التسلسل الزمني
مقدمة
1 - المندائيون
2 - الإيزيديون
3 - الزرادشتيون
4 - الدروز
5 - السامريون
6 - الأقباط
7 - الكلاشا
الخاتمة
مصادر وقراءات إضافية
التسلسل الزمني
مقدمة
1 - المندائيون
2 - الإيزيديون
3 - الزرادشتيون
4 - الدروز
5 - السامريون
6 - الأقباط
7 - الكلاشا
الخاتمة
مصادر وقراءات إضافية
ورثة الممالك المنسية
ورثة الممالك المنسية
ديانات آفلة في الشرق الأوسط
تأليف
جيرارد راسل
ترجمة
أسماء عزب
مراجعة
محمد حامد درويش
إلى والدي
وإلى ليندا نورجروف، وفاديم نزاروف، وآخرين ممن شاركوني رحلاتي لكنهم لم يعودوا موجودين بيننا ليقرءوا هذا الكتاب.
تمهيد
بقلم روري ستيوارت
بحلول أوائل القرن الثامن، سيطر الحكام المسلمون على معظم الأراضي الواقعة بين أفغانستان وحدود شمال أفريقيا. لكن الدول الإسلامية - التي اشتهرت في أوروبا بشراستها ووحدتها - أثبتت في نهاية المطاف أنها أكثر تسامحا مع الديانات الأخرى من المسيحية الغربية. ففي أوروبا، أبيد «الوثنيون» بشكل كامل وسريع، لدرجة أنه لا يكاد يمكن استعادة تفاصيل ديانات ما قبل المسيحية في مكان مثل بريطانيا. بينما في العالم الإسلامي، سمح لديانات «وثنية» كاملة بالبقاء على حالها حتى القرن الحادي والعشرين، ولا يزال من الممكن إجراء مقابلات مع أتباعها.
فلدينا الإيزيديون في شمال العراق، الذين تشتمل معابدهم على تمثال لطاووس، وهو مرتبط بطريقة ما بالشيطان. وعندنا قبيلة الكلاشا على الحدود الأفغانية الباكستانية، التي يشتمل إيمانها على تماثيل خشبية للأسلاف-الأبطال. ومن لبنان إلى إيران بقيت ديانات موجودة؛ بعضها له علاقة خاصة بالنار، والبعض الآخر يركز على الغمر في الماء، والبعض الآخر يركز على الشمس والقمر. وبعض هذه المعتقدات يسبق ولادة المسيح بزمن طويل.
إن الموضوع رائع. فهذه المجموعات ليست مجرد رموز لأحاسيس واحتمالات دينية تلاشت الآن. فهي توحي بالكثير حول أصول ديانات العالم الرئيسية وتطورها. وتمثل للعالم الحديث مكونات صعبة: فهي هويات مضغوطة معقدة، متجذرة في التاريخ والطبيعة، ولكنها أيضا أنظمة عقائدية تغيرت تغيرا كبيرا بمرور الزمن، وأدمجت معها ديانات منافسة، وصدرت إلى أراض جديدة.
لكن الموضوع يكاد يكون مستحيلا. فالوصول إلى هذه الديانات أو فهمها أو وصفها أمر صعب للغاية. لقد نجت جزئيا لأنها وجدت في بعض من المناطق النائية والجبلية والخطرة جدا في الشرق الأوسط. وأحيانا يتحدث معتنقوها بلغات غامضة قديمة. ستشعرك المحفوظات والسجلات العلمية الخاصة بهذه المعتقدات بالخوف. ففي بعض الحالات تكون الديانات باطنية: إذ يحرم تسجيل معتقداتها، أو مناقشتها، أو الكشف عنها. وفي حالات أخرى، تتعرض الديانات للاضطهاد، وتعين على معتنقيها أن يتعلموا إخفاء تفاصيل عقيدتهم لتجنب التعرض للقتل. ونادرا ما يمكنهم التحدث إلى الغرباء، ونادرا ما يتحدثون إليهم. لذلك، من الصعب جدا تخيل شخص مؤهل لتناول الموضوع.
يعد جيرارد راسل واحدا من القلائل القادرين على تأليف كتاب من هذا النوع. ولد جيرارد راسل عام 1973 في أمريكا لأبوين بريطانيين، ودرس الفلسفة واللغات الكلاسيكية في كلية باليول بأكسفورد. ثم التحق بالسلك الدبلوماسي البريطاني، الذي أرسله إلى القاهرة لتعلم اللغة العربية. أصبحت لغته العربية فصيحة بما يكفي ليصبح المتحدث الرسمي العام للمملكة المتحدة في القنوات الإخبارية العربية. أرسل إلى العراق بعد الغزو الأمريكي، وأصبح القنصل العام في جدة، ثم مستشارا سياسيا في السفارة في كابول. في تلك المناصب، وفي الوقت الذي ظل فيه العديد من الدبلوماسيين منعزلين عن السكان المحليين، عقد هو صداقات قوية مع العرب والأفغان خارج السفارة، بمساعدة مهاراته اللغوية، وأصبح خبيرا أكثر مما مضى بالبلدان والأشخاص الذين يعيش معهم. وفي عام 2009، انضم إلى مجموعة من المتخصصين الأفغان في مركز كار لسياسة حقوق الإنسان، في كلية كينيدي بجامعة هارفارد.
إنه متواضع للغاية، لدرجة أنه قد يكون من الشاق تذكر مدى صعوبة تأليف هذا الكتاب. ويقدم نفسه مرارا وتكرارا على أنه مجرد سائح مرتبك، يتجول بصخب في الحافلات الريفية. لكنه عالم مثقف يتمتع بالصبر وعقل ذكي للغاية. ويتمتع بقدرة استثنائية على تجميع المعلومات المعقدة وتقديمها. ولديه موهبة كبيرة في كسب ثقة من يجري المقابلات معهم. فعندما يجري مقابلات مع أشخاص في إيران أو لبنان، فإنه يفعل ذلك بطلاقة باللغة العربية أو الفارسية. وعندما يتتبع العوامل المؤثرة على الإيزيديين أو المندائيين، فإنه يفعل ذلك بمعرفة عميقة بالتاريخ الإسلامي والعقيدة المسيحية. وعندما يكتب عن القنابل والهجمات في العراق وأفغانستان، يكتب بوصفه شخصا تعامل وتعايش مع سياسات وعنف حركات التمرد تلك. لقد تطورت على مر السنين شبكة الأصدقاء التي يعتمد عليها في التنقل عبر المناطق الخطرة أو في الوصول إلى الزعماء الدينيين. إن هذا الكتاب، كتابه الأول، هو ثمرة عقدين من الخبرة والتفكير العميق.
شكلت كل من هذه الديانات من عدة ديانات أخرى، حية، ومتطورة، ومتلاشية. فعلم اللاهوت نظام دقيق وقاس، حيث يكون للخلافات التي تبدو «تافهة» عواقب كبيرة، وفي كثير من الأحيان خطيرة، وكثيرا ما تؤدي إلى جرائم قتل على خلفيات طائفية. ولا يزال العديد من الحقائق الأساسية حول هذه المعتقدات موضع جدل حاد، بعضه نابع من ظهور بيانات جديدة، والبعض الآخر تدفعه ببساطة سياسات وأساليب جديدة في الأنثروبولوجيا أو ديانات العالم. لذا يتطلب الأمر قراءة آلاف من الكتب والمقالات. ويتعين الرجوع إلى مخطوطات غير منشورة مكتوبة بلغات قديمة. فبعض أفضل السجلات يعود عمره إلى قرن من الزمان، ولكنها تحتاج إلى تخليصه من تحيزات مؤلفيه. فالكثير من هذه المعلومات وثيق الصلة بالموضوع وجيد، على نحو غير مريح.
وموضوعات «الحداثة»، والصراع، و«الغرب» تلقي بظلالها على كل شيء. والعديد من الأوطان الدينية لهذه المعتقدات موجودة اليوم في مناطق تشهد نزاعات نشطة - العراق، أفغانستان، أطراف سوريا - اكتسحت في غمار أنظمة دعمتها أو أطاحت بها الولايات المتحدة، وإيران، والمملكة العربية السعودية، وروسيا، وقطر. وقد عانت العائلات «الوثنية» من الاحتلال، والحروب بالوكالة، وجرائم الشرف، والاختطاف، والشاحنات الضخمة المفخخة. وأصبح «الوثنيون» الآن رجالا حليقي الذقن يرتدون السترات، أو شابات عاملات. وفي العقود الثلاثة الماضية، غادرت أعداد لم يسبق لها مثيل منهم منازلها الريفية، وفقدت صلاتها بطبيعتها الأصلية وعائلاتها الكبيرة، وبدأت في الزواج من مجموعات مختلفة ونسيان ديانتهم القديمة. وربما فر غالبية المعتنقين الآن بوصفهم لاجئين إلى الغرب. لذا فإن الصورة الصادقة للإيمان المعاصر لا تتطلب فحسب وصفا لمعبد عمره ثلاثة آلاف عام وكاهنه القديم، وإنما أيضا لسينما في لندن أو مركز مجتمعي في ديترويت لأشخاص غيروا دينهم، محاطين جميعا بالأوهام المضطربة وضغوط الثقافة الغربية المعاصرة.
يتنقل راسل بين كل هذا، ساردا الأحداث بمنتهى السلاسة، تاركا بقدر كبير جدا في الخلفية عشرين عاما من التفاني، والدراسة، والخيال، والاهتمام. من المغري أحيانا أن نأمل في الحصول على سرد أكثر رومانسية، أو على مزيد من التركيز على ردود أفعاله العاطفية، أو لمحة أوضح عن إيمانه أو آرائه عن الله. فقد كان يمكن أن يتاح مجال لذكر انبهار وردزورث بالوثنية بوصفها طاقة أو إمكانية أخرى:
إلهي العظيم! أفضل أن أكون
وثنيا ينهل من عقيدة عفى عليها الزمن؛
لذا هل لي، وأنا أقف على هذه المرجة اللطيفة،
أن أحظى بلمحات من شأنها أن تجعلني أقل بؤسا؛
وأن ألقي نظرة على بروتيوس وهو يرتفع من البحر؛
أو أسمع تريتون العجوز ينفخ بوقه المجدول.
لكن راسل يقاوم هذا، مثلما يقاوم إغراء التباهي باكتشافاته أو تحويل قصة أفول هذه الديانات، واضطهادها، وتشتتها إلى رثاء مطول.
عوضا عن ذلك، يحقق شيئا ربما يكون في نهاية المطاف أكثر قيمة وديمومة؛ ألا وهو التأريخ الدقيق. فقد سجل بأمانة ودقة مقابلات مع أتباع هذه الديانات في القرن الحادي والعشرين. وهو يقدم لنا بالتفصيل من يزودونه بالمعلومات، ويعطينا السياق الخاص بهم، ويلمح إلى تحيزاتهم. ولا يخشى أبدا الاعتراف بالجهل، أو عدم اليقين، أو التناقض. ويلمح إلى مشكلة عميقة مفادها أن الأصول العقائدية لبعض هذه الديانات لم تعد موجودة، هذا إن كان لها وجود يوما ما. ويبدو أن بعض معتنقي هذه الديانات يواصلون ممارسة طقوسهم دون عقائد واضحة عن الخطيئة أو الخلاص، ودون وضوح معنى الكلمات، أو الأشياء والرموز في معابدهم، ودون أي ذكريات متبقية من قصص آلهتهم. وهو يربط جميع اكتشافاته بالسياقات البيئية المعاصرة.
هذا المزيج من المهارة اللغوية، والفهم الثقافي العميق، والشجاعة، والفكر الكلاسيكي، والحب العميق للثقافات الأجنبية كان يوما ما أكثر شيوعا. فراسل ينتمي انتماء مباشرا إلى التقليد الذي اتبعه علماء/ضباط إمبراطوريون بريطانيون أمثال ماونتستيوارت إلفينستون، أو ماكولاي، أو حتى تي إي لورانس. لكنه نادر جدا حاليا. وليس من قبيل الصدفة أن راسل قد ترك حاليا السلك الدبلوماسي البريطاني وجامعة هارفارد. يبدو الأكاديميون مستغرقين في خلافات داخلية أكثر تعقيدا، مما لا يترك إلا حيزا محدودا أو إمكانية محدودة لمشروع بهذا الطموح والنطاق. فالسلك الدبلوماسي وواضعو السياسات يريدون الآن «كفاءة إدارية»؛ خططا بارعة وواضحة، دون أي فروق دقيقة، أو معرفة عميقة، أو تعقيد.
وبدلا من ذلك، يطبق راسل فضائل أقدم وأقل مؤسسية. وهذا الكتاب هو تحد صبور ودقيق لنظريات كبرى وطموحات مجردة. فهو صارم في تركيزه على تفاصيل الثقافة والتاريخ. ويكشف ويساعد في الحفاظ على التنوع والهويات والالتزامات المحيرة تحت سطح «عالم متسم بالعولمة». ويوضح كيف أن استقلالية الثقافات الأجنبية، وكرامتها، وقدرتها يمكن أن تتحدى أوجه الغرور الغربي والأفكار المسبقة. وفوق كل شيء، ينجح في ربط حبه وعلمه بالنظم الإيكولوجية الحية والأشخاص الأحياء. إن هذا الكتاب يحتوي على الكثير مما يمكن أن نتعلمه.
التسلسل الزمني
نحو 2560ق.م.
بناء الهرم الأكبر في مصر
نحو 1900
وصول الهنود الأوروبيين إلى الهند، ربما كان من ضمنهم أسلاف قبيلة الكلاشا
1842
بزوغ بابل بوصفها دولة-مدينة مستقلة
نحو 1000
تاريخ تأليف الكتب المقدسة الزرادشتية، الأفيستا
740-722
هجوم الآشوريين على إسرائيل، وأسر الأسباط العشرة
597
نهب نبوخذ نصر للقدس، وترحيل كبار اليهود إلى بابل
331
غزو الإسكندر الأكبر لبلاد فارس؛ بعدها بمدة وجيزة، يعبر سلسلة جبال الهندوكوش
70 ميلادية
نهب الرومان للقدس وتدمير الهيكل الثاني
274
موت ماني، مؤسس المانوية؛ المندائيون موجودون بالفعل في أهوار العراق
313
إصدار قسطنطين مرسوم ميلانو، الذي يقر فيه بالديانة المسيحية
529
غلق الإمبراطور البيزنطي جستينيان لأكاديمية أفلاطون
634-654
غزو العرب المسلمين لجميع البلاد من المغرب إلى إيران
635
وصول أول مبشر مسيحي إلى الصين من الشرق الأوسط
1017
تدريس الديانة الدرزية لأول مرة علانية في القاهرة
1095
دعوة البابا أوربان الثاني للحملة الصليبية الأولى
1160
وفاة الشيخ عدي، شخصية رئيسية في الديانة الإيزيدية في شمال العراق
1258
نهب جنكيز خان بغداد
1263
ولادة ابن تيمية، ناقد محافظ للدروز وغيرهم من المسلمين المبتدعين
1501
بداية عهد الشاه إسماعيل الأول شاه إيران، الذي حول البلاد إلى الإسلام الشيعي
مقدمة
تخيل لو أن عبادة الإلهة أفروديت كانت لا تزال مستمرة في جزيرة يونانية نائية، أو أن عبدة أودين وثور قد تخلوا للتو عن بناء الزوارق الطويلة على سواحل الدول الإسكندنافية، أو أن أتباع الإله ميثرا كانوا لا يزالون يتبادلون المصافحة الشعائرية في الكنائس الرومانية المبنية تحت سطح الأرض. في الشرق الأوسط، على عكس أوروبا، نجت ديانات قديمة مماثلة؛ غالبا في الأهوار، والبراري، والجبال، وغيرها من الأماكن النائية أو التي يتعذر الوصول إليها، وأحيانا تحت ستار نظام سري صارم.
ربما كانت هذه الديانات ستهيمن على العالم الحديث لو كان التاريخ قد اتخذ منعطفات مختلفة. وكاد أحد أتباع الواعظ النباتي الصارم المسمى ماني أن يصبح إمبراطورا لروما. ولو كان قد فعل ذلك، فربما كانت الإمبراطورية الرومانية ستنشر تعاليم ماني، وليس المسيحية، في جميع أنحاء أوروبا؛ وبدلا من الذهاب إلى بيت لحم، قد يتوجه الحجاج الأوروبيون إلى أهوار العراق، حيث أول مكان وعظ فيه ماني. عوضا عن ذلك، انقرض المانويون، لكن أقرب أقربائهم، المندائيين، ما زالوا يعيشون في العراق. ولولا غزوات المغول وتيمورلنك، لربما ظلت بغداد مركزا عالميا للمسيحية؛ لأنه أتى عليها حين من الدهر كان فيه لكنيسة المشرق، التي تتخذ من العراق مقرا لها، أساقفة وأديرة في أقصى الشرق في بكين.
خلال أربعة عشر عاما كنت فيها دبلوماسيا يتحدث العربية والفارسية، يعمل ويسافر في العراق، وإيران، ولبنان، صادفت معتقدات دينية لم أكن أعرفها من قبل: تحريم ارتداء اللون الأزرق، والشوارب الإلزامية، وتبجيل الطاووس. وقابلت أشخاصا يؤمنون بكائنات خارقة للطبيعة تتخذ شكلا بشريا، وبقدرة الكواكب والنجوم على تسيير شئون البشر، وبتناسخ الأرواح. كانت هذه الديانات من بقايا ثقافة ما قبل المسيحية في بلاد الرافدين، لكنها استقت أيضا من التقاليد الهندية التي انتقلت إلى الشرق الأوسط عبر الإمبراطورية الفارسية، ومن الفلسفة اليونانية. وقد حافظت هذه الديانات أيضا على عادات الحضارات القديمة التي كان أتباعها آخر سلالتها الضعفاء. يلقي هذا الكتاب الضوء على بعض، فقط بعض، من هذه المجموعات.
عندما التقيت بهذه المجموعات الدينية المختلفة، شعرت بالإلهام والدهشة من ثباتهم على إيمانهم. فقد تمسكوا بالممارسات والتقاليد دون تغيير أكثر من ألف عام، وأحيانا حافظوا عليها آلاف السنين. ومع ذلك، فإن معظم هذه المجموعات الآن أكثر ضعفا من أي وقت مضى، ويهدف هذا الكتاب إلى منحهم صوتا. وهم يستحقون الإصغاء إليهم لأسباب أخرى أيضا؛ فهم يربطون الحاضر بالماضي، مما يقربنا من ثقافات اندثرت منذ زمن طويل. فهم يربطون الشرق الأوسط بالثقافة الأوروبية من خلال إظهار كيفية انبثاق الاثنين من جذور مشتركة. ويتبعون دياناتهم بشكل مختلف عن الأوروبيين والأمريكيين؛ فالأقباط، على سبيل المثال، يتحملون عبء صلاة وصوم يفوق حتى ما يتحمله الرهبان في الغرب؛ والدروز لديهم دين لا يطالبهم بشيء على الإطلاق، باستثناء عدم الزواج من خارجه. وهكذا يبدو لي أن المجموعات الواردة في هذا الكتاب تعالج ثلاثة أمور أزعجتني خلال مدة وجودي في الشرق الأوسط؛ وهي الجهل الجماعي للبشرية بماضيها، والتنافر المتزايد بين المسيحية والإسلام، والطريقة التي تزايد بها اقتصار الجدل حول الدين على المتمسكين بالمعنى الحرفي والملحدين ضيقي الأفق. •••
لدينا أقرباء فكريون في أماكن غير متوقعة. فالفلسفة اليونانية، على سبيل المثال، ليست ظاهرة أوروبية، لكنها بحر متوسطية، وقد أثرت في الشرق الأوسط بقدر تأثيرها في أوروبا. ومثال آخر على ذلك، هو أنه عندما قاد الإسكندر الأكبر جيشه عبر ما نسميه الآن أفغانستان وباكستان، شعر أنه يمكن أن يرى أصداء ثقافته، وكان على حق؛ لأن أوروبا وشمال الهند تتقاسمان تراثا هنديا-أوروبيا مشتركا. تلك الروابط موجودة لدى أشخاص يعيشون في أقصى الشرق. فقبل ألف سنة، شارك مسيحيو العراق كنيستهم مع المغول، وكان لديهم بطريرك صيني وأسقف من التبت، وقد أحدثوا تأثيرا في الأبجدية المغولية والتبتية الحديثة. وفي كل مكان في العالم القديم، يمكن، على الأقل، لاختلافات واضحة أن تخفي روابط وقواسم مشتركة غير متوقعة. وأثناء كتابتي هذا الكتاب، كان دائما ما يسعدني العثور على هذه القواسم؛ فهي تدحض نظريات ومعتقدات أولئك الذين يريدون حصر الناس في ثقافات وحضارات منفصلة، وجعلهم في حالة حرب بعضهم مع بعض.
في الوقت نفسه، استمتعت، أيضا، بالعثور على اختلافات ؛ أفكار كانت تختلف عن أفكاري وتدفعني إلى التفكير مليا فيما كنت أومن به والسبب في إيماني به. دعا الكاتب اللبناني-الفرنسي أمين معلوف في كتاب بعنوان «عن الهوية» إلى الكفاح «من أجل عالمية القيم»، ولكنه أيضا دعا إلى مواجهة «الانصياع الأحمق ... ضد كل ما يجعل العالم رتيبا وصبيانيا». وأنا أتفق معه، مع أنني لم أستطع أبدا أن أقرر ما إذا كان ينبغي تقدير التنوع الثقافي مهما كان الثمن. هل ينبغي أن نشعر بالحزن إذا ازداد ثراء المجتمع وتخلى عن أعرافه، أو إذا هزم معتقد ديني في جدال؟ لا أدعي معرفة الجواب: أعتقد فقط أننا كنا محظوظين بنجاة هذه الديانات، وأن الديانات المعاصرة التي أقيمت شعائرها بإخلاص أجيالا عديدة قادرة بعضها على دراسة أفكار بعض والتعلم منها.
لكن السؤال هو: كيف عاشت كل هذه المدة في ظل حكم المسلمين؟ في أغلب الأحيان يقدم الإسلام على أنه دين غير متسامح، ويريد بعض أتباعه للأسف أن يكون كذلك. إن وجود ديانات الأقليات الواردة في هذا الكتاب يدل على أن صورة التعصب غير صحيحة؛ لأنها نجت في ظل الإسلام، بينما لم تنج أي عقيدة مماثلة في أوروبا المسيحية. ومع ذلك، فإن أسباب هذا معقدة. لذا اسمحوا لي أن أحاول تلخيصها في بقية هذه المقدمة.
يعود أحد الأسباب إلى ما قبل الإسلام أو المسيحية. فقد كانت هناك ديانات في الشرق الأوسط أكثر تطورا من ديانات ما قبل المسيحية في أوروبا، وكانت لها جذور مشتركة مع المسيحية والإسلام. لذلك رغم عدم تردد المسيحيين في القضاء على الديانات الإسكندنافية أو السلتية، ونجاحهم السريع نسبيا في فعل ذلك، فإن بعض الوثنيين في الشرق الأوسط - الذين تعمقوا في الفلسفة اليونانية وعلم الفلك البابلي، وامتلكوا لاهوتا معقدا - استمروا زمنا أطول كثيرا.
أيضا، على الرغم من أن النبي محمدا أراد بالتأكيد وضع حد للممارسات الدينية التراثية للعرب، التي انطوت على عبادة آلهة متعددة، كان القرآن على النقيض معتدلا نسبيا تجاه أتباع الأديان التي كانت تدعو إلى التوحيد ولها نصوص دينية، مثل اليهود ، والمسيحيين، والزرادشتيين. ولقب أتباع هذه الديانات باسم «أهل الكتاب». ونجا العديد من المجموعات المذكورة هنا لأنها تمكنت، بطريقة أو بأخرى، من الحصول على هذه التسمية.
لم يكن المسلمون الأوائل منهجيين في قمع حتى الممارسات الوثنية العلنية في القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى من الإسلام، عندما ظل المسلمون أقلية في أنحاء كثيرة من الشرق الأوسط. وعندما سعى الدعاة المسلمون إلى تحويل الناس إلى الإسلام بنشاط أكبر، كان بعضهم على استعداد لقبول مجموعة واسعة من المعتقدات والممارسات التي تجاهلت الفرق بين الإسلام والديانات القديمة التي كان يحل محلها. فقد تقول مجموعة من الذين اعتنقوا الإسلام حديثا، على سبيل المثال، إن طقوس تبجيلهم للنجوم كانت إسلامية شرعا؛ لأن النجوم كانت ملائكة؛ ومن ثم يمكنها الحفاظ على بعض أجزاء من التراث الوثني القديم الذي كانت قد تخلت عنه باعتناقها الإسلام.
لا يعني أي من هذا أن معتقدات الأقليات عوملت بشكل جيد. فقد كان هذا في زمن كان فيه الاختلاف مع الحاكم في أمور لاهوتية يمكن أيضا أن يكون تحديا لحقه في الحكم. وكان مفهوما، في كل من الإمبراطوريتين البيزنطية والعربية، أن أولئك الذين يرفضون دين الحاكم سيكونون من الفئات الأقل حظا. كان «أهل الكتاب» أقل شأنا من المسلمين من الناحية الشرعية، ويدفعون ضريبة إضافية. وعندما كانوا يتمردون على فرض الضرائب، كما فعل الأقباط في القرن التاسع الميلادي، قد تبدأ الدولة في اعتبار دينهم قوة هدامة وتتخذ إجراءات لتقويضه.
في القرنين العاشر والحادي عشر، عندما أصبح الإسلام دين الأغلبية، تعرضت الطوائف التي لم تكن من «أهل الكتاب» لمزيد من الضغوط. وشهد القرن العاشر اضطهادا جماعيا وانقراضا فعليا للمانويين. وفي القرن الحادي عشر، هدم معبد إله الشمس، شماش، في حران، الذي كان قائما منذ العصر البابلي، وحث العلامة الغزالي المسلمين على التخلي عن افتتانهم بفلاسفة ما قبل الإسلام. وحتى حينئذ، كان علماء مثل البيروني وابن النديم يكتبون عن الديانات غير المسلمة بموضوعية لا تزال تثير إعجاب القراء المعاصرين.
أدى الصراع بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى - الصليبيين في الغرب والغزاة المغول في الشرق - إلى مزيد من التقويض للتسامح، حيث بحث العرب عن العدو بينهم. وبحلول القرن الثالث عشر، كان رجل الدين الأصولي ابن تيمية ينشر كل ما بوسعه من كراهية تجاه طوائف مثل الدروز والعلويين، ويشجع على العنف ضدهم. ومع ذلك، بحلول ذلك الوقت، كانت بعض ديانات الأقليات في الشرق الأوسط قد لجأت إلى أماكن لم تتمكن السلطات من الوصول إليها فيها، مثل الجبال والأهوار. ولم تصبح الحكومة المركزية قوية في الشرق الأوسط كما كانت في أوروبا، وعادة ما كانت تستخدم القوة العسكرية في مواجهة المتمردين أو الفتوحات الخارجية، وليس في قمع الانقسامات الدينية في الداخل. ولم تواجه هذه المجتمعات الدينية النائية، في معظم الأحيان، تدخلا واسع النطاق من الدولة إلا في القرن التاسع عشر، وبحلول منتصف ذلك القرن، كانت حكومات الشرق الأوسط قد بدأت في تغيير نهجها تجاه الأقليات، و(أحيانا تحت ضغط غربي، أحيانا مستوحى فقط من مثل عليا تقدمية) توفير شيء يشبه المساواة. ومنحت الإمبراطورية العثمانية رعاياها غير المسلمين تدريجيا ما يشبه المساواة في القرن التاسع عشر. وفي الخمسين عاما من 1860 إلى 1910 حدثت ثورة في مكانة الأقباط في مصر. وقدمت الثورة الإيرانية عام 1906 للزرادشتيين مقعدا في برلمان البلاد. كل هذا يثبت أن المسلمين في الشرق الأوسط كانوا قادرين تماما على تقدير التنوع. وفي الواقع، في بعض الأحيان كان الأوروبيون هم من لم يفعلوا ذلك. وعندما سأل المسيحيون اللبنانيون القيصر الألماني عما يمكن أن تفعل بلاده لمساعدتهم، أجاب: «أنتم ثلاثمائة ألف مسيحي وسط ثلاثمائة مليون مسلم. لماذا لا تتحولون إلى الإسلام؟»
إذن لماذا تنطوي أقليات الشرق الأوسط اليوم على نفسها؟ لماذا أصبحت الهجمات على الكنائس المسيحية في مصر أو بغداد، أو على الإيزيديين في شمال العراق، أكثر شيوعا الآن مما كانت عليه طيلة 150 عاما؟ (مع عدم إغفال الأقليات داخل الإسلام؛ فحتى أتباع أكبر جماعة إسلامية، وهي السنة، يمكن أن يجدوا أنفسهم أقلية تحت وطأة الضغط في إيران والعراق، في حين أن مذابح المسلمين الشيعة شائعة في باكستان.) تلعب عدة عوامل دورا في هذا الشأن.
أولا: يرجع التنوع في الشرق الأوسط جزئيا إلى أن حكوماته كانت أضعف من أن تفرض دينها. لكن حكومات اليوم تتمتع بنفوذ أكبر، وعندما تختار طرد أقلية دينية أو فرض معتقد أصولي، يمكنها فعل ذلك بشكل أكثر فاعلية من أي وقت مضى. ففي المدة بين عامي 1915 و1917، تمكنت الإمبراطورية العثمانية من القتل المنظم لأكثر من مليون من رعاياها الأرمن عندما أدركت أن الأرمن يقفون إلى جانب روسيا؛ «أصدرت أمرا بالإعدام لعرق كامل» مثلما كتب لاحقا السفير الأمريكي للإمبراطورية. يمكن للحروب الأهلية أيضا أن تصل إلى أعماق أراضي جماعة دينية قد لا ترغب في شيء سوى أن تكون محايدة؛ مثلما حدث مع الإيزيديين في شمال العراق في عام 2007، عندما أصبحوا ضحايا لواحدة من أكثر الهجمات الإرهابية فتكا في العالم. لا توجد أماكن آمنة بعد الآن.
تتمتع الجماعات الدينية في الشرق الأوسط بدرجة عالية من الترابط الداخلي. وعادة ما يقابل الزواج من دخيل بالرفض؛ وقد يفضل الأشخاص داخل الجماعة توظيف أعضاء آخرين من الجماعة نفسها، واعتناق دين آخر ليس خيارا فكريا ولكنه تغيير أكثر عمقا؛ لأنه يعني عادة مغادرة المرء لطائفته والانضمام إلى طائفة جديدة. تمتعت بعض الجماعات الدينية (مثل الإيزيديين والآشوريين، على سبيل المثال) بدرجة عالية من الاستقلال الذاتي قرونا عديدة، بعيدا عن سيطرة الحكومات، وما زال قلة منهم يتحدثون لغتهم الخاصة. هذا الترابط الداخلي يعني أن ثمة ميلا إلى تحميل مثل هذه الجماعات كامل المسئولية عن أفعال أي شخص يعتنق دينها. ومن ثم كانت الاعتداءات السابقة على الأرمن واليهود، والحالية على الشيعة والمسيحيين. وهذا، في حد ذاته، ليس بجديد. ومع ذلك، ففي المشهد السياسي المعقد ودائم التغير في الشرق الأوسط المعاصر، من السهل أن ينتهي الأمر بالولاء للأشخاص الخطأ. فالسامريون، الذين يعيشون على جبل في الضفة الغربية، يحاولون جاهدين تجنب استعداء الإسرائيليين أو الفلسطينيين، والإيزيديون في شمال العراق يتعرضون للضغط للاختيار بين العرب والأكراد، وكان على الكنيسة القبطية المصرية أن تقرر ما إذا كانت ستدعم الحكم العسكري أو الإسلامي. كل خيار يصنع أعداء للطائفة بأسرها، وليس لقادتها فقط.
وعلى الرغم من أن الحكومات أصبحت قوية بما يكفي لسحق الأقليات المزعجة، يتردد بعضها في إنفاق رأس المال السياسي والمجازفة بمواجهة أوسع نطاقا جراء حماية الطوائف الصغيرة من الاعتداءات. ففي جنوب مصر، إذا واجهت عائلة قبطية قبيلة مسلمة، فستخسر المواجهة؛ سواء كانت على المال، أو الأرض، أو «الشرف» (فعلاقات الحب، كما هو موضح في الفصل السادس، هي بخاصة سبب متكرر للصدام). وبعض الطوائف القبطية كبيرة وصعبة المراس بما يكفي لقلب الأمور رأسا على عقب. وتلك هي الطوائف التي لا تعتمد على الشرطة والقضاء لحمايتها؛ ولكن حتى تلك المؤسسات، التي غالبا ما تفتقر إلى السلطة الأخلاقية، قد تخشى القبيلة المختصمة، وتفضل عدم معاقبتها. هذه ليست مسألة دينية فحسب. وغالبا ما تعاني الأقليات العرقية من المشكلة ذاتها. ومع ذلك، فقد أصبحت الأقليات الدينية في الشرق الأوسط في القرن العشرين لا تنتمي لمجتمع قبلي، وحضرية، ومن الطبقة الوسطى، مما يعني أنها الآن في وضع جيد للاستفادة من الاستقرار والنمو الاقتصادي، ولكنها عادة أيضا ليست منظمة تنظيما كافيا للدفاع عن نفسها، ومن ثم تصبح مستضعفة، وبخاصة في أوقات الصراع.
أخيرا، أحدثت العقود القليلة الماضية تغييرا في سلوك بعض المسلمين في الشرق الأوسط تجاه الديانات الأخرى، وتجاه التفسيرات المنافسة للإسلام ذاته. ففي مصر، شهدت السنوات الخمسون الماضية عنفا ضد الأقباط أكثر بكثير من الخمسين عاما التي سبقتها. وفي باكستان، الدولة التي أسسها مسلم شيعي، أصبح العنف ضد الشيعة شائعا. والعراق، البلد الذي حكمه في خمسينيات القرن الماضي رجل من أسلاف مختلطين، من الشيعة والسنة، أصبح الآن في دوامة من العنف الطائفي. ويؤدي الضعف وقابلية التعرض للهجوم إلى الانغلاق الذهني؛ الذي، بدوره، يعوق المجتمعات. فالغضب والكراهية تجاه الدخلاء يقويان الهوية الطائفية للجماعة، وربما يرضيان حاجة بشرية فطرية في رفقة لمواجهة أي تهديد خارجي، وقد يغرسهما قادة الجماعة باعتبارهما وسيلة لتقوية شعور الجماعة بالهوية والولاء المتبادل. لا توجد طريقة أسرع لتعزيز الشعور بهوية الجماعة من الإشارة إلى عدو مشترك شرير وقوي، ومع ذلك يمكن هزيمته؛ ليصبح الأمر مثل داود الذي يهزم جالوت. وفي الشرق الأوسط، مثل هذا الغضب والكراهية - اللذين يتصاعدان أحيانا ويتحولان إلى عنف وفي أحيان أخرى يضطرمان دون أن يلاحظهما أحد، ويستمران في الوجود من خلال الدعاية الخبيثة - يكونان أيضا نتاج ظروف معينة. لقد تراجع المنافسان العلمانيان للإسلام السياسي من القرن العشرين، الشيوعية، والقومية. وفي زمان هذه الأيديولوجيات، بدت جميعها وكأنها تتيح فرصا للشعوب في الشرق الأوسط لاستعادة الكرامة والقوة اللتين شعرت أنها تستحقهما، واللتين شعرت أن عوامل مثل الاستعمار الأوروبي، والهيمنة الأمريكية، والقوة العسكرية الإسرائيلية، وضعف الحكومات العربية وفسادها كانت تحرمها منهما. توقفت دعوة الشيوعية وتمويلها الخارجي عندما انهار الاتحاد السوفييتي؛ وتراجعت شعبية القومية منذ نهاية الكفاح المقاوم للاستعمار في أوائل القرن العشرين. وقدمت كلتا الحركتين للأقليات قضية يمكنها من خلالها الوقوف جنبا إلى جنب مع المسلمين. ومع اضمحلال الحركات القومية إلى مرحلة ما بعد الاستعمار، أصبح استغلال الانقسامات الدينية أسهل. وتراجعت فكرة أن العراق، أو مصر، دولة لجميع مواطنيها، لدى بعض المسلمين، وحلت محلها الفكرة القديمة القائلة بأن المجتمع الطبيعي هو المجتمع القائم على الدين. كما كتبت سها رسام في كتابها «المسيحية في العراق»: «كل الأقليات ... أصبحت هشة في ظل غياب هوية عراقية موحدة للناس تحت رايتها.»
عززت محاولات خارجية من قبل الغرب المسيحي، الذي جرت علمنته، للتدخل في الشرق الأوسط، من هذا التوتر الديني؛ لا سيما عندما لم يخدم ذلك التدخل بشكل واضح جدا مصالح شعوب الشرق الأوسط. كتب آرثر بلفور في عام 1919 عن المخطط البريطاني لتأسيس وطن قومي لليهود فيما كان يعرف آنذاك باسم فلسطين: «نحن لا نقترح حتى إجراء أي شكل من أشكال التشاور مع رغبات السكان الحاليين للبلاد.» لم يتغير هذا الموقف تغيرا كبيرا، كما أظهرت خطط التحالف غير المدروسة بعناية لعراق ما بعد الحرب (بما في ذلك الإخفاق في حماية التراث الأثري الثمين للبلاد) في عام 2003.
وكذلك لا تتمتع مؤسسات الدولة في كثير من الأحيان بالسلطة الأخلاقية التي قد تساعدها في مواجهة المتطرفين دون اللجوء إلى استخدام القوة. فالمؤسسات الدينية ورجال الدين المدعومون من الدولة قد فقدوا مصداقيتهم في أعين بعض المسلمين؛ بسبب افتراض أنهم نالوا الحظوة والمال مقابل الانصياع للحكومة. ويمكن للمتطرفين استغلال ذلك بتقديم أنفسهم باعتبارهم بدائل أكثر جرأة وأقل فسادا. وتفضل الحكومات غالبا، عند مواجهة المتطرفين الدينيين الأكثر شعبية منها، أن تشتري صمت المتطرفين بدلا من أن تواجههم.
عادة ما كانت العملة التي يشترى بها صمت المتطرفين الدينيين هي فرصة جعل الأجيال القادمة متطرفة من خلال نظام التعليم. وقد نجح الإسلاميون في تحقيق ذلك في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان ينظر إليهم (بما في ذلك من قبل إسرائيل والغرب) على أنهم ترياق قيم لسموم الشيوعية والقومية المتطرفة، وقد استفادوا في ذلك الوقت من حقيقة أن ثروة النفط والغاز قد أثرت مجتمعات الشرق الأوسط الأشد تحفظا. ففي مصر، استخدموا نفوذهم على مدى السنوات الأربعين الماضية لجعل قوانين البلاد إسلامية بصورة أكثر صراحة. خلق هذا بيئة تشعر فيها الأقليات بأنها غير مرغوب فيها؛ كما قال لي مسيحي مصري: «إذا كان الدستور يجعل الشريعة الإسلامية «مصدر التشريع»، فإنني أشعر بالتهميش.» تستخدم بعض الجماعات الإسلامية العنف، أيضا؛ عادة لدوافع سياسية، وليس فقط من أجل الحث على الاهتداء إلى الإسلام. ففي الثمانينيات استهدف الإسلاميون المصريون المسيحيين ليس فقط كوسيلة لفرض عمليات التحول إلى الإسلام وإزالة إحدى العقبات في طريق التجانس الديني، ولكن أيضا كوسيلة للضغط على الحكومة. وبعد سقوط حكومة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013، وانتقاما لذلك، أحرقت مجموعات متطرفة من الشباب عشرات الكنائس.
في الوقت ذاته، من المهم عدم المبالغة. فيوجد الكثير من حالات حماية المسلمين للمسيحيين في مصر، وفي لبنان - حيث انتهت حرب أهلية مروعة قبل نحو عشرين عاما فقط - تشير استطلاعات الرأي إلى أن التسامح الديني أعلى مما هو عليه في العديد من البلدان الأوروبية. والتقدم الذي جلبه القرن العشرون صوب المساواة الدينية في الشرق الأوسط لم يحدث التراجع عنه كليا؛ فحتى آية الله الخميني لم يتماد إلى حد استعادة قوانين العقوبات القديمة التي اضطهدت غير المسلمين في إيران في القرن التاسع عشر. لكن شعور الأقليات بعدم المحبة يتفاقم. والهجرة من الشرق الأوسط أسهل على الأقليات من أي وقت مضى؛ لأنها استخدمت القرن الماضي أو نحو ذلك لتثقيف وإثراء نفسها، وتجد عموما أن الهجرة إلى أستراليا، أو كندا، أو الولايات المتحدة، أو أوروبا أمرا ميسورا. لذا فإن احتمالية أن بعض هذه الديانات سوف يتضاءل أو حتى يختفي من أوطانه هو احتمال خطير. لن يخسر أحد من هذا أكثر من مسلمي الشرق الأوسط، الذين آمل لذلك أن يرحبوا بهذا الكتاب، الذي يحاول إحياء ذكرى المعتقدات المتنوعة التي جلبها أسلافهم إلى العالم.
تبقى قول شيء واحد، وهو حول الإيمان. فقد رفضت الطوائف الوارد ذكرها في هذا الكتاب كل تحريض للتخلي عن معتقداتها وعاداتها الدينية، وكثيرا ما تحملت الإهانة أو العنف من أجل الحفاظ عليها. وفي بعض الحالات، تكون هذه العادات الدينية في حد ذاتها صعبة للغاية، كما في حالة الأقباط الذين يصومون معظم أيام السنة، أو بالتأكيد في حالة المسلمين خلال شهر رمضان. إذا كان الناس في الشرق الأوسط يتقاتلون حول معتقداتهم أكثر مما يفعل الأوروبيون والأمريكيون، فذلك يرجع جزئيا إلى أن هذه المعتقدات عزيزة جدا عليهم. وفي حين أن التقاتل أمر يجب وقفه، فإن الروح الدينية التي تحفزه قد تملك شيئا أكثر جاذبية لتقدمه. لذا ربما تحثنا الفصول التالية على التفكير في الآتي: إلى جانب جميع الدروس التي يريد الغرب تدريسها لشعوب الشرق الأوسط، هل يوجد ما نتعلمه منهم؟ •••
لقد اخترت في الكتاب أن أستخدم الأسماء الحديثة لدول الشرق الأوسط، حتى عند الإشارة إلى الماضي البعيد. لذلك عندما أقول إن شيئا ما حدث في «لبنان» منذ ألف عام - في وقت لم يكن فيه وجود لهذا البلد - فأنا ببساطة أعني أنه حدث في مكان داخل ما يسمى حاليا بلبنان. وهذا لمجرد سهولة التناول. واستخدمت أيضا «ميلادية» و«قبل الميلاد» بدلا من «الحقبة العامة» و «ما قبل الحقبة العامة» لأنه، في منطقة لكل طائفة فيها تقويمها الخاص، لا يوجد حتى الآن شيء يسمى «الحقبة العامة». على سبيل المثال، هذه السنة هي 2014 ميلادية. وفي التقويم السامري هي 3652، محسوبة من يوم دخول بني إسرائيل أرض الميعاد، وفي التقويم الهجري الإسلامي هي 1435، محسوبة من هجرة محمد إلى المدينة المنورة، وفي التقويم الزرادشتي هي 1383، محسوبة من يوم تتويج آخر ملك زرادشتي. وبالنظر إلى هذا العدد الكبير من أنظمة التأريخ المختلفة، يبدو أكثر صدقا قول إن سنة 2014 هي سنة محسوبة وفقا للنظام المسيحي الأوروبي.
ومن هذا المنطلق، أود أن أوضح أن هذا الكتاب هو سلسلة من التحقيقات الشخصية وغير الرسمية. وهي بالضرورة غير موضوعية وانتقائية، مصطبغة بصبغة اهتماماتي الخاصة وبالمواجهات والمشاهد التي اخترت تصويرها. فمنظوري الخاص هو منظور شخص أمريكي-بريطاني من الروم الكاثوليك يتحدث اللغة العربية والفارسية. ومثل أعضاء الديانات الأخرى الموصوفة هنا، فإنني أنتمي أيضا إلى ثقافة في طور التحول، والمنتمون إليها آخذون في التخلي عن عاداتها وتقاليدها القديمة. توجد طرق أخرى للنظر إلى هذه الطوائف، وقصص أخرى قد تلقي ضوءا مختلفا عليها، وتفسيرات أخرى لتاريخها. ويجب على أي شخص يريد إلقاء نظرة أكثر شمولا على أي من هذه الطوائف قراءة كتب معينة مدرجة في قسم «المصادر والقراءات الإضافية». وفي محاولتي لتأليف هذا الكتاب اعتمادا على أربع سنوات فقط من البحث وعشر سنوات من الترحال في الشرق الأوسط، أبهرني تفاني شخصية مثل إي إس دراور، التي قضت حياتها كلها في دراسة المندائيين. لا يمكنني أبدا أن أباريها في معرفتها أو معرفة العديد من الخبراء الذين كانوا لطفاء بما يكفي لمساعدتي في هذا الكتاب. لقد ذكرت أسماءهم وشكرتهم في قسم «المصادر والقراءات الإضافية».
