بل هم المستقبل الذي يحيا في الحاضر، ومنهم تنبثق الأفكار الكبيرة والآراء النيرة، وأياديهم هي التي تنثر أنفس البذور، وأصواتهم هي التي ترسل أجرأ الصيحات. فلا يثمر جهادهم إلا بعد وفاتهم؛ يوم يشب النشء الجديد متوقدا يقظا فيتلقف مبادئهم ويحققها شيئا فشيئا. وإني لأضرب لكن مثلا بواحد من هؤلاء؛ وهو قاسم أمين الذي اضطهد في سبيل دعوته إلى الإصلاح الاجتماعي. وتولى ربع قرن تقريبا، فإذا بآراء قاسم أحيا اليوم منها في حياته. لقد أنضجها الدهر على مهل. فتناولتها بمعانيها الأصلية القويمة فئة من صفوة رجال الأمة ونسائها.
أما الفريق الآخر فيتكلم بلغة أبناء جيله، ويعبر عن حاجتهم، ويشعر بما به يشعرون. فيكونون أقرب إلى فهمه وأبعد عن مناهضته؛ لأنه ثمرة هذا الوسط؛ نشأ على ما كان ينبغي أن ينشأ، وأظهر من شخصيته مثالا كريما وجاء بأحسن ما ينتظر منه. وكأن أهل هذا الفريق هم الذين يغذون الجمهور بما يناسبه لينمو، ويقودونه خطوة خطوة نحو مستقبل يصير عنده أهلا ليدرك ما يريده أهل الفريق الأول؛ جماعة الشاذين والخياليين والنظريين كما يسميهم «العمليون»!
من أهل الفريق الثاني كانت وردة اليازجي. نشأت في أسرة يقوم على رأسها ذلك الأستاذ الكبير والدها الشيخ ناصيف الذي كان في طليعة العاملين لإيقاظ الشرق الأدنى من غفوته. وقد اقتفى أثره في الفضل والده العالم اللغوي الشيخ إبراهيم، والأديب الشاعر الشيخ خليل اليازجيان، فكانت هي باستعدادها الأدبي وتوقد جنانها جديرة بأن تكون ابنة هذا الوسط بالمعرفة والاجتهاد كما هي ابنته بالدم والقربى.
ولدت في قرية كفر شيما من ساحل لبنان، وانتقلت مع عائلتها طفلة إلى بيروت؛ حيث تعلمت في مدارس الأمريكان الصغرى،
1
وتلقت على سيدة يهودية متنصرة مبادئ اللغة الفرنساوية. ثم عني بها والدها فدرسها أصول اللغة في كتبه وتوسم فيها استعدادا للشعر فمرنها عليه بأن كان يراسلها نظما عند تغيبه عن المدينة، ويعهد إليها في الرد على بعض مراسليه من الشعراء.
فقرضت الشعر في الثالثة عشرة من عمرها، وتعاطت التدريس مدة في إحدى المدارس الأهلية. وكانت في بيت والديها تساعد على الاعتناء بتربية أخواتها وإخوتها الاثني عشر وهي رابعتهم. وظلت بعد زواجها ابنة وسطها وابنة يومها؛ شرقية تلبس الطربوش، وتأتزر عند الخروج من البيت، وتشرب القهوة التركية على وقع نقير الماء المعطر في قلب الشيشة الفارسية، وتنتسب لأسرة أبيها على الطريقة العربية.
ولا علم لنا بتاريخ حياتها الفردية، وهل هي كانت بها سعيدة أم غير سعيدة. ولا أثر لتلك الحياة الخاصة في شعرها الذي لا يرسم إلا الخطوط الظاهرة، ولا يتكلم إلا عن الحوادث المألوفة من زواج وولادة وموت. وإذ أستجوب صورة لها من صنع شقيقها الشيخ إبراهيم وهي في سن الخمسين - أشعر بوضوح أنها كانت في طبيعتها أغنى منها في شعرها.
ففي هذه الصورة الجاذبة ذات العينين العميقتين معان وأغوار لم تبد في قصائدها. وأرى في الشفتين المطبقتين بلطف وإحكام مصداقا لما قيل لي إنها كانت عليه من قوة الإرادة والعزم والتروي والتبصر.
2
ناپیژندل شوی مخ