيز الأعمال في أيدي الدولة إلى فتور الحب المتبادل بين القلوب والتعاون المشترك بين الأفراد؛ فالمستشفيات التي تتعهدها الدولة وتمدها بالأطباء والممرضات خير من معونة الجار، ولكنها تضعف من شعور الجار بالتبعة نحو جاره؛ ومن ثم فإن التنظيم الاشتراكي يقضي على التعاطف بين الناس.
وقد شهدت الأجيال الثلاثة الماضية زيادة عظيمة في حجم المدن الكبيرة وعددها. والحياة في المدن الكبيرة أشد إثارة للشعور وأكثر إدرارا للربح منها في القرن والمدن الصغيرة، وقد شجع ذلك أهل الريف على الهجرة إلى المدينة. وسار في مقدمة المهاجرين ركب من المغامرين الطموحين وذوي المواهب الممتازة، فأقفرت القرى وعمرت المدائن بالممتازين من الرجال.
ومن العسير أن نحث الفلاحين وصغار المزارعين على الاستفادة من الطرق العلمية الحديثة؛ وذلك لأسباب عدة؛ منها هجرة الأذكياء من القرويين إلى المدن. وترتب على ذلك كله أن ضعفت الحياة الاجتماعية في الريف، ولم تحل محلها حياة اجتماعية قوية في المدن؛ وذلك لأن الفوضى كانت تدب في المدن وهي آخذة في التضخم والاتساع. أجل هناك بين سكان المدن نوع من الصلة، ولكنها صلة سطحية آلية. الحياة في المدينة مفككة وكأن كل فرد فيها يقول لنفسه: «إن أحدا من الناس لا يهتم بي، فلماذا أهتم بسواي؟»
وفي ضوء هذه الأسباب الآنفة التي تعمل على انحلال المجتمع وإضعاف روح الجماعة عند الأفراد، أقدم هذا الاقتراح لعلاج الأمور. نستطيع أن نحول المدارس والكليات إلى جماعات عضوية، تعوض الفرد في فترة قصيرة من حياته عن ذلك التدهور الذي حل بحياة الأسرة والقرية الصغيرة، وذلك بأن يقوم الطلبة بحكم أنفسهم وبالاشتراك في الألعاب الجمعية والنشاط الثقافي. ولو أن القرية نفسها قامت بمثل ذلك لأصبحت الحياة فيها مستساغة مقبولة، وقلت الهجرة منها إلى المدن. ثم إن عدم تركيز الصناعة، وارتباطها بالزراعة، يمكن ساكن القرية من أن يكسب في القرية ما تدره عليه المدينة. ولكنا نلاحظ أن الصناعة في الوقت الحاضر ما زالت مركزة في وحدات كبيرة برغم تيسير توزيع القوى الكهربائية على البلاد. إن المدن المزدحمة بالسكان كثيرة العدد، مثل لندن وباريس، لها قدرة عجيبة على جذب الصناعات إليها وتركيزها فيها. وربما يرجع ذلك إلى أن كثرة السكان تدعو إلى توسيع السوق، وتوسيع السوق يجذب إليها الصناع. كما أن الصناعات الجديدة تنشأ عادة في ضواحي المدن الكبيرة فتزيد تضخما واتساعا. وإذا تنبهنا إلى سهولة الإغارة الجوية على المدن الكبيرة أدركنا أن عدم تركيز الصناعة فيها ضرورة ماسة لا مندوحة عنها.
إن الحياة في المدينة مفككة، ولا بد من إيجاد الرابطة بين الأفراد.
ناپیژندل شوی مخ