وعلى ذكر دراور، وكذلك البيروني ومعاصريه في العصور الوسطى، يحضرني الثناء الذي حظي به السير ويليام جونز، مقترح فكرة أن اللغات الأوروبية والهندية لها مصدر مشترك واحد. وقد علق الخبير الاقتصادي السياسي جيمس أندرسون على هذا الأمر بما يلي: «طوبى لصانعي السلام، الذين ينحون من خلال أبحاث مضنية إلى إزالة تلك الأقنعة المدمرة التي أخفت الجنس البشري بعضه عن بعض مدة طويلة.» لا يمكنني نسب أي فضل لنفسي على إنجاز أي شيء مهم جدا؛ ولكن على الأقل هذا الكتاب يمكن أن يذكر الناس بجهد أولئك الذين أنجزوا أشياء بالغة الأهمية. •••
وعودة إلى التكهن الذي بدأت به المقدمة: كيف كان يمكن أن يختلف العالم لو (مثلا) لم يصبح الإمبراطور قسطنطين مسيحيا سنة 312، وهو الحدث الذي أدى إلى اعتناق الإمبراطورية للمسيحية بوصفها دينا رسميا؟ كان سيظل العديد من المسيحيين موجودين بالطبع، ولكن ربما كانت أعدادهم تضاءلت بسبب الاضطهاد. وربما كانت اليهودية ستصبح ديانة عالمية رئيسية، مقرها العراق، وتتناحر من وقت لآخر مع السامريين (الذين كان عددهم سيصل إلى الملايين، ويسيطرون على ما يعرف الآن باسم إسرائيل، وربما جنوب سوريا أيضا). وما كان بعض الناس ليكتفوا بالقراءة للفلاسفة اليونانيين؛ بل كانوا سيعبدونهم أيضا. أما فيما يتعلق ببقيتنا، فربما كنا سنتبع ديانة غامضة، ديانة لا تعترف بحقائقها إلا لشيوخ مختارين. ما تقدمه تلك الديانة ليس علاقة شخصية مع الله بقدر ما هو فرصة للاستفادة من القوى التي يتمتع بها أولئك القلة من المسنين المتقشفين والمتدينين الذين يتمتعون بمثل هذه العلاقة. فقد كان العديد من هذه الديانات من بين المنافسين الأوائل للمسيحية، بما في ذلك المانوية. يقدم الفصل التالي فكرة عما يكون عليه الحال في وجود مثل هذه الديانة.
الفصل الأول
المندائيون
في المقهى المعتم لفندق الرشيد في بغداد، نظر إلي رئيس كهنة المندائيين، وشقيقه، وابن عمه طالبين مساعدتي. لم يكونوا يعرفون مدى شعوري بالفخر لمقابلتهم. هنا، أمامي، حضر ممثلو واحدة من أكثر الديانات غموضا في العالم. ولأنهم كانوا يعبدون إلها واحدا، ويمارسون التعميد، ويعتبرون يوم الأحد يوما مقدسا لهم، ويوقرون نبيا يدعى يوحنا، فقد أخطأ المبشرون الأوروبيون في القرن السادس عشر في اعتبار المندائيين مجرد طائفة أخرى من الطوائف المسيحية العديدة والمتنوعة في المنطقة. في الواقع، ديانتهم منفصلة تماما عن المسيحية. فهم يؤمنون بالجنة، لكنهم يسمونها «عالم النور »، وبوجود روح شريرة، لكنها مؤنثة، على عكس إبليس، وتدعى روها، وبالتعميد بوصفه شرطا ضروريا لدخول «عالم النور»، على الرغم من أنه عندهم يجب أن يكون في مياه جارية، بينما الأطفال الذين يموتون بلا تعميد يتعزون إلى الأبد بأشجار تحمل ثمارا على شكل أثداء أمهاتهم. ويوحنا الذي يتبعونه هو يوحنا المعمدان، وليس يوحنا الإنجيلي، وعلى الرغم من تقديم المعمدان في النصوص المسيحية على أنه تابع ليسوع، فالمندائيون يرونه نبيا أعظم شأنا. وبعد سماع الإنجيل المسيحي الذي يقول فيه يوحنا المعمدان إنه ليس أهلا لأن يحل سيور حذاء يسوع، أعرب أحد المندائيين، الذي عاش في القرن التاسع عشر واعتنق المسيحية، عن سخطه. وسأل الكاهن بعد القداس: «أليس عيسى ويحيى» - الأسماء العربية ليسوع ويوحنا - «ابني خالة، ومن ثم فهما متكافئان؟ أليسا في «عالم النور» معا؟»
تعميد مندائي في نهر دجلة. حقوق الطبع والنشر: أوليج نيكيشين/جيتي إيمدجز.
يزعم المندائيون أنهم من نسل شيث، ابن آدم، وأنهم تلقوا تعاليم سرية انتقلت من آدم في جنة عدن. وعندما يهمس كاهن مندائي في أذن أحد أتباع الديانة، في يوم أول تعميد لهذا الشخص، بالاسم المقدس لذلك الشخص، الاسم الذي يجب ألا يكشف عنه أبدا إلا لأقرب أفراد الأسرة، فإنه يقوله بلغة بابل القديمة. وعندما يلتقط من على رفه أحد الكتب المقدسة، الذي يحتوي على أساطير وحوارات كانت سرية جدا لدرجة أنها لم تدون مطلقا قرونا عديدة، فإنه يقرأ الكلمات التي ظل المندائيون يرددونها أكثر من خمسة عشر قرنا. وعندما يتناول وجبة مقدسة، مؤديا الطقوس بالترتيب الدقيق اللازم لخلاص الأرواح، فإنه يفعل كما فعل أسلافه على مدى أجيال. وتربط هذه الطقوس في وقتنا الحاضر بالماضي البعيد قبل المسيحية، وبالمأدبة الجنائزية للميثرائيين والمصريين، وبتعاليم المانوية، الديانة المنقرضة الآن التي كان لها فيما مضى أتباع حتى في أماكن بعيدة مثل الصين، وكانت تتنافس مع المسيحية على ولاء القديس أغسطينوس.
لقد صادفت هذه الديانة الاستثنائية في ظروف غير مواتية للغاية. ففي عام 2006، كنت أنصهر من حرارة بغداد المغبرة، أعاني، ليس من الخوف ولكن من الإحباط. كانت الأسلاك الشائكة تحاصر عالمي؛ في المنطقة الخضراء، وهي المدينة الفاسدة للقرن الحادي والعشرين، التي تبلغ مساحتها خمسة أميال مربعة مليئة بالحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة، وجسور الطرق السريعة التي تنتهي في الهواء حيث فجرتها قنبلة، وأنفاق مسدودة لاعتراض سبيل الدخلاء. في هذا المكان، الذي كان يوما ما ضاحية مبنية خصوصا للديكتاتور السابق صدام حسين وأتباعه المقربين، كانت حمامات السباحة وقتئذ مردومة تماما، وقسمت القصور المبهرجة، وأخليت حديقة حيوانات خاصة لإفساح المجال أمام فيلق دائم الزيادة من البيروقراطيين الغربيين الذين كانوا، عندما يشعرون بالإنهاك بسبب قضاء أيام طويلة أمام شاشات الكمبيوتر الخاصة بهم، يقوون أنفسهم أحيانا بوجبات سرطان البحر الذي نقل جوا من أمريكا أو بمشروبات كحولية تقدم في حانات لا تسمح بدخول العراقيين، حيث يترنح الزبائن الذكور الذين يشكلون أغلبية ساحقة في المكان وينصبون جميعا قاماتهم كلما دخلت امرأة.
كان لدي على الأقل مصدر إلهاء يتمثل في العمل في مكتب كل موظفيه من العراقيين. وخلال شهر رمضان، عندما لا يأكلون ولا يشربون أثناء النهار، كنت أحيانا أتسلل خلسة إلى المطبخ، حريصا على عدم جرح مشاعرهم، ولكنني بحاجة إلى المشروبات الغازية الغنية بالسكر لطرد النعاس. فيما عدا ذلك، حاولت أن أحذو حذوهم، وصولا إلى النقطة التي كانوا يضطرون فيها إلى مغادرة المنطقة الخضراء الآمنة. في أمسيات رمضان كنا نتناول طعام الإفطار معا، حيث كانت تتعاظم متعة التمر والحساء البسيط إن تمكنت من الصمود طوال اليوم دون تناول الطعام. حاولت تقليد اللهجة البغدادية المعقدة، ذات الحروف المتحركة العميقة، وتعلمت التنقل بين الأروقة المتهالكة لمختلف المصالح الحكومية، وأعددت نفسي للتعامل مع الأخبار المروعة التي كانت تأتي كل يوم من العالم خارج ذلك المكتب، حيث كانت عصابات المسلمين السنة والشيعة تتقاتل على السيطرة. كل يوم كانت ترد أنباء عن مآس جديدة: رأس فتاة مقطوع، مزروع بالمتفجرات بحيث أصبح فخا ملغوما لأفراد عائلتها عندما حاولوا استعادته؛ ورجال مخطوفون يطلق سراحهم مقابل فدية، ولكن بعد اقتلاع أعينهم وقطع أيديهم وأرجلهم.
كل هذا كان يحدث في المكان الذي بدأت فيه الحضارة منذ أكثر من سبعة آلاف عام. إذا قارنا التاريخ المسجل بالمناظر الطبيعية، فسيمثل العراق جبل إيفرست: مثلما تبدو الجبال الأخرى صغيرة أمام جبل إيفرست، فحتى التاريخ القديم يبدو حديثا مقارنة بتاريخ العراق. ماذا عن سفينة نوح؟ تتحدث الأساطير العراقية القديمة عن طوفان عظيم وعن رجل يدعى أوتنابيشتيم نجا منه في مركب عظيم. الأسطورة، التي انعكس أثرها على رواية نوح في الكتاب المقدس، كانت مستندة إلى حقيقة. فقد تعرضت مدن العراق المنخفضة لطوفان مدمر. واكتشف عالم الآثار ليونارد وولي أدلة على مثل هذا الطوفان عندما حفر فريقه في أنقاض مدينة أور في عشرينيات القرن الماضي ووجد ثمانية أقدام من التربة النظيفة بين طبقتين من الأدوات المصنوعة من الفخار والصوان. كما سجل بفتور، قائلا: «جاءت زوجتي ونظرت ... واستدارت معلقة بعدم اهتمام: «حسنا، بالطبع، إنه «الطوفان».» قد يكون من الأصدق أن نقول إنه كان «طوفانا»، لكن أساس القصة الإنجيلية هو بالتأكيد العراق، التي كانت حضارتها بالتبعية أقدم من الطوفان.»
ماذا عن الأهرامات؟ إنها يافعة بالمقارنة بمدن جنوب وسط العراق، التي ظهرت في وقت مبكر يعود إلى سنة 5300 قبل الميلاد - قبل ثلاثة آلاف سنة من بناء الفرعون خوفو للهرم الأكبر. كانت مدن العراق تكاد في قدمها بالنسبة إليه توازي قدم توت عنخ آمون بالنسبة إلينا. إن العادة العراقية في البناء بالطوب اللبن، في مناخ أقل جفافا بكثير من مناخ مصر، هي التي تسببت في انهيار آثارها العظيمة بينما بقيت الآثار المصرية.
ماذا عن ملحمة «الأوديسة» لهوميروس؟ كان العصر الذهبي للعراق على وشك الانتهاء بحلول زمن هوميروس. القصص الملحمية العراقية باقية منذ نحو سنة 2000 قبل الميلاد. وتدور أحداث إحداها حول بطل يدعى جلجامش، وعلاقته برجل يدعى إنكيدو، واشتراكهما في قتل الوحش هومبابا. إنها تتعامل مع مواضيع خالدة مثل: الصداقة، والجنس، والموت. إنها حتى تحتوي على الكوميديا. تقول لعنة قذرة تستهدف عاهرة: «أتمنى أن ترابط كلاب برية في غرفة نومك ... أتمنى أن يغطيك قيء السكارى ... وأتمنى أن تقاضيك الزوجات الغاضبات!» ربما سمع أوديسيوس نفسه هذه القصيدة الملحمية وأدرك فيها بعض أوجه التشابه مع أسفاره؛ ولكن حتى في عصره، كانت بالفعل قديمة.
كانت بابل هي أشهر وربما أعظم مدن العراق القديم، لكن هذه المدينة التي كانت عظيمة يوما ما هي الآن رقعة متسعة من الطين الذي يكاد يكون خاليا من المعالم على ضفة نهر الفرات، خمسين ميلا جنوب بغداد. كل ما تبقى هو جدران منخفضة وأساسات بوابات. يوما ما كانت تلك جزءا من معابد شامخة لدرجة أن الناس ظنوا أنها كانت تبلغ الجنة ذاتها. وسط هذه الأطلال التي لا تثير الإعجاب، من المفترض أنه تم اختراع اللغة. يقول الكتاب المقدس: «لذلك دعي اسمها «بابل»؛ لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض.»
في مواكبهم الدينية الاحتفالية، حمل البابليون تماثيل الأسد، الصورة الحيوانية لإله الشمس شماش، والتنين، هيئة إله القمر سين. أما عشتار، إلهة الحب (التي بقيت حتى اليوم باسم إستر)، فكان يرمز لها بالحمامة. كرسي معبد، يكاد يضاهي في ضخامته كاتدرائية القديس بولس، لكبير آلهة المدينة، مردوخ؛ وزينت أبوابه بزخارف تنانين، ومخلوقات أسطورية كانت في هيئة نصف عنزة ونصف سمكة، وكلاب. تشتهر المدينة بأنها موطن الحدائق المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. هنا هرب دانيال ورفاقه من أتون النار المتقدة، ووزن بيلشاصر في الموازين فوجد ناقصا، ومات الإسكندر الأكبر في قصر نبوخذ نصر، بعدما أحبط طموحه في غزو العالم.
لقد انقضت الآن أربعة آلاف سنة منذ تأسيس بابل، وطوال أكثر من نصف ذلك الوقت ظلت مهجورة ومعرضة للمطر، والفيضانات، ونهب الأجيال اللاحقة. وبعد وفاة الإسكندر سنة 323 قبل الميلاد، انقسمت إمبراطوريته الضخمة بين مساعديه المتنازعين. ودمرت حربهم الأهلية اقتصاد بابل، ودخلت المدينة مرحلة من التدهور. وباستثناء تضحيات متفرقة، لم نعد نسمع بمعابدها العظيمة. واختفت حدائق بابل المعلقة، ولا يوجد أي أثر لها اليوم. يوجد مشروع مهيب بين الأنقاض؛ لكنه جديد وليس قديما. إنه أحد قصور المدينة القديمة، التي أعيد بناؤها. تحمل أحجاره نقشا يقول: «في عهد الرئيس صدام حسين، أعيد بناء بابل كلها في ثلاث مراحل. من نبوخذ نصر إلى صدام حسين، بابل تنهض من جديد.»
في جميع الأنحاء، على نحو يشبه التصوير الوارد في قصيدة «أوزيماندياس»، كانت توجد رقعة ممتدة من طوب لبن متحلل. كانت عملية إعادة إعمار بابل التي قام بها صدام عبارة عن تشكيلة متنوعة من مختلف الأنماط، وسخر منها علماء الآثار الجادون واستهجنوها. واستعمل معظم ما تبقى من بابل الفعلية منذ مدة طويلة مواد بناء لمدينة بغداد، أو نهب أو بيع بثمن بخس لعلماء آثار أجانب وشحن إلى متاحف في لندن، وبرلين، وباريس. ومع ذلك لم يبن قصر صدام الجديد، وهو ما أسعد علماء الآثار. فبناؤه كان يعني استيلاء صدام على ماضي العراق القديم، وهو ما كان يمكن أن يساعد على إضفاء الشرعية على وجود العراق كدولة وسيادته عليها. فبدلا من أن يكون العراق مجموعة من المقاطعات التركية المنتزعة من حكامها العثمانيين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، لا يوحدها دين، أو لغة، أو عرق، كان يمكنه أن يقدم دولته البوليسية القمعية بوصفها وريثة الإمبراطوريتين البابلية والآشورية. ومن التوافق، أن العراق لم يحكم، في ذلك الماضي المجيد، على يد رجال الدين المسلمين، الذين كان صدام يكرههم ويخافهم، ولكن حكمه ملوك مستبدون وقساة؛ تماما مثل صدام.
وبحلول عام 2006، كان صدام تحت الحراسة الأمريكية وكان العراق في حالة من الفوضى. وبدا الزمن الذي كان فيه العراق عاصمة لحضارة العالم بعيدا للغاية. فيما مضى كان البطاركة المسيحيون في العراق يوقعون رسائلهم هكذا: «من صومعتي على نهر جنة عدن»؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها كانت موقع الجنة الأصلية التي عاش فيها آدم وحواء. أما في وقتنا الحالي فالنهر ذاته كان يحمل جثث الموتى نحو البحر، مرورا بشارع أبو نواس، حيث اعتاد البغداديون الجلوس في الأيام السعيدة الماضية، وأكل السمك، وتدخين النرجيلة. كان معظم العراقيين يحاولون البقاء بأمان فحسب، فكانوا يتوجهون إلى منازلهم بأسرع ما يمكن بعد العمل ثم يمكثون بها. وإذا أرادوا محاولة العيش كما كانوا قبل الحرب، والجلوس في أحد مقاهي المدينة، فكان يتعين عليهم إعداد أنفسهم لمواجهة مواقف صعبة. أخبرتني إحدى النساء أنها كانت هي وإحدى صديقاتها تشربان الشاي في أكوابه الأنيقة التي يسميها العراقيون «الاستكانة» - عريضة عند الحافة، ورقيقة من المنتصف، وما زالت توجد أكواب مماثلة منذ القرن الخامس عشر - عندما سمعتا رجلا يفجر نفسه في الشارع. نظرتا حولهما هنيهة، وعندما أدركتا أنه لم يكن ثمة خطر محدق، عادتا إلى «استكانتيهما» واستأنفتا احتساء الشاي. فقد كانت التفجيرات الانتحارية من الأمور اليومية المعتادة.
في الأشهر التي قضيتها في بغداد بصفتي دبلوماسيا، أمضي بسرعة على طرق المدينة السريعة في سيارة مصفحة أو أطل من طائرة مروحية تحلق فوق أراضي العراق الزراعية بمدفع رشاش معلق على جانبها، لم أكن قد رأيت أي أثر لتاريخ البلاد. فقد دمرت قصورها القديمة ومساجدها وكنائسها في العديد من الحروب، وعمليات الغزو، ومخططات إعادة البناء غير المدروسة؛ حيث كانت البيوت المبنية بالطوب اللبن قد تحللت بفعل قرون من المطر. وساعد كل من الحروب، والإهمال، والفساد، وطفرة البناء في القرن العشرين المدعومة بالنفط على تحديث بغداد، التي أصبحت الآن مطوقة بضواح شاسعة من منازل صغيرة مكونة من طابقين ومزودة بساحات ضئيلة المساحة.
أوصى كتيب إرشادي كتب بشجاعة في وقت قريب من حرب عام 2003 للسياح القلائل الذين قد يرغبون في الزيارة (حيث كتب تحت قسم «الترفيه»: «الأخبار سيئة») ببضعة مساجد وقصر واحد بقي من المدينة التي ذكرت في كتاب «ألف ليلة وليلة»، حيث كان الخليفة هارون الرشيد يتجول ليلا بصحبة خادمه المخلص جعفر. فقصة «ألف ليلة وليلة» كانت خيالية، لكن المدينة الحقيقية كانت رائعة جدا؛ إذ بناها الخليفة العربي المنصور سنة 734 ميلادية، وصممها الفرس، وفي وقت من الأوقات كان يعمل بها علماء فلك هندوس أحضرهم مبعوث يهودي من الهند. كان هذا النصب التذكاري للروابط الخصبة بين الثقافات والأديان مدفونا الآن في الخرسانة في مكان ما تحت محطة السكك الحديدية الرئيسية. لم يتعامل العراق بلطف مع تاريخه. •••
ومع ذلك، كان المندائيون تاريخا حيا. تعود نصوصهم الدينية إلى القرن الثالث الميلادي على الأقل، وقد حافظوا على العادات والتقاليد التي كانت أقدم من ذلك بكثير؛ فربما يعود تاريخها إلى بابل ذاتها. وذلك لأن الحقيقة المدهشة هي أنه لا المسيحية ولا الإسلام قمعا بشكل كامل ديانات العراق القديمة. ظل عدد الوثنيين يفوق عدد الموحدين في العراق بعد الفتح الإسلامي. وصف كتاب بعنوان «الفلاحة النبطية»، كتبه عراقي يدعى ابن وحشية نحو سنة 904 ميلادية، الثقافة المعاصرة التي لم تتغير إلا قليلا عن العصور القديمة لدرجة أن علماء العصر الفيكتوري ظنوا مدة من الوقت أن الكتاب يعود إلى بابل القديمة، وأنه من ثم كان أقدم كتاب على الإطلاق. فهو يصف لقاءات مع متعبدين في معابد للشمس والقمر، وفواكه وخضروات وأشجارا، بفضل قوة الآلهة، قادرة على الكلام، وحشرات أتت بها إلى الوجود آثام البشر، وعرافين، ومخلوقات جولم تشكلت بعلوم الإغريق من طين صيني، وجماعات زاهدة مكرسة للآلهة القديمة، ولكنها تشبه الرهبان المسيحيين أو الصوفيين، بشعر مصبوغ بالحناء ولحى طويلة، وتكهنات فلسفية حول أصل العالم. وفي ظل هذه الخلفية، كان من الممكن أن تنجو الثقافة البابلية بسهولة؛ وبالفعل، كتب الكاتب المسلم المسعودي في القرن العاشر الميلادي أن «البقية الباقية من البابليين» لا تزال تعيش في الأهوار العراقية، التي كانت في وقت من الأوقات تغطي ما يزيد عن 7000 ميل مربع من جنوب العراق.
والسؤال هو: لماذا لم يقمع المسلمون، الذين حكموا العراق أكثر من قرنين من الزمان، هذه الثقافات غير الإسلامية؟ كان أحد الأسباب هو أن الجيل الأول من الفاتحين العرب، الذين دحروا في العقود التي تلت عام 632 ميلادية قوات بيزنطة، وحطموا الإمبراطورية الفارسية، لم يعملوا بجد شديد على فرض الإسلام على رعاياهم الجدد؛ لأنهم رأوا أنه في الأساس دين عربي. وقيل إن الخليفة عمر بكى عندما علم أن رعاياه من غير العرب كانوا يعتنقون الإسلام. فمن الناحية العملية، كان غير المسلمين يدفعون أيضا ضرائب أكثر؛ لذلك خسرت الدولة دخلا عندما اعتنق رعاياها الإسلام.
قرية في الأهوار العراقية تعزل أنهارها الصغيرة المتداخلة سكانها عن العالم الخارجي. نشأت هناك ثلاث ديانات على الأقل. حقوق الطبع والنشر: نيك ويلر/كوربيس.
حتى عندما أراد العرب فرض إرادتهم على كل ميل مربع احتلوه، لم يتمكنوا من ذلك. فقد بدءوا بكونهم نسبة صغيرة من السكان، على أقصى تقدير عشرين بالمائة في العراق. أيضا وقفت الجغرافيا في طريقهم. وفي التسعينيات، على سبيل المثال، اضطر صدام إلى بناء سدود على الأنهار التي تغذي الأهوار قبل أن يتمكن من قمع الجماعات المتمردة التي كانت قد لجأت إلى هناك. وللحكام في الماضي، لم تكن حملة قمعية كتلك تستحق العناء.
علاوة على ذلك، كان التسامح تقليدا متبعا في الإسلام. وعلى الرغم من أن القرآن قبح فعلة عبدة الأوثان، فقد امتدح «أهل الكتاب» الذين كانوا موحدين ولديهم كتب مقدسة. تضمن هذا الوصف صراحة المسيحيين واليهود. وكان الزرادشتيون و«الصابئة» من الديانات الأخرى التي خصت بالذكر على نحو إيجابي في القرآن. وبعد عدة قرون من بداية الإسلام، كان التحديد الدقيق لهذه المجموعة الأخيرة غير واضح، مما وفر ثغرة نجت من خلالها العديد من ديانات الشرق الأوسط الأخرى من الاضطهاد، بما في ذلك المندائيين، الذين اعتبرهم من الصابئة العالم المسلم العظيم في القرن الحادي عشر، المتخصص في علم الإنسان، البيروني، في واحد من كتبه التي يصل عددها إلى 142 كتابا. وبالمناسبة، يعتبر البيروني، الذي وصفه جورج سارتون بأنه «أحد أعظم العلماء في تاريخ العالم» بسبب انفتاحه الفكري، مثالا جيدا على التسامح الذي أظهره بعض المثقفين المسلمين تجاه الأديان التي اكتشفوها وسطهم. ومن الأمثلة الأخرى المسعودي، الذي كان من رصد البابليين الذين يعيشون في الأهوار العراقية، والذي درس شعوبا بعيدة ومتنوعة مثل الروس والفرنسيين. وعلى الرغم من تحفظات المحافظين الدينيين، فإن هؤلاء المثقفين كانوا مستعدين للتعلم حتى من أولئك الذين لا يشاركونهم عقيدتهم، بناء على مقولة عربية هي: «الحكمة ضالة المؤمن: فحيث وجدها فهو أحق بها.» وعلى الرغم من أن روح التسامح هذه تضاءلت في القرون اللاحقة، وكثيرا ما تعرض المندائيون للمضايقة والاضطهاد في بعض الأحيان، إلا أنه نادرا ما بذلت السلطات الإسلامية جهدا كبيرا لإرغام رعاياها على اعتناق الإسلام بالقوة؛ وكان لدى المندائيين الأهوار ليحتموا بها، حتى القرن العشرين.
كان البابليون يعيشون في الأهوار العراقية؛ وكذلك المندائيون. هل يحتمل وجود صلة بينهم؟ لقد أحببت القراءة عن بابل في طفولتي، وكان من المشوق أن أظن أن المندائيين كانوا آخر البقايا الضعيفة للحضارة البابلية. لذلك عندما اتصل بي رئيس كهنة المندائيين وطلب إجراء لقاء، كان الأمر أشبه باستدعائي للقاء أحد فرسان المائدة المستديرة، أو اكتشاف أنه في قرية صغيرة في منطقة نائية من الريف الإنجليزي، لا تزال توجد طائفة تعبد أودين، وقد دعاني المنتمون إليها لتناول الشاي. لذلك وافقت؛ فقد وددت رؤية رئيس الكهنة.
لم يكن يوجد سوى مكان واحد في المنطقة الخضراء يمكن أن يدخله البغدادي العادي بسهولة. في أوج عظمته، كان فندق الرشيد، وهو مبنى خرساني مكون من ثمانية عشر طابقا من سبعينيات القرن الماضي، يضم مائة متنصت يجلسون في الطابق السفلي، متصلين بشبكة من الكاميرات والميكروفونات التي سجلت كل ما فعل وقيل في كل غرفة. بعد حرب عام 2003، على ما يبدو نزعت الكاميرات والميكروفونات، وغطيت لوحة جورج بوش الأب المصنوعة من الفسيفساء التي كانت ممسحة الأرجل الرسمية للفندق. ظل الفندق مكانا غريبا. وقف النوادل في المقهى، وهم يرتدون صدريات وأربطة عنق مزيفة، قريبين أكثر من اللازم من الطاولات وقتا أطول قليلا من اللازم، ينصتون باهتمام. كان هذا هو المكان الذي قابلت فيه رئيس الكهنة، الذي كان معروفا باسم الشيخ ستار («الشيخ» هو لقب عربي فخري، يستخدم على نطاق واسع في ديانات الشرق الأوسط وقبائله؛ للدلالة على الاحترام). كان يجلس على طاولة مع رجلين اتضح أنهما شقيقه وسكرتيره.
قال الشيخ ستار: «ديانتنا هي أقدم ديانة في العالم. فهي تعود إلى آدم.» تتبع تاريخها إلى بابل، على الرغم من قوله إنها قد تكون ذات صلة ما بيهود القدس. وقال إن المندائيين آمنوا بآدم، الذي كان أول البشر، وآمنوا ببعض الأنبياء الآخرين الذين وردت أسماؤهم في الكتاب المقدس العبراني، مثل شيث ونوح. والأهم من ذلك كله، أنهم كانوا يبجلون يوحنا المعمدان. لكنهم أنكروا إبراهيم وكان لديهم كتبهم المقدسة التي كانت منفصلة تماما عن الكتاب المقدس أو القرآن. وسلمني الشيخ أحد هذه الكتب، الذي قد نشر باللغة العربية مغلفا بغلاف أبيض.
كان اسم الكتاب كنزا ربا؛ والاسم يعني «الكنز العظيم». تصفحت الكتاب، من اليمين إلى اليسار، وأدركت أنه يمكن أيضا قلبه رأسا على عقب وقراءته من الخلف إلى الأمام، مما يكشف نصا آخر بالتوالي مع الأول. صيغت كلتا النسختين مثل القرآن، وقسمتا بدقة إلى آيات وفصول. في بداية كل فصل، حيث في القرآن عبارة «بسم الله الرحمن الرحيم!» جاء في كتاب كنزا ربا: «باسم الحي العظيم!» وكان على كل صفحة ما يبدو أنه صليب، متوج بغصن نبات الآس، ملفوف فوقه وشاح أبيض. أكد لي الشيخ ستار أن هذا لم يكن صليبا بل «درفش». وهو رمز للتغطيس في نهر دجلة، أي «التعميد» المندائي وأحد أقدس طقوس الديانة. وتمثل أذرعه الأربع جهات العالم الأربع. فهو نور الجنة المندائية على الأرض، حيث تتمتع أرواح الأخيار بالنعيم الأبدي. وضع على الأرض في اليوم الذي عمد فيه هيبل زيوا، ملاك النور، يوحنا، الذي أصبح بدوره يوحنا المعمدان وصنع معجزات مسجلة في أحد الكتب المندائية المقدسة، «إدراشا إد يهيا» (كتاب يحيى). ويقول الكتاب إن يوحنا المعمدان كان صانع معجزات أعظم بكثير من يسوع.
حظي التعميد بتركيز خاص لدى المندائيين. قال الشيخ: «إننا لا نمارس التعميد مرة واحدة في العمر فقط، مثل المسيحيين، ولكن قبل كل المناسبات الكبرى. على سبيل المثال، قبل الزفاف يعمد كل من العروس والعريس.» فالمعمودية هي أكثر من مجرد عملية تطهير. ينظر إليها على أنها تعطي طاقة ورضا روحيين، وتطهر من الخطيئة، وتشفي الجسد. وأضاف الشيخ ستار أن المندائيين فضلوا ارتداء ملابس بيضاء والعيش بالقرب من الأنهار؛ لأنه كان يجب أن تجرى المعمودية في مياه جارية نظيفة. وكانوا أيضا أشخاصا مسالمين. وأكد قائلا: «نحن لا نؤمن بالقتال حتى لو هوجمنا.» كانت محادثتنا باللغة العربية، لكنني علمت أن المندائيين لديهم لغتهم الخاصة، التي لا تستخدم اليوم إلا للأسماء والطقوس. جاء الاسم «مندائي» من كلمة «ماندا»، المرادف لكلمة حكمة في هذه اللغة. كانوا يؤمنون بإله واحد، «ماندا دهايي»، الحي العظيم. أطلقوا على الجنة اسم «عالم النور»، «مالكا دا نهورا».
لم تأت المجموعة لتحدثني عن دينها فحسب. جاءوا ليطلبوا شيئا مني. أخبرني السكرتير: «عائلتي تجار ذهب»، ولذا تعرضوا للهجوم ليس فقط بسبب ديانتهم، ولكن أيضا من أجل أموالهم. وأضاف أن جميع أفراد عائلته من الذكور قد قتلوا. قال رئيس الكهنة: «أرجوك، لم يتبق منا في العراق سوى بضع مئات. وكلنا يريد المغادرة. نريد أن يمنحنا بلدك حق اللجوء.» لم تمنحهم بريطانيا حق اللجوء بوصفهم طائفة، وهو ما كانوا يأملون فيه، لكنني علمت أنه لن يكون من الصعب عليهم التقدم كأفراد، في بريطانيا أو في أي مكان آخر، وأنهم سيغادرون العراق واحدا تلو الآخر. لقد صادفت رابطا للثقافة العراقية القديمة التي كنت أبحث عنها، وكانت تكاد تتلاشى أمام ناظري. •••
كما رأيت، يحافظ المندائيون على العادات البابلية، لكن ديانتهم تختلف عن ديانة البابليين القدماء: فهم، على سبيل المثال، لا يعبدون إله الشمس البابلي بيل أو إلهة الخصوبة أترعتا. ووفقا للمؤرخة يورون باكلي، تعود أقدم نصوصهم الدينية الباقية إلى أواخر القرن الثاني أو أوائل القرن الثالث الميلاديين. وذلك ينسبها إلى مرحلة ثورة فكرية غير مسبوقة في الشرق الأوسط، عندما اجتاحت طوائف وفلسفات جديدة الشرق الأوسط، فجلبت آلهة، وأفكار، وأساطير جديدة حلت محل نظائرها التقليدية. لكن لماذا حدثت هذه الثورة الفكرية في ذلك الوقت بالذات؟ كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو السياسة والإمبراطورية. كان الشرق والغرب قد تقاربا بشكل وثيق أكثر من أي وقت مضى، وذلك بفضل توسع الإمبراطوريات الضخمة مثل إمبراطوريات فارس، والإسكندر، وروما. كانت الهند على الحدود الشرقية لبلاد فارس واليونان على حدودها الغربية؛ وجاورت روما بلاد فارس من الشرق وبريطانيا من الغرب. لذلك تمكنت الثقافات التي كانت معزولة في السابق بعضها عن بعض من أن تلتقي. حتى في حقبة سابقة، وصلت قصص الزهد الهندي إلى الفلاسفة اليونانيين الأوائل، وكانت مصدر إلهام لممارسات الكلبيين، الذين اعتقدوا أن الطريق الوحيد للسعادة الحقيقية يكمن في التخلي عن جميع الممتلكات والعيش في فقر كامل. وفي القرون اللاحقة (خاصة بعد أن صار السفر عبر البحر أسهل) أصبح هذا النوع من الاتصال أكثر شيوعا. وساعد التحضر أيضا في حدوث انصهار بين ديانات مختلفة. فلم يعد كافيا أن يتمسك شعب ما بالآلهة التي كانت لديه منذ آلاف السنين: فقد كان مطلوبا آلهة جديدة، وفلسفات جديدة لتسويغ عبادتها.
نتجت عن ذلك حقبة من الإيمان الديني المتشدد والجدل الفكري المتطرف الذي يجعل العالم الحديث، الذي يبلغ عمر أكبر خمس ديانات فيه الآن أكثر من ألف عام، يبدو بالمقارنة جامدا. دخلت الهندوسية والبوذية الإمبراطورية الفارسية. ووصلت معتقدات الشرق الأوسط إلى روما، مثل الطائفة العشائرية للإله ميثرا وعبادة الإلهة المصرية إيزيس (كانت الأخيرة سيئة السمعة لأنه كان يزعم أن طقوس اعتناقها كانت تتضمن ممارسة الجنس الشعائري). وأصبح رجل يدعى إيل جبل من مدينة حمص السورية إمبراطورا في القرن الثالث، وأحل عبادة إله الشمس الخاص ببلاد الشام محل عبادة الإله جوبيتر القديمة، وركب حجرا نيزكيا أسود من مسقط رأسه ليكون حجر الأساس لأكبر معبد في روما. في الاتجاه الآخر، انتشرت جماعة أتباع الفلاسفة اليونانيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وكانت اليهودية من الديانات الأخرى التي انتقلت من الغرب إلى الشرق. ربما بقي بعض اليهود بالقرب من مياه بابل بعد نفيهم هناك في القرن السادس قبل الميلاد؛ وبالتأكيد كان يوجد مجتمع يهودي راسخ في العراق في أوائل القرن الأول الميلادي، عندما اعتنق ملك مقاطعة حدياب الشمالية، وزوجته، ووالدته الديانة اليهودية كل على حدة. سنة 70 ميلادية، انضم إلى يهود العراق يهود آخرون ممن كانوا يفرون شرقا من الجيوش الرومانية التي نهبت القدس وهدمت هيكلها. وأصبحت بابل (المنطقة التي كانت تقع فيها بابل يوما ما، والتي احتفظت باسمها: فالمدينة نفسها كانت مدمرة بحلول هذا الوقت) معقل الديانة اليهودية. وتصل تقديرات عدد السكان اليهود في العراق إلى مليوني نسمة في سنة 500 ميلادية؛ ربما نحو أربعين بالمائة من تعداد سكانها.
كتبت أقدم الكتب المندائية المقدسة الباقية بلغة قريبة جدا من تلك التي استخدمها العلماء اليهود الذين جمعوا التلمود البابلي، أحد أهم مجموعات الشريعة اليهودية، والذي جمع بين القرنين الثالث والخامس الميلاديين. تظهر الكتب المندائية اهتماما باليهودية ومعرفة وثيقة بممارساتها، ولكنها تظهر أيضا الكثير من العداء. فقد اتبع المندائيون يوحنا المعمدان لكنهم يكرهون إبراهيم. وهم يرفضون رفضا تاما ممارسة الختان؛ وهي ممارسة ميزت اليهود عن البابليين حتى أثناء النفي اليهودي في بابل. ويقدس المندائيون يوم الأحد، وليس السبت. وتدور أسطورة ميرياي حول امرأة يهودية تترك ملتها من أجل الزواج من رجل مندائي. كان اليهود والمندائيون يعرف بعضهم بعضا لكنهم كانوا غرماء.
لم تكن المندائية الديانة الوحيدة التي تأثرت بشدة باليهودية: فالعديد من ملل المسيحية تأثرت بها أيضا. وحاول البعض الالتزام بالشريعة اليهودية مع اتباع يسوع، بينما كان البعض الآخر أكثر عدائية. على سبيل المثال، قبلت جماعة مسيحية منشقة تسمى المرقيونية، تأسست في المنطقة التي هي حاليا شمال تركيا في نحو سنة 144 ميلادية، أن الأحداث المذكورة في الكتاب المقدس العبراني (الذي يطلق عليه المسيحيون العهد القديم) كانت صحيحة، ولكنها كانت صادمة لبعض منهم. لماذا، على سبيل المثال، ينهى الرب آدم عن أن يأكل من شجرة المعرفة في جنة عدن؟ لماذا يطلب من إبراهيم أن يقتل ابنه؟ لذلك اعتقدوا أن الرب المذكور في ذلك الكتاب هو في الواقع إله أدنى، لا يستحق العبادة. وكان العالم المادي الذي خلقه هذا الإله الأدنى شيئا يجب الهروب منه بما في ذلك جسد الإنسان وغرائزه؛ فقد كان نخبة المرقيونيين غير متزوجين وليس لديهم أطفال. لم تتضمن الكتب المرقيونية المقدسة سوى إنجيل لوقا ورسائل بولس، وحتى تلك جرى تغييرها نوعا ما. على سبيل المثال، حذف اسم إبراهيم في كل مكان كان يظهر فيه تقريبا؛ لأن إبراهيم لم يكن فقط على استعداد لقتل ابنه، بل أيضا عاشر خادمته وسمح لفرعون بمعاشرة زوجته.
في تلك البيئة - حيث كثر عدد اليهود ، وانتشرت الجماعات المسيحية، ونحيت الديانات القديمة لتحل محلها أيديولوجيات جديدة - استعد رجل يدعى باتيك لتقديم قربان لأحد الآلهة القديمة في معبد بإحدى المدن جنوب المكان الذي تقع فيه بغداد حاليا. كان يمكن أن يكون أمرا دمويا، مثل ذبح ماعز أو شاة ربما، وبعد ذلك قد يحصل على جزء من اللحم ليأكله. لكنه فجأة سمع صوتا خارقا للطبيعة يخبره ألا يأكل اللحم مرة أخرى. وألا يمارس الجنس. ولا يشرب الكحول. كان ذلك نحو سنة 215 ميلادية.
كان الزهد مسألة مشتركة في الأديان الجديدة في الشرق الأوسط. ربما كان هذا في جانب منه انعكاسا للتأثير الهندي أو رد فعل للانغماس في الملذات الذي اتسمت به الأديان القديمة (فسوريا، حيث كانت المعابد الوثنية يوما ما تئوي عاهرات مقدسات، كانت أيضا البلد الذي عاش فيه قديس مسيحي على قمة عمود لمدة ثلاثين سنة دون أن ينزل مرة واحدة). وكانت توجد فلسفة وراء إنكار الذات أيضا. فقد كان المجتمع متقدما تكنولوجيا؛ ففي القرن الثاني الميلادي، رسم بطليموس خريطة للعالم استخدمت بعد ذلك أكثر من ألف عام، وكتب جالينوس كتابا طبيا استخدم حتى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، كان لا بد من تنظيف البالوعات يدويا، وكانت أمراض مثل التيفود شائعة، وقد تتطور الجروح بسهولة إلى غرغرينا. كان ضعف الجسد والقذارة في تناقض غريب مع الإنجازات الفكرية المدهشة. وحيث إنه في ذلك الوقت لم يكن مفهوما بشكل عام أن الفكر له أي صلة بالمخ (أدرك جالينوس ذلك، لكن أرسطو كان يظن أن المخ موجود فقط لتصريف الحرارة من الجسم)، كان من السهل افتراض أن العقل، أو الروح، يمكن أن تعيش دون فوضى الجسد.
غالبا ما كان يطلق على الديانات، التي كانت تأمر أتباعها بمعاقبة الجسد أو إخضاعه حتى يتحرر العقل، تسمية «الغنوصية»، وكان يوجد العديد من هذه الديانات في هذا الوقت. اكتشف باتيك أن طوائف متشددة كثيرة قد نشأت مؤخرا في الأهوار العراقية. وكان المندائيون إحدى تلك الطوائف، لكن ربما لم تكن قواعدهم صارمة بما يكفي لباتيك. (على الرغم من أنه ربما كان المندائيون نباتيين في مرحلة ما من تاريخهم، فلم يفضلوا الامتناع عن الزواج أبدا.) تلاءمت طائفة قريبة على نحو أفضل مع التعليمات التي أعطاه الصوت إياها. ولم يقتصر الأمر على الامتناع التام عن أكل اللحوم، أو ممارسة الجنس، أو شرب الكحول، بل كانوا أيضا يجتنبون الفن والموسيقى. وعلاوة على ذلك، حاولوا أن يتبعوا بصرامة كلا من الشريعة اليهودية والأناجيل المسيحية. كان يبدو أن كل عائلة كانت تمتلك قطعة أرض تزرع فيها الخضار والفاكهة ليأكلها أفرادها. فيما بعد أطلق عليهم الكتاب اسم المغتسلة، التي تعني في اللغة العربية «من يغتسلون»، بسبب ممارستهم للتعميد في أنهار الأهوار. كان المغتسلة هم من انضم إليهم بالفعل باتيك وزوجته الحامل، وبعد ذلك بوقت قصير ولد طفلهما الوحيد. وأطلقا عليه اسم ماني.
بينما كان ماني يكبر، كان يمر بمرحلة تمرد. لم يكن تمرده متعلقا بالجنس أو الكحول. وإنما غضب من القيود المفروضة على الفن. فقد كان فنانا موهوبا وكان يتوق إلى التعبير عن أفكاره بصورة مرئية وكذلك بالترانيم الموسيقية. كان المندائيون، الذين كانوا يعيشون بالجوار في الأهوار، مصدرا للإلهام؛ فعلى الرغم من رفضهم ليسوع، الذي أعجب به ماني، استحسن موسيقاهم واقتبس واحدة من ترانيمهم. ومع ذلك، فمن نواح أخرى، وجد أن قواعد طائفته مفرطة في التساهل. وقال إن الامتناع عن اللحوم لم يكن كافيا. فقد كان قتل الخضروات وأكلها قاسيا على النباتات، بل كان بإمكانه سماع شجرة التين تبكي على الثمار التي قطعت من أغصانها. واشتكت ينابيع المياه العذبة، على حد قوله، عند استحمام المغتسلة فيها؛ لأنهم كانوا يلوثون المياه. (على ما يبدو كان أتباعه في السنوات اللاحقة يغتسلون ببولهم بدلا من الماء.) في النهاية زعم ماني أنه تلقى وحيا جديدا؛ سردا لمعركة كونية بين النور والظلام.
رسم حديث لماني، مؤسس من القرن الثالث لديانة نافست المسيحية المبكرة، أدى تقسيمه للكون بين الخير والشر إلى ظهور مصطلح «المانوي». سبقه المندائيون وتأثر بهم.
فبحسب القديس أغسطينوس، الذي اتبع تعاليم ماني بعض الوقت قبل أن يصبح مسيحيا، قال ماني إن الكون يحتوي على «كتلتين متعارضتين، وكلتاهما غير محدودة»؛ إحداهما صالحة، والأخرى شريرة. «كان الشر ... نوعا من المادة، كتلة عديمة الشكل، بشعة ... نوعا من عقل شرير يتغلغل في المادة التي يسمونها الأرض.» وكان الشر مصدرا لكل الظلام في الكون، بما في ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر وتعاقب الليل والنهار. وعند ماني، أن تعاقب الليل والنهار كان دلالة على معركة مستمرة بين النور والظلام. وحتى يومنا هذا، نتحدث عن «المنظور المانوي للعالم» بحيث يعني ذلك المنظور الذي يقسم العالم إلى قوى الخير وقوى الشر. («ماني تشاي» كانت العبارة التي يصرخ به أتباع ماني باللغة الآرامية: وهي تعني «ماني حي». لذلك صار يطلق على أتباعه اسم المانويين.)
كان المانويون المستنيرون دينيا يرون أن الدعوة الأسمى هي تحرير الروح من قيود المادة. أما عند الملتزمين حقا - «الشيوخ»، كما كان يطلق عليهم (تستخدم الكلمة ذاتها، «شيخ» باللغة العربية، مع الكهنة المندائيين) - فكان هذا يعني الامتناع نهائيا عن إنجاب الأطفال، وتناول الفاكهة فقط، والتكفير عن قطف تلك الفاكهة. كان إهدار الماء خطيئة. وكانت مسألة قتل الحيوانات مسألة لا يمكن تصورها. فالمانوي المتزمت لن يقتل ذبابة. وورد في إحدى الصلوات المانوية: «دع [البلد] ... الذي تنبعث منه رائحة الدماء يتحول إلى بلد يأكل فيه الناس الخضروات.» ومع ذلك كان الدين يقدم أيضا فرصة للخلاص للأشخاص الذين أرادوا اتباع ماني دون مراعاة جميع مبادئه؛ ففي نهاية الأمر، كان يتعين أن يرتكب شخص ما خطيئة قطف الثمار ليأكلها الشيوخ. وأبرأ الشيوخ أتباعهم من هذه الخطيئة بهضم طعامهم وفق طقس صارم، كان الهدف منه تحرير نتف الضوء المحتبسة داخل الطعام. كان هذا الهيكل المكون من الشيوخ والأتباع يعني أن للدين أشخاصا يتقشفون تقشفا مثاليا وقادرون على طلب الشفاعة من الله نيابة عن الطائفة بأسرها، مما يترك لأتباعهم حرية العيش حسب اختيارهم؛ بشرط أن يعتنوا بالشيوخ ويوقروهم. وكما سنرى، لا تزال بعض العقائد في الشرق الأوسط تستخدم هذا الهيكل حتى يومنا هذا.
في نحو سنة 240 غادر ماني الأهوار والمجتمع الذي نشأ فيه وسافر شرقا إلى عاصمة الإمبراطورية الفرثية. كان شخصية مميزة بمعطفه المتعدد الألوان، وبنطاله المقلم، وحذائه العالي الرقبة. وبمساعدة الروابط الأرستقراطية لعائلته والموقف العام للفرثيين تجاه الدين، القائم على عدم التدخل، كاد ينجح في أن يتبنى الإمبراطور قضيته؛ لكنه أعدم بسبب جهوده. ومع ذلك، استمرت ديانته في الانتشار. وعندما اتجه أتباعه شرقا من إيران، اعتمدوا على الرسومات البوذية لشرح رسالتهم. وصور ماني على أنه «بوذا النور». وأقيمت مملكة مانوية وسط الإيغور في آسيا الوسطى. وفي القرون اللاحقة، ازداد عدد المانويين في الصين، حيث اشتهروا برفضهم أكل اللحوم. وكانت عبارة «عبدة الشيطان النباتيين» هي الطريقة التي وصفتهم بها السلطات في مرسوم سنة 1141. وأدى الاضطهاد الرسمي إلى تشرذم أعدادهم، لكن ربما ظلوا باقين في جنوب الصين حتى مطلع القرن العشرين. في الواقع، يبدو أن ماني لا يزال يعبد، بمحض الصدفة، في مكان واحد في الصين اليوم: ففي معبد في شرق الصين، يعود تمثال بوذا ذو اللحية والشعر الأملس إلى الوقت الذي بنى فيه المانويون المعبد؛ والأرجح أنه كان في الأصل تمثالا لماني.
في الغرب، كان تبجيل يسوع من تعاليم المانوية وكانت منافسا جادا للمسيحية المبكرة. وكاد مانوي يدعى سيباستيانوس أن يصبح إمبراطورا لروما في منتصف القرن الرابع، ولو كان ذلك قد حدث، لكان تاريخ العالم سيختلف تماما. بدلا من ذلك، اختفت المانوية إلى حد كبير في أراضي الإمبراطورية، حيث أصبحت المسيحية دين الدولة في روما، وبدأت السلطات الرومانية في قمع العقائد المنافسة. صمدت المانوية وقتا أطول بين المسلمين، وتولى المانويون مناصب مركزية في الحكومة، حتى قرر الخليفة المهدي في القرن الثامن أن أتباعها أصبحوا أقوياء أكثر من اللازم، وصلب أعدادا كبيرة منهم. وعرف العالم المسلم ابن النديم، الذي ترك رواية حياة ماني التي يستند إليها ما ورد أعلاه، بعض المانويين في بغداد في القرن العاشر، لكن لا يبدو أنهم عاشوا أكثر من ذلك بكثير في ظل الحكم الإسلامي.
ومع ذلك، تركت المانوية أثرا ممتدا في الحضارة الأوروبية . إذ توجد بعض الأدلة على أن المسيحيين شعروا بالحاجة إلى محاكاة التقشف غير المسبوق لرجال ونساء ماني الورعين. واستلهاما من اعتقادهم أن الشر كان يتخلل المادة وأنها كانت سجنا للروح، حاولت النخبة المانوية تثبيط كل الدوافع الجسدية، وحذا حذوهم النساك المسيحيون، فحرموا أنفسهم من النوم، وأكلوا العشب والفاكهة فقط، وخصوا أنفسهم في بعض الأحيان. وكانت الرهبنة المسيحية قوية بوجه خاص في مصر، حيث كانت أديرة مانوية بالفعل قد أنشئت. وكان القديس أغسطينوس، الذي كان مؤمنا إيمانا قويا بالخطيئة الأصلية ومدافعا عن العفة، مانويا وشعر بالحاجة إلى مقاومة دعوتها. باختصار، قد لا يزال الزهد والرهبنة في المسيحية الحديثة مدينين لماني.
أما المندائيون فليسوا مانويين ولا مغتسلة. وعلى عكس هاتين المجموعتين، فإنهم يرفضون المسيح ويعتقدون أن الزواج وإنجاب الأطفال واجبات أخلاقية. لكن من نواح أخرى، لديهم العديد من الأشياء المشتركة مع المانويين. فهم يرفضون إبراهيم ويؤمنون أن الجسد سجن للروح. ويؤمنون بملاك من نور، هو هيبل زيوا، يصارع الظلام دائما. ويعتقد المندائيون أنهم شرارات من النور الكوني التي انفصلت عنه وأصبحت محاصرة في وطن مادي. وعندما تتحرر بالموت من سجونها الجسدية، يمكن لشرارات الضوء هذه أن ترتقي مرة أخرى إلى النور العظيم الذي أتت منه يوما ما. لذلك في الجنازات، قد يخاطب الكاهن المندائي روح رجل ميت على النحو التالي: «لقد تركت وراءك الفساد والجسد النتن الذي وجدت نفسك فيه، مسكن الأشرار، المكان الذي كله خطايا، عالم الظلام، والكراهية والحسد، والفتنة، المسكن الذي تعيش فيه الكواكب، جالبة الأحزان والأسقام.» ويعتقد المندائيون أن الطريقة التي يأكل بها الكاهن وجبة مقدسة في جنازة عضو متوفى من المؤمنين بعقيدتهم يمكن أن تحدث فرقا في مصير ذلك الشخص في الحياة الآخرة. هذه كلها أفكار وممارسات كانت مألوفة لأتباع الديانة العراقية الأخرى، المانوية. لذلك فإن المندائيين حلقة وصل ليس مع تاريخ الشرق الأوسط القديم فحسب، وإنما أيضا مع تاريخ المسيحية. •••
من المرجح أن عدد المندائيين أقل من مائة ألف في العالم كله، وحتى سنة 2003 كان معظمهم يعيش في العراق. ليس كلهم متدينين، كما اكتشفت عندما التقيت للمرة الثانية بأحد المندائيين، هذه المرة في مقهى في مانهاتن، سنة 2009. كانت نادية قطان في زيارة للولايات المتحدة قادمة من بريطانيا، التي منحتها حق اللجوء. وعلى الرغم من أنها قد غادرت العراق، بقيت، على حد تعبيرها، «عراقية متشددة. فنحن أناس عمليون، ولسنا مهتمين بالإبهار. وأنا عاطفية وانفعالية، ولست مثل الأوروبيين.» وبسبب نشأتها في عائلة يسارية في ضواحي بغداد، رأت نادية نفسها عراقية أولا ومندائية ثانيا. وكان لديها أصدقاء من ديانات مختلفة كثيرة، ولم يكن والداها شديدي الالتزام. تابعت قائلة: «لم يعلماني شيئا عن الدين، فقط القواعد الأخلاقية: ألا أكذب، وألا أسرق، وأن أتذكر دائما أنني امرأة.»
لم تكن الكتب المندائية المقدسة متاحة لنادية لتقرأها، حيث كان الكهان يحتفظون بها في معبد يسمى «مندي». ولم تكن عائلتها تصلي، وفي بيتهم في بغداد، الذي وصفته لي، كان من اللازم أن يتمتع المرء بعين ثاقبة ليلاحظ أي شيء يميزهم عن غيرهم من عائلات الطبقة الوسطى العلمانية العراقية. كان ما تلاحظه العين لأول وهلة هو غياب الأشياء، وليس وجودها. فالجدران لم تكن مزينة بآيات قرآنية، ولا بأي صورة للكعبة المشرفة في مكة مع آلاف الحجاج الذين يرتدون ملابس بيضاء وهم يطوفون بها، ولا بصورة مرسومة للإمام الحسين (التي يميل الشيعة إلى امتلاكها). وبنظرة فاحصة، قد يرى الزائر المميز المزيد من الأدلة على المندائية. إذ كانت صورة متوارية عن الأنظار «للدرفش» معلقة على حائط غرفة المعيشة. وكانت أردية وأحزمة التعميد البيضاء الخاصة بالعائلة، التي كانت تستخدم في عمليات التغطيس المقدسة في مياه نهر دجلة، مخزنة في خزانة مطهرة من كل دنس، جاهزة للمناسبات النادرة عندما يحتاجون فيها إليها.
نشأت نادية في بغداد، لكن عائلتها لم تنتقل إلى هناك إلا في سبعينيات القرن الماضي. قبل ذلك كانوا يعيشون في بلدة صغيرة في جنوب العراق تسمى «سوق الشيوخ». وكان والد نادية مدرسا هناك، وكان لديه متجر ذهب صغير كعمل جانبي. وعندما عادت العائلة إلى هناك لحضور الأعياد المندائية ، عاشت نادية تجربة ممارسة دينها حقا كما ينبغي، وقضت الوقت مع جديها المتدينين. وفي صورة قديمة أرتنيها نادية، رأيت جدها: محاطا بأطفال يرتدون ملابس غربية، كان رجلا مسنا ذا لحية طويلة ويرتدي كوفية باللونين الأحمر والأبيض. ولم يكن يأكل اللحم إلا إذا كان مأخوذا من حيوان ذكر لا تشوبه شائبة، ذبح موليا وجهه إلى الشمال ثم نزف دمه حتى جف، ولم يسمح إلا لزوجته بإعداده. كانت بجواره في الصورة: امرأة متدينة بالقدر ذاته، ترتدي ملابس سوداء بالكامل وتضع حجابا على شعرها. كان حدادا ومارست هي الطب الشعبي، حيث كانت تعالج أمراض العيون التي قد يصاب بها المزارعون المحليون خلال موسم حصاد الأرز. عندما زارت نادية هذين الجدين، قيل لها إنها إذا كانت في فترة الحيض، فعليها الجلوس على طاولة منفصلة. كان هذا تطبيقا صارما لقاعدة مشتركة بين كل من البابليين القدماء واليهود (في بابل كان الرجل الذي يمس امرأة حائضا يصبح نجسا لمدة ستة أيام). لكن مع نادية انتهى هذا الأمر. فقد رفضت، وفي النهاية توقف جداها عن الشكوى من انتهاكها للقواعد.
كان هذان الزوجان قد وصلا إلى سوق الشيوخ سنة 1949. قبل ذلك كانا يعيشان في الأهوار العراقية، تلك المتاهة الشاسعة من الجزر الصغيرة، وأحواض القصب، والجداول الضحلة التي تحد البلدة من جانبها الشرقي. يتألف غالبية السكان من قبائل مسلمة مستقلة بشدة. وقد عاش هناك الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر في خمسينيات القرن الماضي ووصفها بأنها «عالم مكتمل بذاته»، مع أدنى حد من التدخل من الخارج. كان مفتونا بالقبائل، التي وجد بينها مزيجا غريبا من التسامح (على سبيل المثال، تقبل النساء المسترجلات اللائي كن يعاشرن نساء أخريات) والصلابة (كانت القوانين المنظمة للطهارة صارمة لدرجة أن الرجل قد يرى ابنه ينزف حتى الموت ولا يلمسه خشية أن يتنجس عقائديا).
يذكر ثيسيجر بإيجاز المندائيين الذين عاشوا جنبا إلى جنب مع المسلمين في الأهوار. ويعلق على لحاهم الطويلة، وأغطية الرأس ذات المربعات باللونين الأحمر والأبيض، والمشغولات الفضية، وعادة تربية البط، التي كان المسلمون المحليون يعتبرونها حيوانات نجسة. من يعرف: ربما التقى ثيسيجر بجد نادية من الأم، الذي عمل لحساب زعماء القبائل في تصليح الأسلحة من أجل رحلات صيدهم. أخبرتني نادية: «كان يمكنه فك بندقية وإعادة تجميعها.» كان جدها من جهة والدها يصنع قوارب صغيرة وبسيطة يستخدمها السكان المحليون للتنقل، إذ كان التنقل في أنحاء الأهوار في الماء أيسر منه على الأرض. كانت هذه القوارب تسمى «بيليم»، وهي كلمة ذات جذور سومرية.
التقط ويلفريد ثيسيجر هذه الصورة سنة 1950 لعرب من الأهوار العراقية يستخدمون «البيليم»، وهو نوع من القوارب التي يعود تاريخها إلى العصر السومري، للتنقل عبر الأهوار، التي كانت معزولة للغاية لدرجة أنه أطلق عليها «عالم مكتمل بذاته». الصورة مهداة من متحف بيت ريفرز.
يطلق على أحد الأعياد المندائية اسم «الأيام البيضاء» وهو إحياء لذكرى الأيام الخمسة التي يعتقد المندائيون أن العالم قد خلق فيها. أثناء طفولة نادية، كان هذا العيد في شهر أبريل (لا يحتوي التقويم الديني المندائي على سنوات كبيسة؛ لذلك تنتقل تواريخ أعياده بشكل طفيف جدا من سنة شمسية إلى أخرى)، وأخذها والداها هي وشقيقها عائدين إلى مسقط رأسهما للاحتفال مع العائلة الكبيرة. وصفت لي نادية منازل البلدة الصغيرة، التي كان بعضها يتمتع باللون البني ذاته الذي تتسم به الحقول والأنهار، وكان البعض الآخر مصنوعا من البوص. عاش مندائيو البلدة معا في منطقة واحدة. كان الأطفال يلعبون في الطريق ويتنقلون من منزل إلى آخر طلبا للطعام أو الحلوى. ولو حالفهم الحظ، فربما كانوا يتحصلون على ما يختص به المندائيون، وهو بط المالارد البري المحشو بالقرفة والحبهان، والبصل المفروم، والمكسرات، والزبيب، المسلوق بالليمون المجفف والكركم. وللسيطرة على الأطفال، كان الكبار يحذرونهم من أنهم إذا أساءوا التصرف، فإن فرسان الصحراء المتوحشين سيمسكونهم ويخطفونهم.
رجل مندائي صوره ويلفريد ثيسيجر في الأهوار العراقية، وهو يضع القار على قارب، مثلما كان جد نادية يفعل يوما ما. الصورة مهداة من متحف بيت ريفرز.
تعد الأيام البيضاء عيدا بهيجا، لكن رأس السنة المندائية عيد ديني يتسم بجانب أكثر رعبا . إذ يقال إن الشر يجوب الأرض مدة ست وثلاثين ساعة في هيئة روح أنثى تسمى روها. وتماشيا مع التقاليد، حاول والدا نادية إجبارها على البقاء في المنزل في هذا الوقت، ولكن دون جدوى. قالت لي: «لم آخذ الأمر على محمل الجد. لكن قيل لي إن روها قد تتمثل في هيئة دبور، أو نحلة، أو شجرة، أو طائر وتحاول إيذائي. أو قد تصدمني سيارة. لقد كان الخروج من المنزل في ذلك الوقت نذير شؤم.» حتى في منزلها العلماني، لا يزال هذا المقدس/المحرم تحديدا يتمتع ببعض القوة.
وبالإضافة إلى العيد السعيد والعيد المخيف، لدى المندائيين عيد حزين أيضا. ففي اليوم ذاته الذي يحيي فيه المسلمون الشيعة ذكرى عاشوراء - يوم الحداد على وفاة الحسين، حفيد النبي، وإخفاقهم في مساعدته - يندب المندائيون أيضا، ويحضرون وجبة خاصة من حساء الشعير المقشور، يطلق عليها اسم «أبو الحارث». بل إنهم ينضمون أحيانا إلى مواكب الشيعة. لديهم تفسيرات مختلفة لما يحيون ذكراه بالضبط في ذلك اليوم - كان كل ما تعرفه نادية «أنه إحياء لذكرى وقت مفعم بالتوتر» - لكن بعض المندائيين يعتقدون أنه إحياء لذكرى غرق جنود فرعون في البحر الأحمر. وبينما يعتبر اليهود هذه الحادثة سببا للاحتفال، فإن المندائيين - لسبب لا يعرفونه هم أنفسهم - أصبحوا يتعاطفون مع المصريين. (كانت أيام حداد كتلك شائعة سابقا في جميع أنحاء الشرق الأوسط. فقد اعتاد البابليون على تعنيف أنفسهم مرة كل عام بسبب تخليهم عن جسد نبي وثني، وهي فعلة اعتقدوا أنها تسببت في الطوفان العظيم.)
حضرت نادية وعائلتها أيضا مع بقية الطائفة لتقديم الدعم المعنوي للرجال المندائيين الذين كانوا يحاولون دخول الكهنوت. كانت مراسم الانضمام عملية شاقة. فمن يطمح لهذا الأمر يتعين عليه أن يقضي سبعة أيام في كوخ من القصب دون طعام أو نوم. حينها يحتاج إلى دعم أفراد الطائفة: حيث يقف بعضهم خارج الكوخ يقرعون الطبول ويهتفون للتأكد من بقائه مستيقظا، وتزغرد النساء. ويبقى «الجنزيبرا»، وهو ما يعادل أسقفا مندائيا، مع الشخص المتطلع للانضمام إلى الكهنوت وينقش إحدى وعشرين كلمة مؤثرة بعصاه المصنوعة من خشب شجر الزيتون على أرض الكوخ الترابية: فهي سرية للغاية بحيث لا يمكن الجهر بها، وعندما يتعلمها يكنس الجنزيبرا الغبار لضمان عدم تمكن أي شخص آخر من قراءتها. ولإكمال التلقين يجب على الشخص المتطلع لذلك أن يأكل وجبة شعائرية، متبعا مجموعة معقدة ودقيقة من التعليمات. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، يجب أن يطلق لحيته وأن يلتزم بقواعد الطهارة الصارمة.
لكن يوجد مستوى أعلى من القداسة والمعرفة، متاح فقط لأولئك الذين عينوا في رتبة الجنزيبرا، مثل الشيخ ستار. وهذا منصب لا يستطيع أي رجل حي منحه في التقاليد المندائية. ويجب إرسال رسول إلى الحياة الآخرة لطلب الإذن بذلك. حيث يبحث من يرغب في تولي منصب الجنزيبرا عن شخص على وشك الموت ويخبئ زجاجة من الزيت المقدس في جيب الثوب المزين بالذهب والفضة الذي يجب على المندائيين المحتضرين ارتداؤه. ويجب أن يقول الكاهن: «أحضرتها إليك، وأنت ستحملها إلى أباثر.» ويكتمل الطقس بعد وفاة الرسول ووصول روحه إلى أباثر، ديان الأموات، الذي يتلقى منه تأكيدا لطلب المتطلع إلى منصب الجنزيبرا.
يمكن للرجال فقط الانضمام للكهنوت المندائي، ويمكن للرجال فقط الزواج من غير المندائيات مع الاستمرار في نقل الدين إلى أطفالهم. وتحرم المرأة التي تتزوج من الخارج من التعميد، ولا يمكنها أن تعمد أطفالها. ارتأت نادية أن عدم المساواة هذه بين الجنسين لم تكن الروح الأصلية للمندائيين. وللتأكد من ذلك، رجعت إلى الكتب المندائية المقدسة؛ فبدلا من أن تكون حواء مخلوقة من ضلع آدم، كما ذكر في سفر التكوين، تقول النسخة المندائية إنهما خلقا معا. وقالت لي: «أنا متأكدة أنه في وقت ما، كان يمكن للنساء المندائيات أن يصبحن كاهنات، وليس الرجال فحسب.» كانت على حق؛ ففي كتاب يوحنا، غيرت امرأة يهودية دينها إلى المندائية وأصبحت كاهنة. (وبالمثل، في بابل القديمة، كان بإمكان النساء أن يعملن كاهنات. وبالإضافة إلى ذلك، بلغت النساء أحيانا مناصب سلطة علمانية في الشرق الأوسط القديم. فقد كان للبحرية الفارسية القديمة أميرال أنثى - تدعى أرتميسيا ، في القرن الخامس قبل الميلاد - وفي القرن الثالث الميلادي، كان لمدينة تدمر ملكة قوية، اسمها زنوبيا.) •••
إن أهم طقس مندائي على الإطلاق هو التعميد. وتقول إحدى وجهات النظر عند المندائيين إنهم انتهجوا هذه الممارسة من أتباع يوحنا المعمدان اليهود الفارين شرقا من الاضطهاد الروماني؛ وثمة رأي آخر يقول إنه ربما كان التغطيس في مياه نهر دجلة ممارسة قديمة في العراق ذاته، كما كان في مصر. ومن المؤكد أن التقاليد المصاحبة للطقس هي تقاليد مندائية بصورة مميزة. وكما كان يفعل الكهنة لأطفال العراق في عصور ما قبل المسيحية، عندما ولدت نادية قرأ قس النجوم واستخدمها لاستنباط برج لها. وعندما بلغت السابعة عشرة من عمرها، استخدم كاهن آخر في بغداد ذلك البرج ليختار اسما سريا لها، ألا وهو «ملواشة». وبينما كانت جالسة القرفصاء في مياه نهر دجلة، مرتدية حزاما حول خصرها، وخاتما من أوراق الآس في إصبعها، وثوبا أبيض يغلف رأسها وجسمها، غمرها في الماء ثلاث مرات، ورسم علامة على جبهتها بالماء ثلاث مرات، وجعلها تبتلع ماء النهر ثلاث مرات، وتوجها بنبتة الآس، وصلى عليها، وسماها. قالت لي: «سيكون هذا اسمي في الدين، طوال حياتي وما بعد ذلك.»
نادية (أقصى اليمين) تستعد لتعميدها في بغداد عام 1991. إنها ترتدي الحجاب بسبب قداسة المناسبة، وتحمل غصنا من نبتة الآس. خلف المجموعة، صورة تظهر تعميدا قيد التنفيذ. الصورة مهداة من نادية قطان.
كانت أربعة جوانب من هذا الطقس مألوفة لأي بابلي في الألفية الأولى قبل الميلاد. الأول هو اللغة التي يؤدى بها. وقد تعرفت على هذه اللغة عندما ذهبت لفحص الكتب المندائية المقدسة المحفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس. وبسبب حالة الكتب المهترئة، استغرق الأمر بعض الإقناع قبل أن يسمح لي الموظفون بالاطلاع على أحدها. وبينما كنت أقلب في صفحاته، فكرت في أن الكاتب المندائي الذي نسخها بعناية كبيرة في القرن السابع عشر، تاركا مسافة بين أسطره وكاتبا كل حرف بمهارة، كان سيصاب بالفزع عندما يراني أقرؤها. فلم يكن مسموحا سوى للمندائيين المنضمين للكهنوت أن يطلعوا على هذه النصوص.
ربما كان الكاتب يشعر بمزيد من الفزع عند رؤية الغلاف الجلدي للمجلد، المختوم بشعار زهرة زنبق، والذي كان أمين المكتبة الملكية الفرنسية قد وضعه على الكتاب عندما دخل مجموعة الملك لويس السادس عشر. فالكهنة المندائيون لم يستخدموا أبدا المنتجات الحيوانية مثل الجلد لتجليد كتبهم - وهو أثر، كما يقول بعض العلماء، من زمن كان يحظر فيه دينهم اللحوم تماما. كانوا يستخدمون قماش الشيت مادة للتجليد، أو ينقشون الصفحات على الخشب أو حتى يحفرونها بمادة حمضية على الرصاص. كانت الكلمات ذات الزوايا الحادة التي انحدرت من اليمين إلى اليسار عبر الصفحة مكتوبة بخط غريب بالحبر الأسود على الورق الليفي السميك: لعيني غير المدربة، كانت مشابهة للغة العربية ولكن مع بعض الأحرف الإضافية وعدد أقل من النقاط التي تميز الأبجدية العربية. كانت هذه تحديدا لهجة مندائية من اللغة الآرامية، لغة العراق قبل العربية.
افترض الكتاب المسلمون الأوائل، علما منهم بأن الآرامية قد سبقت لغتهم، وهي العربية، أن الآرامية كانت قديمة قدم العالم ذاته وأن آدم تحدث بها بعد هبوطه من الجنة. في الواقع، عندما ظهرت بابل لأول مرة قبل أربعة آلاف عام، كانت لغتها الرسمية هي السومرية، التي حلت محلها تدريجيا لغة تسمى الأكادية؛ ويمكننا أن نخمن أنه لبعض الوقت كانت الأكادية تعتبر شيئا مثل العامية؛ لأن قصيدة هزلية عمرها أربعة آلاف عام تتذمر مما حدث عندما عثر على الشاعر، عندما كان صبيا، يتحدث الأكادية في المدرسة (بالإضافة إلى كسره لكل القواعد الأخرى): «قال مراقب الباب: «لماذا خرجت دون إذني؟» وضربني. وقال مراقب الإبريق: «لماذا أخذت ماء دون إذني؟» وضربني. وقال المراقب السومري: «لقد تحدثت بالأكادية!» وضربني.» لم تصبح الآرامية اللغة اليومية للمدينة إلا في القرون الأخيرة من وجود بابل. ويتحدث أيضا المندائيون في إيران شكلا من أشكال اللغة الآرامية، ولا تزال لغة وثيقة الصلة بها، تكتب بخط مختلف ولكن مشابه، تستخدم بين المسيحيين في شمال العراق. •••
منحت نادية اسمها الديني بعد دراسة كاهنها المتأنية للنجوم ؛ وهذا هو الإرث المندائي الثاني من البابليين، الذين كانوا علماء فلك متفانين. كان البابليون أول من قسم السماء إلى اثني عشر برجا، واختاروا الرقم اثني عشر ليتناسب مع عدد دورات القمر كل عام. ورأى مراقبو السماء المجتهدون في وقت مبكر - بالتأكيد بحلول عام 1500 قبل الميلاد - أن بعض النجوم تتصرف على نحو مختلف عن النجوم الأخرى. فقد كانت أكثر إشراقا وتتحرك عبر السماء بطريقة مختلفة. وأطلق المراقبون على هذه النجوم اسم «لو-بات»، ويعني «الأغنام المتجولة». وترجم المصطلح إلى اليونانية ليصبح
aster planetes ، الذي يعني «النجم المتجول»، والذي بدوره أعطانا الكلمة الإنجليزية
planet (أي كوكب).
اكتشف علماء الفلك البابليون خمسة كواكب؛ عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل (وليس أورانوس ونبتون، اللذين كانا غير مرئيين للعين المجردة). ووضعوا الشمس والقمر في هذه المجموعة أيضا - ليصبحوا سبعة - وأطلقوا على كل واحد اسم إله، مثل مردوخ، وعشتار، ونبو. ثم اخترعوا الأسبوع وجعلوه مدة تتكون من سبعة أيام، يوم لكل إله كوكب. (وببراعة، شكلت الأيام السبعة ربع دورة قمرية أيضا.) لقد ورثنا عن البابليين عادة تسمية الكواكب وأيام الأسبوع باسم الآلهة: عطارد، فينوس، بلوتو؛
Saturday
السبت من
Saturn
زحل، و
Thursday
الخميس من
Thor
ثور، و
Sunday
الأحد و
Monday
الإثنين من
sun
الشمس و
moon
القمر. وعند البابليين، كان يوم واحد من الأيام السبعة يعتبر يوما شريرا، يجب تجنب مزاولة أي نشاط فيه؛ وقد يكون هذا أصل يوم السبت
Sabbath
الذي انتهجته اليهودية.
ولأن الكواكب كانت آلهة، كان سلوكها علامة على نوايا الآلهة. وكانت النجوم أيضا كائنات إلهية. وكان المنجمون المهرة الذين يطلق عليهم اسم «أومانو»، مثلهم مثل الكهنة المندائيين، ينصحون الملك بشأن النذر التي كانوا يرونها في السماء ليلا وكيفية تجنب أي مرض تنذر به. وكانوا يصلون للنجوم («أيتها النجوم العظيمة، آلهة الليل ... أيتها الثريا، والجوزاء والتنين») قبل التمعن فيها. في النهاية، تنبأ البابليون بشأن حياة الناس بناء على موضع الآلهة عند ولادتهم. على سبيل المثال، نجا لوح من الطين يخبرنا عن ولادة صبي يدعى أرستقراطس سنة 235 قبل الميلاد: «في ذلك اليوم: القمر في برج الأسد ، والشمس في برج الجوزاء على خط طول 12 درجة و30 دقيقة، وكوكب المشتري (جوبيتر) في برج القوس على خط طول 18 درجة. ويعني مكان كوكب المشتري أن حياته ستكون منتظمة، وسيصبح ثريا، وسيكبر في السن، وستكون أيامه عديدة.» لقد استمر هذا التقليد آلاف السنين: وفي الصفحات الخلفية للصحف الأوروبية والأمريكية اليوم توجد تنبؤات ربما كان سيتعرف عليها المنجمون البابليون القدامى.
بيت القصيد، أن الكهنة المندائيين والجنزيبرا لديهم عادة مماثلة متمثلة في إجراء الحسابات الفلكية من أجل تحديد الساعات المناسبة للأنشطة المختلفة. فعندما يتزوج شخصان مندائيان، قد لا يمارسان الجماع حتى الوقت المناسب، الذي يحدده مسبقا الجنزيبرا من خلال مراقبة النجوم. وبعد ذلك يعتبران غير نظيفين؛ وكما يقول المؤرخ اليوناني من القرن الخامس هيرودوت، إن الأزواج البابليين اعتادوا أن «يغتسلوا عند بزوغ الفجر. ولن يلمسوا أي أدوات منزلية قبل أن يغتسلوا.» (عند المندائيين، يمثل الاغتسال طقوس التعميد. وعند البابليين، أيضا، من المحتمل أنه كان يعني الاغتسال في النهر.)
لا يزال للرقمين سبعة واثني عشر أهمية خاصة في الثقافة الغربية: فهناك السماء السابعة، ورقم الحظ سبعة، والحواريون الاثنا عشر، وفرسان المائدة المستديرة الاثنا عشر، وآلهة جبل أوليمبوس اليونان الاثنا عشر. ولكن عند المندائيين، كان لكل من «السبعة» و«الاثني عشر» معناهما البابلي الأصلي، حيث يشيران تحديدا إلى النجوم والكواكب على أنها كائنات خارقة للطبيعة وشبه إلهية. ففي كتاب يوحنا المندائي تظهر العبارة التالية: «أرسل إليه السبعة تحياتهم، وانحنى أمامه الاثنا عشر.» فهم لا يزالون يؤمنون، كما كتبت الباحثة في المندائية إي إس دراور، أن «الكواكب هي مخلوقات الله، وفي كل منها روح.» في ثلاثينيات القرن الماضي، عرفت دراور شخصا مندائيا يدعى هرمز بار أنهار، قال لها: «أنا أعبد كل «الملكي»» أي الكائنات السماوية «لكن عبادتي الخاصة هي للشمس.» ويبدو أن هرمز اعتبر الشمس نوعا من الملائكة؛ فكلمة «عبادة» تشير إلى أنها نوع من الآلهة، لكن المندائيين لا يعتبرون أنفسهم وثنيين ويرفضون بشدة أي إشارة إلى أنهم «عبدة نجوم». وعلى عكس البابليين، لا يملك المندائيون معابد للشمس والقمر . ومع ذلك، فقد حافظوا بوضوح على العديد من العادات والمعتقدات البابلية فيما يتعلق بالنجوم والكواكب. •••
في معمودية نادية، بينما كانت تقف في مياه نهر دجلة، كان من المفترض أن يبقى الاسم الذي قاله الكاهن لها سرا، وهذا هو الجانب الثالث من الطقس الذي يربط طائفتها ببابل القديمة. فقد كانت السرية مبدأ إرشاديا للمندائيين وللثقافات التي أتوا منها. وعندما كان ابن وحشية يؤلف كتاب «الفلاحة النبطية» في القرن التاسع الميلادي، مسجلا المعرفة الزراعية لسكان ما قبل الإسلام، واجه العديد من العقبات في بحثه؛ لأن الأنباط كان لديهم مجموعة قواعد صارمة خاصة بالسرية. وسئل: «هل تريد معارضة طريقة شيوخنا وأجدادنا، ووعظهم لنا أن نخفي ديننا وعاداتنا؟» لذلك توصل إلى حل وسط: كان يخبر القراء عن بعض «علم» الأنباط ولكن لا يخبرهم شيئا عن دينهم. وللتأكيد التام على أنه لم يفش أسرارا، يخبرنا الكاتب أنه خلط بين الأكاذيب والحقائق لإرباك القارئ العادي. ويعطي مثالا على الشفرة التي صنعها: يبدو أن عبارة «سيختفي الباذنجان مدة ثلاثة آلاف عام» تعني أنه كانت توجد ثلاثة أشهر من السنة لا ينبغي فيها أكل الباذنجان.
كانت إي إس دراور صديقة حميمة للمجتمع المندائي («أخت عزيزة في الإيمان»، كما دعاها أحد الكهنة المندائيين). ومع ذلك، لم تتمكن من رؤية نصوصهم المقدسة إلا بعد تسع سنوات من السؤال. وعندما وجد رؤساء الكهنة في المجتمع أنها نجحت في فك شفرة بعض كتبهم المقدسة، انتابهم، وفقا لروايتها، «استياء وغضب. وقالوا إن هذه اللفائف تحتوي على «أسرار»، معرفة لا تنقل إلا إلى الكهنة فقط عند التنصيب وليس للناس العاديين أو الغرباء على الإطلاق.» وأثناء قراءتها للمخطوطات، وجدت أن صفحاتها الاستهلالية كان منقوشا عليها لعنات على كل من كشفها لغير المنتمين إليهم.
يمكن الاطلاع على الكتب التي قرأتها دراور اليوم في قبو تحت الأرض تابع لمكتبة بودلي في أكسفورد. وفي تلك الكتب، وفي نسخ دراور المنشورة للأساطير الشفوية التي رواها لها المندائيون في ثلاثينيات القرن الماضي، اكتشفت المزيد عن أساطيرهم الأساسية وشخصياتها المدهشة. ففيها كرون، جبل اللحم، الذي يبدو قليلا مثل «جابا ذا هات»، شخصية سلسلة أفلام حرب النجوم؛ فكما كتبت دراور، «العالم المنظور كله مستقر على ملك الظلام هذا، وشكله يشبه شكل قملة ضخمة.» وفيها إبراهيم، الذي يظهر بوصفه مندائيا فاشلا تدفعه روح شريرة للمغادرة وإنشاء مجتمعه الخاص. وفيها التنين أور، المكونة بطنه من النيران، ويجلس فوق محيط من الزيت القابل للاشتعال. وتحتوي على بتاحيل «الذي يأخذ الأرواح لتوزن ويرسل أشباحه لجلب الأرواح من أجسادها.» كانت الشخصية المفضلة لدي هو الشيطان دنانوخت، وهو نصف رجل ونصف كتاب و«يجلس بجانب المياه بين العالمين، يقرأ.»
قالت نادية إن سبب السرية كان مرتبطا بالإيمان بالسحر. «فبعض الناس يظنون أنهم إن أفصحوا عن اسمهم، يمكن استخدامه في السحر الأسود. لكنني أثق بك.» وأردفت، ضاحكة: «ليس بإمكانك الوصول إلى كتب السحر الأسود.» والسحر هو حلقة الصلة الرابعة والأخيرة بين المندائيين المعاصرين والبابليين القدماء. وتضمن كتاب «الفلاحة النبطية» عددا ضخما من التعاويذ السحرية في قائمة التقنيات الزراعية. (تتضمن بعض الأمثلة ما يلي: تجنب البرد عن طريق وضع سلحفاة على ظهرها في منتصف حقل، أو جعل ثلاث نساء حائضات يكشفن فروجهن عند اقتراب أي عواصف برد لجعلها تمضي في الاتجاه الآخر، باستخدام قوة دم الحيض الطاردة للشرور.)
في القرن السابع، قال الكاتب المسيحي يوحنا ابن الفنكي (الذي كان يعيش بالقرب من المنطقة التي هي حاليا الحدود التركية العراقية) إن السحر كان أكثر شيوعا في بلدته مما كان عليه في بابل القديمة. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، كانت إي إس دراور مفتونة ببقاء السحر في المجتمع العراقي. فقد كان السحرة - من مختلف الأديان - يتنبئون بمستقبل الناس ويكتبون أيضا تعاويذ الحب. وكتبت عن تعويذة حديثة كان بإمكانها الحصول عليها بسهولة من كتاب «الفلاحة النبطية»: «لمعالجة دمل بغداد ... خذ عصفورا، واقتله، وضع جسده بحيث يلمس الدم الدافئ الجديد القرح. ثم علق العصفور. وبينما يجف جسده، كذلك سيجف الدمل ويختفي.»
كتبت دراور أن اليهود والمندائيين كانوا مشهورين بوجه خاص بالتعاويذ. وفي الغالب كانوا يوزعون التمائم وتعاويذ الحظ السعيد، لكنهم كانوا يستخدمون أحيانا فنونا سحرية أكثر ظلامية. تتضمن مجموعة دراور في مكتبة بودلي كتابا عن «السحر الأسود»؛ أجازت دراور استخدام هذا المصطلح لأنه، على حد قولها، حتى في اللغة المندائية وصف هذا الكتاب بأنه «شرير»، حيث احتوى على تعاويذ لتدمير الزيجات، والإصابة بالمرض، وإلقاء اللعنات. تصفحت الكتاب ورأيت رسوما توضيحية لجسم الإنسان، ومخططات رقمية، ورموزا غريبة، وحروفا غير مقروءة تتكرر مرارا وتكرارا، وكلها ملطخة بالحبر (ربما يشير ذلك إلى افتقار الكاتب للمهارة؛ أو ربما بللت الصفحات كجزء من الطقس المعمول به، ففي بعض الطقوس السحرية في الشرق الأوسط، يشرب الماء الذي لامس حبر كتاب مقدس بوصفه نوعا من الطقوس). ويصف الكتاب تمائم مصنوعة من أجنحة خفافيش مكتوب عليها بدم هدهد ودم ذئب مسعور؛ وللشخص الذي مسه شيطان في يوم أحد (يوم المندائيين المقدس)، يجب عمل مرهم من لعاب حصان، ودم قرد وحمامة، وعصير نعناع ورجلة، وزيت زيتون وسمسم، ثم يدس في أنف الضحية.
من الواضح أن بعض هذه التعاويذ متوارث عبر الأجيال منذ العصر البابلي. واكتشفت دراور لفافة سحرية مندائية معروضة للبيع يمكن دفنها بجوار قبر في زمن الطاعون لتجنب انتشار المرض؛ بدأت بعبارة «باسم ليبات، سيدة الآلهة والرجال»، وهو تضرع لإلهة الحب البابلية ليبات (المعروفة أيضا باسم عشتار). حكى المندائيون الذين كانوا معاصرين لدراور أن الناس كانوا يستشيرون ليبات بشأن العرافين ويناشدونها لإلقاء تعاويذ الحب. وعثرت أيضا على تميمة مندائية حديثة مصممة للتفريق بين المتحابين، وكان نصها كما يلي: «فلينفصل بيل عن بابل، ونبو عن بورسيبا.» كان نبو هو الإله الذي سمي الملك نبوخذ نصر تيمنا به، وكانت بورسيبا خرابا أكثر من ألفي عام.
والتميمة الأكثر شيوعا بين المندائيين اليوم هي «السكندولة»، التي كانت نادية تعلقها على جدار مطبخها. أخبرتني أنها توضع تحت وسادة أو فراش الأطفال الصغار، وتوضع أيضا في سلة ملابس العروس في يوم زفافها. (تستخدم علاجات لعين الحسود، في التقاليد الأوروبية، في السياقات ذاتها؛ حيث تخبر قصيدة إنجليزية تقليدية عروسا أن ترتدي «شيئا مستعارا» و«شيئا أزرق اللون» في يوم زفافها.) وتتكون السكندولة من قرص دائري مصور عليه أربعة حيوانات: أسد، وثعبان، وعقرب، ودبور. وتمثل هذه الحيوانات قوى الظلام وتستخدم لتخويف الأرواح الشريرة. في مدينة أوروك جنوب العراق اكتشف علماء الآثار الألمان تميمة على شكل عقرب يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. زينت بوابة عشتار بمدينة بابل بفسيفساء تصور مخلوقا شبيها بالثعبان بقائمتين أماميتين كقوائم القطط؛ ربما لأن بإمكانه أن يستحضر القوى الشريرة لكل من الأسد والثعبان.
كانت خالة نادية تكسب رزقها في بغداد من إلقاء التعاويذ، كما أخبرتني نادية. وكانت جدران منزل هذه الخالة رقيقة، وعندما كانت نادية تلعب وهي صغيرة هناك مع أبناء خالتها، كان بإمكانهم جميعا سماع الاستشارة في الغرفة المجاورة بين الخالة وزبائنها المختلفين. وكان الناس يأتون إليها في أشد الحاجة إلى شيء قد يحسن حياتهم؛ غالبا ما كانوا يريدون أن تتزوج بناتهم رجالا أثرياء، وكانوا يأملون في أن تساعدهم تميمة. وفي مرة طلبت الخالة مساعدة نادية. وطلبت من الفتاة أن تكتب بسرعة على ورق كل ما يدور في رأسها، ثم أخذت قطع الورق وأعطتها للعملاء بوصفها تعاويذ سحرية. كانت خالة نادية تؤمن بتأثير هذه الأشياء؛ لأنه في كثير من الأحيان يجد الزبائن بالفعل تحسنا في حياتهم بعد ذلك.
كانت خالة نادية شخصية لطيفة ومحبوبة، مما يساعد في تفسير السبب في أن الناس كانوا يفصحون لها عن مكنونات صدورهم. ونتيجة لذلك، كان لديها نظرة ثاقبة في كل طبقة من المجتمع العراقي؛ بما يكفي لجذب انتباه الشرطة السرية. قالت خالة نادية: «لقد اختبروني. أرسلوا فتيات متخفيات جلسن معي وتحققن مما كنت أفعله بالضبط. قالوا لي إنني كنت بريئة لأنني فعلت كل شيء علانية.» ربما كانوا يحاولون تحديد ما إذا كان أي شيء تخريبي يحدث؛ لأن العراف يمكن أن يكون في وضع يسمح له بتجنيد المتآمرين. أو ربما كانوا يبحثون عن أدلة على استخدام السحر الأسود (أي اللعنات؛ فقد اعتبرت التمائم وقراءة الطالع سحرا أبيض غير ضار )، الذي ربما كان من شأن فاعله أن يتعرض للعقاب.
كانت خالة نادية لا تزال تلقي التعاويذ في تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت نادية تدرس اللغات في جامعة بغداد وتعمل بدوام جزئي في مطبعة حتى تتمكن من دفع رسوم جامعتها. كانت تلك أوقاتا صعبة؛ فبعد غزو العراق للكويت عام 1990، دمرت العقوبات المفروضة من الأمم المتحدة اقتصاده. وانخفض دخل الفرد بنسبة خمسة وثمانين بالمائة. وأصبحت الشوكولاتة نادرة جدا لدرجة أن صديقة لنادية احتفلت بتخرجها من الجامعة بإعطاء قطعة صغيرة من الشوكولاتة لكل واحدة من صديقاتها؛ وأخذت نادية قطعتها إلى المنزل وقسمتها مع أختها. تعين على المدرسين في الجامعة قضاء نصف يومهم في العمل سائقي سيارات أجرة، حتى إن أحدهم كان يأخذ تلاميذه بالسيارة إلى الفصل؛ فقد كان بحاجة إلى الأجرة ليضيفها إلى راتبه الضئيل. وكان الأطفال يرسلون للبحث عن عمل بدلا من الذهاب إلى المدرسة. حدث هذا، في بلد كان لديه في يوم من الأيام 35 مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي، وكانت طبقته المتوسطة في عام 1990 تشكل أكثر من نصف عدد السكان، وخفض نسبة الأمية بين من هم دون سن الخامسة والأربعين إلى أقل من عشرة بالمائة.
وفي يوم، خرجت خالة نادية من إحدى استشاراتها في إلقاء التعاويذ يعلو وجهها تعبير مضطرب. سألتها نادية وأبناء خالتها عن الخطب. قالت: «أوه، إنها تلك العميلة التي غادرت للتو. أرادت تميمة لابنتها. تبلغ من العمر خمسة عشر عاما فقط، لكن الأم تريد تميمة لمساعدة ابنتها في العثور على رجل ثري لتتزوجه. الجد مريض والأعمام عاطلون عن العمل. وعندما أخذت المرأة التميمة، أخبرتني أنها كانت تزين ابنتها بمساحيق التجميل وترسلها للطرق على باب الله. لذلك كنت أتساءل عما يمكن أن يعنيه ذلك.» كانت عبارة «الطرق على باب الله» عبارة قد يستخدمها العامل للإشارة إلى الوقوف في طابور مع العمال الآخرين الذين ينتظرون أن يستأجرهم أحد. «وأدركت أنه لا بد أنها ترسل ابنتها للعمل في الدعارة.»
لم يكن الفقراء واليائسون هم فقط من كانوا يريدون التعاويذ. فكذلك فعل صدام حسين، كما قالت نادية. وبدأ حزب البعث بزعامة صدام حكمه بقمع وحشي للمعارضين السياسيين، ومن بينهم المندائي الأشهر في العراق، عبد الجبار عبد الله. ولد عبد الله في قرية في جنوب العراق عام 1911، وتمكن من السفر إلى أمريكا والدراسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ كما عمل تحت إشراف ألبرت أينشتاين، الذي أعجب كثيرا بموهبة تلميذه حتى إنه أهداه قلمه الباركر. كان عبد الله عالم أرصاد جوية (وهو فرع من العلوم يناسب بوجه خاص المندائيين، الذين ورثوا افتتان البابليين بالنجوم). عندما أطاح القومي اليساري عبد الكريم قاسم بالنظام الملكي العراقي وتولى السلطة عام 1958، أصبح عبد الله أول رئيس لجامعة بغداد. غير أنه كان شيوعيا؛ وهو أمر شائع في ذلك الوقت بين الأقليات في العراق، الذين اعتبروا الأيديولوجية العلمانية للشيوعية بمنزلة وقاية من التعصب الديني. لذلك عندما استولى حزب البعث المناهض للشيوعية على السلطة عام 1963، أرسل رجالا لاعتقال عبد الله؛ واقتحموا مكتبه في الجامعة، وأعلنوا إقالته، واعتقلوه. ولكن فقط عندما استولوا على قلم أينشتاين وكسروه أمام عبد الله، انفجر في البكاء. أطلق سراح عبد الله لاحقا، وفر إلى الولايات المتحدة، حيث توفي.
كتاب مدرسي عبري وآلات كاتبة متربة هي كل ما تبقى تقريبا في عام 2003 من يهود بغداد، الذين كانوا يشكلون سابقا ما يصل إلى ثلث سكان المدينة. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
ومع ذلك، لم يكن صدام عدوا لجميع المندائيين؛ فقد استخدم أحدهم شاعرا، وكذلك - بعدما رأى المؤامرات تحاك في كل مكان وخوفا من أعداء خارقين وكذلك بشريين - لجأ أيضا إلى رئيس كهنة المندائيين في ذلك الوقت؛ من أجل أن يصنع له تعاويذ للحماية. ربما بسبب تعاويذ هذا الرجل - وشائعات لعنات المندائيين القوية - اعتنى صدام بالمندائيين. حتى إنه امتدحهم بعض الوقت ووصفهم بأنهم رموز للهوية العراقية. ومثل القصور التي شيدها على أنقاض بابل، ساعد المندائيون في تعزيز فكرة أن العراق دولة قومية ذات تاريخ مشرف، وليس مقاطعة مقتطعة من الإمبراطورية العثمانية. فلم يمثلوا تهديدا سياسيا خطيرا، ولم يكونوا أغنياء بما يكفي لاستهدافهم من أجل أموالهم. ومثل اليهود والمسيحيين، اعتبروا «أهل كتاب»؛ فقد اعتبر أن المندائيين هم «الصابئة» المذكورون في القرآن الذين يستحقون تسامحا خاصا (على عكس الوثنيين المشركين، الذين كان يجب محاربتهم وقتلهم). حتى إن المندائيين اهتموا بنشر أحد كتبهم المقدسة في عام 2001 مترجما بالعربية الفصحى، وهي صيغة مصممة لجعلها مقبولة لدى القراء المسلمين. فقد عرف المندائيون أنهم بحاجة إلى أصدقاء في مناصب عليا. كان تاريخهم يعج بالمواجهات المروعة مع حكام ظالمين. وعلى الرغم من أن أيديولوجيات القرن العشرين مثل الشيوعية والقومية العربية كانت تبشر بالمساواة، فإن مصير يهود العراق أظهر أن الحكومات، التي كانت الآن أكثر قوة من أي وقت مضى، يمكن أن تعاقب الأقليات بشكل لم يسبق له مثيل. •••
في أربعينيات القرن الماضي، كان لا يزال أكثر من مائة ألف يهودي يعيشون في العراق. وفي عام 2003، عندما زرت بغداد للمرة الأولى، رأيت أنه لم يتبق منهم سوى القليل. في طريق هادئ في حي قديم ببغداد، كان يوجد منزل مترب خال؛ عندما طرقت على الباب، ارتعشت ستارة في الجهة المقابلة. كان هذا مركز الجالية اليهودية في بغداد. من مظهره كان يبدو أنه هجر في عجلة نوعا ما. في غرفة بالطابق العلوي وجدت كتبا مدرسية باللغة العبرية مكومة على الأرض. بجانبها دفتر حسابات، محشور بين الآلات الكاتبة القديمة. كان آخر مدخل بتاريخ الحادي والعشرين من ديسمبر، 1969. ماذا حدث للجالية اليهودية القديمة في العراق، لدرجة أنه بحلول عام 2003 لم يتبق منهم سوى كومة من الكتب المدرسية المتربة؟ طرحت هذا السؤال على موشى وإيفون خضوري في شقة مريحة في لندن. في أربعينيات القرن الماضي، عندما كان نظام الحكم في العراق لا يزال ملكيا، كان موشى وإيفون يعيشان في بغداد. وكما يتذكرانها، كانت مدينة رفيقة باليهود. قالت إيفون: «في يوم السبت، كانت البنوك في بغداد تغلق أبوابها لممارسة الطقوس الخاصة بهذا اليوم؛ لأن جميع البنوك باستثناء بنك واحد كانت مملوكة لليهود. وكانت تجارة المنسوجات كلها يهودية. كنا ثلث سكان بغداد.» عاصر كلاهما الأحداث المروعة في يونيو 1941 عندما أطيح بالنظام الملكي مدة وجيزة، ولمدة ثلاثة أيام، تعرض يهود المدينة للهجوم من الغوغاء الذين أثارتهم الدعاية المعادية للسامية التي تبناها النازيون. سميت هذه الأحداث باسم «الفرهود».
قال موشى: «المسلمون ليسوا أناسا سيئين. فقد جاء النازيون إلى بغداد. وأثارت إسرائيل مشاكل كثيرة بين اليهود والمسلمين. لولا السياسة ...»
قاطعته إيفون قائلة: «كان الدين هو المشكلة. ولم يكن يوجد سوى عدد قليل من الأشخاص اللطفاء.»
رغم ذلك، اتفق كلاهما على أن أكثر من سبعمائة يهودي قتلوا أثناء أحداث «الفرهود». وعلى الرغم من عودة الأمور إلى طبيعتها بعد ذلك، بدخول القوات البريطانية المدينة لاستعادة النظام الملكي بالقوة، تدهور الوضع بعد تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948 والانهيار النهائي للنظام الملكي سنة 1958. في السنوات التالية، أدين العديد من اليهود، وشنق بعضهم؛ تسعة منهم في يناير 1969، قبل بضعة أشهر من هجر مبنى مركز الجالية. وفصل العديد منهم من وظائفهم الحكومية، وشهدوا مصادرة ممتلكاتهم. بقي موشى حتى الستينيات وإيفون حتى أوائل السبعينيات. وكان يفتقد العراق أكثر مما كانت إيفون تفتقده. قال: «تريد ابنتي البحث عن الجذور. لم تعد توجد جذور. هدمت المقابر وسويت بالأرض. كل تراثي موجود هناك، لكن مجتمعاتنا ضاعت. أريد أن أشعر بالوطنية. ليس في إسرائيل. وليس في إنجلترا. فأنا عراقي. أشعر أنني تعرضت للسلب.»
حتى عام 2003، أفلت المندائيون من مصير اليهود. لكن في السنوات العشر التالية، تغيرت حظوظهم، وسمعت نادية من عراقي يهودي منفي رأيا كئيبا يقارن بين مصير الطائفتين وفقا لتسلسل يومي عطلتيهما المقدستين المختلفين: «كان يومنا السبت، وأنتم الأحد. الآن سيلحق بكم ما حل بنا.» •••
كانت بغداد في أوائل عام 2003 مكانا يغلي بالريبة والخوف. وبين وقت وآخر، كان المتظاهرون (الذين كانت تدفع لهم الحكومة، كما كان الجميع يعرف) يسيرون في الشوارع، وهم يهتفون بدعمهم لصدام. وفي مرة ظن حشد من الرجال المتحمسين أنهم رأوا جنديا أمريكيا يختبئ في البوص الكثيف الذي يصطف على ضفة نهر دجلة، الذي يجري عبر المدينة، وسحقوا البوص بعصي ثقيلة أثناء محاولتهم مطاردة الدخيل. لم تكن نادية مهتمة بشن حملات مؤيدة أو معارضة لصدام. أرادت فقط الحفاظ على سلامة شقيقها. فقد كان قد تلقى لتوه أوراق استدعاء من الجيش العراقي؛ وكان سينضم إلى القوة التي ستقاوم الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. وكانت تخشى أنه إن امتثل للتجنيد، فقد يقتل. وإن لم يفعل، فإنه يخاطر بعقوبة وحشية: وهي قطع إحدى أذنيه. وهكذا، في منزل عائلتهما الصغير في جنوب بغداد، تجادل الاثنان حول ما إذا كان ينبغي عليه الانضمام للجيش. كانت ترى ألا يفعل. كانت الشقيقة الكبرى ولم تكن مهتمة بالامتثال للأفكار التقليدية للوداعة الأنثوية. كانت تعلم أنه إن أرادت إقناعه، فعليها أن تكون مخيفة أكثر من صدام. قالت: «إذا تجاهلت تلك الأوراق، فسأدفع أي رشوة تحتاج إليها. وإذا أطعت الاستدعاء، فسأكسر ذراعك.» فتراجع عن قراره.
أخبرتني نادية أنها لم تتعرض أبدا للتمييز من المسلمين العراقيين. ففي المدرسة التقت بتلميذ رفض أكل طعامها ووصفها بكلمة «نجس»، وهي كلمة إسلامية تعني «غير طاهر». لكن بخلاف تلك المرة، كانت، على العكس تماما، تشعر أن كونها مندائية كان يعني أنها كانت تعامل بمزيد من الاحترام. (كان هذا في منطقة الطبقة الوسطى في بغداد؛ أما في المناطق الريفية، فربما كانت الأمور مختلفة. فحتى الآن في سوق الشيوخ توجد مطاعم ومقاه ترفض خدمة المندائيين لأنه يعتقد أنهم ينجسون أدوات المائدة التي يأكلون بها.)
انخفضت المعايير التعليمية خلال حقبة العقوبات، كما وصفتها لي نادية، وأصبح المجتمع العراقي أكثر فظاظة؛ لكنها لم تبدأ في الشعور بالخطر إلا بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. كانت تتورط في جدالات في العمل. قال أحد الزملاء: «كان صدام تاجا على رأسنا والغزاة «كفار»»؛ و«كفار» هي جمع كلمة «كافر»، وهي كلمة تضفي الشرعية على العنف ضد غير المؤمنين.
عندئذ ردت نادية: «أظن أنه كان مثل زوجين من النعال. يمكنك وضعه على رأسك إن أردت ذلك!»
مع مرور الوقت، وجدت أن صعوبة الحفاظ على تظاهرها بالشجاعة تزداد. فقد وفر الصراع الكثير من الفرص لتفاقم التعصب الديني . أخبرتني نادية: «بدأنا نسمع عن أشخاص يتعرضون للخطف، والسرقة، والقتل ببساطة شديدة.» قصف مقر عملها، الصليب الأحمر، في أكتوبر 2003. واقترب العنف أيضا من منزلها بعد أربعة أشهر. في الثامن عشر من يناير 2004، كانت في طريقها للمساعدة في جمعية خيرية دولية في بغداد عندما سمعت دوي انفجار. لم تسمعه فحسب، بل شعرت به؛ فقد اهتزت السيارة التي كانت تستقلها من قوة الانفجار. تذكرت قائلة: «كانت السماء غائمة، وشعرت بشعور غريب بعد ذلك، كما لو أن شخصا أعرفه قد أصيب في الانفجار. لذلك اتصلت بهديل.» تعارفت نادية وهديل، وهي امرأة مسيحية، من خلال العمل معا في مطبعة في بغداد في التسعينيات. في عام 2003، عملت هديل في السفارة الأمريكية وتمكنت أيضا من العثور على زوجها المثالي؛ طبيب أسنان عراقي يعمل في الدنمارك. اشترت نادية وأصدقاؤها الآخرون لها خاتم خطوبة وضعته هديل في الإصبع ذاته الذي كانت تضع فيه الخاتم الذي قدمه لها خطيبها. «اتصلت بمنزل هديل؛ فقال شقيقها الصغير إنها ذهبت إلى العمل. اتصلت بهاتفها المحمول والهاتف المحمول الخاص بصديقة كانت تذهب للعمل معها. لم أتلق ردا. اتصلت بزميلها، وقال إنها لم تصل قط إلى العمل. عندما عدت إلى المنزل اتصلت بأسرتها. فقالوا إنها اختفت للتو. لاحقا اتصلت بي والدة هديل - كانت تعرف أنني أعمل لدى الصليب الأحمر - وقالت: «أريدك أن تجلبي أخبارا جيدة عن ابنتي.» جاءت الأخبار، لكنها لم تكن جيدة. تبين أن السيارة التي كانت تستقلها هديل كانت بها قنبلة مزروعة تحت مقعد السائق. وانفجرت وقتل السائق؛ وأصيبت سيدتان أخريان في السيارة. لكن لم ترد أي أخبار عن هديل. أخذت نادية يوم إجازة من العمل وتجولت في المستشفيات بحثا عنها. لم تعثر على شيء. ولم تسمع أي أخبار إلا في وقت لاحق. قال المستشفى إنه من الصعب التعرف على الجثة. فقد كانت مصابة بحروق شديدة. والشيئان الوحيدان اللذان لم يتعرضا للاحتراق كانا خاتمين على إحدى أصابعها.
مضت عائلة هديل قدما في إقامة حفل الزفاف على أي حال وغنوا الأناشيد الاحتفالية التقليدية وزغردوا. لكنهم فعلوا ذلك بعد أن دفنوا العروس. «وقالوا: هذا ليس الزفاف الذي أردناه.» لم أستطع تحمل رؤيتهم مرة أخرى. لقد كانت مضيعة غير مجدية للحياة. أظن أن الناس يجب أن يكونوا على دراية بهذه القصص قبل أن يذهبوا إلى الحرب.» شغل الموت فكر نادية وجعلها ترغب في الرحيل. «فكرت في أنني لا أريد أن أقتل مثل صديقتي. لا أريد أن أحطم قلب والدي.»
لم تصنف نادية نفسها مطلقا من خلال دينها. قالت لي: «أرى نفسي أولا إنسانة، وثانيا عراقية، وثالثا فقط مندائية.» لكن النزعة الإنسانية والوطنية لم تساعداها في عراق ما بعد الحرب، حيث برز المزيد من الولاءات المتأصلة. لم يكن الدين هو الشيء الوحيد الذي يعرضها للخطر: وكذلك قدرتها على التحدث باللغة الإنجليزية، وحقيقة أنها لم تكن ترتدي الحجاب ولا تنتمي إلى قبيلة. قالت: «أدركت قوة القبائل. ونحن، المندائيين، ليس لدينا قبيلة.» في الماضي، استخدم المندائيون التكتيك العريق المتمثل في إلحاق أنفسهم بقبيلة ليس بوصفهم أعضاء ولكن بوصفهم تابعين، «ملحقين». وستوافق القبيلة على حمايتهم، لكن بما أنهم بقوا خارج القبيلة، لم يكن عليهم قبول دينها. في الأهوال المروعة في العراق بعد عام 2003، كان لعائلة نادية قبيلة تحميها، لكن، كما قالت: «لا توفر لتابعيها القدر نفسه من الحماية الذي توفره لأفرادها». تعرض المندائيون للخطف، وتغيير الدين قسرا، والقتل. وبين عامي 2003 و2011، وثقت جماعة حقوق الإنسان المندائية 175 جريمة قتل و271 حالة اختطاف. وفي عام 2004، أفادت الجماعة أن خمسا وثلاثين عائلة مندائية تعيش في الفلوجة أجبرت على اعتناق الإسلام.
ركبت نادية طائرة تغادر بغداد في الثامن عشر من مارس 2004. ولأول مرة ختمت أوراق هويتها؛ حيث لم يكن لديها جواز سفر ولم تكن قد ركبت طائرة من قبل. كان والداها قلقين عليها: إذا عاشت في الخارج بمفردها، فلن يتزوجها أي رجل بعد ذلك، هذا ما قلقا بشأنه. وجدت لندن مكلفة جدا لدرجة أنها اضطرت إلى رهن مجوهراتها لدفع الإيجار، وأذهلتها «الثقافة الأكثر اعتدالا». افتقدت العراق وبحثت بحنين عن عطر زهر البرتقال. وعندما كانت تذهب مع صديقاتها إلى حفلات موسيقية عراقية، كان اليهود العراقيون الذين كانوا قد غادروا بغداد قبل أربعين عاما يطرحون عليها أسئلة راغبين في سماع آخر الأخبار عن أماكنهم المفضلة هناك.
وعلى الرغم من الحنين، تخلت عن أفكار العودة إلى الوطن. وقالت: «أحب المكان هناك، لكنني لا أستطيع أن أعيش فيه.» لم تكن آخر مندائي يغادر. فبعد عامين من رحيلها، هرب رئيس الكهنة الشيخ ستار إلى أستراليا. وبحلول وقت كتابة هذه السطور، كان أكثر من تسعين بالمائة من المندائيين في العراق قد هاجروا أو قتلوا. ولا يمكن للمرء أن يجد مجتمعاتهم باقية على حالها إلا في جنوب إيران. اعتقدت نادية أن رحيل المندائيين كان خسارة للعراق. «كنا رمانة الميزان، التي تحافظ على تماسك المجتمع العراقي. وعندما غادر المندائيون والأقليات الأخرى، اختلت الموازين.» وبعد ما رأيناه أنا ونادية باسترجاع تاريخ المندائيين، يمكننا الاتفاق على أنه بمغادرتهم، سقطت بابل حقا.
الفصل الثاني
الإيزيديون
في أي يوم عند الفجر، عند النظر إلى أعلى، صوب مبنى سكني بشارع بإحدى المدن الكندية، يمكن للمرء أن يرى نافذة مضاءة: حيث يصلي ميرزا إسماعيل كما يصلي وقت الظهيرة وعند الغروب. لا يجوز لأي شخص دخيل أن يشهد صلاته، وبما أنه لا يوجد عضو آخر في مجتمعه يعيش بالقرب منه، فإنه يؤديها بمفرده. في كل مرة يتجهز بعناية. يغسل يديه ووجهه ويضع حزاما خاصا يسمى «بيشتيك» حول القميص الأبيض الذي يرتديه دائما. ثم يسجد للشمس ويبدأ في الصلاة بالكرمانجية، لغة قومه، لإله مجهول. وتقول الصلاة: «لا إله إلا الله، والشمس نور الله.» إنه يصلي أن يمنح الله العالم السلام.
ميرزا رجل عراقي معسول الكلام، لديه شارب رمادي مشذب بعناية، ولأنه يصلي في أوقات منتظمة خلال النهار، غالبا ما يفترض زملاؤه ومعارفه خطأ أنه مسلم. لكنه إيزيدي، يتبع ديانة باطنية لها أوجه تشابه ظاهرية مع الإسلام، لكنها مختلفة جدا عنه. وعلى الرغم من أنه غالبا ما ينظر إلى قومه على أنهم أكراد ويتحدثون اللغة نفسها (الكرمانجية) مثل جيرانهم الأكراد ، فإنه يصر على أنهم شعب منفصل. يطلق عليهم أحيانا الإيزيديون، ويبلغ عددهم مئات الآلاف في شمال العراق وفي أجزاء من سوريا، وجورجيا، وأرمينيا، وشمال غرب إيران. يؤمن الإيزيديون بتناسخ الأرواح، ويقدمون الثيران قرابين، ويوقرون ملاكا يتخذ شكل طاووس. وتحظر عليهم تقاليدهم أكل الخس أو ارتداء ملابس زرقاء؛ ويجب أن يربي الرجال شاربهم، على الرغم من أن القليل منهم يطلقون اللحية. إنهم أيضا ضحايا افتراء قديم؛ تهمة أنهم يعبدون الشيطان. وكانوا ضحايا ثاني أخطر هجوم إرهابي في التاريخ.
ميرزا إسماعيل وصديقه أبو شهاب في سنجار، بشمال العراق. الصورة مهداة من ميرزا إسماعيل.
ولد ميرزا في قرية على تلال مكسوة بأشجار البلوط، تسقى من ماء الآبار في منطقة سنجار بشمال غرب العراق (مكان بعيد شمال الأهوار العراقية، حيث يعيش المندائيون؛ تعرف كل طائفة من الطائفتين بشأن الأخرى، ولكن التواصل بينهما محدود جدا). منذ زمن بعيد كانت هذه المنطقة جزءا من الإمبراطورية الآشورية، التي كانت تمتلك الكثير من القواسم المشتركة ثقافيا مع البابليين؛ لكنها انتقلت من حاكم إلى آخر مرات كثيرة منذ ذلك الحين، حيث احتلتها بابل، وبلاد فارس، والرومان، والعرب، وأخيرا الأتراك. وعندما كان ميرزا صبيا صغيرا، نقلت حكومة صدام حسين عائلته إلى مشروع سكني يسمى القحطانية. كان صدام يحاول إخضاع المحافظات الشمالية المضطربة لسيطرة حكومية أشد من أجل سحق التمرد المتزايد هناك للانفصاليين الأكراد الذين أرادوا إقامة دولتهم المنشقة. ومع أن معظم الإيزيديين لم يعتبروا أنفسهم أكرادا، فإن صدام لم يجازف. ففي القحطانية، سيكون من السهل السيطرة على الإيزيديين، خاصة أنه من دون أرضهم كانوا يعتمدون على المساعدات الغذائية الحكومية.
وهكذا نشأ ميرزا في أحد منازل القحطانية البسيطة المبنية من الطوب اللبن والمكونة من طابق واحد. كانت المياه تقطر من السقف خلال عواصف فصل الشتاء المطيرة نادرة الحدوث. وكانت الشوارع قذرة، ولم يكن يوجد نظام صرف صحي، لكن المدارس كانت جيدة، وكانت العيادة الوحيدة بالمستوطنة تقدم على الأقل العلاج مجانا، وكان الوصول إلى أقرب مدينة بها مستشفى يستغرق رحلة طويلة ولكنها ممكنة عمليا. أمام المنزل كان لكل عائلة حديقة، تزرع فيها الطعام؛ الفجل، والطماطم، والباذنجان، وعباد الشمس من أجل بذوره. كانت الحدائق تذكر هذه العائلات بالوقت الذي عاشت فيه في قراها الواقعة على التلال، وكانت تزرع محاصيل وافرة من التين والزيتون. عاد ميرزا من وقت لآخر إلى التلال؛ ليصلي في الأضرحة الإيزيدية ذات الأسطح المخروطية، وأحيانا لإلقاء نظرات إجلال على الكهوف الخفية المقدسة التي لجأت إليها العائلات الإيزيدية بسبب الاضطهاد في القرون الماضية.
يحتفظ الإيزيديون بقائمة من اثنين وسبعين اضطهادا تعرضوا له على مر القرون. وعلى وجه الخصوص، في القرن التاسع عشر، طاردتهم السلطات العثمانية عدة مرات بوصفهم هراطقة؛ وقد كانوا هراطقة مزعجين بشكل خاص لأنهم تهربوا من التجنيد العسكري ولم يدفعوا أي ضرائب. ومع ذلك فلم تكن مهمة العثمانيين سهلة. فحتى على أسهل الطرق، كانت سنجار على بعد مسيرة يوم من أقرب مدينة قبل اختراع السيارات. وكان الإيزيديون في العادة ندا جيدا للعثمانيين؛ فباستخدام معرفتهم بالتلال والكهوف المحلية، تمكنوا من صد الغزاة ونهب القوافل المارة. وحتى عندما كانوا يجبرون على اعتناق الإسلام، كان بإمكانهم العودة إلى ممارساتهم الدينية بمجرد رحيل الغرباء. وبوصفهم مزارعي كفاف، كان يمكنهم العيش دون الكثير من المساعدات من العالم الخارجي.
عاش الإيزيديون والمسيحيون جنبا إلى جنب عدة قرون، وكانت لديهم قضية مشتركة في القرون الماضية في مواجهة السادة المسلمين. وكان الناس يبدلون دينهم؛ حتى إن أحد الإيزيديين صار لديه اعتقاد بأنه كان كاهنا مسيحيا في تجسد سابق. (في الآونة الأخيرة، اتصل رجل مسيحي في ألمانيا بامرأة إيزيدية، زاعما أنه كان والدها في حياة سابقة. وكان الإيزيديون شكاكين.) ليس لدى الإيزيديين اعتراض خاص على الصلاة في الأضرحة المسيحية، وأحيانا يرتدون الصلبان؛ ولكن بوصفها تمائم للحماية من الشر، وليس علامة على اعتقاد.
عندما بلغ ميرزا من العمر أربعا أو خمس سنوات، أخذ شرقا على بعد أميال كثيرة إلى مكان يدعى لالش. وهو يقع في واد مشجر على بعد أقل من ثلاثمائة ميل شمال بغداد، ويتألف من مجموعة من المباني الحجرية القديمة. يصر الإيزيديون على أن هذا المكان هو مركز الأرض، حيث بدأ الخلق. تحت أحد مباني لالش، في مكان لا يسمح فيه بدخول غير الإيزيديين، غطس شيخ (يستخدم الإيزيديون الكلمة ذاتها التي يستخدمها المندائيون والمسلمون لأعضاء طبقتهم الكهنوتية) يرتدي ملابس بيضاء ميرزا في نبع مقدس يسمى زمزم؛ وتقام المراسم، مثل المعمودية المسيحية، مرة واحدة في العمر.
ولد ميرزا نفسه في طبقة الشيوخ. قال لي: «عندما كنت صغيرا جدا، قيل لي كيف أصبح شيخا. إنه منصب مرموق؛ حيث يجب على الأشخاص الذين يتقاتلون أن يتصالحوا عندما يأتي بينهم شيخ.» كان الشيوخ فئة من فئات الشخصيات الدينية التي يحترمها الإيزيديون، إلى جانب «الفقير» الناكر للذات، و«القوال» الذي يردد الأناشيد الدينية المقدسة، و«الكوتشيك» الذي يحرس الضريح في لالش، و«البير»، الذي تمثل طبقته طبقة كهنوتية أدنى من الشيوخ. كان الإيزيديون بحسب العادة يعتمدون على الشيوخ في إجراء معجزات بالإضافة إلى التوجيه الروحي. عالجت عائلة من المشايخ أمراض العيون باستخدام اللعاب أو غبار من مقبرة أجدادهم، وألقت أخرى تعاويذ على الثعابين. وتجنب جميعهم الأعمال اليدوية وعاشوا على الصدقات. عادة ما كانت الطائفة الإيزيدية تكره القراءة والكتابة (وهو أمر نعرف أنه ينطبق أيضا على الفرس القدماء)، وقبل قرن من الزمان، تميزت عائلة ميرزا عن غيرها من الشيوخ بإلمامها بالقراءة والكتابة.
وكانت عائلة ميرزا مكرسة خصوصا لملك شيخ حسن، الذي يعتقد الإيزيديون أنه كائن خارق ونائب الوصي على العرش من الملائكة الذين سيطرت مشيئته على الكواكب والنجوم. ويعتقد الإيزيديون أنه اتخذ شكلا بشريا يوما ما باسم الشيخ حسن، وكان قبره في لالش. لاحظت أن ميرزا دائما لا ينطق المقطع الأول من اسم حسن؛ لذا بدا الاسم مثل «شيخ-سن» أو «شيخ-سن». كلمة «شيخ» تعني «كبير» أو ربما «سيد»، وفي العصر البابلي والآشوري كان الناس في سنجار والمناطق القريبة منها يعبدون الرب سين، إله القمر. وبالمثل يقدس الإيزيديون شيخ شمس الذي يشبه اسمه اسم شماش، إله الشمس عند الآشوريين. واسمه ليس نقطة التشابه الوحيدة؛ فقبر شيخ شمس هو مكان إقامة الطقس الذي مجد منذ آلاف السنين شماش: التضحية العظيمة بالثور.
والغرض من التضحية هو جلب المطر في الشتاء والخصوبة في الربيع الذي يليه. ولذلك يجلب ثور صغير لا يقل عمره عن عام إلى داخل حرم لالش، ثم يطارده إلى ضريح الشيخ شمس رجال كانت قبيلتهم تتمتع بهذا الشرف منذ قديم الأزل. ويحمل الرجال عصيا رفيعة لقيادة الثور؛ ويحمل رجال آخرون بنادق آلية لإطلاق النار في الهواء للاحتفال. وعندما يصل الثور إلى ضريح الشيخ شمس، يؤسر ويقترب منه شيخ ليهمس في أذنه ثم يذبحه. يكاد يمكن وصف الحدث بكلمات ملحمة جلجامش التي مضى عليها أربعة آلاف سنة: «ولما قتلوا الثور اقتلعوا قلبه ووضعوه أمام شماش إله الشمس، وتراجعوا وسجدوا أمام شماش في إجلال». وليس هذا هو العيد الوحيد المتعلق بالشمس عند الإيزيديين. فهم يلتزمون بصيام ثلاثة أيام في ديسمبر، يليها يوم عيد يسمى عيد الصوم. فمنذ زمن بعيد عندما لم تظهر الشمس، جعلت ثلاثة أيام من صلاة وصيام الإيزيديين الرب يعيد الشمس؛ وهذا الحدث إحياء لذكرى تلك المناسبة.
العقيدة الإيزيدية، مثل المندائية، ديانة غامضة. وعلى النقيض من حرص الإيزيديين على إيصال رسائلها الباطنية وإقناع الآخرين بها، يريد رجال الدين إبقاءها سرية. ونظرا إلى أن ميرزا كان ينتمي إلى طبقة الشيوخ، فقد كان من حقه تعلمها؛ ولكن كان عليه أن يظفر بحق اكتساب هذه المعرفة. إذا التزم بارتداء جميع ملابسه باللون الأبيض دائما، والصيام مرتين في السنة مدة أربعين يوما في كل مرة، متخليا عن كل الطعام خلال ساعات النهار والبقاء في المنزل، فسيكتسب حينها القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وأولئك الذين اتخذوا هذه الخطوة قبله سيعلمونه كتب الإيزيديين المقدسة غير المكتوبة. أخبرني ميرزا أن هذه الكتب المقدسة قد دونت مرة ولكن العلماء الغربيين سرقوا المخطوطات؛ وكل ما تبقى هو لفيفة جلدية عليها كتابة ذهبية، كان يعتقد أنها ستظهر له تاريخ شعبه. (في الواقع، المخطوطات التي اعتقد العلماء الغربيون يوما ما أنها كتب الإيزيديين المقدسة تبين حينها أنها مزيفة، واتضح أن الكتب المقدسة الحقيقية تنقل شفهيا. لقد أخفيت أسرار الديانة جيدا، حتى عن أتباعها.)
ما كان ميرزا يعرفه بالفعل هو أن النبي الأول هو إبراهيم والنبي الأخير هو محمد، لكن العناصر الأربعة كانت أهم من أي نبي. أعظم هذه العناصر كان النار، وكانت الشمس الوسيط الرئيسي بين البشر والإله المجهول. وأوضح أن «الإيزيديين والآشوريين عبدوا الشمس». كان يعلم أيضا أن الإيزيديين توقعوا أن تتناسخ أرواحهم - كرجال، أو ربما كحيوانات. (وجدت أنه من الغريب أن ميرزا لم يكن متأكدا من هذه النقطة، لكن بدا أن العديد من الإيزيديين غير مهتمين بالحياة الأخرى، أو ربما يتكتمون بشأن معتقداتهم.) لقد اعتبروا الفلاسفة اليونانيين أنبياء. وكانت الشخصية الأساسية في دينهم هي شخصية الملك الطاووس، كما اكتشفت عندما ذهبت إلى لالش بنفسي. •••
كنت أرغب في الذهاب إلى لالش منذ أن سمعت عنها عندما كنت أعيش في بغداد. سافرت إلى هناك في عام 2011، وبدأت الرحلة من إحدى ضواحي إسطنبول غير الساحرة حيث استقللت حافلة للمرحلة الأولى من رحلة الألف ميل التي استغرقت ثلاثين ساعة إلى العراق. خلال اليوم التالي، شاهدت تغير المناظر الطبيعية من حولي أثناء سفرنا من الركن الشمالي الغربي لتركيا إلى أقصى الجنوب الشرقي، حيث يمر الطريق إلى العراق. وإسطنبول، حيث بدأت الرحلة، هي أكبر وأغنى مدينة في تركيا؛ فالأرض في المناطق الساحلية بتركيا خصبة، والطقس متوسطي معتدل. جنوب شرق البلاد، على النقيض، حار وفقير، والكثافة السكانية به منخفضة. وهنا تقع مدينة أورفة (سالينورفا) في واحة ضخمة محاطة بمنطقة شبه صحراوية. في القرن الرابع الميلادي زار أورفة، التي كانت تعرف سابقا باسم الرها، حجاج مسيحيون حريصون على رؤية رسالة يفترض أن يسوع كتبها خلال حياته إلى ملك الرها، أبجر. كان من بين الحجاج كاتبة يوميات تدعى إجيريا، يمكننا أن نرى من كتاباتها أنه كان يوجد أيضا وثنيون لا يزالون يعيشون في الرها ويعتبرون الأسماك في الأنهار المحلية مقدسة ويرفضون قتلها. وبوصفها مسيحية، حرصت إجيريا على تناول هذه الأسماك (علقت قائلة: «طعمها لذيذ جدا»).
اليوم أورفة مدينة مسلمة، وفي مركزها مسجد مزخرف محاط بحديقة تتجول فيها العائلات والأزواج في طقس المساء البارد نسبيا. وبعد الوصول إلى المدينة واستقراري في دار ضيافة محلية، انضممت إليهم، وأنا أفكر في ماضي المدينة. كانت توجد مستوطنة في هذا الموقع منذ آلاف السنين؛ على سبيل المثال، ما بين 2000 و600 قبل الميلاد في زمن الإمبراطورية الآشورية، التي يرد ذكر ملكها الأسطوري النمرود في الكتاب المقدس وكانت عاصمتها نينوى تقع مكان الموصل اليوم. تأسست المدينة الحديثة على يد أحد مساعدي الإسكندر، ثم تغير حكامها بعد ذلك عدة مرات حيث تقاتل عليها الرومان، والفرس، والبيزنطيون؛ وفي حقبة لاحقة، العرب، والصليبيون، والأتراك. وفوق المسجد، على نتوء جبلي، لا يزال يوجد عمود طويل عليه نقش باللغة السريانية المنقرضة؛ تذكيرا بهذا التاريخ.
وتبين أن توجد آثار أخرى من الماضي في الحديقة: أسماك إجيريا اللذيذة. كان جدول صغير يجري عبر الحديقة، ولاحظت أنه مليء بأسماك الشبوط؛ آلاف من أسماك الشبوط، تجمعت معا بكثافة كما لو كانت قد وقعت في شبكة. كانت تتدافع، وتتلوى مرورا بعضها ببعض، في ثلاثة أو أربعة صفوف. جاء رجل ليقف بجواري، ورأسه ملفوف بكوفية باللونين الأسود والأبيض. وبين حين وآخر، كان أحد الأشخاص الذين يسيرون في الحديقة يهرول إليه، ويركع على ركبة واحدة، ويقبل يد الرجل ثم يضعها على جبهته، ويتمتم بإيجاز باللغة الكرمانجية. وفي كل مرة كان يحدث هذا، كان الرجل يتجهم بانزعاج زائف وربما يحرك يده بعيدا في إيماءة متعالية. لكنه لم يصد المتوسلين.
وأخيرا خاطبني الرجل. وسأل: «ربما تتساءل كيف يوجد الكثير من الأسماك هنا؟ لن يقتلها أحد هنا أو يأكلها. عندما أراد الملك النمرود الشرير أن يعاقب النبي إبراهيم، أمر بحرقه حيا في محرقة من الجمر. لكن الله حول النار إلى ماء والجمر سمكا. لهذا السبب نعتبر هذه الأسماك مقدسة.» وإبراهيم هو أبراهام، الذي يدعي المسلمون واليهود أنه نبي. لكن تقليد سمك أورفة المقدس كان أقدم من الإسلام، ويعود تاريخه على الأقل إلى عصر إجيريا وربما قبل ذلك بكثير. يوما ما كان الناس الواقفون حول تلك البركة يتحدثون الآرامية، ثم اليونانية، ثم العربية، والآن الكرمانجية، والمسيحية جاءت وذهبت، لكن الأسماك بقيت.
قال الرجل: «اسمي محمود.» كان مسلما، وكرديا مثل كثير من الناس في أورفة. وأوضح أنه رجل له مكانة محليا. وبينما كنا نتحدث أخبرني عن مدينة مدمرة جنوب أورفة، تسمى حران. في ذلك المساء قرأت عن حران واكتشفت أنه على الرغم من أنها مهجورة الآن، فقد لعبت يوما ما دورا رئيسيا في التاريخ. يزعم أنها المكان الذي عاش فيه إبراهيم قبل أن يتخذ يهوه إلها له. (لقد أصبح هذا الآن موضع شك: فالرواية الإنجيلية بالتأكيد تجعله في بلدة تسمى حران، لكنها ربما كانت بلدة تحمل الاسم ذاته في أقصى الجنوب.) كانت بالتأكيد المكان الذي تعرض فيه الرومان لواحدة من أشهر هزائمهم. ففي عام 53 قبل الميلاد، أطلق البلوتوقراطي الروماني كراسوس ما كان يأمل أن يكون حملة عسكرية مثمرة ضد الإمبراطورية الفرثية (وريثة إمبراطورية كورش الفارسية)؛ طمعا في ذهبها واحتكارها لحركة البضائع الصينية نحو الغرب. لكنه خدع على يد عربي محلي كان عميلا مزدوجا للفرثيين، وقضي على كراسوس وجحافله على يد جيش فرثي أقل منهم عددا. كانت هذه أول مواجهة في أطول حرب في التاريخ. فقد استمرت الأعمال العدائية بين روما وبلاد فارس ما يقرب من سبعمائة سنة، تخللتها فترات هدنة.
لقد نسينا هذه الحرب الأطول، فقد انقرض كلا الطرفين، لكنها شكلت عالمهم وعالمنا. وفي مرحلتها الأخيرة، بعدما كان الأباطرة الرومان قد انتقلوا إلى بيزنطة، وجد الفرس حلفاء بين الجاليات اليهودية في الإمبراطورية البيزنطية؛ وفي هذه الأثناء، استخدم البيزنطيون العرب، الذين كان بعضهم من المسيحيين، لمحاربة الفرس. وصلت أخبار الحرب إلى مكة النائية، حيث كان النبي محمد يدعو العرب إلى دين الإسلام الجديد. وفي مرحلة ما، بعد انتصار الفرس في أنطاكية سنة 613 ميلادية، بدت الإمبراطورية البيزنطية كأنها على وشك التعرض للهزيمة التامة. فكتب الإمبراطور الفارسي لخصمه البيزنطي: «حتى لو لجأت إلى أعماق البحر، فسأمد يدي وأخرجك »، بينما أصدر البيزنطيون عملات نقش عليها عبارة «فليعن الرب الروم». انزعج النبي محمد وأتباعه؛ لأن كان من المفترض أن الرب إلى جانب روما المسيحية. فأنزلت آية قرآنية السكينة على قلوبهم. وأقرت بما يلي:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ... ويومئذ يفرح المؤمنون ، وبالفعل استعاد البيزنطيون عافيتهم، ووجهوا للإمبراطورية الفارسية ضربة قاتلة؛ وخفضوا أجور المرتزقة العرب، وطردوهم مثل «الكلاب». غير العرب المسلمون رأيهم بشأن بيزنطة وتقدموا شمالا للاستحواذ على أراضيها الجنوبية، وأيضا قهر الإمبراطورية الفارسية في نهاية المطاف. لقد استنزفت الحرب التي استمرت سبعمائة عام كلتا الإمبراطوريتين؛ وبدونها، قد لا يكون الإسلام هو الدين العالمي الذي هو عليه اليوم، وقد يكون للغرب المسيحي، وعاصمته في إسطنبول، ثقافة تهيمن عليها الزرادشتية باعتبارها المنافس الشرقي.
خلال تلك الحرب، حدثت مواجهة ثقافية شيقة. ففي القرن الأول الميلادي، سقط جنوب تركيا في أيدي الرومان لأول مرة. وواجه جنود الفيالق التي نشرت في هذه المنطقة ديانة كانت غريبة عليهم تماما. ويبدو أنهم وجدوها جذابة: فعندما عادوا إلى روما، أخذوا نسخة منها معهم. كانت هذه الديانة هي عبادة الإله ميثرا. وكانت تتسم ببعض أوجه التشابه مع ديانة الإيزيديين، الذين يعيش أقربهم الآن على بعد 120 ميلا شرق حران. وشيدت كنائس تحت الأرض مخصصة لعبادة الإله ميثرا - وقد بنيت حول نبع أو جدول، مثل الغرفة السرية في لالش حيث عمد ميرزا - بأعداد كبيرة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. وكانت مراسم الانضمام للطائفة الدينية صعبة عن قصد، ولم يسمح إلا للمنضمين بمعرفة تعاليم الطائفة غير المكتوبة (التي ظلت سرية للغاية، في الواقع، لدرجة أننا لا نعرف عنها اليوم إلا أقل القليل). لم تكن هذه نقطة التشابه الوحيدة بين الإيزيديين وعبادة ميثرا. فكلتا الديانتين تضمنت الصلاة ثلاث مرات في اليوم، وتقديس الشمس، وارتداء الأحزمة، والتضحية بالثيران. وأخيرا، أطلق عبدة ميثرا على أنفسهم «المتحدين بمصافحة الأيدي». للعقل الحديث يبدو ذلك أمرا غير استثنائي: فما الذي يميز إيماءة كانت عادية جدا؟ لكنها لم تكن في ذلك الوقت إيماءة التحية المعتادة التي أصبحت عليها منذ ذلك الحين في الغرب. ويبدو أنها أصبحت كذلك بفضل الميثرائيين - التي كانت تمثل لهم أحد طقوس الترابط، كما هو الحال عند الإيزيديين. اختفت الديانة الميثرائية في النهاية عندما أصبحت المسيحية منتشرة في الإمبراطورية الرومانية، لكن هذه الإيماءة استمرت. وبعدما تجردت تماما من جميع ارتباطاتها الروحانية، أصبحت الآن إيماءة عالمية تدل على المودة.
لا يوجد عالم يعرف التاريخ الكامل للإيزيديين. كما أن العزلة والسرية اللذين بقوا بسببهما في مأمن من التدخل الخارجي أبعداهم أيضا عن معظم كتب التاريخ. وعلى عكس المندائيين، الذين عاشوا في عزلة نسبية في الأهوار العراقية، تعرض الإيزيديون للعديد من الأديان والثقافات المختلفة وتأثروا بها على مدى الألفي سنة الماضية. وسيكون من الخطأ أن نظن أنهم «نفس» هذا الدين القديم أو ذاك لمجرد أن لديهم سمات ثقافية مشتركة. ثمة اختلافات بين الإيزيديين والميثرائيين: على سبيل المثال، الإيزيديون لديهم ثلاث طبقات رئيسية والميثرائيون لديهم سبع؛ لم تكن أورفة في العصر الروماني تتحدث الكرمانجية؛ ومن الناحية العرقية، قد لا ينحدر الإيزيديون المعاصرون من نسل شعب أورفة. لكن خبرتنا بشأن الدين خاضعة جدا للمسيحية، واليهودية، والإسلام (الديانات الإبراهيمية) لدرجة أننا ننسى أنه في الشرق الأوسط كان ولا يزال يوجد صنف منفصل تماما من الأديان ينتمي إليه، بشكل فضفاض، الإيزيديون. ومع أن الجنود الرومان الذين أشاعوا المصافحة لم يلتقوا بالإيزيديين أنفسهم، فمن الواضح أنهم صادفوا ديانة من الصنف نفسه.
الإله ميثرا، يظهر وهو يقتل ثورا؛ كما يظهر ثعبان، وكلب، وعقرب، والتي تظهر جميعها بطرق مختلفة في بعض ديانات الشرق الأوسط المعاصرة. من كنيسة سرية تحت الأرض في سانتا ماريا كابوا فيتيري، بإيطاليا، يعود تاريخها إلى القرن الثاني أو الثالث الميلادي. صورة رقمية مهداة من برنامج المحتوى المفتوح الخاص بمتحف جيتي. •••
طوال الطريق إلى حران، على طريق تمتد الصحراء على جانبيه، كان محمود يدخن دون انقطاع سيجارة تلو أخرى. عندما وصلنا إلى المدينة المدمرة، ثبت أنها مكان مميز. تتكون المستوطنة الحديثة، التي بناها مهاجرون عرب أتوا من العراق قبل بضعة قرون، من مجموعة من الأكواخ على شكل خلايا نحل، أسقفها المخروطية ملطخة بالدخان، تتجمع حول قلعة حجرية مدمرة. كانت الحجارة الباهتة المتناثرة عبر التلال القريبة من بقايا مسجد من العصور الوسطى. ومع ذلك فإنه، منذ آلاف السنين، عندما كانت حران واحدة من أكبر وأشهر المستوطنات في المنطقة، كانت الأحجار الباهتة نفسها جزءا من معبد مكرس لإله القمر سين. وكان الملك البابلي نابونيد، الذي أعاد بناء المعبد في القرن السادس قبل الميلاد، فخورا بشكل خاص بلون الحجارة وأعلن أنه جعل حران «متلألئة مثل ضوء القمر». وكشف النقاب عن نقشه الذي عمره 2500 سنة في خمسينيات القرن الماضي، عندما قلب عالم آثار واحدة من درجات المسجد المدمر ووجد أن بناة المسجد أعادوا استخدام أحجار نابونيد بدلا من استخراج أحجار جديدة.
بعد مدة طويلة من تحول الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية، وحتى بعدما أصبحت مدينتهم جزءا من الإمبراطورية العربية الإسلامية، استمر الحرانيون بعناد في عبادة الكواكب السبعة (وفاء للتراث البابلي، اعتبروا الشمس والقمر من الكواكب، وكانوا يعرفون عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل) وخصصوا لكل واحد منهم يوما مقدسا. اقترنت عاداتهم القديمة بفلسفة متطورة ومعرفة علمية. فعلى سبيل المثال، رتبت معابد الكواكب وفقا لبعد الكواكب عن الأرض. وسوغت عبادة تلك الكواكب من خلال نظام لاهوتي مفصل. واتفق الحرانيون مع الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا قد توصلوا إلى أنه يوجد إله أعلى هو التفسير النهائي لسبب وجود الكون، ولكنه يفوق إدراك العقل البشري. وبما أن الرب كان حرفيا يفوق الوصف، فإن البشر العاديين لا يمكنهم إلا أن يأملوا في رؤية الإسقاطات الإلهية في الكون المادي وتمجيدها.
وعلى حد تعبير عالم الدين المسلم الشهرستاني، الذي عاش في القرن الحادي عشر، في محاولة منه لشرح معتقدات الحرانيين، فإن الرب «يتكثر بالأشخاص في رأي العين. وهي المدبرات السبعة والأشخاص الأرضية الخيرة، العاملة، الفاضلة. فإنه يظهر بها، ويتشخص بأشخاصها، ولا تبطل وحدته في ذاته... وقالوا: هو أبدع الفلك وجميع ما فيه من الأجرام والكواكب، وجعلها مدبرات هذا العالم.» وهكذا تستمر الممارسات الدينية البابلية والآشورية بأيديولوجية جديدة تدعمها، ألا وهي: مشروعية أن تعبد الكواكب بوصفها إسقاطات إلهية. وكما يستطرد الكاتب في شرحه، ينطبق الأمر مع بعض الأشخاص: فيمكن أن يحدث «تنزل لجوهر الله» إلى كائن بشري، «أو تنزل لجزء من جوهره، وهو ما يحدث وفقا لدرجة استعداد الشخص». وعندما يتنزل هذا الجوهر في أكمل صوره، فقد يحول شخصا إلى نوع من الإسقاط الإلهي على الأرض. سجل الشهرستاني أن الحرانيين كانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح، وهو ما يعني أن هذه الإسقاطات الإلهية قد تموت ثم تولد من جديد، وتعود إلى الأرض في عصور متتالية.
كانت الجيوش الإسلامية التي استولت على المدينة من البيزنطيين سنة 638 ميلادية غير متأكدة مما يجب أن تفعله مع الحرانيين. فوفقا للقرآن، فإن «أهل الكتاب» - ومن بينهم المسيحيون، واليهود، ومن يطلق عليهم اسم «الصابئة» - يستحقون تسامحا خاصا. ومن ناحية أخرى، كان يعتقد عموما أن المشركين يستحقون الموت إذا لم يهتدوا. ولم يكن واضحا إلى أي من هذه الفئات ينتمي الحرانيون. لذلك عندما واجه العرب معبدا لإله القمر، أراد بعضهم - وخاصة أولئك الذين كانوا يهودا أو مسيحيين قبل اعتناق الإسلام - تدميره على الفور. ومع ذلك، كان لمجموعة أخرى من العرب أقارب يمارسون شيئا مشابها لديانة الحرانيين. ودافعت هذه المجموعة عن حق الحرانيين في ممارسة عبادتهم كما كانوا يفعلون من قبل. وكانت الغلبة لوجهة نظرهم، وبقي المعبد مائتي عام أخرى.
في نهاية ذلك الوقت تصادف أن مر الخليفة نفسه عبر حران. أصاب الذعر الناس. فقد يدينهم الخليفة بأنهم وثنيون، ويجردهم من حقوقهم الشرعية أو حتى يحكم عليهم بالموت. ثم اكتشفوا الإشارة إلى «الصابئة» في القرآن وتمسكوا بها: أعلنوا أنهم الصابئة، وبذلك ربحوا ثلاثمائة عام أخرى من السلام. (لم يشر أحد سوى البيروني حاد الملاحظة إلى أن المندائيين في أهوار جنوب العراق هم الصابئة الحقيقيون.) كان الحرانيون أيضا محميين بمعرفتهم بالعلوم اليونانية، مما جعلهم مفيدين لحكامهم المسلمين. فقد وظف حراني يدعى ثابت بن قرة في «بيت الحكمة» اللامع في بغداد، وهي مؤسسة أسسها الخلفاء المسلمون لتكون مستودعا للمعرفة العلمية في العالم. فحسب طول السنة في غضون ثانيتين وأثبت أن لنظرية فيثاغورس للمثلثات تطبيقا أوسع مما أثبت سابقا. وقدم دفاعا بليغا عن ثقافته قائلا: «من الذي استوطن العالم المسكون وعمر المدن، إن لم يكن رجال الوثنية وملوكهم البارزين؟ فلولا مواهب الوثنية، لكانت الأرض فارغة وفقيرة، محاطة بكفن عظيم من العوز.»
لم ينفد حظ حران إلا في القرن الحادي عشر وهدمت مجموعة من الغوغاء المزار المقدس، وبعثروا أحجاره، «المتلألئة مثل ضوء القمر»، على سفح التل. وبعد مائة عام دمر المغول المدينة وأبادوا شعبها، ومحوا ألفي عام من التاريخ. لكن لا يزال يمكن العثور على أفكار الحرانيين في قطاع ضيق جنوب المدينة المدمرة، يمتد من مقاطعة أذربيجان الإيرانية الجبلية غربا إلى البحر الأبيض المتوسط. فعلى الساحل السوري، على سبيل المثال، مارست جماعة من العلويين قرونا عديدة شكلا غير اعتيادي من الإسلام يتخلله عادات وأفكار كان الحرانيون يعترفون بها. وعلى الرغم من كون العلويين شيعة أصلا، فإن القواسم المشتركة بينهم وبين الشيعة التقليديين تضاهي في قلتها تلك التي بين الموحدين والبروتستانت الإنجيليين. تبع العلويون أحد عشر إماما من أصل اثني عشر إماما قادوا الشيعة في القرنين الأولين للإسلام. ثم تطورت أفكارهم في اتجاه متطرف للغاية.
في عام 2012 شرعت في إجراء مقابلة مع شيخ علوي في شمال لبنان، على أمل أن يتحدث معي عن دينه. كانت توقعاتي منخفضة. فحتى قومه لا يحق لهم معرفة الأسرار التي يحملها، وكنت شخصا غريبا يمثل جنسيتين غير مرغوب فيهما (بريطاني وأمريكي) في آن واحد. وقت زيارتي، كان العلويون مثار جدل بشكل خاص؛ لأن الحكومة السورية ورئيسها العلوي، بشار الأسد، كانا متورطين في عمليات قمع وحشي وقتل جماعي. لذلك لم أكن متأكدا من مدى سهولة الوصول إليهم، ناهيك عن جعلهم يتحدثون. لكنني، مسلحا بهاتف محمول رخيص، وبعض أرقام الهواتف، وسائق سيارة أجرة أشيب من الضواحي الجنوبية لبيروت، وسيارة شهدت أياما أفضل، كنت سأحاول.
تقع مدينة طرابلس المسلمة السنية في شمال لبنان، وفي إحدى ضواحيها (كانت في الأصل قرية على التل ابتلعتها المدينة حاليا) يعيش العلويون. كان الأمر واضحا عندما دخلت هذه الضاحية؛ كانت صور ضخمة لبشار الأسد معلقة على كل عمود إنارة. كنت قد رتبت للاجتماع من خلال زعيم محلي اتهم بتنظيم الميليشيا التي قادت العلويين المحليين في معارك ضد جيرانهم المسلمين السنة. استجوب الرجال الواقفون في الشارع سائق سيارة الأجرة الذي أحضرني ولم يقتنعوا إلا عندما اكتشفوا أنه شيعي. فهذا جعله في نظرهم حليفا؛ وهو أمر نادر.
بعد تفتيش جسدي كامل للتأكد من أنه لم يكن معي أي أسلحة مخفية، أرشدوني إلى مكتب شيخ علوي كان رأسه مغطى بعمامة حمراء وبيضاء. أكد لي قائلا: «لا يوجد لدينا في معتقداتنا أي شيء مخفي. ثمة بضعة أمور خاصة، وهذا كل ما في الأمر؛ مثل عادات الأجداد وما شابه ذلك.» اشتملت هذه العادات على تحريم أكل لحوم الإبل والأرانب، ولحم أي حيوان من جنس مختلف عن جنس الشخص؛ أي إن النساء كن يأكلن لحوم إناث الحيوانات، والرجال يأكلون لحوم ذكور الحيوانات. هل أعطوا أهمية متسمة بالتقديس بساتين الأشجار، كما لمح لي السفير البريطاني؟ لا. هل اعتبروا عليا إلها؟ لا، فقط اعتبروه صاحب شريعة وخليفة للنبي. أما عن سوريا، فحسب زعمه، أن ما كان يجري هناك هو من فعل إرهابيين يعملون في خدمة إسرائيل. أثناء مغادرتي، كان الشيخ على استعداد لمشاركة ملاحظة أخيرة حول دينه. فقال متكلفا الابتسام: «لا يوجد علويون في الجحيم. الإرهابيون فقط في الجحيم، ويعانون من العذاب.»
لم يكن الشيخ صريحا جدا وفقا لأحد العلويين الذي طلب عدم الكشف عن هويته. وتتضمن أكثر طقوس العلويين سرية شرب خمر مقدسة وتظهر تأثيرات مسيحية واضحة جدا - فهم يسمونه القداس، وتشير كتبهم إلى المسيح - ولكنها تقتبس أيضا من التقاليد الآتية من إيران؛ فجوهر الطقوس موروث من الزرادشتية، التي تعتبر فيها الخمر وسيلة لتحقيق التواصل مع الله. يمكن أن تتناسخ أرواح الناس من جديد في هيئة نباتات أو حيوانات؛ ولعل هذا هو السبب في أن بعض أنواع الأشجار لها أهمية متسمة بالتقديس، رغم أن الشيخ نفى ذلك. والكتب المقدسة العلوية (التي نشرها علماء غربيون، مع أنه لا يمكن لغير المنضمين للطائفة أن يطلعوا عليها) تعلم أفكارا أباحها الفلاسفة المسلمون الأوائل واستمرت أيضا في تقاليد حران. وتسرد الكتب العديد من الشخصيات من التاريخ بوصفهم نظراء بشريين لخدام الله السماويين؛ ليس فقط أشخاصا مألوفين من الإسلام والمسيحية، مثل محمد ويسوع، ولكن أيضا آخرون مستمدون من التراث الكلاسيكي، مثل أفلاطون والإسكندر الأكبر. أعظمهم، في تراثهم، هو علي، صهر محمد. فقد كان لمحة عن الله أو صورة له، وهو أقرب شيء إلى الله على الأرض يمكن للعقل البشري المحدود أن يدركه. وسيكون من الصواب تعظيم علي بقول إنه الله، ولكن من الخطأ جعل الله محدودا بقول إن الله هو علي. (في الحقيقة يقول العلويون: «الصورة هي الله، ولكن الله ليس الصورة»، وهي عبارة تشبه تلك التي استخدمها المسيحيون النسطوريون في نص يرجع تاريخه إلى سنة 550 ميلادية: «المسيح هو الله، ولكن الله ليس هو المسيح.»)
يشارك العلويون أيضا الإيزيديين والحرانيين في تقديس الكواكب. وسميت إحدى قبائلهم تيمنا بالشمس، وأخرى بالقمر. كان تعظيم الشمس والقمر يعد فضيلة، على الأقل لدى بعض العلويين. «إنهم لا يحبون القمر»، هكذا اشتكى أعضاء إحدى القبائل العلوية من قبيلة أخرى عندما تحدثوا إلى مبشر بريطاني من القرن التاسع عشر يدعى صموئيل لايد، الذي كتب لاحقا كتابا عن تجاربه وسط المجموعة. وقالوا له أيضا إن عليا، الذي كان أقرب شيء إلى الله على الأرض، قد أخفى نفسه في عين الشمس؛ وكانت تلك حجتهم في أنهم يولون وجههم شطر الشمس وقت الصلاة. (كان ثمة اعتقاد مشابه بشأن الإله ميثرا؛ ومن المحتمل أنه في مرحلة ما حل اسم علي محل ميثرا، إما كذريعة أو توفيق متعمد، وأنه بمرور الوقت نسي الارتباط الأصلي.)
عندما وطئت قدم نيل أرمسترونج القمر، أثار ذلك أزمة لاهوتية بين العلماء العلويين. إذ كانوا يعتقدون، مثل الحرانيين، أن القمر كان تجليا ماديا لروح كانت في التسلسل الهرمي السماوي وسيطا بين الله والإنسان؛ ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك صحيحا إذا كان كتلة صخرية، وليس حتى القمر الوحيد في الكون، ولكنه واحد من كثير؟ لذلك كتب شيخ علوي اسمه أحمد محمد حيدر كتابا بعنوان «ما بعد القمر»، حاول فيه شرح المشكلة. هذا، على الأقل، ما أخبرني به مصدري المجهول. ومع أنني وجدت أن الكتاب قد نشر بالفعل، ووجدت نقدا له أكد أنه ناقش طبيعة النجوم والكواكب، فإن جميع نسخه اختفت في ظروف غامضة؛ لذلك لم أتمكن مطلقا من اكتشاف حل الشيخ المقترح للمشكلة. وتتلاءم هذه السرية المطلقة مع ما كتبه جاكوب دي فيترياكو، الأسقف الصليبي لعكا في القرن الثالث عشر، عن عقائد العلويين السرية، التي سماها دستورهم: «إذا كشف أي ابن عن الدستور لأمه، يقتل بلا رحمة.» وما زال العلويون متكتمين بصرامة حتى اليوم. بل هم أكثر من ذلك، في الواقع، بسبب قوتهم السياسية وارتباطهم بنظام الأسد المثير للجدل. لذا لم أتعمق كثيرا في استفساراتي بشأن معتقدات العلويين.
أما الإيزيديون، الذين لا سلطة لهم، فهم أقل خجلا. أخبرني ميرزا أن الشيخ شمس «مسئول عن» الشمس. لكنه أيضا ملاك جاء إلى الأرض وتجسد في هيئة بشرية لنشر الحكمة الإلهية. ثمة أوجه تشابه أخرى بين الحرانيين، والعلويين، والإيزيديين. فالثلاثة يؤمنون بتناسخ الأرواح ويعظمون النار. (علق بيرسي بادجر، وهو مبشر بريطاني من القرن التاسع عشر، قائلا إن الإيزيديين «لا يبصقون في النار أبدا، وفي كثير من الأحيان يمررون أيديهم عبر ألسنة اللهب، ويتظاهرون بأنهم سيقبلونها ويغسلون وجوههم بها.») ويصلي الإيزيديون والعلويون ثلاث مرات في اليوم وهم مولون وجوههم صوب الشمس، ويخبرنا البيروني أن الحرانيين يصلون ثلاث مرات في اليوم صوب الجنوب، ولكن الشمس تكون جهة الجنوب وقت الظهيرة. يشترك بعض الإيزيديين في التحريم المقدس بقتل الأسماك، التي يعتبرونها مقدسة لأنها تعيش في الماء. (أخبرني أحد أصدقاء ميرزا إسماعيل، وهو أبو شهاب، بأن أحد أولياء الإيزيديين نصب خيمته عند دمشق «منذ 1350 عاما» وأن السمك خرج من النهر ليكون أوتاد خيمته، ومنذ ذلك الحين ، لم يقتل الإيزيديون الأسماك. وأضاف أن دمشق كانت فيما مضى إيزيدية. وبالفعل، السنين سجل البيروني من ألف سنة أن الحرانيين كان لهم مزار مقدس في دمشق.) •••
يتجه الطريق شرق أورفة نحو الأرض التي لا يزال يعيش فيها الإيزيديون. أصبح فقر الأماكن التي مررنا بها أكثر وضوحا، حتى من المطاعم الموجودة على جانب الطريق التي توقفنا عندها. في آخر هذه المطاعم، لم يكن يوجد سوى مطبخ مكشوف يصطف أمامه رجال محبطون يحملون أوعية حساء فارغة، يهشون الذباب بعيدا. شعرت أنني بعيد بقدر يفوق التصور عن المنتجعات السياحية على ساحل البحر الأبيض المتوسط في تركيا، لكن شيئا واحدا على الأقل كان مألوفا أكثر لي هنا؛ فاللغة التي سمعتها كان لها صدى أماكن أخرى عرفتها. قال السائق عندما توقفنا: «بانج دكا». تعرفت على هذه العبارة؛ فهي تعني: «خمس دقائق». كانت العبارة ذاتها التي سمعتها في إيران وأفغانستان. سأل رجل رجلا آخر: «تشوني؟» أي «كيف حالك»، وكان الرد «باشي، أنا بخير».
كانت هذه هي اللهجة الكرمانجية، الخاصة باللغة الكردية، التي ما زالت موجودة مئات السنين رغم الجهود المستمرة التي تبذلها الحكومة التركية لقمعها. عندما كان الرجل صاحب الشخصية الآسرة، مصطفى كمال، الملقب «أتاتورك»، يحاول بعد الحرب العالمية الأولى تكوين دولة تركيا الحديثة مما تبقى من الإمبراطورية العثمانية الآخذة في الاضمحلال، شعر بأن تنوع دولته الجديدة كان مصدر ضعف وانقسام. فحاول قمع العديد من الهويات المحلية والإقليمية، ونجح في بعض الحالات، ولكن ليس مع الأكراد. وحظر هو وخلفاؤه الكرمانجية في المدارس، لكنها ظلت باقية (رفع الحظر حاليا). كان الأكراد يتعلمون أنهم أتراك، لكنهم تمسكوا بهويتهم الكردية، وطالبت حركة انفصالية قوية بإقامة دولة كردية منفصلة؛ على أساس أنهم شعب تميزه لغته وعرقه عن الأتراك في الغرب، والعرب في الجنوب.
في العراق اقترب ذلك الحلم من أن يؤتي ثماره. وعندما وصلنا إلى الحدود، لم أستطع التأكد من أن ذلك كان العراق الذي كنت أنظر إليه عبر أحواض البوص، والنهر الضيق، والسياج الحدودي الشائك. كان علم ضخم معلقا على الجانب الآخر من الحدود، وطرفه يكاد يتدلى فوق الجانب التركي من الحدود، لكنه لم يكن العلم العراقي. كان يتكون من الألوان الأحمر، والأبيض، والأخضر وشمس صفراء في وسطه؛ كان هذا علم كردستان. ولعقود من الزمان كان هذا العلم رمزا محظورا لرغبة الأكراد في الاستقلال. ولم يشعر الأكراد بالقوة الكافية لرفع علمهم إلا بعد عام 1991، وفقط في العراق. شهدت هذه الحقبة إنشاء القوى الغربية لمنطقة حظر جوي في شمال العراق، مما مكن الأكراد من تحدي صدام دون عقاب. ومنذ سقوط صدام عام 2003، رفع الأكراد علمهم بموجب الحق الدستوري، في المحافظات الثلاث التي يسمونها الآن كردستان العراق.
ومع ذلك، طوال مدة وجودي في الأراضي التركية، كانت «كردستان» كلمة محظورة، توحي بالانفصالية وانقسام تركيا إلى مناطق عرقية منفصلة. وعندما لاحظ أحد الركاب الكلمة على شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بي، هز إصبعه في وجهي حتى حذفتها. ومع ذلك كانت «مرحبا بك في كردستان!» هي الكلمات التالية التي سمعتها بمجرد عبور الحدود. وما كان هرطقة في مكان ما أصبح مألوفا في المكان الذي يليه. وبمجرد وصولي إلى العراق، وجدت أن الناس يقولون «كردستان» كلما أمكنهم ذلك. وكان أكراد العراق يستخدمونها بطريقة قاطعة وحازمة، كما لو كانت تتمتع بقوة سحرية، وكأن استخدامها مصدر لحريتهم وازدهارهم المتنامي.
ينعم أكراد العراق بوحدة دون تجانس. فهم منقسمون بين عشرات القبائل، وثلاث لغات، وفصيلين سياسيين تقاتلا في السابق حربا أهلية وحتى الآن يعملان معا بريبة متبادلة، لكنهما تعاونا بفعالية كافية للفوز بدرجة عالية من الحكم الذاتي، وتقليل الهجمات الإرهابية في منطقتهما إلى الحد الأدنى، والحصول على حصة ثمانية عشر بالمائة من عائدات النفط العراقي، التي تقدر بمليارات الدولارات سنويا. لم يسبق للأكراد من قبل أن جربوا مثل هذه الثروة. كان تاريخهم طويلا؛ إذ توجد إشارات إلى «الشعب الكورتي» في تلك التلال منذ ثلاثة آلاف عام، وبعض العلماء يتتبعون أصولهم إلى ما قبل ذلك. لكنهم لم يكونوا أثرياء أبدا ولم يتركوا أثرا بالغا لثقافتهم؛ ربما لأن الجبال وسفوح التلال التي زرعوها لم تكن خصبة، حتى لو كانت توفر ملاذا ممتازا من الأعداء. ففي زمن ماركو بولو كانوا قطاع طرق، إن كنا سنصدق ذلك المسافر الجريء أو ربما المحتال. فقد أورد متذمرا: «الأكراد مقاتلون متحمسون وخارجون عن القانون، مغرمون جدا بسرقة التجار.»
الآن، على النقيض، يشعر الأجنبي بالأمان التام في المناطق الناطقة باللغة الكردية. وعلى خريطة رأيتها خلال زيارتي تظهر نقطة حمراء لكل هجوم عنيف في العام الماضي، كانت كردستان مساحة فارغة. وتناثرت النقاط الحمراء حول أطرافها، خاصة في منطقة ضيقة على حدودها الغربية تسمى سهل نينوى. وبالقرب من موقع نينوى التوراتي ذاته، الذي يقع حاليا داخل حدود ثاني أكبر مدينة في العراق، الموصل، تزيد كثافة النقاط الحمراء. كانت الموصل ذاتها - «أخطر مدينة في العالم»، كما وصفتها إحدى الصحف مرة - مجرد بقعة حمراء كبيرة بلون الدم.
عندما كنت في الموصل من قبل، بصفتي مراقبا للانتخابات، كنت في سيارة مصفحة بالكامل، لدرجة أن المنظر الوحيد للخارج كان على شاشات فيديو. ومع ذلك، يبدو أننا كنا على وشك أن نتعرض لانفجار قنبلة على جانب الطريق. قال قائد القاعدة لمجموعتنا الصغيرة عندما وصلنا إلى موقعه على حافة المدينة: «لم أكن أتوقع رؤيتكم. لقد تلقيت تقريرا بإصابة إحدى عرباتنا، وظننت أنها عربتكم.» في اليوم التالي في المدينة قابلنا أهلها بنظرات باردة وهادئة. لا، لم تكن لدي رغبة في العودة إلى الموصل. ومع ذلك، يبدو أن الحافلة القادمة من إسطنبول كانت متجهة إلى هناك؛ من المؤكد أنها كانت تترنح الآن على الطريق تحت لافتات تعود إلى عهد صدام مكتوب عليها «الموصل»، مرورا بحقول محصودة وقمم تلال جرداء.
كان بوسعي الآن أن أرى - بعد فوات الأوان - مدى أهمية الجغرافيا لسلامتي. كنت قد ركبت هذه الحافلة دون تفكير ولم أبذل أي جهد في التخطيط، باستثناء شراء خريطة لشمال العراق. كان من المفترض أن تكون أفضل المتاح، لكنها لم تعطني سوى ما يكفي من المعلومات لإثارة قلقي. كانت وجهتي هي أربيل، العاصمة الكردية. وعلى الخريطة، مر الخط الأحمر السميك للطريق الرئيسي المؤدي إلى أربيل عبر الموصل. تسارعت دقات قلبي، وأمسكت بإطار النافذة. حاولت أن أسأل الركاب المرافقين لي عما إذا كان هذا هو الطريق الذي سنسلكه، لكنهم كانوا تجارا أكرادا وأتراكا، ولم يكن بوسعهم فهم لغتي العربية أو الفارسية.
بدأت أنظر من النافذة بقلق، راغبا في أن تنعطف الحافلة إلى طريق جانبي، لإيجاد طريق مختصر عبر الحقول. خلعت نظارتي وكنت أتساءل كيف يمكنني أن أغير قميصي، أو أنحني بعيدا عن الأنظار، أو أخفي جواز سفري البريطاني، عندما - فيما شعرت أنه اللحظة الأخيرة - انعطفت الحافلة أخيرا إلى اليسار، تاركة الطريق السريع الرئيسي ومتجهة نحو طريق ضيق، أقيم حديثا، وليس على خريطتي. بدا أن الأكراد كانوا حريصين على تجنب الموصل مثلي، وكانوا قد بنوا شبكة من الطرق الجديدة للالتفاف من حولها. في الواقع، كما أدركت لاحقا، لم تغير سنوات القتال شكل الطرق فحسب، بل غيرت طبيعة المنطقة.
وبينما كانت الحافلة تسرع على هذا الطريق المختصر الجديد، مشاركة الطريق مع سائقين متهورين وسيارة واحدة محطمة على الأقل، تلقيت درسا آخر في جغرافية الخطر. اتضح أنه كان يوجد رجل واحد على متن الحافلة يتحدث العربية بما يكفي لأن يفهمني. كان يدعى الحاج عباس ويعيش في مدينة كركوك خارج حدود كردستان. علمت منه أن استفتاء سيقرر ما إذا كانت مدينته، إلى جانب منطقة كاملة من الأراضي المتاخمة لكردستان - «الأراضي المتنازع عليها»، التي تشمل أيضا سنجار، مسقط رأس ميرزا - ستديرها الحكومة الإقليمية الكردية في أربيل أو الحكومة المركزية العراقية في بغداد. وفي غضون ذلك، كانت كركوك قد أصبحت مدينة هادئة، شبه مهجورة تعاني من العنف الديني والعرقي. كانت كلمات عباس لي عند توديعي: «لا تنس تركمان العراق»، افترضت أنه لا بد أن يكون واحدا منهم، من سلالة الجيوش الغازية من سهول آسيا الوسطى التي حافظت على لغتها التركية على مر القرون، وأصبحت الآن مجتمعا عراقيا متمايزا. سمعت المزيد من المناشدات في الأيام القليلة التالية من جماعات مستضعفة أخرى؛ مثل الشبك، وهم مسلمون يمارسون طقس شرب الخمر والاعتراف بخطاياهم، والآشوريين، وهم آخر من تبقى من كنيسة المشرق، وهي طائفة مسيحية كانت يوما ما تصل إلى الصين، والكاكائيين، وهي جماعة مثل الإيزيديين ولكنها ترفض نظام الطبقات الإيزيدية، وبدلا من اتباع الشيخ عدي، اتبعوا السلطان إسحاق. كانت «الأراضي المتنازع عليها» موطنا لمعظم الأقليات المحاصرة في العراق، التي كانت كلها متوترة بشأن ما قد يحدث بعد ذلك. •••
أنزلتني الحافلة في أربيل، عاصمة كردستان، عند مركز تسوق مليء بالسلع الإلكترونية. شربت كابتشينو سيئا، راضيا بفرصة البقاء بعيدا عن أشعة الشمس الحارقة بينما أفكر في خطوتي التالية. كانت أربيل قد توسعت سريعا في بضع سنوات فقط، وأينما نظرت كنت أجد مشاريع سكنية وطرقا جديدة. كان أحد أصدقائي يقيم في المدينة، وعندما اتصلت به عبر الهاتف، ساعدني في العثور على سائق اسمه طه، وهو مقاتل سابق فظ في الميليشيات الكردية، أبقى سيارته في حالة جيدة؛ حيث كان الغلاف البلاستيكي المتجعد لا يزال على مقاعدها. وبلغة عربية متلعثمة أخبرني أنه لم يزر بغداد قط. فقد مكث داخل كردستان. أسعده، مع ذلك، أن يأخذني إلى لالش وبعض الأماكن الأخرى التي يعيش فيها الإيزيديون؛ ولكن ليس إلى سنجار، التي تقع خارج كردستان والتي قال إنها أقل أمانا.
لالش هي المكان الذي دفن فيه أحد مؤسسي الديانة الإيزيدية. اسمه الشيخ عدي بن مسافر، وهو واعظ صوفي؛ يحتفي الإيزيديون كثيرا بقداسته وزهده. وغالبا ما ينظر إليه باعتباره مصلح العقيدة الإيزيدية، التي أسستها شخصية غامضة تدعى سلطان يزيد. أخبرني ميرزا أن «يزيد» كان مجرد اسم آخر لله. وحسب أحد النصوص الأكثر إثارة للجدل أن يزيد هو الخليفة يزيد، أحد أوائل الحكام المسلمين السنة وشخصية يحتقرها الشيعة. ويعاني الإيزيديون الأمرين في العراق الذي يسيطر عليه الشيعة لإنكار هذه الرواية.
ثمة قدر أقل من الجدل حول عدي بن مسافر، الشخصية التاريخية التي تظهر في المصادر غير الإيزيدية. ولد نحو عام 1075، من نسل الخلفاء الأمويين، حكام الإسلام سابقا. وكان مسقط رأسه بالقرب من بعلبك في سهل البقاع في لبنان؛ حيث ربما كان الحرانيون في ذلك الوقت لا يزالون يملكون بؤرة استيطانية. لذلك ربما كان بالفعل على دراية بسيطة بعادات مثل تلك العادات الخاصة بالإيزيديين عندما انطلق من تلك القرية النائية في رحلة امتدت مئات الأميال لدراسة الصوفية في بغداد. بعد ذلك، بدلا من البقاء في عاصمة الإمبراطورية والتمتع بحياة العلماء المريحة، ذهب بوصفه مبشرا إلى المناطق الكردية، التي كانت في ذلك الوقت جامحة، وخطيرة، ومقاومة للإسلام. وأسس جماعة من الصوفيين (مبشرين متصوفين منكرين للذات كانوا يشبهون الرهبان المتجولين الأوروبيين في العصور الوسطى، وربما كانوا مصدر الإلهام لهم، وكانوا يرتدون الصوف) تسمى العدوية. وغالبا ما منح المبشرون الصوفيون، الذين اهتدى الناس على أيديهم على تخوم الإسلام، أنفسهم مرونة قبول جوانب المعتقدات القديمة لمن اهتدوا على أيديهم، وأحيانا كانوا يضيفون لها أسماء إسلامية ويعيدون تشكيلها حتى يمكن أن تتوافق مع الشعائر الإسلامية. وكان القصد من ذلك أن يرى المعتنقون الجدد أنفسهم مسلمين في نهاية المطاف. ولكن في بعض الأحيان، لم تترسخ التعاليم الجديدة، وانتهجت بعض جوانب الإسلام، لكنها كانت جوانب سطحية، ولم يكن من زعموا الاهتداء يعتبرون في قرارة أنفسهم أنهم مسلمون، وإنما كانوا يتذكرون هويتهم القديمة. وربما حدثت بعض هذه الأمور لأتباع عدي، الذين تخلوا في النهاية عن أي تظاهر بأنهم مسلمون بالمرة.
كانت لدى عدي ذاته، من وجهة نظر معاصريه المسلمين، وجهات نظر غريبة إلى حد ما. ومن المؤكد أن القصيدة التي نسبها إليه الإيزيديون في القرن التاسع عشر تبدو غير تقليدية. فهي تستهل على نحو محمود كما يلي: «حكمتي تعرف حقيقة الأشياء؛ فالشر لم يصاحبني.» لكن القصيدة تستمر في تقديم ادعاءات أعظم: «كل الخلق تحت سيطرتي ... وكل مخلوق خاضع لي. أنا من يرشد البشرية إلى عبادة جلالتي ... وأنا من ينتشر في السموات العلا.» ويبدو أن بعض الإيزيديين أيضا يعتبرون أنه يتمتع بمكانة إلهية. فقد قال الخادم في ضريح لالش لبيرسي بادجر، أحد المبشرين البريطانيين في القرن التاسع عشر: «من هو خالق الخير؟ الله أم الشيخ عدي؟».
ومع ذلك فإن الشيخ عدي ليس الشخصية التي سيذكرها معظم الإيزيديين عندما يسألون عن ماهية دينهم. كما أن صورته ليست هي الصورة المعلقة على جدرانهم. لقد كان مجرد التجسيد الدنيوي للملك الطاووس، الحاكم الحقيقي لهذا العالم، القائم مقام الله في الكون المعلوم، وأقرب تمثيل إلى الله يمكن لعقولنا البشرية المحدودة استيعابه. وبما أن وجهة نظر الإيزيديين تجاه الله مجردة جدا - فهم يقولون إنه لا يمكن قول أي شيء عن الله بأي قدر من اليقين باستثناء أنه موجود - فإن الملك الطاووس هو محور تركيز ديانتهم. وفي القرون السابقة، حملت سبع تماثيل برونزية للملك الطاووس (تسمى سناجق) بشكل احتفالي حول القرى الإيزيدية ليقدسها الناس. ووصف المبشر بادجر «السنجق» على النحو التالي: «التمثال على هيئة طائر، أكثر شبها بالديك من أي طائر آخر ... مثبت على قمة شمعدان، حوله مصباحان، موضوع أحدهما فوق الآخر، ويحتوي كل منهما على سبع شعلات، والجزء العلوي أكبر إلى حد ما من السفلي.» فقد خمسة من السناجق؛ وبقي اثنان. يؤمن الإيزيديون أيضا أن الملك الطاووس يتنزل إلى الأرض كل عام في يوم يسمى جارشما سور «الأربعاء الأحمر»، لبدء العام الجديد. ويتميز هذا العيد بتلوين البيض، تماما مثل عيد الفصح المسيحي. ويعتبر الإيزيديون أن البيضة ترمز إلى خلق العالم، الذي كان في أسطورة الخلق الخاصة بهم يوما ما سائلا وأصبح صلبا (مثل البيضة المطبوخة)، وكان عديم اللون حتى وضع الملك الطاووس ريشه الملون عليه، وأضفى لونه الأزرق والأخضر على بحاره وغاباته.
والأمر الأكثر إثارة للجدل، أن الإيزيديين يطلقون على الملك الطاووس اسم عزازيل أو إبليس، وكلاهما في التراث الإسلامي (وأيضا اليهودي والمسيحي) اسمان لأعظم الملائكة، الذي تمرد على الله وألقي به في الجحيم - أي باختصار، الشيطان. وللطاووس روابط مماثلة. فالدروز في لبنان يعتقدون أن الطاووس، وليس الأفعى، هو من أغوى آدم في جنة عدن. ويعتقد بعض الزرادشتيين في إيران أن الطاووس هو الشيء الجيد الوحيد الذي صنعه الشيطان، كوسيلة لإثبات أن لديه القدرة على فعل الخير إذا اختار ذلك.
فتاة أرمينية إيزيدية تقبل تمثال الملاك الطاووس، ملك طاووس. يطلق على ملك طاووس أيضا اسم إبليس أو عزازيل، ولكن يعتقد الإيزيديون أنه صالح وليس شريرا. وكالة الأنباء الفرنسية/جيتي إيمدجز.
ولكن، لن يطلق الإيزيديون أبدا على الملاك الطاووس اسم «الشيطان»؛ لأنها كلمة محظورة عليهم ومن أشد المحرمات صرامة وتحفظا. ففي القرن التاسع عشر، كتب الإيزيديون رسالة إلى السلطات العثمانية يصفون فيها ممارسة مروعة كان عليهم تنفيذها عند سماع اسم الشيطان: وهي قتل الشخص الذي قال الاسم، ثم قتل أنفسهم لأنهم سمعوه. بعد حرب العراق، لم يبالغ النائب الإيزيدي الوحيد في البرلمان العراقي في رد فعله عندما سمع رئيس الوزراء يستعيذ بالله من الشيطان في بداية خطبه. لكنه أثار ضجة عندما نهض للاعتراض على هذه الممارسة، أو بالأحرى على حقيقة أن نوابا آخرين رمقوه بنظرات اتهامية في كل مرة قيلت فيها الاستعاذة. وقد حدثت هذه النظرات الاتهامية لأن أولئك البرلمانيين الآخرين اعتبروه من عبدة الشيطان.
وكذلك فعل سائق السيارة الأجرة طه، كما كشف لي أثناء رحلتنا شمالا نحو بلدة تدعى دهوك، حيث كان من المقرر أن أقابل عالما إيزيديا ومسئولا كرديا يدعى خيري بوزاني. فقد حذرني طه وهو يقود السيارة، قائلا: «سترى أنني لن آكل أيا من طعامهم. يقول الناس إن المسلمين كانوا فيما مضى يأكلون طعام الإيزيديين. لم نعد نفعل ذلك. فالملك طاووس هذا الذي يعبدونه، هو الشيطان.» أخبرني إيزيديون أصغر سنا فيما بعد أنه أصبح من الشائع أن يرفض الأكراد المسلمون تناول الطعام معهم. وكان الزوار الأوروبيون الأوائل أيضا متحفظين بشأن الإيزيديين بسبب ملك طاووس. فقد وجد أوستن هنري لايارد، وهو عالم ارتحل عبر شمال العراق سنة 1840، أن الإيزيديين أكثر تهذيبا من جيرانهم؛ وأشار بشكل خاص إلى «سلوكهم الهادئ المسالم، ونظافة قراهم وحسن ترتيبها». ومع ذلك، فقد تردد في قبول دعوتهم للمشاركة في حفل تسمية أحد أطفالهم. «على الرغم من احترامي وتقديري للإيزيديين ... كنت بطبيعة الحال حريصا على التأكد من مقدار المسئولية التي قد أتحملها، في كوني الأب الروحي لطفل يعبد الشيطان.» •••
ما يعتقده الإيزيديون حقا بشأن ملك طاووس أكثر إثارة للاهتمام وللتفكير من عبادة الشيطان. ففي القرن التاسع الميلادي، كان المسلمون، والمسيحيون، والزرادشتيون، وغيرهم يتصارعون فيما بينهم في الإمبراطورية العباسية التي كان يحكمها المسلمون. ولم تكن علوم العقيدة الإسلامية راسخة حينها كما أصبح منذ ذلك الحين، وكان الصوفيون مهتمين اهتماما خاصا باستحداث تفسيرات جديدة مبتكرة وجريئة للدين. ومن هؤلاء الصوفيين كان حسين بن منصور الحلاج. كان جد الحلاج من الزرادشتيين، ويؤمن بالازدواجية، المتمثلة في فكرة أن الكون هو المكان الذي تجري فيه معركة بين الخير والشر. وكان حفيده يرى الفكرة المعاكسة. وفي يوم طرق باب أحد الأصدقاء. وعندما سأل الصديق عن هوية الطارق، أجاب الحلاج: «أنا الحق، أنا الله». وقال في مرة أخرى: «لا شيء في هذه العباءة غير الله.»
كلمات الحلاج أكسبته معجبين. وقال الشاعر الرومي إنها أظهرت روحا تتمتع بقدر من التواضع أعظم من أن يطلق المرء على نفسه «عبد الله»؛ لأن عبارة الحلاج مثلت إنكارا تاما للذات، واستعدادا لأن يستوعبها الله بالكامل. وكما كتب الحلاج: «عندما تبيد قلبك، يدخله الله ويكشف عن وحيه المقدس.» وقد كان لدى بعض المسيحيين فكرة مماثلة؛ حيث كان كاهن وثني سابق يدعى مونتانس، الذي مضى في تأسيس حركته المسيحية المنشقة، قد ادعى أن الله يسكن روحه وأعلن: «أنا الآب، والابن، والروح القدس.» ووصف يوسف بوسنايا، وهو كاهن مسيحي من القرن التاسع عشر، تجاربه الصوفية بقوله إن «روح [الإنسان] نفسها تصبح المسيح ... وتصبح الرب ولا يعد الرب ربا.» لكن الحلاج كان يثير وجهة نظر فلسفية أوسع. فقد كان يقصد أن كل شيء هو الله. وكتب في إحدى قصائده: «أنت من أرى في كل شيء.» وكان هذا هو التوحيد المطلق؛ فكل شيء، حرفيا، هو من الله بشكل أو بآخر.
وباعتباره موحدا توحيدا مطلقا، جاهد الحلاج لفهم فكرة الشيطان. ففي عالم من صنع الله، كان الشيطان قطعة غير منسجمة. وفي التراث الإسلامي التقليدي، الذي كان يتشارك فيه مع اليهود والمسيحيين، كان الشيطان شرا خالصا؛ متمردا على الله لا يمكنه أن يتوب أبدا ولا يمكن التصالح معه أبدا. والسؤال: ألم يعن ذلك أن الله الخالق كان إما ظالما أو ليس قديرا كما علمنا الدين؟ وكان الزرادشتيون، أيضا، قد انتبهوا لهذا السؤال تحديدا. فقد تحدوا جيرانهم المسيحيين بقولهم إنه إذا كان الله قديرا، فلماذا إذن يسمح للشيطان بارتكاب الشر في العالم؟ لماذا لا يستطيع أن يفدي الشيطان كما فدى البشرية؟ توصل أحد أولئك المسيحيين، وهو إسحاق النينوي، إلى جواب. في نهاية العالم سيفتدى بالفعل كل مخلوق وحتى الشياطين ستدخل الجنة. وستختفي الجحيم. «لن تبقى الشياطين شياطين ولا الخطاة خطاة.»
ابتكر الحلاج جوابه الخاص على الزرادشتيين. فقد قال القرآن، مثل الكتب المقدسة المسيحية واليهودية، إن الشيطان كان أمير الملائكة، ورفض أن يسجد لآدم وتمرد على الله، ولهذا ألقي في الجحيم. لكن الحلاج أعطى هذه القصة منعطفا مذهلا. فقد قال إنه بسبب محبة غيورة ولا هوادة فيها، رفض الشيطان أن يسجد لآدم. وكان الشيطان النموذج الأصلي لكل هؤلاء الصوفيين وغيرهم ممن لم يركزوا سوى على تأمل الله، ولم يكن لديهم وقت للآخرين. ولكن، وفقا للحلاج، كان الشيطان ضالا أكثر من كونه شريرا. في وقتنا الحالي سيعتبر معظم المسلمين وجهة نظر الحلاج غير تقليدية جدا. ومع ذلك، في القرون الأولى للدين، كان يوجد متصوفة مسلمون آخرون اجتهدوا بالمثل في فهم مسألة كيف ينسجم الشيطان مع العالم. إحدى هؤلاء، وهي رابعة البصرية، صدمت مستمعيها برفضها أن تقول إنها تكره الشيطان، والتهديد بحرق الجنة وإطفاء الجحيم؛ لأن الخوف من العقاب أو الأمل في الثواب وقف بين الناس ومحبة الله الحقيقية.
تتوافق رؤية الإيزيديين لملك طاووس مع هذا التراث. وبالإشارة إليه على أنه عزازيل أو إبليس، فإنهم يعتبرونه الملاك المتمرد، ولكن ليس أمير الظلام. وهم يبررون ذلك ليس فقط بقولهم إن الشياطين ستتحول إلى ملائكة في نهاية الزمان، ولكن بأن هذا قد حدث بالفعل. شرح لي خيري بوزاني ذلك عندما وصلت إلى مكتبه في دهوك، المحاط بمنازل مطلية بألوان الباستيل وتخرج من أسطحها قضبان معدنية، استعدادا لبناء الطابق التالي للجيل القادم. قال خيري: «بعد تمرد عزازيل» حيث حرص على تجنب استخدام الاسم المحظور، كما لاحظت «عوقب، لكنه تاب.» وبعد سبعة آلاف سنة من النفي، كان عزازيل قد أطفأ نيران الجحيم بدموعه؛ ولذا أعيد إلى مكانته بوصفه رئيسا لجميع الملائكة. وهذا يعطي الإيزيديين نظرة مختلفة عن الكون، نظرة لا وجود فيها للجحيم. أضاف بوزاني: «لدينا فكرة عن الإله الواحد لا تملكها الأديان السماوية؛ فالشر والخير كلاهما نابع من الله. ولا توجد قوتان متصارعتان تتقاتلان من أجل الهيمنة على الكون.» وبعيدا عن عبادة الشيطان، يؤمن الإيزيديون أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل.
ربما يكونون قد تأثروا تأثرا مباشرا بأتباع الحلاج. فقد انتهى الواعظ المتطرف نهاية قاسية، بعد دعمه لتمرد العبيد في جنوب العراق، قبضت عليه قوات الخليفة العباسي وقطع إلى أشلاء. وهرب أتباعه إلى الشمال ولجئوا إلى الجبال هناك، في منطقة غير بعيدة من المكان الذي سيعظ فيه الشيخ عدي لاحقا وحيث يعيش الإيزيديون حاليا. من المحتمل أن أفكارهم انتقلت إلى أسلاف الإيزيديين، إما في زمن الشيخ عدي أو حتى قبل ذلك، واندمجت في حياتهم الدينية جنبا إلى جنب مع بقايا التقاليد والمعتقدات الأقدم بكثير.
كان تقليد استرضاء الآلهة الشريرة تقليدا قديما جدا في العراق. ويسجل كتاب «الزراعة النبطية» (المذكور في الفصل السابق) إحدى الصلوات، المستخدمة في العراق في القرن التاسع، والتي يبدو أنه تظهر فيها آثار للتأثير الإسلامي، ولكنها سرعان ما تكشف عن ذاتها بأنها من تراث مختلف تماما: «لا إله إلا الله وحده، ولا شريك له ... المنفرد بالجبروت والكبرياء والعظمة ... تباركت يا رب السماء وغيرها ... بحق حياتي نسألك أن ترحمنا. آمين ... وفي أثناء تلاوتك لهذه الصلاة، قدم قربانا محروقا لصنمه يتألف من جلود قديمة، وشحم، وشرائح من الجلد، وخفافيش ميتة. واحرق له أربعة عشر خفاشا ميتا ومثلها من الفئران. ثم خذ رمادها واسجد عليه أمام صنمه». كانت الصلاة موجهة إلى الإله زحل، «سيد الشر، والخطيئة، والقذارة، والأوساخ، والفقر»، وكان الهدف منها إقناعه بترك المتوسلين وشأنهم .
لعب دور زحل في آشور القديمة الإله نيرجال، الذي اعتبر أنه إله شمس الظهيرة العاتية، والطاعون، والموتى؛ وكان يحرس معابده تمثال ضخم برأس أسد. قد يكون من المهم قول إنه اتخذ شكل ديك صغير، يشبهه «السنجق» إلى حد ما. وفي القرون اللاحقة، نصب الميثرائيون تماثيل برأس أسد منقوش عليها «ديو آريمانيو» (أي من أجل الإله آريمانيو) - إشارة إلى أنجرا ماينيو، روح الشر في الديانة الزرادشتية، التي يبدو أن عبدة الإله ميثرا أرادوا استرضاءها. وفقا للمؤرخ اليوناني بلوتارخ من القرن الأول الميلادي، إن استرضاء الشر حدث في زمانه في إيران، واشتمل على قرابين من مستخلص نبات الهووما المسكر مخلوطا بدم ذئب مضحى به ومسكوب في كهف مظلم. ذكر يوحنا ابن الفنكي، الكاتب المسيحي الذي عاش في القرن السابع الميلادي والذي جاء من الحدود السورية التركية القريبة من حيث لا يزال بعض الإيزيديين يعيشون اليوم، أن الناس في منطقته يعبدون الشمس، والنجوم، وأيضا بعل شمين وبعل زبوب؛ والأول هو إله السماء القديم، والأخير هو لوسيفر.
المعبد في لالش. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
وبغض النظر عن أصول ملك طاووس، فقد كان رفيقا دائما طوال رحلتي مع طه إلى لالش: فشعار الطاووس، المرسوم على الأبواب والبوابات، كان يظهر في كل مكان عندما دخلت بلدة عين سفني الإيزيدية، القريبة من لالش. وكذلك نحت رأس طائر في الطابق العلوي لإحدى البنايات. كان يوجد في هذه البلدة فرع لمؤسسة تسمى مركز لالش الثقافي. كان مكانا بسيطا به مكتبة جيدة ومتحف صغير. التقيت في المكتبة بعياد، الذي كان من جيل جديد من الإيزيديين، وهو يقرأ مجلة. كان يستطيع القراءة والكتابة بأربع لغات مختلفة وكان حاصلا على شهادة في العلوم السياسية. ومثل العديد من المثقفين الإيزيديين الذين تحدثت معهم، كان مفتونا بتاريخ دينه. كنت قد بدأت أعتاد على أن يعطيني كل إيزيدي رواية مختلفة قليلا، الأمر لم يكن مفاجئا؛ نظرا إلى عدم وجود كتاب شامل لتعاليم عقيدتهم أو نصوص دينية متاحة للجمهور. وإنما يروي كل شخص قصة الإيزيديين بطريقة مختلفة قليلا، ومع ذلك توجد موضوعات مشتركة في كل نسخة من القصة.
كانت نظرية عياد عن قومه ما يلي: «نحن أحد شعوب الشمس. فيما مضى اعتبر أهل سوريا، وروسيا، وأرمينيا، وإيران، وتركيا الشمس إلها. كانت تلك هي المرحلة الأولى من ديننا، ألا وهي عبادة الطبيعة؛ ثم أصبحت إيمانا بإله واحد؛ وأخيرا جاءت تعاليم الشيخ عدي.» قال عياد إن الإيزيديين لم يعودوا يعبدون الشمس. لكنهم استمروا في الركوع لها عندما يصلون. وعندما شغل أول عضو إيزيدي في البرلمان مقعده في المجلس العراقي الجديد، لم يؤد اليمين الدستورية على القرآن أو الكتاب المقدس ولكن على علم كردستان، وبالتحديد على صورة الشمس في وسطه. لم يعتبر عياد ذلك صدفة. وقال: «نحن الأكراد الأصليون.» يخشى بعض الإيزيديين من أن الاندماج بين الأكراد سيهدد الهوية الإيزيدية، لكن عياد شعر أن المسار الأسلم والأصدق هو وضع شعبه في قلب الهوية الكردية. •••
وصفت الرحلة بالسيارة من عين سيفني إلى لالش في كتاب رحلات من أربعينيات القرن الماضي بأنها تجربة مؤلمة، يمكن أن تؤدي إلى كسر محور عجلة السيارة. لكن الأمور تحسنت؛ فيوجد الآن طريق ممهد سلس يتعرج عبر واد مشجر إلى المعبد. وفي اليوم الذي سافرت فيه على هذا الطريق، كانت السيارات واقفة على طوله، وكان بإمكاني سماع موسيقى البوب الكردية وضحك المراهقين. عندما اقتربنا أنا وطه من الضريح، مررنا بتمثال حجري للشمس. وتبين أن الضريح عبارة عن مجموعة متنوعة من المباني الحجرية التي تشبه ديرا قديما (ادعى كاهن مسيحي في العصور الوسطى أن لالش كانت بالفعل كنيسة مسيحية يوما ما) ويختبئ في واد مشجر. كان يوم زيارتي هو يوم الجمعة، عطلة نهاية الأسبوع الإسلامية. وكانت عائلات كثيرة في لالش للتنزه تحت أشجار التوت والتين التي ظللت ساحاتها المرصوفة بالأحجار. يوم الإيزيديين المقدس هو الأربعاء، حيث لا يعملون في الحقول، أو يسافرون، أو يغتسلون، أو يغسلون ملابسهم. ولكن قلة منهم هم من يحتفظون بهذا التقليد القديم، الذي قد يعود إلى المحرمات القديمة في بلاد الرافدين قبل المسيحية . وأصبح الآن يوم الجمعة، باعتباره يوم الصلاة الجماعية لدى المسلمين، العطلة الأسبوعية الأكثر شعبية من يوم الأربعاء.
بعد أن تركنا طه في السيارة - حيث قال إنه سيقابلنا لاحقا - انضممنا أنا وعياد إلى إحدى هذه العائلات وجلسنا تحت الأشجار، مع شرائح البطيخ على طبق بيننا. وكانت العائلة التي جلسنا معها لا تتحدث الإنجليزية ولا العربية. ابتسم الأب، الذي كان يلف على رأسه كوفية باللونين الأحمر والأبيض، بمودة، لكن محاولاتي لقول عبارة أو اثنتين باللهجة الكرمانجية المتعثرة أخفقت بالكامل. جلس أبناؤه معه، بينما تنزهت زوجته وبناته على بعد خطوات قليلة، محميين من أشعة الشمس بالجدران الحجرية لمبنى صغير تعلوه قمة مستدقة مخروطية متعرجة، وهي سمة مألوفة في الأضرحة الإيزيدية. (قد تكون الخطوط المنحدرة من القمة المستدقة، المنبثقة من قمة المخروط إلى قاعدته، مصممة لتشبه أشعة الشمس.) تطوع عياد ليريني المعبد ذاته، وهو المبنى الواقع في مركز مجموعة المباني. ومشينا في ممر غير مسقوف يطل على شرفة، بها امرأة ترتدي ملابس بيضاء تنظر إلينا بصمت. وقد كتبت رحالة بريطانية من منتصف القرن العشرين، هي إي إس دراور، التي زارت لالش خلال مدة وجودها في العراق، عن «النساء الموجودات بالضريح اللائي يرتدين ملابس بيضاء، ويشبهن الراهبات» واللائي لا يتزوجن أبدا، ويقضين حياتهن في غزل الصوف والعناية بالأضرحة والحدائق المحيطة بها. فكرت في أن هذه يجب أن تكون واحدة من هؤلاء النساء. في العصر البابلي، كانت نساء مقدسات يقضين وقتهن كذلك داخل حرم المعبد، يغزلن الصوف.
وصلنا إلى ساحة المعبد المضاءة بنور الشمس بعد أن عبرنا مدخلا بسقف مقوس يعلوه تمثال لرأس وعل. بجانب باب المعبد، كان يوجد نقش بارز لثعبان أسود كبير على الحائط الحجري، رأسه متجه لأعلى، ليكون بمنزلة تميمة لمنع الشر من الدخول. وكان للباب عتبة ضخمة. أشار إلي عياد بأنه ينبغي أن أخلع حذائي وأخطو فوق العتبة دون لمسها، كما يفعل الإيزيديون؛ لأن المؤمنين يقبلون العتبة التي يعتبرونها مقدسة. وهكذا دخلنا إلى غرفة مظلمة مرصوفة بالأحجار، تفوح منها رائحة الغبار والقدم ، ويتسلل الضوء عبر النوافذ الصغيرة، وكانت الزخرفة الوحيدة التي تدلت من أعمدتها المركزية هي بعض لفائف الحرير ذات الألوان الزاهية؛ الأصفر، والأحمر، والأزرق الفاتح. ويمكن للمارة ربط أو فك العقد فيها لجلب الحظ الطيب. وكان عدد قليل من المجموعات العائلية يتجول في الغرفة التي تبدو مبهجة ولكنها هادئة.
نزلنا مجموعة من السلالم، ورأيت ملك طاووس مرة أخرى، أخفت ستارة أمام كوة أحد «السناجق» الباقية، وهي التماثيل النحاسية للملاك الطاووس. عندما وصلنا إلى الطابق السفلي، وجدنا أنفسنا في غرفة تفوح منها رائحة كريهة لزيت منتهي الصلاحية كان يتسرب من الزجاجات المكدسة على الحائط. وكان المراهقون يلقون من وراء ظهرهم ربطة من الحرير، ويرون ما إذا كان بإمكانهم كسب القليل من الحظ بضرب حجر معين في الحائط، وهو ما فكرت في أنه قد يكون تمثالا تآكل بمرور الزمن لدرجة أنه لا يمكن التعرف على معالمه. (أخبرني الإيزيديون لاحقا أن هذا الحجر كان معلقا بمعجزة في الهواء. قالوا، مذهولين من غباء ما كانوا على وشك وصفه: «لكن، قبل بضع سنوات، أصر الأشخاص الذين يفتقرون إلى الإيمان على نصب جدار خلفه.») عندما خرجت من الغرفة رأيت تابوتا حجريا مغطى بقطعة قماش خضراء. كان الإيزيديون يسيرون حوله، وهم يمررون أيديهم اليسرى على الضريح. وبسطت عباءة سوداء من الصوف، وهي تقليدية لدى الصوفية، بشكل تبجيلي في مكان قريب. ولا يسمح إلا للإيزيديين المتدينين جدا بارتدائها. وقيل لي إن الشيخ عدي كان يرتدي تلك العباءة. سألت هل كان مسلما؟ كانت هناك مجموعة من الإيزيديين تستمع، وقالوا جميعا في آن واحد: «لا!»
أخبرني عياد أنني كنت محظوظا؛ فقد اجتمعت في المعبد في ذلك اليوم هيئة تدعى المجلس الروحاني، وهو يضم بعضا من أكثر الشخصيات العامة نفوذا وكبار رجال الدين. ولكي أطلب منهم الحضور للاستماع كان علي أن أسير من المعبد إلى ركن خفي في مبنى مجاور. وكما هو مطلوب، خلعت حذائي قبل الدخول. لم تكن توجد نساء بالداخل. وجلست مجموعة من الشبان على مقاعد حجرية بطول جانب جدران الركن الخفي. خلفها كانت ساحة تؤدي إلى غرفة يعقد فيها المجلس الروحاني اجتماعه. كان بإمكاني سماع مقتطفات من محادثة الرجال الجالسين على المقاعد، الذين كانوا يناقشون بجدية (باللغة الإنجليزية) تاريخ القومية الكردية. وعندما تحدثت إليهم وجدت أن كثيرين منهم كانوا يحملون جوازات سفر أجنبية، معظمها من ألمانيا أو السويد. وكانوا ينتمون إلى طبقة الشيوخ، أعلى الطبقات الإيزيدية الثلاث. ووفقا للتقليد، يجب على الشيوخ الزواج من داخل طبقتهم. سألت أحدهم، ألم يكن هذا صعبا على الإيزيديين الذين يعيشون في أوروبا وأمريكا؟ أجاب: «أنا أحافظ على العادات، وقد تمكنت من العثور على زوجة من طبقة الشيوخ. لكن عندما تبلغ ابنتي العشرين من عمرها، لن يكون بوسعي التحكم فيما تفعله!»
كان بإمكاني رؤية أعضاء المجلس يتجمعون في الساحة؛ وكان من الواضح أن الاجتماع قد انتهى. كان بعضهم يرتدي سترات، لكن خمسة رجال، بلحى رمادية طويلة ويرتدون الزي التقليدي، كان يظهر عليهم جلال خاص. كانوا يشبهون كثيرا زعماء القبائل العربية، بأغطية رءوسهم البيضاء المثبتة على رءوسهم بحلقات سوداء؛ وكان بعضهم يرتدي عباءة رفيعة تسمى «البشت» باللغة العربية وتدل على الرتبة العالية. أحد هؤلاء كان المير، الزعيم المؤقت للإيزيديين. وكان رجل آخر يرتدي ملابس مختلفة قليلا؛ إذ كان يعتمر عمامة رجل دين باللونين الأحمر والأبيض ويرتدي عباءة بيضاء مائلة للصفرة. كان هذا هو البابا شيخ، الذي كان عمليا الزعيم الروحي الأعلى للإيزيديين (رغم أنه، على الأقل أثناء وجودي هناك، ترك الحديث للمير). وإجمالا كان الرجال في الساحة زعماء المعتقد الإيزيدي. سألت إن كانوا سيمنحونني مقابلة قصيرة، وطلبوا مني أسئلتي مكتوبة ثم أبعدوني لأنتظر قرارهم؛ فجلست بعض الوقت في غرفة علوية ذات أرضية حجرية حتى استدعيت مرة أخرى. وقرروا أن التحدث معي سيكون مأمونا.
كانت إجابات المير لطيفة. أخبرني أن الإيزيديين يريدون العيش بسلام مع كل الأديان والحفاظ على تقاليدهم المتميزة؛ فقد كانت العلاقات مع رجال الدين المسلمين والمسيحيين جيدة، وكانوا يتزاورون في الأعياد؛ ورفض الإيزيديون العمل التبشيري ولم يسعوا مطلقا إلى تغيير ديانة الآخرين. وقال : «في صلواتنا، نطلب الخير للآخرين أولا ، ثم لأنفسنا. فالناس سيحاسبون على أفعالهم، وليس على معتقداتهم. والروح التي نفخها الله في آدم تنتقل إلى كل البشر. لكنها تقمع في الصنف السيئ من الناس، وتتألق في أفضلهم.» بعدما انتهى، نهض الشيوخ الخمسة ذوو اللحى الرمادية وهزوا عباءاتهم، وخرجوا لتدخين السجائر. وأحضر الدجاج المشوي والأرز. وانضم إلينا عياد وطه السائق. لم تكن توجد مقاعد. فأشار المير إلي أن أقف بجانبه. أكل دون أن يتكلم، واضعا يديه على بطنه كلما ترك شوكته وسكينه. ووقف طه، كما رأيت، هناك ولم يأكل شيئا، كما كان قد أخبرني أنه سيفعل.
تركت لالش وبداخلي العديد من الأسئلة التي كانت لا تزال دون إجابة. كان الإيزيديون مدعاة لتساؤلات لا متناهية. مثلا لماذا حرم ارتداء الملابس الزرقاء، أو أكل الخس؟ عندما سألت الإيزيديين عن هذا الأمر، كانت إجاباتهم غامضة، وكان معظمها يشير إلى أن هذه كانت قواعد عقيمة ربما فرضها القادة الإيزيديون السابقون لأن الأتراك المكروهين كانوا يرتدون اللون الأزرق، أو لمجرد أنهم لم يكونوا يحبون الخس. ذكر ميرزا أن تاريخ قاعدة منع الخس ترجع إلى عام 1661 على وجه التحديد. وكنت أكثر ميلا إلى رؤية الجذور القديمة في هذه التقاليد، ورؤية أوجه الشبه بينها وبين الأديان الأخرى في المنطقة. فعند المندائيين، الأزرق هو اللون المرتبط بروها الشريرة. وبين الدروز، كان الأزرق هو لون الجلباب الذي كان يرتديه الشيوخ الذين يحظون بأكبر قدر من الاحترام. وكان لتحريم الخس نظير بين الدروز، الذين يتجنب شيوخهم أحيانا نوعا مماثلا من الخضروات يسمى الملوخية. وكان الحرانيون يتجنبون أكل الفاصوليا. لكني لم أستطع استيعاب من أين أتت هذه التقاليد. وبغض النظر عن مقدار الجهد الذي بذلته، لا تزال العقيدة الإيزيدية تستر على الأقل بعضا من أسرارها. •••
في العالم الحديث، لم يعد بإمكان الإيزيديين الاعتماد على إمكانية فعل ما يحلو لهم. فمع صعود بيروقراطيات حكومية واسعة النطاق وتقنيات حديثة، يوجد الآن عدد أقل من الأماكن التي يمكن للناس أن يختبئوا فيها. وفي بعض الأحيان، تتطور فكرة جديدة عن المواطنة جنبا إلى جنب مع البيروقراطية والتكنولوجيا، وتسفر عن معاملة الأقليات معاملة كريمة عندما لا يعتبروا مصدر تهديد. ولكن عندما يعتبرون تهديدا، أو عندما تبرز أحكام مسبقة قديمة، فإن النتائج تكون دموية وكارثية.
في القحطانية، مسقط رأس ميرزا، في إحدى الأمسيات الصيفية في عام 2007، تجمع حشد من الرجال يرتدون جلابيب قطنية بيضاء مائلة للصفرة وأوشحة رأس باللونين الأبيض والأسود عندما رأوا شاحنة تتجه إلى المدينة. كانوا يأملون أن تكون قد جاءت لتوزيع الطعام. وبدلا من ذلك، أحدثت انفجارا بلغ من قوته أنه هدم منازل، وشتت الناس في الشوارع، وترك جثثا مجردة من ملابسها. كانت الحقائق المجردة مروعة بما فيه الكفاية؛ فقد انفجرت أربع شاحنات، كانت المواد المتفجرة مخبأة على الأرجح داخل أبوابها، مخلفة ما يقرب من ثمانمائة قتيل ونحو ألف وخمسمائة منزل متضرر أو مدمر. علاوة على ذلك، لم تصل قط سيارات الإسعاف والجرافات لأن الطرق كانت تعتبر شديدة الخطورة؛ وعلقت الملابس على العصي بوصفها نصبا تذكارية للأطفال الذين لم يعثر على جثثهم مطلقا. قتل في هذا التفجير أشخاص أكثر من أي هجوم إرهابي آخر باستثناء ذلك الذي استهدف برجي مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر. كان السبب المباشر للتفجير هو مقتل امرأة إيزيدية تدعى دعاء خليل أسود، قتلها أقاربها بسبب رغبتها في الزواج من رجل مسلم. وانتشرت شائعة بأنها اعتنقت الإسلام قبل مقتلها؛ ولذلك اعتبرتها جماعات مختلفة شهيدة مسلمة وبدأت بعد ذلك في تنفيذ أعمال انتقامية ضد الإيزيديين.
ومع ذلك، وقعت هذه الاشتباكات في سياق تأججت فيه عمدا الضغائن بين جميع الجماعات العرقية في المنطقة على يد حكومة صدام، التي حاولت الحفاظ على سيطرتها على السكان بتحريض العرب على الإيزيديين، والإيزيديين على الأكراد. وعلاوة على ذلك، في السنوات التي تلت عام 2003، انتشرت أنواع من الإسلام المتعصب والعنيف، وفقا لدخيل، وهو رجل إيزيدي مسن وبارز. قال لي بحزن ونحن جالسان في البهو الجديد لفندق شيراتون في أربيل إن «الكراهية الدينية» تكمن وراء هجوم القحطانية. «لقد كانت كراهية دينية خالصة.» وقال إنه بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في أواخر خمسينيات القرن الماضي، تعمقت الانقسامات الدينية، لكن هذا كان تغيرا صغيرا مقارنة بتدهور مستوى التسامح الديني منذ عام 2003. وقد ازداد نفوذ المسلمين السلفيين، الأصوليين الذين يريدون محاكاة سلوك المسلمين الأوائل بأكبر قدر ممكن، ويعادون بشكل خاص الجماعات المبتدعة مثل الإيزيديين. لم يكن دخيل متفائلا بشأن المستقبل. كان يظن أن الإيزيديين سيختفون من الوجود يوما ما؛ لأنهم كانوا أقل تنظيما من المندائيين والدروز. كما أنهم كانوا متصدعين جغرافيا. فقد عاش معظم الإيزيديين في العراق في سنجار، غرب أربيل، خارج السيطرة الكردية المباشرة. كانت هذه عادة المنطقة التي كانوا يتمتعون فيها بأقصى درجات القوة، وحيث صمدوا عدة قرون أمام العثمانيين. ويعيش نحو خمسة عشر بالمائة من الإيزيديين حول لالش، شمال أربيل. ويعيش الباقون في أقصى الشمال، حول دهوك.
وأضاف دخيل بتفاؤل أكبر أنه، من الناحية الأخرى، تحسن أيضا مستوى تعليم الإيزيديين. فقبل الحرب العالمية الأولى، لاحظ كاتب بريطاني أن عائلة إيزيدية واحدة فقط يمكنها القراءة والكتابة. وفي أربعينيات القرن الماضي، كان عم دخيل أول إيزيدي على الإطلاق يصبح مدرسا. وفي عام 1973 تخرج أول طبيب في الطائفة. أخبرني دخيل: «يوجد الآن الكثير من الأطباء الإيزيديين في كلية الطب. ويوجد أكثر من ثلاثة آلاف إيزيدي في الجامعة. ليس لدينا طريقة أخرى للبقاء على قيد الحياة إلا من خلال التعلم.» وقد ارتفعت تكلفة المعيشة في المناطق الكردية منذ استقرت المنطقة، مما جذب المهاجرين من بقية البلاد. ولكن وسط الارتفاع العام في الحماسة الدينية في جميع أنحاء البلاد، قلت على العكس حماسة الإيزيديين. وأضاف دخيل: «قبل عشرة أو خمسة عشر عاما في سنجار، كانت عقوبة حلق الشارب هي الإعدام»، مذكرا إياي أن الشارب كان فرضا دينيا على الرجل الإيزيدي. «لم يعد هذا يسري حاليا. ولم يعد الناس يرتدون ملابس خاصة عندما يحجون إلى لالش».
لاحقا، بعدما عدت إلى أربيل، زرت الهضبة الصخرية التي بنيت عليها المدينة في الأصل، والتي تحولت الآن إلى موقع تراثي. نظرت من حافتها إلى الأسفل صوب ساحة جددت حديثا كان يجلس فيها شباب أكراد ويتجاذبون أطراف الحديث حول النوافير. ثم نظرت بعيدا، إلى الأفق الغربي المغطى بالغبار. هناك كانت تقع سنجار. تحدها من الغرب قرى سورية يعيش فيها أكراد، وعرب، وإيزيديون. ووراء ذلك كانت تقع حران والأراضي الواقعة جنوبها، ثم تلال الساحل السوري المشجرة. كانت كل هذه الأراضي تاريخيا ملاذا لأقليات من جميع الأنواع؛ أتباع الديانات القديمة التي تصالحت بطريقة ما مع الإسلام، والمسلمون المبتدعة، والمؤمنون بأديان مزجت تقاليد شعبية قديمة بممارسات إسلامية فنتجت ممارسات هجينة رائعة وغريبة.
تقع تلك المنطقة الآن على أطراف الخلافة الإسلامية المزعومة، التي أعلنتها في عام 2014 جماعة إرهابية تشتهر بوحشيتها وتعصبها الديني. وهذا يضيف إلى المعضلات الفظيعة التي يواجهها الإيزيديون، حيث لم تعد الآن أراضيهم نائية عن جيرانهم. وإلى جانب ذلك، يواجهون التحدي المتمثل في الحفاظ على ديانة سرية، لا تعرف حقائقها إلا طبقة كهنوتية، في وقت يعيش فيه المنتمون إلى العقيدة جنبا إلى جنب مع أتباع ديانات أخرى في مدن وليس في قرى نائية؛ وهو ما يعني أنهم عرضة لأسئلة حول دينهم لا يكونون في الغالب مجهزين بشكل جيد للإجابة عنها. وفيما يتعلق بأولئك الذين انتقلوا إلى خارج البلاد، فليس من السهل أيضا منع الأطفال من الزواج من خارج دينهم أو طبقتهم الدينية.
يواجه ميرزا الآن تلك التحديات؛ لأنه غادر العراق منذ مدة طويلة؛ في عام 1991. كانت حرب الخليج قد بدأت، جالبة معها خطر التجنيد الإجباري في جيش محكوم عليه بالهلاك. وانضم إلى مجموعة ضمت صديقا له يدعى أبا شهاب، كان يحاول الهروب مع جميع أفراد أسرته. عبروا الحدود بين العراق وسوريا من مكان على مقربة من غرب سنجار. كانت أمسية صيفية، وبدأت حرارة النهار الرهيبة تنخفض. وبسبب الحرب، كان انتباه الجيش قد انصرف إلى أماكن أخرى؛ وقل عدد القوات المنتشرة على الحدود بين العراق وسوريا. وبمجرد دخول المجموعة إلى سوريا، كانوا سيتجهون إلى قرية إيزيدية كان أهلها ودودين، ولكنها كانت على بعد أميال، وأثناء عبور تلك الأميال كان عليهم الانتباه تحسبا من وجود ألغام أرضية أو حراس لديهم أوامر بإطلاق النار فور رؤية أي شخص.
بدأ ميرزا السير. وكان ينحني ويزحف حيثما كان يتعين عليه ذلك. وفي منتصف الطريق سمع صوت إطلاق نار. فظن أن أبا شهاب، الذي كان يحاول قطع طريق مواز على بعد ميل مع زوجته وجميع أبنائه، قد واجه مأزقا، وكان ظنه صحيحا. فقد رصد حرس الحدود عائلة أبي شهاب. وصاحوا بتحذيرات ثم بدءوا في إطلاق النار. كان الرصاص على مقربة منهم، وأصيب أحد أبناء أبي شهاب في رقبته. لكنهم بعد ذلك عبروا الحدود ولم يلاحقهم أحد. لم يحتفلوا بذلك طويلا؛ إذ سرعان ما أدركوا أن أصغر طفلين في الأسرة لم يكونا معهم. كان هذان الاثنان يركبان حمارا لأنهما كانا صغيرين جدا على المشي، وبطريقة ما، في خضم التعجل عبر الحدود، لم يلاحظ أحد أن الحمار لم يلحق بهم. قبضت الحكومة على الطفلين وأعادتهما إلى جدهما؛ شريطة أنهما إن هربا، فسيفقد الجد حياته. ولم يرهما أبو شهاب مرة أخرى منذ سبعة عشر عاما.
هاجر أبو شهاب، وبقية أفراد عائلته، وميرزا إلى أمريكا الشمالية؛ حيث هاجر أبو شهاب إلى الولايات المتحدة، وميرزا إلى كندا. وظلت بينهما صلة وثيقة. ربما كانت تجربتهما المشتركة على الحدود هي التي دفعت أبا شهاب إلى أن يتواصل من ميرزا ويطلب منه أن يكون «أخاه في الحياة الأخرى» أو مرشده الروحي. ففي الأجيال السابقة، كانت هذه العلاقة شبه سلطوية، تنطوي على طاعة الرجل العلماني المطلقة للشيخ. ويصادق على العلاقة بأخذ تراب من أرض لالش، وتشكيله على هيئة كرة، تمثل العالم، وتخلط بماء من كانيا سبي المقدس، أو «النبع الأبيض» في لالش. ثم تتشابك يدا الأخوين الروحيين والتراب المبلل بينهما. هذه اللفتة الأخوية ليست فقط بادرة تربط الإيزيديين بعضهم ببعض. إنها أيضا تذكرة بالزمن الماضي عندما تعلمت الثقافات العادات بعضها من بعض وانتهجتها. إنها المساهمة الأساسية للإيزيديين في الحياة الغربية؛ فهذه هي العادة التي تحولت إلى عادة التصافح بالأيدي التي نعرفها، وذلك بفضل الديانة الميثرائية.
الفصل الثالث
الزرادشتيون
ولدت لال شاهرفيني في عشرينيات القرن الماضي في مدينة يزد، وهي واحة في قلب إيران محاطة بتلال منخفضة وجرداء. وفي الوقت الحاضر، أعلنت اليونسكو أن مدينة يزد القديمة بأكملها موقع تراثي عالمي. فالجدران المبنية من الطوب اللبن تحيط بالأزقة والشوارع التي لا يمكن للسيارات المرور فيها. وتلوح في الأفق أبراج الرياح الطويلة، وهي تصميمات بدائية رائعة لمكيفات هواء، على شكل مداخن ضخمة، تلتقط نسائم الصيف وتنزل بها إلى المنازل شديدة الحرارة. وتؤدي سلالم غامضة إلى صهاريج كان الناس يوما ما يحتمون عندها من الحرارة، والتي يمكن أن تصل في الصيف إلى 45 درجة مئوية. في الميدان الرئيسي توجد عجلة من الخوص حجمها أكبر من حجم رجل، وهي نسخة طبق الأصل من قبر الحسين الذي يحمله المسلمون حول المدينة على أكتافهم مرة كل سنة؛ باعتباره عملا من أعمال التوبة.
لم تذهب لال مطلقا لمشاهدة تلك العروض الإسلامية لإحياء ذكرى مقتل الحسين، أو للصلاة في المسجد بقبابه الفيروزية المزخرفة والمئذنة الطويلة. فهي لم تكن مسلمة؛ فطائفتها الدينية كانت أصغر وأقدم. وكان لشعبها أعياده واحتفالاته الخاصة، مثل الانقلاب الشمسي الشتوي، عندما يظلون مستيقظين طيلة أطول ليلة في السنة، ويحضرون البطيخ والرمان من المخازن لتناولهما بينما يحكون القصص حتى الفجر. وكان الانقلاب الشمسي الربيعي، عندما يصبح النهار أخيرا أطول من الليل، أهم عيد في السنة لديهم. وكانت الطهارة أساسية في حياتهم: ولتحقيق ذلك، مارست لال طقسا يتطلب الاستيقاظ مدة تسع ليال، رش خلالها أحد الكهنة بول ثور على جسدها وأعطاها بضع قطرات منه لتبتلعها. وأعلنت أنها، بمحض إرادتها، ستنضم إلى «إخوة وأخوات في الخير».
مدينة يزد القديمة، المبنية من الطوب اللبن التي يعود تاريخها إلى قرون عديدة في الماضي، لا يزال موجودا منها بعض الأجزاء. يسارا «النخل» الذي يرمز إلى وفاة الحسين، حفيد النبي محمد؛ ويستخدم في المسيرات السنوية. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
وبدلا من كراهية الكلاب، كما كان يفعل مسلمو يزد، كلفتها عائلتها بتقديم الطعام لها كل ليلة، قبل أن يكون بوسعها هي وعائلتها أن يتناولوا وجبتهم الخاصة. وبدلا من الصلاة في مسجد، قدمت عائلتها ابتهالات وخشب صندل محروقا أمام نار مقدسة في معبد قريب. وكل ليلة كان والدها، الذي كان يعمل كاهنا، يصعد إلى سطح منزلهم المبني من الطوب اللبن؛ حيث كانت تراه يقف هناك حاملا سدسا وإسطرلابا، ويجري قياسات على النجوم. كانوا يستخدمون في صلوات الأسرة اللغة الأفستية، وكان العصر الحديدي هو آخر مرة تستخدم فيه هذه اللغة في الحديث اليومي. وكانوا يتحدثون في المنزل لغتهم الخاصة، التي أطلق عليها الآخرون بازدراء اسم «جبري»؛ لأنه لم يكن يتحدث بها أو يفهمها إلا أولئك الذين كانوا يدينون بدينهم.
كان معظم الإيرانيين قبل مجيء الإسلام يمارسون تقاليد التي تتبعها لال. وعندما سافر فرسان محافظة فارس في القرن السادس قبل الميلاد شمالا، وشرقا، وغربا لغزو جيرانهم وبناء أكبر إمبراطورية شهدها العالم حتى الآن، والتي أطلقوا عليها اسم بلاد فارس، كان دين لال هو الدين الذي اتبعوه. وقد وصل إليهم من آسيا الوسطى، حيث أسسه نبي يدعى زرادشت ربما في نحو عام 1000 قبل الميلاد. ويطلق على أتباعه في الغرب اسم الزرادشتيين. ويطلق عليهم العرب اسم المجوس، على اسم كهنتهم، «الماجي» (ويطلق عليهم أيضا اسم «الموابذة»). يعرفون في الهند باسم البارسيون، وهو الاسم الذي أطلق عليهم بعد وصولهم لاجئين من بلاد فارس بعد مدة وجيزة من الفتح الإسلامي. وغالبا ما صور المسيحيون الأوائل الحكماء الثلاثة الذين قيل إنهم زاروا يسوع على أنهم زرادشتيون فارسيون: ومع أن هذا لم يذكر مطلقا في سرد إنجيل متى نفسه، فإنه كان اختيارا محظوظا. فعندما احتلت الجيوش الفارسية بيت لحم عام 614 ميلادية، يقال إنهم أنقذوا كنيسة المهد من الدمار الذي ألحقوه ببقية المدينة؛ لأنهم رأوا رسما لثلاثة كهنة مجوس عند مدخل الكنيسة.
وبحلول الزمن الذي عاشت فيه لال، اضمحلت الديانة الزرادشتية التي كانت يوما ما الديانة المهيمنة في إيران؛ فمجتمعها، الذي كان من آخر المجتمعات التي نجت من قرون من سوء المعاملة، كان يبلغ عدده خمسة وثمانين أسرة فقط تعيش في الحي ذاته من المدينة، وهي مجموعة صغيرة حتى أن لال كانت تعرفهم جميعا. وإجمالا، يوجد أقل من مائة ألف من الزرادشتيين في العالم اليوم. لكن إسهاماتهم في أديان العالم، بما في ذلك ديننا، تجعلهم أكثر أهمية مما يوحي به هذا الرقم. فوفقا لنيتشه، اخترع زرادشت الأخلاق. والأمر الأكثر يقينا هو أن تعاليم زرادشت كانت تتضمن فكرة أن العالم تشكل من الصراع الدائم بين الخير والشر. وأعلن في الجاثا، وهي قصائد تشكل أقدم وأهم جزء من النصوص المقدسة الزرادشتية، الأفستا: «من بين هذين الاثنين، فليختر الحكيم الصواب.» فعبدة الآلهة الباطلة اختاروا الشر، وكان على أتباعه أن يتركوا تلك الآلهة، ويعبدون بدلا منها الإله الحكيم أهورا مزدا، ويفعلون الخير في خدمته.
في القرون اللاحقة تطور هذا الفكر اللاهوتي ليصبح تفسيرا لنقائص العالم. فلماذا يوجد الليل، والشتاء، والمرض، والهوام الضارة؟ أوضح الزرادشتيون أنها من عمل أنجرا ماينيو، الخصم، الذي أرسل حيوانات شريرة لإيذاء الحيوانات الصالحة التي خلقها أهورا مزدا. أهورا مزدا خلق النور؛ أما أنجرا ماينيو فلوثه باختراع الظلام. جلب أهورا مزدا الحياة؛ لكن أنجرا ماينيو أفسدها جزئيا بإدخال المرض. جسد أهورا مزدا الخصوبة؛ بينما جلب أنجرا ماينيو الصحراء. كان الفرح الأبدي يعم مملكة أهورا مزدا؛ بينما كان العذاب يعم مملكة أنجرا ماينيو. وعلى الرغم من أن الزرادشتيين كانوا يتطلعون إلى النصر النهائي للخير على الشر، كان عليهم المساعدة في تحقيقه.
اشتملت الحيوانات الصالحة على الحصان، والثور، والكلب. أما خدم أنجرا ماينيو في مملكة الحيوانات، ويسمون «كرافستراس»، فيشملون الذباب، والنمل، والثعابين، والضفادع، والقطط. أدان إمبراطور فارسي زرادشتي يدعى شابور المسيحيين لأنهم «ينسبون أصل الثعابين والأشياء الزاحفة إلى إله صالح». فبالنسبة إليه، لا يمكن أن تكون مثل هذه الأشياء إلا من صنع خالق خبيث منفصل. وتبدأ الملحمة الوطنية الفارسية العظيمة «شاهنامه» بجيش عظيم من الجنيات والحيوانات التي انحازت إلى الخير على حساب الشر، منطلقة إلى معركة مع أنجرا ماينيو. (إذا كان هذا يبدو مثل رواية «سجلات نارنيا» لسي إس لويس ؛ فذلك لأنه كان من أشد المعجبين «بالشاهنامه»، ووصف الزرادشتية بأنها ديانته «الوثنية» المفضلة.)
كانت المعركة بين الخير والشر هي المعركة التي يمكن للبشر أن يشاركوا فيها إذا اختاروا ذلك. ويتسم مفهوم حرية الاختيار بأهمية خاصة في الزرادشتية، التي ترى أنه حتى أنجرا ماينيو سيئ باختياره. (وهذا هو السبب في أن قصة خلق أنجرا ماينيو للطاووس تسرد فقط لإظهار قدرته على صنع أشياء جميلة بدلا من الأشياء القبيحة إذا رغب في ذلك.) كانت الأفعال الفاضلة مثل قول الحقيقة وسيلة لهزيمة أنجرا ماينيو - فقوى الظلام في الأفستا تسمى «الكذبة» - ويخبرنا المؤرخ اليوناني هيرودوت، الذي درس الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد، أنهم نشئوا على «ركوب الخيل، والأمانة في التعامل، وقول الحقيقة». ولكن كانت توجد أيضا معارك فعلية يجب خوضها مع خدم أنجرا ماينيو. فيخبرنا هيرودوت أن «المجوس يقتلون بأيديهم جميع المخلوقات فيما عدا الكلاب والبشر، بل إنهم يجعلون هذا هدفا رائعا يضعونه نصب أعينهم، مثل قتل كل من النمل والأفاعي وجميع الأشياء الأخرى الزاحفة والطائرة.» وحتى في ستينيات القرن الماضي، كان الزرادشتيون الإيرانيون يحتفلون بيوم في كل عام يقتلون فيه «الكرافستراس»، وخاصة النمل.
في الوقت ذاته، كان حب الكلاب إلزاميا. ففي الأفستا، يقال إن جسر شينفات، الذي يجب أن تمر الروح عبره بأمان إذا كانت ستدخل الجنة، يحرسه كلبان. وعندما كان كلب يحدق بتركيز في مكان ما، كان يعتقد أنه يرى أرواحا شريرة غير مرئية للبشر؛ ولذلك غالبا ما يتم اختياره للجلوس بجوار فراش شخص يحتضر. وفي المقابل، عندما يموت مثل هذا الكلب، يمنح طقوسا جنائزية خاصة، كما وصفتها العالمة ماري بويس في رصدها للحياة الزرادشتية التقليدية في ستينيات القرن الماضي. ويعلن عن موت الكلب هكذا: «بدأت الروح رحلتها.» كانوا يلبسون الكلب ملابس مثل تلك الخاصة بالزرادشتيين - حزاما يسمى «الكوشتي» وسترة من نسيج قطني رقيق تسمى «السدرة»، اللذين كان يرتديهما دائما المؤمنون (الأول حول الخصر والثانية فوق الكتفين) - وتعامل جثته مثل جثة رجل أو امرأة زرادشتية لقيا حتفهما: حيث يتركونها مكشوفة في مكان مهجور لتأكلها الطيور. ولمدة ثلاثة أيام بعد موته، كان طعامه المفضل يوضع بالخارج لتستمتع به روح الكلب.
يحظر الأفستا إساءة معاملة الكلاب. و«عند المرور إلى العالم الآخر»، فإن روح الشخص الذي ضرب كلبا «ستطير وهي تعوي بصوت أعلى وأكثر حزنا من الأغنام في الغابة العالية الأشجار عندما يتجول الذئب.» ويشترط الأفستا على الرجل الذي يقتل كلبا أن ينفذ قائمة من أعمال التكفير عن الذنب يبلغ طولها ثمانية عشر سطرا. من هذه الأعمال قتل عشرة آلاف قطة. ونظرا إلى أن المسلمين فضلوا القطط على الكلاب، التي يحسبون أنها نجسة، فإن الخلافات حول معاملة الكلاب غالبا ما أدت إلى صراعات بين الزرادشتيين والمسلمين.
إن المنافسة بين تفضيل الكلاب والقطط لم تصل إلى هذا الحد في الغرب. ولكن بطريقة مختلفة، وجد التقسيم الزرادشتي لحيوانات الأرض طريقه إلى الثقافة الأوروبية. فكلمة «ماجيك (أي سحر بالإنجليزية)» تأتي من اسم الكهنة الزرادشتيين، الماجي (أي المجوس)؛ والتمايز بين السحر الأسود والأبيض (واحد شرير والآخر صالح) يوازي الاختلاف بين أنجرا ماينيو وأهورا مزدا؛ والحيوانات التي تصاحب ممارس السحر الأسود، مثل الثعابين، والضفادع، وبالطبع القطط، كلها مخلوقات من صنع أنجرا ماينيو.
ترك لنا الزرادشتيون إرثا أكثر تأثيرا أيضا. فقد كانوا يعتقدون أن أولئك الذين كانوا يقاتلون إلى جانب الخير يمكن أن يأملوا بعد الموت في أن يدخلوا بيت الأغاني، الذي أطلقوا عليه أيضا اسم دار النور. صورت اللوحات الجدارية المصرية حياة أخرى رائعة، ولكن فقط للفرعون وربما خدمه. لم يأمل الإغريق الذين قاتلوا في حصار طروادة شيئا بعد وفاتهم سوى الشهرة: أن يبقى ظلهم في العالم السفلي، هاديس، لكن ذلك كان في أحسن الأحوال وجودا مبهما. قال زرادشت في تعاليمه إن أي شخص يتبع مجموعة معينة من قواعد السلوك على الأرض يمكن أن يعيش إلى الأبد، وإن الروح مهمة، وإن الإله الصالح يمارس سلطته على العالم. وعلى النقيض، فأولئك الذين خدموا أنجرا ماينيو سيعاقبون بالبؤس والظلام. أثبتت هذه المفاهيم عن الخير والشر، وعن الجنة والنار، أنها مؤثرة جدا.
على سبيل المثال، في الكتب المقدسة اليهودية الأولى (البانتاتيك، الأسفار الخمسة الأولى من التوراة)، لا توجد إشارة إلى الشيطان. وبدلا من ذلك يمثل الشر على هيئة أفعى في الجنة. وبعد الموت، تذهب كل الأرواح، دون تفريق، إلى مكان يدعى شيول؛ لم يكن هناك جنة ولا نار. وعندما تحرر اليهود من بابل على يد الملك الفارسي كورش سنة 539 قبل الميلاد، تغير هذا الأمر. ففي سفر أيوب، الذي ربما كتب في ذلك الوقت، كان الشيطان كائنا قويا، قادرا على التدخل في شئون العالم، وإصابة رجل بريء بالأوبئة؛ وهو الفعل ذاته الذي يضطلع به أنجرا ماينيو في العقيدة الزرادشتية. وفي القرن الثاني قبل الميلاد ظهرت الجنة والنار في سفر دانيال: «كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون؛ هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي.»
بعد قرون، يتشابه وصف يسوع للشيطان مع أنجرا ماينيو، من حيث إن الإله الصالح يزرع القمح، لكن عدو الإله ينشر الحشائش في حقل القمح، وفقط في نهاية الزمان يمكن فصل الحشائش عن القمح وحرقها. وبالمثل، بعد أن تلاقى الإغريق مع الفرس، اقترح الفيلسوف اليوناني أفلاطون أن الأرواح تذهب للحصول على الثواب أو العقاب بعد موتها، بحسب ما فعلته في حياتها. لقد تغير الدين جذريا. ورأى فيلسوف القرن التاسع عشر الألماني نيتشه، بالنظر إلى هذه الأحداث، أن «زرادشت ابتدع الخطأ الأشنع على الإطلاق؛ وهو الأخلاق.» (لذا، كتب كتابا يعود فيه زرادشت ويلغي القانون الأخلاقي. أعجب ريتشارد شتراوس جدا بالكتاب، لدرجة أنه أطلق على إحدى مقطوعاته الموسيقية الاسم ذاته: وبهذه الطريقة غير المباشرة يعيش اسم زرادشت في قاعات الحفلات الموسيقية في جميع أنحاء العالم.)
عرفت لال ورفاقها الزرادشتيون أن مجتمعهم كان صغيرا وضعيفا. ومن وقت لآخر، عانوا من عدم الاحترام والعداوة من جيرانهم؛ حيث تعرض مرة شقيق لال لهجوم من قبل أولاد كانوا يقذفون الحجارة ويصرخون بكلمة «جبر»، وهي كلمة مهينة للزرادشتيين. لكن كان عزاؤهم أن يعرفوا أن أفكارهم قد شكلت طريقة تفكير هؤلاء الجيران.
لقد شهدوا أيضا بعض الإنجازات الملموسة للغاية التي خلفها الزرادشتيون منذ مدة طويلة. فبرسبوليس هي مدينة من الرخام الأبيض في قلبها قصر ملكي، على بعد مائتي ميل جنوب غرب يزد، بنيت في القرن السادس قبل الميلاد عندما امتدت الإمبراطورية الفارسية من الساحل الغربي لتركيا إلى صحاري كازاخستان. ومن المفترض أن الإمبراطور خشايارشا أعطى الأمر بغزو اليونان أثناء وجوده في القصر، وعندما غزا الإسكندر الأكبر الإمبراطورية الفارسية سنة 330 قبل الميلاد، دمره وهو مخمور في نوبة من الصخب والانتقام. الآن، تتناثر حول الدرج الرخامي بقايا من أعمدة، وجدران مدمرة جزئيا، ومنحوتات رائعة متفرقة نجت من الحريق لأنها كانت مخزنة في ذلك الوقت. وكما تساءل نقش كتبه زائر من العصور الوسطى على أحد أعمدتها، «كم مدينة بنيت بين الآفاق، صارت خرابا في المساء، بينما أقام سكانها في دار الموت؟» حتى يومنا هذا، لم يغفر للإسكندر أبدا. ويعتبر الاسم سكندر شائعا بين المسلمين في كشمير، وفي العالم العربي يذكر الإسكندر باسم ذي القرنين، وهو شخصية بطولية مذكورة في القرآن. ولكن الأمر ليس كذلك في إيران، حيث لا يزال الزرادشتيون يطلقون عليه لقب «الإسكندر الملعون».
وحتى في حالتها المدمرة الحالية، تتمتع برسبوليس بالقدرة على التأثير، باعتبارها نصبا تذكاريا للقوة السابقة للإمبراطورية الفارسية. فقد كانت، وفقا للمؤرخ الصقلي ديودوروس، «أغنى مدينة تحت الشمس». وتنتشر في أطلالها رموز الزرادشتية وشعاراتهم، ولا سيما فكرة الرجل-الطائر، «فارافاهار». وأعلن نقش تركه خشايارشا في أعلى الدرج ما يلي: «كل شيء بنيناه ويبدو جميلا شيدناه بفضل أهورا مزدا.» عندما زرت هذا القصر في عام 2006، لم تمنع هذه الرموز الزرادشتية مرشدتي السياحية، وهي امرأة إيرانية شابة ترتدي الحجاب، من إبداء فخر واضح بالإمبراطورية التي بنته. واستمتعت استمتاعا خاصا بشرح المغزى من الدرج الكبير، وهو تحفة نحتية مكونة من ثلاثة وعشرين لوحا، يمثل كل منها واحدة من الدول الخاضعة للإمبراطورية. قالت: «ثلاثة وعشرون شعبا. انظر، ها هم العرب ... الأرمن ... السكيثيون ...» كان لكل وفد صفة مميزة؛ فالعرب يجلبون جملا، والأرمن يجلبون النبيذ، والسكيثيون يجلبون خيلا. جميعهم كانوا يقدمون الجزية لبرسبوليس علامة على قبولهم الهيمنة الفارسية. وخلال العقود القليلة التي سبقت صنع هذه الألواح، غزت الجيوش الفارسية ممالك العالم المعروف العظيمة - بابل، وليديا، ومصر. «فارافاهار»، التمثال المجنح الذي يرمز إلى الزرادشتية، يعلو أعمدة برسبوليس التي بناها الإمبراطور داريوس في القرن السادس قبل الميلاد. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
أشرف محمد رضا شاه، وهو الشاه البهلوي الثاني والأخير الذي حكم إيران في القرن العشرين، في عام 1971 على احتفال فخم في برسبوليس بمناسبة مرور 2500 عام من الحضارة الإيرانية. واحتفى بملوك، ورؤساء، وإمبراطور بتقديم 2500 زجاجة من النبيذ، و92 طاووسا إمبراطوريا، ومواكب من جنود يرتدون زيا تاريخيا، ونام الضيوف في 52 خيمة مبطنة بالحرير ومكيفة الهواء ومزودة بحمامات داخلية من الرخام، بنيت خصوصا لهذه المناسبة. كان الهدف من الاحتفال تشجيع الفخر الوطني الإيراني كبديل للمشاعر الدينية التي استند إليها خصوم الشاه الإسلاميين، مثل آية الله الخميني، في دعوتهم. كما كان بمنزلة تذكرة للإيرانيين بأنه في أعظم عصورهم كان يحكمهم ملوك. أسهم الإسراف المطلق في الاحتفال في استياء الجماهير وسقوط الشاه في الثورة الإسلامية عام 1979. ومع ذلك، حتى في ظل حكم آيات الله، لم تنس إيران إمبراطوريتها السابقة. وعندما أنتج وارنر براذرز فيلم «300» (ثري هندريد)، الذي يمجد المقاومة الإغريقية للجيوش الإمبراطورية الفارسية في ثيرموبيلاي سنة 480 قبل الميلاد، اشتد غضب الإيرانيين. وأعلن عنوان رئيسي لإحدى الصحف الإيرانية في ذلك الوقت: «ثلاثمائة في مواجهة سبعين مليونا!»؛ أي سبعين مليون مواطن إيراني، جميعهم تقريبا مسلمون، متحدون في غضب قومي بسبب إهانة أسلافهم الزرادشتيين. •••
في أعقاب حرب العراق عام 2003 أرسلت إلى البصرة في جنوب العراق. وأثناء القيادة على طول الطريق الساحلي جنوب مدينة البصرة، على امتداد شط العرب - المصب الواسع حيث تلتقي أنهار العراق قبل أن تتدفق إلى الخليج - وجدت أن الطريق كان مزينا بمئات التماثيل لرجال يشيرون بأصابع الاتهام عبر المياه تجاه إيران. أدى نزاع إقليمي حول مياه المصب إلى شبه حالة حرب بين العراق وإيران في سبعينيات القرن الماضي، وعندما أطيح بحاكم إيران العلماني، الشاه، وتولى آية الله الخميني السلطة، تطور النزاع إلى حرب أفضت إلى وفاة مليون شخص. شيد صدام التماثيل بعد الحرب لتشجيع الناس على رؤية إيران، وليس حكومتها، باعتبارها العدو. وصمم كل تمثال على مثال جندي عراقي مات في الحرب.
كنت أعرف أنه لن يكون من السهل زيارة الجانب الآخر من ذلك المصب. فمثلما كان الفرس، عندما كانوا زرادشتيين، يلعنون أنجرا ماينيو، الخالق الخارق للطبيعة لكل ما هو شرير، نظمت حاليا الحكومة الإسلامية الإيرانية مظاهرات ردد فيها المتظاهرون: «الموت لأمريكا! الموت لبريطانيا!» فبالنسبة إلى الثوار الإيرانيين، الذين أطاحوا بالنظام الملكي المدعوم من الغرب عام 1979، كانت أمريكا هي «الشيطان الأكبر» وكانت بريطانيا هي «الشيطان الأصغر». ومع ذلك، فإن مكانة بريطانيا في الشيطنة كانت أقدم من مكانة أمريكا أو إسرائيل في ذلك الشأن. ويصور كتاب إيراني محبوب بشدة، اسمه «خالي العزيز نابليون»، جنديا مسنا غريب الأطوار يرى مؤامرات بريطانية في كل مكان. كتب هذا الكتاب في أربعينيات القرن الماضي، ويعود زمن جنون الارتياب لدى الجندي المسن إلى أحداث في بداية القرن العشرين، عندما أقامت روسيا وبريطانيا مناطق نفوذ في إيران وسيطرت على اقتصادها. وعندما جاءت الثورة الإسلامية في عام 1979، ألقى آية الله الخميني باللوم على البريطانيين لكونهم داعمين لعدوه الشاه؛ مع أن النظام الملكي كان قد سبق وألقى باللوم بالفعل على البريطانيين لكونهم القوة المحركة وراء آية الله. (فقد قال شاه إيران: «إذا رفعت لحية الملا، فستجد على ذقنه ختم «صنع في بريطانيا».»)
في عام 2006، عندما كنت أعمل في بغداد، ظننت أنه قد تكون لدي فرصة. والتقيت السفير الإيراني في حفل استقبال أقامه رئيس العراق، وعرفت نفسي بلغة فارسية سيئة نوعا ما قبل أن أنتقل بعد وقت وجيز إلى التحدث باللغة العربية. فظن أنني عراقي، وانخرط في محادثة ودية. لكن بعد ذلك سألني أين أعمل؛ وعندما أخبرته في السفارة البريطانية، تجهم وجهه كأنني كنت مصابا بمرض معد. وتراجع. فربما يكون قد شوهد وهو يتحدث معي؛ وقد يعود التقرير إلى طهران ويدمر مسيرته المهنية. خمنت أنه لم يكن الوقت المناسب لأطلب منه تأشيرة. وبدلا من ذلك تقدمت بطلب في السفارة الإيرانية في لندن (كانت توجد سفارة في ذلك الوقت)، حيث أجريت مقابلة قاسية إلى حد ما، وما أدهشني، أنني حصلت على تأشيرة دخول. لا بد أن التهدئة المؤقتة في العلاقات البريطانية الإيرانية قد ساعدت؛ فالإصلاحيون كانوا نظريا لا يزالون في السلطة في إيران، في عهد الرئيس خاتمي. ومع ذلك، عندما زرت إيران، توقعت أن يتبعني في كل مكان عملاء استخبارات إيرانيون متطفلون وميليشيا الباسيج سيئة السمعة.
تمتد الحدود بين العراق وإيران على امتداد مصب شط العرب شمالا، عبر الأهوار العراقية، ثم بحذاء السلسلة الغربية لجبال زاجروس. لأنها تتماشى مع هذه الحواجز الطبيعية للحركة؛ فقد كانت دائما علامة على انقسام بين الثقافات؛ ففي الناحية الشرقية، عاشت في الغالب شعوب هندية أوروبية مدة ثلاثة آلاف عام على الأقل، وفي الناحية الغربية، كان الناس ولا يزالون في الغالب ساميين. وفي وقتنا الحالي لا تزال إيران تتحدث الفارسية، بينما يتحدث العراقيون العربية. ولا يزال مصطلح «أعجمي»، الذي يعني «فارسيا»، مصطلحا مهينا في أجزاء من العراق، كما أنه ليس من الصعب العثور على إيرانيين يحتقرون جيرانهم العرب. ومما يزيد الطين بلة حقيقة أن الجانبين خاضا حربا مروعة في الثمانينيات قتل فيها مليون شخص.
في التراث الزرادشتي، يتسم التاريخ البشري بأنه دوري؛ أي تتكرر أحداث حقبة ما بشكل من الأشكال في الحقبة التالية. وبالتأكيد كانت الحدود الإيرانية العراقية محورا للصراع منذ مدة طويلة قبل الثمانينيات. فقد عبرها الفرس غربا في القرن السادس قبل الميلاد، بقيادة ملك يدعى كورش، لتحطيم مملكتي بابل والأناضول وبناء أكبر إمبراطورية عرفها العالم حتى الآن. وسار عبرها الجيش الضخم، بقيادة خشايارشا حفيد كورش، الذي قاتل الإغريق في ثيرموبيلاي. ولم تأت عبرها جيوش من جهة الشرق لاحتلال إيران سوى مرتين فقط. الجيش الأول كان بقيادة الإسكندر الأكبر عام 331 قبل الميلاد؛ والثاني أرسله الخليفة المسلم عمر في عام 642 ميلادية، وانتهى إلى إخضاع بلاد فارس بالكامل وتمهيد الطريق لاعتناقها الإسلام. (في الحقيقة، يكره الإيرانيون اليوم كلا الرجلين؛ واحتمال أن يسمى مسلم إيراني باسم كورش أرجح من احتمال أن يسمى باسم عمر.) لم ينجح الرومان خلال سبعمائة عام من الحرب مع الفرس ولا مع الأتراك الذين حاربوهم أكثر من ثلاثمائة عام في الاستيلاء على أي جزء من إيران الحالية. ونهب الأتراك مدينة إيرانية مرة ثم انسحبوا، في حين أن أقصى مكان شرقا وصل إليه الرومان كان ميناء بالقرب من البصرة، حيث وقف الإمبراطور تراجان يراقب بحزن السفن المليئة بالتوابل الهندية وهي ترسو متمنيا أن يبحر شرقا على إحداها، للوصول إلى الهند عن طريق البحر؛ لأنه كان يعلم أن الطريق برا عبر بلاد فارس كان لا يمكن اجتيازه. ودائما ما كانت الحدود أكثر من مجرد خط على خريطة.
لم أرغب في مجرد التحليق فوق هذه الحدود التاريخية؛ لذا شققت طريقي إلى شرق تركيا واستعددت للعبور إلى إيران سيرا على الأقدام. وقبل المعبر الحدودي مباشرة، استبدلت الريالات الإيرانية بدولاراتي. فداخل إيران ذاتها، كانت العقوبات الدولية تعني أنني لن أتمكن من الوصول إلى حسابي المصرفي، وأن بطاقات الائتمان الخاصة بي ستكون عديمة الفائدة؛ لذلك كان علي أن آخذ معي كل الأموال التي قد أحتاج إليها. وكانت أكبر ورقة نقدية إيرانية تمكنوا من إعطائها لي تساوي دولارا؛ ولذا انتهى بي الحال أحمل حقيبة بلاستيكية مليئة بالنقود. مشيت إلى الحدود الإيرانية، حاملا هذه الحقيبة في يد واحدة وحقيبة ظهر على ظهري. وكان توجد لافتة ضخمة معلقة عليها صورة آية الله الخميني وخليفته خامنئي ينظران بوجه عابس لمن يسيرون تحتها، وكأنهما يقولان لمن يدخل من تركيا الليبرالية: «هنا تترك العلمانية وراءك.»
بمجرد أن وطئت قدمي الأراضي الإيرانية قال صوت: «أهلا بك!» بدا أن رجلا مسنا جالسا على كرسي هو القوة الحدودية الوحيدة المنتشرة هنا. بدا مسرورا لرؤية أجنبي بين الحشد الصغير من السكان المحليين. تساءلت عما إذا كان يعلم أنني أتيت من «الشيطان الأصغر». أشرت إلى جواز سفري البريطاني بتوتر بينما كنت أتقدم نحو طابور الجمارك. كنت على يقين من أن الموظفين هنا، بعد رؤية جواز سفري، سوف يستدعون الشرطة السرية، التي ستتعقبني حينها على نحو لافت للانتباه أينما ذهبت. لكن شرطي الجمارك لوح لي بأن أمر، وعلى الجانب الآخر لم يكن يوجد أي حرس أشرار. في الواقع، وجدت نفسي في ساحة انتظار أخذت تخلو ولا توجد بها أي وسيلة مواصلات. بدا أنني كنت أدنى من أن أسترعي انتباه الجمهورية الإسلامية.
سرت من المحطة على الطريق. مر سائق وصاح قائلا لي: «عشرة إمام!» أصابتني الحيرة. كانت كلمة «إمام» اسما لآية الله الخميني. لكن بعد ذلك أوقف الرجل سيارته وأخذ ورقة نقدية من محفظته بقيمة 10 آلاف ريال. كان عليها صورة الخميني. وقال: «عشرة من هذه لأقلك إلى المدينة.» طلبت منه بدلا من ذلك أن يوصلني إلى منزل قديم قريب، أصبح الآن متحفا، كان في السابق ملكا لأرستقراطي كردي وزينت غرف الاستقبال به بأفضل طراز إيراني من أوائل القرن العشرين، وبمصاريع زرقاء زاهية وجدران مغطاة بزجاج عاكس لامع. كان قد بني عام 1912. وكانت إيران في ذلك الوقت تمر بتغير اجتماعي سريع، كما يتضح من لوحتين على سقف غرفة الطعام. في إحداها، يأكل بطريرك ذو عمامة بيديه من وعاء بينما يحيط به رجال ذوو شوارب، ولحى، و«طرابيش» سوداء ويفعلون مثله، أو يشربون الشاي. وفي الأخرى، رجل حليق الذقن يرتدي سترة يرفع كأسا من النبيذ، بينما تفعل زوجته التي تجلس بجانبه الشيء ذاته. وضيوفهم رجال ونساء يرتدون أزياء أوروبية أنيقة. وتظهر إحدى النساء وهي تنظر بقلق إلى مرتدي الطربوش في اللوحة الأخرى.
كان المقصود من الصورتين الاحتفاء بالتغيير من القديم إلى الجديد. وباستيعاب ما حدث في السابق، يمكن فهمهما فهما مختلفا: كان من حكمة النخبة المتأثرة بالغرب أنها كانت تتخوف من المتمسكين بالتقاليد؛ لأن البطاركة المعممين سينتقمون في النهاية. ففي يناير 1979، استسلم حاكم إيران العلماني، محمد رضا شاه، لمطالب الثوار ورحل إلى منفى طوعي. وفي الشهر التالي، عاد معارضه القديم روح الله الخميني من المنفى إلى طهران، واتخذ خطوات حثيثة لتولي السلطة. وبصفته آية الله - أي رجل دين شيعي بارز - ادعى سلطة إلهية للحكومة الجديدة التي شكلها. وأعلن أن: «وصايا الفقيه الحاكم»؛ أي وصاياه، «مثل وصايا الله.» كان شاها القصر البهلوي قد قدما الكثير لمساعدة الزرادشتيين؛ لكن في ظل حكم آية الله، أصبحت السلطات أكثر عداء لغير المسلمين، وتغيرت القوانين بطرق أضرت بهم.
عندما وصلت إلى أقرب بلدة ذهبت لتناول الطعام في مطعم الكباب بها، وقرر اثنان من المسلمين الإيرانيين كانا جالسين على الطاولة المجاورة أن يعتنيا بي. كانا أخوين. قالا: «تعال إلى قريتنا»، ووافقت، على أمل أن أرى الحياة الأسرية الإيرانية. أثناء مضينا بالسيارة عبر بساتين الكرز بالقرب من بحيرة أرومية، وستيريو سيارتهما يصدر موسيقى إيرانية حزينة جدا، علمت أن الأخوين كانا من الأذر، وهو شعب تركي اندمج في المجتمع الإيراني على مدار السبعمائة سنة الماضية. كان أكراد وأرمن ومسيحيون آشوريون يعيشون أيضا في هذا الجزء من البلاد، وعلى الرغم من أن كل جماعة كانت لها لغتها الخاصة، كان الغالبية يتحدثون الأذربيجانية. وعند وصولنا إلى القرية، طلب مني مضيفاي الجديدان أن أهبط في مقعدي حتى لا يراني أحد؛ لأنه كان ممنوعا عليهما استضافة الأجانب. وقال لي أحدهما: «هذا لأنني أنتمي إلى قوات الباسيج.» وهكذا أدركت أنني في قبضة الباسيج؛ وإن لم يكن بالطريقة التي كنت أخشاها. قدم لي الأخوان عشاء وسريرا لقضاء الليلة. وقابلت زوجتيهما وأطفالهما الصغار الذين أكلوا معنا.
وفي صباح اليوم التالي، عندما كنت جالسا على السجاد الصوفي الأحمر الذي كان مفروشا على أرضية غرفة المعيشة أراجع خريطتي، رأيت أنني كنت قريبا من أحد المعالم الزرادشتية. لذلك بعد أن أوصلني الأخوان خلسة إلى محطة للحافلات (حيث قالا لي: «ابق منخفضا!» عندما مرت السيارة بأشخاص في الشارع يعرفهما الأخوان)، ركبت حافلة في رحلة قصيرة خارج البلدة، مرورا بقمم مغطاة بالثلوج، إلى تلة مخروطية الشكل شديدة الانحدار ذات جوانب غبارية اللون. وعلى المسار المتعرج الذي أدى إلى قمتها، كان يوجد العديد من الأزواج الإيرانيين، وبعض الأولاد الصغار، ورجل مسن. تبعتهم، وفي القمة حدقنا جميعا في فوهة بركان خامد. قالوا لي إن هذا هو «زندان سليمان»، أي سجن سليمان. •••
للملك اليهودي سليمان مكانة بارزة في القرآن، الذي يذكر أنه كان ذا سلطان على الأرواح غير المرئية التي يسميها المسلمون «الجن». وفي إحدى أساطير «ألف ليلة وليلة»، يفتح صياد سمك زجاجة عليها ختم سليمان على سدادتها، ويخرج جني ويخبره أن سليمان «ليعاقبني ... أمر بإحضار هذه الزجاجة وسجنني فيها، وأغلقها بسدادة من الرصاص، وختم الرصاص باسم الله الأعظم.» يبدو أن التراث المحلي كان يعتقد أن سليمان قد فعل شيئا مشابها في زندان سليمان، حيث سجن الأرواح المتمردة داخل فوهة البركان العميقة المنحدرة الجوانب.
ربما قاومت أرواح المكان سليمان. وقبل مجيء الإسلام كان هذا البركان أحد أعظم مزارات الزرادشتية وأهمها. ربما كان مكانا لتقديم القرابين؛ إذ يخبرنا هيرودوت أنه عندما أراد الفرس تقديم قرابين لأهورا مزدا، كانوا يصعدون على جبل مرتفع. وأضاف أنهم كانوا حينها أيضا يقدمون القرابين «للشمس والقمر والأرض، وللنار والماء والرياح.» تخيلتهم يصعدون بجهد المسار ذاته الذي أتيت منه، مرهقين من حمل حمل أو عنزة ذبيحة على طريق الصعود بأكمله على سفح الجبل. بقيت ثلاثة من العناصر الأربعة؛ فالرياح ما زالت تعصف بالسهل، مما يتسبب في برودة الجو حتى في فصل الربيع؛ وكانت الأرض هناك بنية وغير خصبة؛ ومياه البحيرة القريبة كانت لا تزال زرقاء عميقة جميلة. لكن النار قد انطفأت.
كان هذا المعبد المدمر عند سفح زندان سليمان يوما ما مثوى نار غوشناسب، المقدسة لدى المحاربين، والتي زارها الأباطرة الفرس قبل معاركهم مع الرومان. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
يضيف هيرودوت أن الفرس رفضوا الممارسة الشائعة المتمثلة في تصوير الآلهة في هيئة بشرية وعبادتها في المعابد: «ليس لديهم صور للآلهة، ولا معابد ولا مذابح، ويعتبرون استخدامها إحدى علامات الحماقة.» ومع ذلك، بنى الزرادشتيون في زمن لاحق معابد، ربما تحت تأثير البابليين والشعوب الأخرى التي احتلوها، لكنها لم تحتو على أي تماثيل للآلهة، وإنما فقط شعلة لا تنطفئ. عندما نظرت إلى أسفل من حافة الفوهة، كان بإمكاني رؤية أنقاض أحد أعظم هذه المعابد. وقد بني منذ ما يقرب من ألفي عام ليكون مثوى ما لا بد أنه كان يبدو نارا خارقة حقا للطبيعة؛ فهي شعلة ظلت متأججة باستمرار جراء الغاز الطبيعي المتسرب من قاعدة البركان. أطلق الزرادشتيون على هذه النار اسم غوشناسب واعتبروها إحدى الثلاث نيران الأقدس في بلاد فارس.
كانت غوشناسب معروفة بأنها نار المحاربين، وكان التقليد الزرادشتي يعتبرها قديمة قدم العالم. كان ملوك الفرس يزورونها لتقديم القرابين قبل الخروج في حملات ضد الرومان، ولاحقا البيزنطيون. وبحلول القرن السابع الميلادي، كانت الحرب المستمرة قد أنهكت الإمبراطورية الفارسية. وأثبتت حملة ناجحة وصلت بالفرس غربا حتى مصر أنها الرمق الأخير لإمبراطوريتهم. وفي سنة 627 ميلادية، أتى آخر زائر ملكي إلى نار غوشناسب. كان اسمه خسرو، وقام بزيارته في وقت كان يشعر فيه باليأس. فقد كان هو وقواته يتقهقرون أمام تقدم البيزنطيين، الذين كانوا يستعينون بقبائل عربية محلية باعتبارها مرتزقة. وكان البيزنطيون مسيحيين معروفين باحتقارهم للنار المقدسة، وبدلا من تركها تقع في أيديهم، أخرجها خسرو من المزار المقدس وأخذها معه. وبعد خمسة عشر عاما، سقطت إمبراطوريته - ليس أمام البيزنطيين وإنما أمام العرب، الذين كان الإسلام قد وحدهم حينئذ.
لم يرغب العرب في مواجهة جيوش الفرس، التي كانوا يخشون من أنها ستربح في أي مواجهة عسكرية. لكن عندما انجر العرب أخيرا إلى معركة مع جيش الفرس، نجحوا في إجبار خصومهم على التقهقر إلى مكان يدعى نهاوند، حيث قرر الفرس أن يصمدوا. وكما تصف الملحمة الفارسية العظيمة «الشاهنامه» المشهد، يأتي رسول عربي يرتدي أسمالا بالية لتوجيه إنذار نهائي للفرسان الفرس، الذين كانوا يرتدون كلهم دروعا ذهبية متألقة، دلالة على مجدهم ونبل محتدهم. كان رستم، ابن الملك الفارسي، يقرأ النجوم ويرى المستقبل: «النجوم تفرض علينا الهزيمة والهروب. ستمر أربعمائة عام سيكون فيها اسمنا، منسيا ومجردا من الشهرة.» بعد هزيمتهم، هرب بالفعل الإمبراطور وما تبقى من بلاطه شرقا إلى آسيا الوسطى، آخذين معهم دينهم . وبقي هناك باعتباره العقيدة السائدة لجيل آخر أو نحو ذلك. ومن نهاوند فصاعدا، أصبح الإسلام دين الدولة في إيران. ولم توقد مرة أخرى أبدا نار غوشناسب.
تتباين الآراء حول مدى سرعة تخلي الإيرانيين عن الزرادشتية، لكن يبدو أن بعض أفراد العائلة المالكة أصبحوا مسلمين في وقت مبكر. وقد وجد معتنقو الإسلام أن بعض جوانب الدين الجديد تنسجم جيدا مع العادات الزرادشتية. فكلتا الديانتين تطلب من أتباعها الصلاة عدة مرات في اليوم (الزرادشتيون ثلاث مرات، والمسلمون خمس مرات)، وتقدس النظافة، وتستند إلى مجموعة من الكتب المقدسة الإلهية. وقدم الإسلام مهربا من النظام الطبقي الديني الزرادشتي، الذي كان فيه الكهنة والمحاربون في القمة؛ ولم تلقن الطبقات الدنيا الكثير عن الدين وكانت أسرع في التخلي عنه، كما يتضح من النسبة العالية للعائلات الكهنوتية بين أولئك الذين بقوا على اعتناقهم للديانة الزرادشتية. واستطاع من بدلوا دينهم أن يجمعوا بين كلا الأمرين، حيث انتهجوا الممارسات الإسلامية ولكن حافظوا أيضا على بعض التقاليد الأكثر شعبية في الزرادشتية، مثل الاحتفال بالعام الجديد (النيروز)، الذي لا يزال عيدا رئيسيا مدة أسبوعين في إيران. وخلال زيارتي، شاهدت العديد من العائلات الإيرانية جالسة تتناول الطعام في الهواء الطلق احتفالا بسيزده بدر، آخر يوم من أيام النيروز.
وسواء كان الإيرانيون قد اعتنقوا الإسلام بسرعة أو ببطء، فمن الواضح أنهم لم يقبلوا بسهولة أن يحكمهم العرب. ففي البلدان الواقعة غربا، بدل الغزو العربي الثقافة الكاملة للشعوب المهزومة، التي بدأت شعوب كثيرة منها في نهاية المطاف تطلق على أنفسها لقب «عرب» ونسيت هوياتها ولغاتها السابقة. ومن المرجح أن يكون قد ساعد في ذلك أن الشعوب المهزومة كانت أيضا شعوبا سامية، تتحدث لغات تشبه العربية، ناهيك عن أن أفرادها كانوا بالفعل رعايا للإمبراطورية البيزنطية، ومع الفتح العربي، كانوا فقط يستبدلون مجموعة من الحكام بأخرى.
كانت فارس مختلفة. وكان الشعب الإمبراطوري حينئذ خاضعا. ويعطينا الشاعر العربي الجعدي صورة مؤثرة عن أقدارهم التي تبدلت: «يا أيها الناس، هل ترون إلى ... فارس بادت وخدها رغما؟ أمسوا عبيدا يرعون شاءكم ... كأنما كان ملكهم حلما.» وكانت أسوأ إهانة يمكن أن يرمي بها الكهنة الزرادشتيون شخصا ترك دينه وصار مسلما هي أنه «لم يعد إيرانيا». والعرب بدورهم نظروا إلى الزرادشتية بريبة، وكثيرا ما أدانوها بأنها عبادة للنار وترددوا في منح أتباعها المستوى ذاته من التسامح الذي منحوه للمسيحيين واليهود.
وكما حذر أحد الحكام العرب الأوائل في إيران إخوانه المسلمين بعد الفتح بوقت قصير قائلا عن الفرس: «من كان يسألني عن أصل دينهم ... فإن دينهم أن يقتل العرب.» ففي بخارى حاول العرب نشر الإسلام من خلال تقديم المال لمن يأتون للصلاة، وتوطين العرب قسرا بين السكان؛ ومع ذلك، تمردت المدينة مرارا وتكرارا، وارتد أولئك الذين اعتنقوا الإسلام. واغتيل الرجل الذي كان خليفة الإسلام وقت غزو إيران، عمر بن الخطاب، على يد عبد إيراني. وحتى في القرون اللاحقة، يبدو أن روح التمرد استمرت، خاصة في الملاذات التي أمكن لحركات التمرد أن تعثر عليها في الجبال الإيرانية. وبعد قرنين من الغزو العربي، عملت جماعة تسمى الخرمية وقائدها بابك، في شمال ماكو، ودعت إلى إعادة توزيع الممتلكات، وحرية ممارسة العلاقات الجنسية دون التقيد بالزواج، وشن الحرب على الحكومة. ثم في القرن الثاني عشر، عملت سلالة حاكمة زعمت أنها من نسل النبي محمد من قلعة تسمى الموت على قمة صخرية هائلة تقع أعلى واد ناء. وأرسلت من حصنها الجبلي أتباعها، المعروفين باسم الحشاشين، لقتل شخصيات بارزة في الحكومة التي حكمت إيران في ذلك الوقت. وأعلن أحد المنتمين إلى تلك السلالة الحاكمة إلغاء جميع التشريعات الدينية؛ حيث قال: «ما كان محرما أصبح مشروعا الآن، وما كان مشروعا أصبح محرما الآن.»
كانت أغلبية إيران في تلك الأيام سنية وليست شيعية. ولم تصبح الغالبية شيعية إلا في القرن السادس عشر. ومع ذلك، يبدو أكثر من مجرد صدفة أن هذه الإمبراطورية المنهارة انتهى بها المطاف بنسخة من الإسلام رسخت في داخلها إحساسا بأن كل شيء ليس على ما يرام مع العالم؛ أن الترتيب الصحيح للأمور قد انقلب. بدأ الإسلام الشيعي باثني عشر إماما، كان من المفترض أن يكونوا خلفاء النبي محمد (الذين انحدروا جميعا من آله؛ فمن النقاط التي يصر الشيعة عليها أن حكام الإسلام يجب أن يكونوا من آل النبي). لم يقبل غالبية المسلمين سوى أوائل أئمة الشيعة هؤلاء، وتوفي الكثير منهم وسط اتهامات بالخيانة. رسخ هذا في عقيدة الشيعة ازدراء للحكومات الدنيوية وأملا ورعا في أن آخر الأئمة الاثني عشر سيعود يوما ما في صورة المهدي - وهو المعادل للمسيا اليهودي والمسيحي - علامة على آخر الزمان. حتى أن حكام العصور الوسطى في إيران كان لديهم حصان جاهز دائما في إسطبلهم ليركبه المهدي، إن عاد.
وبالتفكير في هذا الاعتقاد الخاص بالشيعة، كنت أميل إلى مقارنته بموسيقى على سلم صغير، مثل الأغنية الإيرانية الحزينة التي كنت قد سمعتها في وقت سابق من ذلك اليوم في ستيريو السيارة. ربما كانت نغمات اللحن الرثائي للإمام الثاني عشر مألوفة لأي زرادشتي، يتوق إلى استعادة النظام القديم. والمهدي، وفقا للأسطورة، سينحدر من أباطرة بلاد فارس القدامى. وذلك لأنه قيل إن شهربانو، ابنة آخر إمبراطور لبلاد فارس المستقلة قبل أن تصبح مسلمة، تزوجت الحسين، حفيد النبي محمد: ولو كان هذا صحيحا، لكان جميع الأئمة اللاحقين ينحدرون من نسل النبي ونسل العائلة المالكة الفارسية أيضا. وربما ساعدت هذه القصة في دعم تأييد الإسلام بين الإيرانيين الذين اشتاقوا إلى النظام القديم.
تنبأ الأفستا أيضا بالمسيا؛ السوشيانت، المخلص الذي سيقود جيوش الخير في معركتها الأخيرة، التي ستحدث بعدها نهاية العالم وإقامة الأموات. ويبدو أن هذا المفهوم الزرادشتي، الذي يتناسب تماما مع إيمانهم بأن العالم ساحة معركة بين قوى الخير والشر، قد سبق الإيمان اليهودي بالمسيا وكذلك الإيمان الإسلامي بالمهدي؛ ويعتقد بعض العلماء أنه كان مصدر الإلهام لكليهما، على الرغم من أن فكرة عودة شخصية تاريخية من الموت لإنقاذ شعبه هي في الحقيقة فكرة قد تروق لأي مجتمع كان ماضيه أعظم من حاضره. وفي أسطورة لاحقة، قيل إن بحيرة كبيرة في جنوب شرق إيران تحتوي على بذرة زرادشت، القادرة على منح العالم سبعة أنبياء آخرين مثله لإيصال العالم إلى مستوى جديد من الحكمة في كل مرة. وقد تبنت بعض الجماعات الإسلامية هذا المفهوم، وأشارت أحيانا إلى أن محمدا كان النبي السابع. وزعمت الجماعات المنشقة عن الإسلام أن محمدا كان الخامس أو السادس فقط، وأن مؤسسها هو السابع.
وفي القرنين التاسع والعاشر، ضعفت قبضة الإمبراطورية العباسية العربية على إيران وسيطرت سلالات محلية حاكمة على أجزاء من البلاد. ومولت إحدى هذه السلالات الحاكمة، وتسمى السامانيين، على كتابة الملحمة الوطنية الإيرانية، «الشاهنامه». وكان الكاتب، الفردوسي، مسلما من الناحية الرسمية، لكن القصيدة مشبعة بالأفكار الزرادشتية. فعلى سبيل المثال، يبدأ التاريخ الذي ترويه عن الشعب الإيراني بمعركة ضد أنجرا ماينيو. وربما يكون الشاعر أيضا قد ساعد في الحفاظ على اللغة الفارسية باستخدامها في كتابة الملحمة. فإيران لم تعتمد اللغة العربية مطلقا في المحادثات اليومية وتواصل بفخر الاستمتاع بأدبها المنفصل تماما، وخاصة مجموعة ثرية من الشعراء. •••
توجهت من زندان سليمان إلى مدينة تمثل أكثر من غيرها الجانب الإسلامي الشيعي في إيران. فمدينة قم هي موطن الضريح الرئيسي والمدرسة الدينية الرئيسية في البلاد، حيث يدرب رجال الدين المسلمون. بني الضريح في المدينة حول قبر أخت الإمام الثامن، فاطمة المعصومة. وهو موقع ليس بأهمية مدينتي النجف وكربلاء في العراق، حيث دفن علي صهر النبي وحفيده الحسين. ومع ذلك، كان الوصول إلى قم في كثير من الأحيان أسهل على الحجاج الإيرانيين؛ ولذلك أصبحت ذات شعبية كبيرة. أضاءت الأضواء الخضراء للضريح ساحة انتظار السيارات حيث توقفنا، وكان بإمكاني أن أرى المكان الذي نصب فيه الحجاج الورعون خياما بين السيارات الواقفة، للاقتراب قدر الإمكان من الضريح. وفي فندق يطل على الميدان، حيث كنت آمل أن أجد غرفة، قال لي موظف الاستقبال - بعد أن أراني غرفتي - ألا أبقى هناك. أسرني قولا: «الأجرة باهظة للغاية هنا؛ ينبغي أن تقيم مع صديقي السيد جهانجير بدلا من ذلك. إنه يحب مقابلة الزوار!» وأجرى مكالمة وأكد أن السيد جهانجير الغامض يمكنه أن يمنحني سريرا لهذه الليلة، ثم أخبرني كيف أعثر عليه. تجولت في سلسلة من الطرق الصغيرة والأزقة حتى عثرت على شقة السيد جهانجير الواقعة تحت الأرض.
وتبين أن السيد جهانجير كان رجل دين شيعيا حديث العهد، رغم أنه لم يكن يرتدي ملابس رجال الدين. وبعد أن أدخلني إلى بيته، عرفني بثلاثة من أصدقائه الذين كانوا يجلسون جميعا على الأرض (وكانت زوجته، التي كانت ترتدي نقابا أبيض اللون، تجلس على استحياء في الخلف، لكن طفلته الصغيرة كانت أقل تحفظا). كانوا جميعا في مراحل مختلفة من الدراسة الدينية في إحدى مدارس مدينة قم الدينية، وقد كان أكبرهم وأظهر لي بفخر صورة له مرتديا عمامة «الشيخ» البيضاء، وهو لقب يمنح للرجل الذي بلغ مستوى معينا من التعلم الديني ولكن ليس لديه التمييز الإضافي المتمثل في كونه «سيدا» بعمامة سوداء، من نسل النبي. سألني رجال الدين ساعات عن بريطانيا؛ ولكن معظم الأسئلة كان يتعلق بالمجتمع وكيفية الحصول على التأشيرة أكثر من السياسة. لم ننته إلا في نحو الساعة الواحدة صباحا، وحتى بعد ذلك ظلوا ينقرون بأصابعهم على أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم مدة ساعة أخرى بينما كنت مستلقيا على مرتبة قريبة أحاول النوم. في الخامسة صباحا قاموا للصلاة. كان علي أن أستيقظ معهم واستعددت - بعينين غير قادرتين على الرؤية بوضوح ولكن مسرورا لإتاحة هذه الفرصة - لأن يصطحبني طلاب أفضل مدرسة دينية في إيران في جولة فيها.
في البداية أعطوني جولة في الضريح، حيث كانت قبابه الذهبية وبلاط السيراميك الأزرق الجديد اللامع علامات واضحة على مقدار الدعم والتمويل الذي تلقاه. لم يكن يسمح لغير المسلمين بالدخول، لكن رفاقي أدخلوني. ذهبوا للصلاة؛ ووقفت في انتظارهم بينما كان حشد المصلين يتدفق أمامي. عندما عادوا، قالوا إن لديهم مكانا آخر يريدون أن يطلعوني عليه. خرجنا من المسجد وسرنا في شارع تصطف على جانبيه الأشجار إلى مدرسة دينية كبيرة. كانت هذه المدرسة مميزة؛ فقد كانت التي درس فيها آية الله الخميني يوما ما. تعلو صورة آية الله الرواق المعمد المكون من طابقين، الذي يحيط بساحتها الواسعة المليئة بالأشجار. أرشدني أصدقائي الجدد إلى الغرفة التي كانت يوما ما غرفة الخميني الصغيرة للنوم والمذاكرة، ووقفوا أمامها كما يفعل الغربيون عندما يعزف نشيدهم الوطني، ينظرون بتبجيل إلى الأثاث البسيط وصورة آية الله على الحائط. تململت بارتباك. بمقاومة إغراءات الثروة والسلطة بوصفه حاكما مطلقا، أظهر الخميني قوة شخصية كبيرة. ومع ذلك، لم يكن صديقا للزرادشتيين في إيران، الذين كانوا قد عاشوا حياة مزدهرة في ظل النظام الملكي العلماني الذي أطاح به.
جلسنا في ساحة المدرسة الدينية بعض الوقت؛ ومر بجانبنا «سيد» يرتدي ملابس سوداء وقطة سوداء يمشيان ببطء، كما لو كانا في موكب مهيب. أخبرني أحد أصدقاء السيد جهانجير أنه يأمل في أن يدرس في المدرسة الدينية. كان عليه أولا أن يجتاز امتحانات القبول؛ وكانت فلسفة أفلاطون واحدة من الموضوعات الأساسية التي سيختبر فيها. وكان سيدرس في المدرسة الدينية كتابات أرسطو، من خلال حضور دروس خاصة يتعلم فيها من خلال إجراء مناظرات مع زملائه الطلاب (وهي تقنية تشبه في ذاتها تقنية الفلاسفة الإغريق). لقد مرت سنوات منذ أن درست كتابات أرسطو وأفلاطون، ولم أتوقع أن أجدهما مقدمة مفيدة لزملاء آية الله الخميني، إذ كان قد تبين أن تلك هي حقيقة أصدقائي. كان ثمة قدر من السخرية التاريخية في الأمر: الفلاسفة الكلاسيكيون، الذين كانوا مصدر إلهام لعصر التنوير الأوروبي، كانوا يحظون بشعبية لدى رجال الدين الرجعيين في إيران؟ وأفلاطون الأثيني، وأرسطو معلم الإسكندر، كانا ذائعي الصيت في بلاد فارس، التي اشتهرت بأنها عدوة أثينا والإسكندر؟
لكن هذا كان جهلا من جانبي؛ لأنه كما علمت، بالفعل ترك الإسكندر الأكبر المكروه في بلاد فارس إرثا من المودة للثقافة الإغريقية. وكان حكام إيران الفرثيين في القرن الأول قبل الميلاد عاشقين للمسرح الإغريقي. (عندما قتل الجنرال الروماني غير المحظوظ كراسوس في حران، أحضر رأسه إلى الإمبراطور واستخدم ديكورا مسرحيا في «باخوسيات» يوربيديس.) وكانت العلوم الإغريقية تحظى باحترام كبير في بلاد فارس لدرجة أنه حتى بعد أن تبنى الغرب أفكارا جديدة، استمر الفرس في اتباع الإغريق. وحتى القرن التاسع عشر ، كان أي شخص يذهب إلى طبيب في بلاد فارس يحصل على تحليل سوائله، استنادا إلى وصفات الطبيب اليوناني من القرن الثاني جالينوس. (لم يعد أحد الآن في إيران يستخدم «الطب اليوناني» مع أنه ما زال يمارس في الهند.) ويعود علم الفلك الذي ما زال رجال الدين الإيرانيون يدرسونه في بداية القرن العشرين إلى بطليموس، وهو عالم يوناني من القرن الثاني. يوما ما درس رجل يدعى أحمد كسروي ليصبح رجل دين ثم انتهى به الأمر إلى أن أصبح أحد أهم الكتاب المناهضين لرجال الدين في إيران الحديثة؛ ولم يبدأ تحرره من أوهام الإسلام الشيعي بالقرآن بل بسبب خطأ اكتشفه في كتابات بطليموس.
وبسبب هذا الحماس للعلوم الإغريقية، كان من الطبيعي أنه في القرن السادس الميلادي عندما طرد الإمبراطور البيزنطي جستينيان آخر الأعضاء الوثنيين في أكاديمية أفلاطون - التي كان مجال ممارستها هو تعليم الطلاب أولا فلسفة أفلاطون ثم فلسفة أرسطو - وفر لهم الفرس ملجأ. وجرى إيواؤهم في بلدة تسمى جنديسابور، حيث انضموا إلى علماء من إحدى الأقليات الدينية في الإمبراطورية البيزنطية، الذين كانوا قد طردوا أيضا؛ وفي السنوات اللاحقة، جلب الفرس علماء صينيين وهنودا للانضمام إليهم. وأصبحت جنديسابور جامعة رائعة تضم مناهجها نصوصا يونانية، وسنسكريتية، وصينية؛ وكان بها مستشفى كان يعد أعظم مركز طبي في المنطقة، حتى إن الأطباء كانوا يجرون الفحوصات هناك (وهو ابتكار مذهل في ذلك الوقت). فأصبح تعصب بيزنطة مكسبا لبلاد فارس.
كان الخميني قد درس فلسفة أفلاطون في المدرسة الدينية. وفي الواقع، لم تكن فكرته القائلة بأن من يدير إيران يجب أن يكون «رجل الدين الأكثر علما» تمثل تغييرا ملحوظا فحسب عن وجهة نظر الشيعة التقليدية بأن الحكومة شريرة في ذاتها، لكنها أيضا لم تكن موجودة في القرآن. وبدلا من ذلك، ربما يكون هذا أقرب مثال على وجه الأرض لرؤية أفلاطون، الموضحة في كتابه «الجمهورية»، عن دولة يديرها «الفيلسوف الأحكم». نفى الخميني دائما وجود صلة، على الرغم من قبوله لأفلاطون، وقوله مرة إنه يعتبره «حكيما». •••
أخذتني رحلتي من قم عبر مدينة أصفهان الرائعة، التي صممت ساحتها المركزية لتستخدم أيضا كملعب لممارسة رياضة البولو، والتي تعد مساجدها المزخرفة بالخزف الأزرق من أجمل المباني في العالم، والتي يرسم فنانو البازار فيها بعناية مشاهد حب وصورا للشعراء على صناديق خزفية صغيرة. وإلى الجنوب من أصفهان ذهبت إلى شيراز، وهي المدينة التي أعلن فيها في أربعينيات القرن التاسع عشر «سيد» مسلم محافظ يدعى علي الشيرازي أنه المهدي وتبعه مائة ألف شخص قبل أن تعدمه بوحشية السلطات التي اعتبرته مجدفا على الله. وأعلن أتباعه، الذين كان من بينهم زرادشتيون، أنه كان أيضا السوشيانت. وأطلقوا على أنفسهم اسم البابيين؛ لأن الشيرازي كان «الباب»، أي البوابة الغامضة إلى الله. وفي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، زار الباحث البريطاني إدوارد براون إيران. تعمق الرجل، الذي صار في وقت لاحق أحد أعظم الخبراء الغربيين في البلاد (ولا يزال البريطاني الوحيد الذي سمي باسمه شارع في طهران الحديثة)، في المجتمع الإيراني وأصبح بارعا في حل شفرة الرموز السرية التي كان يستخدمها الإيرانيون؛ مثل الشفرة التي كان يستخدمها الرجال الإيرانيون عند نفث الدخان من النرجيلة؛ فكل مجموعة نفثات تمثل حرفا. وعلى الرغم من مهارته وتحمسه لمقابلة البابيين وسؤالهم عن معتقداتهم، لم يستطع اختراق السرية التي أحاطوا بها أنفسهم. وفي كل مرة كان يقترب من شخص يبدو مقبولا، يدعي الرجل أنه مسلم تقليدي.
من الواضح أن البابيين كانوا يراقبونه خلال هذا الوقت؛ لأنهم قرروا في النهاية أنه يمكنهم الوثوق به. قال له رجل بابي بعدما كشف له عن انتمائه: ««الأصدقاء» في كل مكان، ومع أنك بحثت عنهم حتى الآن دون جدوى، ولم تعثر عليهم إلا أخيرا بما قد يبدو مجرد صدفة، فالآن بعدما أصبح لديك الدليل، ستلتقيهم أينما ذهبت.» تعرف على عاداتهم، التي أظهر بعضها تأثيرات زرادشتية واضحة؛ فالبابيون يتزوجون من زوجة واحدة فقط، والبابيات لا يرتدين الحجاب، واتخذ البابيون صوما جديدا بدلا من رمضان، يقام في المدة التي تسبق عيد النيروز. كانت السرية مبررة؛ فقد ذبحت حكومة إيران في القرن التاسع عشر الآلاف من البابيين واستعبدت زوجاتهم. وتحولت ديانة البابيين في النهاية إلى البهائية. وفي السنوات الأخيرة، سجن القادة البهائيون وتعرض أتباعهم لمضايقات ممنهجة، واستبعدوا من الوظائف الحكومية، وفي بعض الأحيان اعتقلوا على أساس أنهم مرتدون عن الإسلام. ومنذ الثورة الإسلامية قتل مائتان من البهائيين.
يحتفي الشعر الإيراني كثيرا بمدينة شيراز، خاصة في قصائد حافظ، الشاعر المفضل لدى الإيرانيين، الذي كان يعيش في القرن الرابع عشر؛ على الرغم من أن أعماله لا تحتفظ برونقها جيدا بعد الترجمة. «بين جعفر آباد والمصلى ... أقبلت بالعبير ريح شماله. روح قدس لها بشيراز فيض ... وبشيراز حل أهل كماله. ذاكر القند المصري ثم ... الحسان قد تسببن في إخجاله.» [من كتاب «مجموع ديوان حافظ الشيرازي»، غزل 279. ترجمة دكتور علي عباس زليخة. طبعة الهيئة العامة السورية للكتاب.] «ديوان حافظ» هو أحد كتابين تمتلكهما كل عائلة إيرانية تقليدية، - والكتاب الآخر هو القرآن. قبره في شيراز مزار يحج إليه الناس. رأيت شابا راكعا عنده ومكث هناك وقتا طويلا يصلي في صمت، بينما وقفت عدة نساء على مقربة، ورءوسهن مطأطأة. ربما لم يكن حافظ فحسب هو من كرموه وتاقوا إليه، وإنما أيضا الثقافة المتحررة المفعمة بالحيوية التي أعلن عنها: «الوردة البلبل السكران قد قتلت ... صوفي يا عابد الخمر الصلاة حلت! كصخرة توبتي أحكمتها عجبا ... بالجام وهو زجاج كيف قد كسرت! دار ببابين عنها أنت مرتحل ... فأي فرق علت سقفا أم انخفضت.» [من كتاب «مجموع ديوان حافظ الشيرازي»، غزل 25. ترجمة دكتور علي عباس زليخة. طبعة الهيئة العامة السورية للكتاب.]
يعج شعر حافظ بإشارات إلى الخمر. وشعر المتدينون بالإحراج من ذلك؛ لأن الخمر حرام في الإسلام، وكان حافظ شاعر المسلمين الإيرانيين المفضل، وفسر الأتقياء هذه الإشارات على أنها استعارات عن البهجة الروحية. ومن هذا المنطلق كتب آية الله الخميني قصيدة قال فيها: «افتحي باب الحانة ودعينا نؤمها ليل نهار.» ومع ذلك، فإن حانات حافظ كان أصحابها من الكهنة الزرادشتيين، المجوس. فكما تقول إحدى قصائده : «عرضت مشكلتي أمس أمام شيخ المجوس ... الذي يمكنه حلها بنظرة من عينيه. رأيته مسرورا يبتسم وكأس الخمر في يده.» ويبين هذا أن إشارات حافظ للخمر هي إشارات إلى الاعتقاد الزرادشتي بأن شرب الخمر هو وسيلة للتواصل مع الله. ففي أحد طقوس الصلاة الزرادشتية، تعد الخمر من ثمار الخلق السبعة التي توضع أمام الكاهن (الذي يطلق عليه أحيانا أيضا اسم المجوسي). وفي التقاليد الزرادشتية، أعطى زرادشت خمرا للملك القديس فيشتاسبا ليشربه، مما جعله في حالة نشوة. وفي تلك النشوة صعد إلى السماء ولمح مجد الله. قال هيرودوت إن الفرس لم يكونوا يتخذون قرارا إلا إذا نظروا فيه مرتين؛ مرة في حالة اليقظة ومرة في حالة السكر. لذلك إذا اتخذوا قرارا وهم متيقظون، فسيسكرون بعد ذلك ويرون ما إذا كان لا يزال يبدو فكرة جيدة. وإذا كان كذلك، يمضون قدما فيه. عندما قرأت هذا أول مرة، افترضت أنها مزحة، لكنها في الحقيقة تبدو منطقية. فإذا كانت الخمر تعطي نوعا خاصا من البصيرة الغامضة، فستبدو فكرة جيدة أن يثمل المرء قبل اتخاذ القرارات. وأيضا، سيتعلم من بعض التجارب السيئة قيمة التفكير مليا في اتخاذ القرارات عندما يكون متيقظا.
درويش يطوف بقبر الشاعر حافظ في شيراز بإيران. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
الأبيات المقتبسة أعلاه هي مجرد مثال واحد على مدى تغلغل الفكر الزرادشتي بعمق في كتابات حافظ. لا عجب إذن أن زرادشتيا يدعى خسرو أراد تكريم حافظ. وعندما رأى نصبا تذكاريا سابقا له في حالة رثة، حاول بناء نصب جديد حول قبره. كان ذلك سنة 1899، وتبدد ذلك الجهد عندما قاد رجل دين مسلم محلي حشدا من الغوغاء لتدمير النصب التذكاري لأن من بناه كان زرادشتيا. ومنذ ذلك الحين، أعاد المعجبون المسلمون بالشاعر بناء المقبرة بشكل رائع. تساءلت في نفسي وأنا أقف بجانب الأعمدة الحجرية لهذا القبر الجديد عن مكان مجوس أشعار حافظ الآن؟ وبينما كنت أفكر، مر أمامي درويش رث الثياب وشرع في الطواف سبع مرات حول النصب التذكاري. إنها عادة زرادشتية قديمة. لكن بالإضافة إلى الجلباب البني والقبعة الطويلة المستديرة ، كان هذا الرجل التقي يضع على كتفه وشاحا أخضر، وهو اللون الدال على الإسلام. كان مسلما وليس زرادشتيا؛ فقد تأثرت إيران تأثرا عميقا بالصوفية، ويبدي بعض الصوفيين تبجيلهم للقديسين الموتى بالطواف حول قبورهم. بالطبع، ربما كان بعض الزرادشتيين بين الشبان والشابات الذين كانوا يصلون عند القبر أو يجلسون في المقهى الملحق به. لكنني لم أظن ذلك. فمجوس أشعار حافظ قد أغلقوا حاناتهم منذ زمن طويل.
كان يوجد مكان واحد كنت واثقا من أنني سأعثر على الزرادشتيين فيه: وهو يزد، حيث ولدت لال. امتد الطريق إلى هناك مسافة مائة ميل عبر الصحراء، متجاوزا جبالا صخرية محززة وحقولا رملية وترابية، حتى وصل إلى واحة يزد. استقبلتني عند وصولي واجهة ضخمة مكسوة بالقرميد بها فتحات بأسقف مقوسة ومدببة، تسمى التكية، ارتفاعها عدة طوابق؛ وكانت مزينة بخزف إيراني باللونين الأزرق الفاتح والأبيض المائل للصفرة، وبجانبها عجلة من الخوص تسمى «النخل». كان كل منهما يستخدم في مسرحية الآلام الشيعية السنوية التي تحيي ذكرى وفاة الحسين بن علي، الذي كان في نظر الشيعة الإمام الثالث، والذي سقط في معركة مع خصومه من المسلمين السنة.
جاء براون إلى يزد ووصف سعادته قائلا: «نجحت أخيرا في عزل نفسي ليس فقط عن أبناء وطني، ولكن عن إخواني في الدين»، وكان يعتقد خطأ أنه زرادشتي. وذكر أن طائفة الزرادشتيين كانت «أقل عرضة للمضايقات الآن مما كان عليه في الأوقات السابقة»، على الرغم من أنهم «يواجهون في كثير من الأحيان سوء معاملة وإهانة على أيدي [المسلمين] الأكثر تعصبا، الذين يعتبرونهم وثنيين.» وأضاف أنه عندما يشغل حاكم فاسد مركز سلطة، أو عندما لا يوجد أحد مسئول على الإطلاق، فإن معاملتهم تزداد سوءا.
كان براون يقابل الزرادشتيين في وقت كانت فيه حظوظهم تتحسن. وعلى الرغم من التأثير المتغلغل لأفكارهم، فقد عوملوا بقسوة كبيرة خلال العصور الوسطى وما بعدها. كتب زائر إلى إيران سنة 1854، يدعى مانكجي ليمجي هاتريا، «وجدت الزرادشتيين مستنزفين ومقهورين، لدرجة أنه لا أحد في هذا العالم يمكن أن يكون أكثر بؤسا منهم.» كانت الطائفة حينئذ تخضع لضريبة «جزية» خاصة، مفروضة على غير المسلمين كلهم. كما حرم الزرادشتيون من حق الشهادة على مسلم أمام قاض، مما جعلهم في وضع غير موات على الإطلاق في النزاعات على الأرض أو التجارة. بالإضافة إلى ذلك، كانوا يترنحون من آثار ما أطلق عليه «آخر تحويل قسري جماعي للزرادشتيين إلى الإسلام»؛ وهي واقعة شهدت هجوما لغوغاء على قرية في خمسينيات القرن التاسع عشر وتهديد سكانها بالموت إذا لم يبدلوا دينهم. كان هاتريا من عائلة من البارسيين، أحفاد اللاجئين الزرادشتيين الذين كانوا قد غادروا إيران قبل ألف عام إلى كجرات في شمال الهند. وكان الجالية البارسية في الأصل تلجأ إلى إيران للحصول على الإرشاد الديني، لكنها كانت قد أصبحت أكبر وأغنى على مر القرون، ولم يكن هاتريا هناك لتلقي المساعدة ولكن لتقديمها. فقد أرسل هو ورفاقه البارسيين الأموال إلى الزرادشتيين الأفقر في إيران، وأسسوا مدارس حديثة، وساعدوا في إقناع الحكومة الإيرانية بإلغاء «الجزية» سنة 1882.
وسرعان ما تبع ذلك المزيد من التحسينات في وضع الزرادشتيين بيزد، وبعد عام 1906، عندما أجبرت ثورة دستورية النظام الملكي على قبول مجموعة من تدابير إزالة القيود المفروضة، بما في ذلك إنشاء برلمان، انتخب أحد الزرادشتيين في الهيئة الجديدة. واستعاد النظام الملكي قوته بعد ذلك بمدة وجيزة، لكن في النهاية حلت محله ديكتاتورية رضا خان، الذي لقب بالشاه وكانت كنيته بهلوي. وعلى الرغم من هذه التغييرات السياسية، استمرت أحوال الطائفة في الازدهار على مدار السبعين عاما التالية. وانضم الزرادشتيون للحكومة، حتى إن واحدا منهم، وهو فرهنج مهر، ارتقى في المناصب حتى أصبح نائبا لرئيس الوزراء. كانوا ناجحين بخاصة في الأعمال التجارية. ونتيجة لذلك، تناقصت أعداد من يسلكون درب الكهنوت، وهي مهنة أجرها زهيد وتتضمن قضاء الكثير من الوقت في تعلم نصوص مكتوبة باللغة الأفستية القديمة (لغة قديمة قد تستغرق وحدها سنوات لتعلمها). طلب والد لال - الكاهن الذي كان يقف على سطح منزله لدراسة النجوم - من إخوتها أن يصبحوا أطباء، وليس كهنة، إذا أرادوا الهرب من حياة الفقر. ومن الواضح أن الزرادشتيين الآخرين خالجهم الشعور نفسه. ففي ثلاثينيات القرن الماضي كان في يزد مائتا كاهن، وبحلول سنة 1964، كانوا أقل من عشرة.
لم يكن والد لال كاهنا فحسب - حيث كان يتحصل على دخل ضئيل بوصفه واعظا متجولا وتاجرا صغيرا - لكنه كان أيضا شاعرا ومفكرا متحمسا للأفكار الجديدة التي كانت تنتشر في ذلك الوقت في إيران. وعندما منع رضا شاه ارتداء الحجاب في إيران في ثلاثينيات القرن الماضي، أرادت والدة لال منعها من الذهاب إلى المدرسة؛ لأنها، على الرغم من أنها لم تكن مسلمة، كانت لديها أفكارها الصارمة حول ما ينبغي أن تلبسه الفتيات في الأماكن العامة. وكان والد لال هو من أصر على ضرورة عودتها إلى المدرسة مرة أخرى. وعندما اختارت لال أن تكون قابلة، وهي مهنة تتضمن الاتصال الدائم بالدم البشري - وهو من المحرمات في ديانة تضفي قيمة كبيرة على طقوس النظافة - دعمها، كما فعل عندما اختارت زوجها شهريار بعد أن تعرفت عليه عن طريق شقيقها.
كان توددا تقليديا؛ ففي أول لقاء لها مع زوجها المستقبلي، كانت برفقة والدتها وأختها ولم تنظر إلى وجهه. اضطرت أن تسأل أختها عن شكله. في النهاية، اختلست نظرة سريعة عليه عندما كانا جالسين معا في موعدهما الثالث، في السينما، عندما كانت تأمل أنه يركز على الفيلم ولن يلاحظ نظرتها الخاطفة. أعجبها ما رأت ووافقت على الزواج منه. في ذلك الوقت، انتقلت العائلة إلى طهران، ولكن بعد زواج لال وشهريار، عادا من حين لآخر إلى يزد، لزيارة منزل صغير كانا يملكانه في الجبال؛ أجرا أراضيه للمزارعين المحليين مقابل أن يزودوهما سنويا باللوز والفاكهة. كان انتقالهما إلى طهران توجها تبعه العديد من الزرادشتيين عندما حرر شاها البهلوي المجتمع الإيراني. ولم يعد شقيق لال مضطرا إلى سماع صياح الآخرين بكلمة «جبر»؛ حيث أصبح طبيبا في القوات الجوية الإيرانية. وكان شهريار ضابطا في الجيش، وتقلد لاحقا وسام البسالة. ولأول مرة منذ نهاوند، كان بوسع الزرادشتيين أن يقاتلوا من أجل إيران.
لم أر كاهنا على سطح أي منزل يزدي سنة 2006. في البداية بذلت جهدا جهيدا للعثور على أي أثر للزرادشتيين أيا كان. كانت ملصقات النعي على أعمدة الإنارة في كل شارع معنون بالعبارة الإسلامية العربية «بسم الله» فوق صور المتوفين حديثا. لكنني وجدت على ناصية شارع إشعارا بعنوان مختلف. كان نصه بالفارسية، «با نام أهورا مزدا» أي: «بسم أهورا مزدا». تحته كان رمز الرجل-الطائر، رجل بقلنسوة فارسية وأجنحة إلى يساره، ويمينه، وتحته. كنت قد رأيت الرمز ذاته في برسبوليس. أخيرا عثرت هنا على الزرادشتيين. كان أحد متاجر البقالة على هذا الطريق مزينا بالصور. مثلما يضع مسيحيو الشرق الأوسط صورا ملصقة للقديس جورج أو مريم العذراء على حوائطهم، ويعرض المسلمون صورا للحرم المكي أو ضريح الحسين (في إيران)، كانت هذه الصور لزرادشت وفارافاهار. وقد لصقت على زجاج النضد، وصندوق النقد، وجدران المتجر. في نهاية الطريق كان يوجد أيضا متجر لبيع الهدايا التذكارية الزرادشتية. فكرت مليا في شراء ساعة مكتوب عليها بالفارسية الشعار الزرادشتي «الفكر الجيد، الكلمة الطيبة، العمل الصالح».
في الجهة المقابلة للمتجر، بعيدا عن الطريق خلف حديقة صغيرة، كان يوجد معبد نار. سمح لي بالدخول، إلى غرفة نظيفة صغيرة، وخلف نافذة زجاجية، رأيت شعلة صغيرة متوهجة. وكانت صورة لزرادشت معلقة على حائط الغرفة، وبجانبها مقتطفات مختلفة من الكتب الزرادشتية المقدسة؛ لتذكير الزائر بأن الزرادشتيين أيضا لديهم كتاب مقدس، يعد عادة، إلى جانب الإيمان بإله واحد، شرطا أساسيا للتسامح في ظل الإسلام. فالقرآن يثني على «أهل الكتاب»، وفي إيران يعد الزرادشتيون من بينهم. لكن النظام يهزأ بهم بسبب تبجيلهم للنيران المقدسة في معابد النار خاصتهم، زاعما أنهم «يعبدون النار». وهذا شيء ينكره الزرادشتيون قائلين إنهم لا يعتبرون النار إلها، وإنما يعبدون الله بواسطة النار. سألت القيم على المعبد عن عدد العائلات الزرادشتية التي بقيت في يزد. فقال إنه قليل جدا. فالحياة صعبة؛ الاقتصاد سيئ والحكومة عدائية. علمت لاحقا أن عدد الزرادشتيين في البلد بأكمله قد انخفض منذ الثورة من ثلاثة وثلاثين ألفا إلى عشرة آلاف (هذه تقديرات تقريبية، حيث لا توجد إحصائيات مؤكدة).
أتيشكاده، أو معبد النار، في يزد. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
ربما كان من المناسب بعد زيارتي لمعبد النار، أن يكون موعدي التالي مع الموتى. فعلى الجانب الآخر من المدينة كانت أبراج مدمرة تعلو قمتي تل. أطلق عليها السياح اسم «أبراج الصمت»، وعرفها الزرادشتيون باسم «الدخمات». فيما مضى كان الطريق المؤدي إلى هذه التلال، الذي كان يتسابق عليه الشبان بسيارات للطرق الوعرة، طريق مواكب جنازات الزرادشتية. وكانت جثة المتوفى تبقى في منزل الأسرة مدة ثلاثة أيام، مع وجود كلب بالقرب منها لردع الأرواح الشريرة. ثم يحمل الجثمان على سرير حديدي، على يد رجال مدربين خصوصا لهذه المهمة، صعودا على هذا الطريق وصولا إلى «الدخمة». وهنا يخاطب حاملو النعش الميت: «لا تخف ولا ترتجف! هذا هو مكان أجدادك، وآبائنا وأمهاتنا، والطاهرين والصالحين، منذ آلاف السنين.»
دخمة في يزد، حيث كان الزرادشتيون فيما مضى يتركون جثث موتاهم مكشوفة لكي تأكلها الطيور. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
كتب هيرودوت في روايته عن هذه المراسم: «ما يعقب ذلك لا يذكر هذا عن موتاهم بوضوح ولكن بوصفه سرا غامضا، وهو أن جثة الرجل الفارسي لا تدفن حتى يمزقها طائر أو كلب.» في الواقع، تظل الجثة مكشوفة حتى تأكلها الطيور أو الكلاب بالكامل. ويمكن للطيور، عادة الغربان أو النسور، أن تلتهم جثة في غضون دقائق. توقفت هذه العادة في إيران منذ عدة عقود، اختياريا على ما يبدو، على الرغم من أن البارسيين في الهند ظلوا يمارسونها. وقد تكون هذه الممارسة أقدم من الزرادشتيين بقرون. ففي تشاتال هويوك بتركيا، حيث نقب عن مستوطنة بشرية من الألفية الثامنة قبل الميلاد، توجد بعض الأدلة الأثرية على احتمال أن الجثث كانت تترك مكشوفة في الهواء الطلق قبل الدفن.
تسلقت الدخمة الأقرب إلى الطريق، ونظرت من جدارها إلى الأسفل لأرى جنازة زرادشتية جارية بالأسفل. ونظرا إلى أن الدخمة كانت حينئذ مهجورة، كانت الجنازة تتجه بدلا منها إلى مقبرة قريبة. وضعت الجثث هناك في حجر وخرسانة ؛ لمنعها من تلويث الأرض. وبعد الجنازة، كان المشاركون يذهبون إلى منازلهم ويغسلون أنفسهم ببول ثور. (الأمونيا التي يحتويها هذا البول تجعله مطهرا جيدا، ويبدو أنه بعد سنوات من التخزين يفقد رائحته؛ وهو أمر جيد حيث يتوقع أحيانا أن يشربه الزرادشتيون، على سبيل المثال أثناء احتفالات بلوغ سن الرشد، ولكن الأشخاص الذين يصابون بالغثيان أصبحوا الآن يستبدلون عصير الرمان بالبول. يشير بلوتارخ، في القرن الأول الميلادي، إلى هذا الاحتفال؛ لذا فهو بالتأكيد قديم جدا.)
حاولت تخيل ماهية ما سيشعر به المرء عند رؤية تصادم القوى الكونية في الحياة اليومية للفرد. أظن أن جميع الناس لديهم فهم نظري لما هو نقي وما هو غير نقي. وقلة من الناس يشعرون بالراحة عند شراء منزل مات فيه شخص ما بطريقة عنيفة، ولن يرغب كثيرون منا في أن يكونوا في رحلة بالطائرة جالسين بجوار جثة. اكتشف العلماء أن الفساد الأخلاقي يثير ردود فعل جسدية تضاهي الاشمئزاز الجسدي؛ وبالفعل، غالبا ما توصف الخطيئة والفساد الأخلاقي بأنهما دنس (فكلمة «طاهر» تعني حرفيا «لا تشوبه شائبة»). ويؤمن الزرادشتيون بأن الدنس في العالم قد وضعته قوة خارقة للطبيعة نشطة وخبيثة؛ لذا فإن للنظافة قوة أخلاقية، ويجب أخذ نجاسة المدفن على محمل الجد. فوفاة شخص صالح تمثل انتصارا عظيما لأنجرا ماينيو وخدمه، وتجعل مكان الدفن دنسا دناسة خاصة. فالجثة تجذب شيطان الجثث، «الناسو». لذا لن يفكر الزرادشتيون في قضاء العطلة بالتجول في الدخمة: فهي تمثل لهم أحد أكثر الأماكن قذارة بشكل خارق للطبيعة على وجه الأرض.
ركبت سيارة أجرة من الدخمة عائدا إلى وسط يزد. قال السائق حسن: «الزرادشتيون أناس طيبون.» كان حسن مسلما متدينا، يرتدي قميصا أرجوانيا لإعلان حقيقة أن اليوم، كما أخبرني، هو ذكرى شهيد إسلامي. قال: «جاء الإسلام إلى إيران من العرب عن طريق الحرب. قبل ذلك كنا كلنا زرادشتيين.» كل عام يتذكر أناس مثل حسن تراثهم عندما يحتفلون بعيد النيروز، عيد الربيع، عندما يصبح النهار أطول من الليل (في الفكر الزرادشتي، يمثل هذا انتصارا للخير على الشر). ويستمر عيد الربيع أسبوعين في إيران الحديثة، ويحتفل به المسلمون بحماس يفوق الزرادشتيين الذين تكون احتفالاتهم هادئة وذات طابع ديني. الأمر المشترك بين الجماعتين هو عادة وضع سبع من ثمار الخلق على مائدة، لتناظر سبع فضائل وسبعة كواكب. عند الزرادشتيين، يمكن أن تشمل الثمار النبيذ، والحليب، والماء، والحبوب المنبتة، والتوت الفضي، والحلوى؛ ويمكن أيضا أن تتضمن مرآة وعملات معدنية، حيث تمثل الأولى المستقبل والثانية الازدهار. يميل الإيرانيون المسلمون إلى استخدام القمح، والتفاح، وفاكهة اللوتس، والثوم، وتوابل تسمى «السماق»، وحلوى بودنج تسمى «سمنو»، والخل. ثمة عيد أصغر يسمى تشهارشنبه-سوري (بالفارسية، الأربعاء القرمزي)، ويأتي قبل عيد النيروز مباشرة، ويتضمن القفز فوق النار. أيضا يحتفل به المسلمون. وقد حاولت المؤسسة الدينية الإيرانية أن تثني الناس عن الاحتفال بعيد النيروز، وفي عام 2010 حاول آية الله خامنئي حظر تشهارشنبه-سوري تماما على أساس أن الاحتفالات «ليس لها أساس في الإسلام»، لكن حسن والكثير من الإيرانيين الآخرين في جميع أنحاء البلاد تجاهلوه على الرغم من شدة تدين العديد منهم. أستطيع فهم السبب. فالحدث ممتع، ومتجذر بعمق في المجتمع، وإيراني على نحو مميز؛ فلا تحتفل به أي ثقافة لم تتأثر بإيران. •••
أرسل زوج لال، ضابط الجيش شهريار، بعد الحرب العالمية الثانية لمحاربة التمرد المدعوم من الاتحاد السوفييتي في شمال غرب إيران (المقاطعة التي دخلت منها البلاد لأول مرة، بالقرب من زندان سليمان). أصيب خلال القتال وترك ليموت في ساحة المعركة؛ وعندما تبين أخيرا أنه على قيد الحياة ونقل إلى المستشفى، كان قد فقد بصره. تقلد وساما من الشاه الذي أرسله إلى بريطانيا للعلاج. وتبنته جمعية خيرية للمحاربين القدامى، وعلمته طريقة برايل في القراءة للمكفوفين، وساعدته في العثور على وظيفة عامل هاتف. كان يوجد عدد قليل من الزرادشتيين في بريطانيا في هذا الوقت؛ فقد نشأت ابنتهم شاهين وهي تغني ترانيم مسيحية في المدرسة (قالت لي: «أراد والدي أن أندمج مع المجتمع»)، وكانت الطريقة الوحيدة التي يمكنها بها أن تشرح لزملائها الحائرين ماهية دينها هي التحدث عن الحكماء الثلاثة في الكتاب المقدس.
وعلى الرغم من قلة عددهم وأنهم غير معروفين جيدا، كان الزرادشتيون بالفعل طائفة مزدهرة ومؤثرة. وكان البريطانيون يفضلون الزرادشتيين البارسيين على جميع الجماعات الأخرى في إمبراطوريتهم الهندية: حيث كتب أحد المعلقين على لعبة الكريكيت في القرن التاسع عشر، متأثرا بزيارة نادي زرادشتي للكريكيت لإنجلترا سنة 1887: «الأكثر ذكاء، وكذلك الأكثر ولاء من بين الأعراق المنتشرة في أملاكنا الهندية.» كان لاعبو الكريكيت الزرادشتيون (الذين كان ناديهم قد تشكل في عام 1850 في بومباي) انتقاديين في ردهم. فقد اشتكوا من مدى قذارة إنجلترا وكم كان صادما رؤية مثل هذه الفجوة بين الأغنياء والفقراء: «يعيش الرجال والنساء في حالة هزال مزمن، حتى يصبح من الصعب التعرف عليهم كبشر.»
ومع ذلك، كانت بريطانيا مكانا جيدا لمزاولة الأعمال التجارية، وكانت أكبر العائلات الهندية في مجال التجارة من البارسيين؛ وبدأ بعض منها يرسخ جذوره في بريطانيا. في الواقع، كان أول هندي يدخل البرلمان البريطاني بارسيا يسمى دادابهاي ناوردجي. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر كان قد ساعد في تأسيس المؤتمر الوطني الهندي، الذي أصبح في نهاية المطاف الحزب الحاكم في الهند بعد الاستقلال. وكان المهاتما غاندي قد وصفه بأنه «إلهام»؛ وكان ناوردجي قد اتخذ محمد علي جناح، المؤسس المستقبلي لدولة باكستان، مساعدا له. بعد ذلك، ونظرا إلى عدم وجود برلمان خاص بالهند، ترشح ناوردجي في البرلمان البريطاني. واختير بصفته مرشحا ليبراليا لإحدى ضواحي لندن الشمالية التي تسمى فنزبري بارك في الانتخابات العامة لعام 1892. لم تكن الفرص في صالحه؛ فقد قال رئيس الوزراء المحافظ اللورد سالزبوري عبارته الشهيرة إنه يشك في إمكانية انتخاب «رجل أسود» لعضوية البرلمان البريطاني. وهاجمت إحدى الصحف ديانة ناوردجي، مستنكرة عبادته للنار.
لذلك عندما فاز ناوردجي بأغلبية ضئيلة، سافر وفد من مؤيديه كل تلك المسافة من الهند لرؤيته وهو يؤدي اليمين. كان هذا، بأي حال، بعد سنوات قليلة فقط من موافقة البرلمان على السماح بدخول غير المسيحيين. لذلك في اليوم الذي كان من المقرر أن يؤدي فيه ناوردجي اليمين، اتخذ مكانه بصفته الهندي الوحيد في صف طويل من النبلاء الفيكتوريين ذوي القبعات العالية، المصطفين في قاعة مجلس العموم. وكان يحمل نسخة صغيرة من الأفستا الزرادشتية في جيبه، ينوي أن يحلف اليمين عليها بدلا من الكتاب المقدس. وبعد أيام قليلة، وجد نفسه يتحدث في مناظرة بعد مدة وجيزة من تحدث جلادستون وبلفور، محذرا بريطانيا من أن الظلم تجاه شعب الهند سينهي حكمها هناك. وعلى ذكر «الوضع الغريب» الذي وجد نفسه فيه، فقد بقي في البرلمان مدة ثلاث سنوات لكنه لم يشعر قط بأنه في موطنه هناك. وكان إجمالي النواب زرادشتيين منتخبين قبل أن تحصل الهند على استقلالها هو ثلاثة (لم يتكرر هذا الأمر منذ ذلك الحين؛ على الرغم من أن عضوا واحدا في مجلس اللوردات البريطاني حاليا بارسي). لكن الطائفة لم تزدد عددا مطلقا إلى ما هو أكبر من ذلك. ففي عام 1980 كان عدد أفرادها ألفي شخص.
وفي السنوات الخمس والعشرين الماضية، لم يعاود لال وشهريار زيارة يزد أو طهران؛ خوفا من نظام الحكم الإسلامي الجديد. وبدلا من ذلك أصبحا مرشدين لموجة جديدة من الزرادشتيين الإيرانيين الذين كانوا يصلون إلى بريطانيا. وبين عامي 1980 و2001 تضاعف عدد الزرادشتيين البريطانيين، من ألفين إلى ما يقرب من أربعة آلاف؛ بما في ذلك كل من البارسيين والإيرانيين. وفي عام 2004، قدر الزرادشتيون أنفسهم عددهم في الولايات المتحدة بعشرة آلاف وفي كندا بخمسة آلاف. كانت الأرقام في إيران ذاتها قد انخفضت، على الرغم من أن الإحصاءات الرسمية لا تظهر هذا؛ لأنه مهما ساءت المعاملة التي يتعرض لها الزرادشتيون، فمعاملة البهائيين أسوأ بكثير، وقد بدأ العديد من البهائيين في تسجيل أنفسهم رسميا على أنهم زرادشتيون.
وفي أواخر التسعينيات أجرى البروفيسور جون هينلز، من جامعة ليفربول هوب، مقابلات واستطلاعات رأي لمئات من الزرادشتيين في جميع أنحاء العالم من أجل دراسة واسعة النطاق لهذا الشتات. ووجد أن الكثيرين منهم شعروا بأنهم عالقون بين الثقافات. قالت له امرأة زرادشتية في بريطانيا: «يخبرني عقلي أنني يجب أن أتصرف مثل امرأة زرادشتية، بينما جسدي يخبرني أنني غربية.» اشتكت أخرى، في أمريكا، من أنه «لا يوجد مكان في العالم يماثل مدى شدة الضغوط الاجتماعية في الولايات المتحدة.» ومع ذلك، ففي الواقع، قال ما يقرب من ثلاثة أرباع الزرادشتيين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم يصلون يوميا، وقال ما يقرب من نصف أولئك الذين يعيشون في بريطانيا إن الحياة هناك لم يكن لها تأثير على معتقداتهم. وسجل هينلز أيضا معارضة شرسة من كبار رجال الدين لفكرة أن أولئك الذين تزوجوا خارج الدين يجب أن يسمح لهم بالمشاركة في أي من طقوسه أو تلقي دفن زرادشتي. وأضاف رئيس الكهنة في بومباي إن الزواج بين امرأة زرادشتية ورجل غير زرادشتي، «يؤلم أهورا مزدا ويحزنه»؛ لأن النساء اللائي يتزوجن من خارج ديانتهن لا يمكنهن التقيد بقواعد الطهارة المنصوص عليها في الدين. وأولئك الذين ولدوا في مثل هذه الزيجات لا يعدهم التقليديون زرادشتيين.
تتبع شاهين، ابنة لال وشهريار، تفسيرا أكثر تحررا للزرادشتية. وهي المتحدث الرسمي للمنظمة الزرادشتية العالمية، التي تحتفي بالتراث الزرادشتي وتحاول الحفاظ على بقاء الثقافة والدين. كما أنها تنظم فعاليات للزرادشتيين الإيرانيين في بريطانيا مثل عيد المياه السنوي، تيرجان، حيث يشجع الأطفال الزرادشتيين على إلقاء دلاء الماء بعضهم فوق بعض؛ مثلما كان أسلافهم يوما ما في يزد يتمازحون بإلقاء الماء من أسطح المنازل على المارة. ولأن الماء (أحد العناصر المقدسة الأربعة) نعمة، فلا يستطيع من يلقى عليه أن يشتكي. وتشكل الفعاليات من هذا القبيل وسيلة للحفاظ على التقاليد في مجتمع يواجه فيه الزرادشتيون التحدي الجديد للعلمانية. أخبرتني شاهين عندما التقينا في ناد للفنانين في إحدى ضواحي لندن العصرية: «إننا نجد الحياة في الغرب مريحة؛ لأن الناس هنا اتبعوا القيم الإنسانية. وقد اندمجنا مع هذه القيم لأنها تتوافق مع ما تعلمناه.» لكن هذه عملية توازن صعبة، كما اعترفت شاهين: «قد يتمسك أطفالنا بثقافة عقيدتنا. ولكنهم قد لا يفعلون ذلك.» كانت تبحث عن طريقة لتكييف عقيدتها مع العصر الحديث؛ مرحبة بالتقدم العلمي باعتباره ، من منظور الزرادشتية، انتصارا بطيئا للفكر الخير على الشر. حتى إنها توصلت إلى نهج متحرر خاص بالموت يجمع بين تفسيرها للمبادئ الزرادشتية والأعراف المعاصرة. «إن ترك الجثث لجوارح الطير يتمحور حول أن تكون مفيدا في موتك للكائنات الحية.» أخبرتني بمرح: «شخصيا، اخترت إعادة التدوير؛ فقد عرضت على معهد أبحاث الاستفادة من جثتي بعد وفاتي.»
تبادلنا القصص عن يزد التي لم تكن قد زارتها منذ الثورة الإسلامية. كانت منخرطة في جمعية خيرية هناك، لكن الجمعية كانت في الأغلب مسئولة بشكل كبير عن تقديم الرعاية لكبار السن؛ ويكاد لم يتبق أي أحد آخر هناك. قالت: «عدد المنازل في يزد التي يسكنها الزرادشتيون الآن قليل جدا. فمدينة يزد مهجورة إلى حد كبير. لذا نحاول الحفاظ على «الجهامبار» [اجتماعات الصلاة] فيها من أجل ما تبقى من الطائفة. وعندما تنهار الأسطح الطينية، يدفعون مقابل الإصلاحات.» يتميز الشباب الإيرانيون المسلمون، مثل سائق السيارة الأجرة اليزدي حسن، بأنهم أقل تحاملا مما كانت عليه الأجيال السابقة؛ لكن الحكومة الإسلامية أدخلت مؤخرا قوانين تمييزية. على سبيل المثال، يمكن للزرادشتيين الذين يعتنقون الإسلام في إيران اليوم أن يأخذوا إرثهم من آبائهم على حساب إخوانهم وأخواتهم الذين لم يعتنقوا الإسلام. •••
ومع ذلك، فإن قصة الزرادشتية اليوم لا تتعلق فقط باضمحلال العلمانية وتناميها. فقد قبلت هذه العقيدة القديمة في السنوات الأخيرة أول معتنقيها الجدد الأوائل بعد أربعة عشر قرنا. وكان كارلوس واحدا من هؤلاء المعتنقين الجدد، حيث التقيت به في حفل للموسيقى الهندية والإيرانية نظمه شباب زرادشتيون موهوبون في لندن. وكنت قد التقيت بزرادشتيين اعتنقوا المسيحية وعزوا قرارهم إلى ما اعتبروه طقوس دينهم الأصلي. ما الذي جعل كارلوس، وهو في الأصل كاثوليكي إسباني غير متدين، يسلك الاتجاه الآخر؟ أوضح كارلوس، وهو يلقي نظرة سريعة على زوجته: «أردنا محاربة الشر. في ديننا نساعد الرب وهو يساعدنا. نحن لسنا عبيده. وهذا العالم ليس اختبارا، يقال فيه لنا في النهاية إذا كنا قد نجحنا أم لا.» كان قد قرأ عن الزرادشتية عندما كان صبيا صغيرا وانجذب إليها، لكنه لم يدرك أنه لا يزال يوجد زرادشتيون. وبعد مشاهدة فيلم وثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) حول معبد النار في يزد، بحث على الإنترنت عن مجتمع قد يساعده في اعتناق هذه الديانة، واكتشف واحدا في الدول الإسكندنافية. هناك ارتدى «الكوشتي»، مع مجموعة من المعتنقين الجدد المذعورين من أفغانستان الذين أرادوا العودة إلى دين أجدادهم ولكنهم كانوا قلقين لأسباب مفهومة بشأن العواقب التي ستقع عليهم عند العودة إلى وطنهم.
لكنني لاحظت أن كارلوس وزوجته وقفا بمفردهما معظم الوقت في تلك الليلة، بينما كان الآخرون في هذا التجمع يعرف بعضهم بعضا منذ الطفولة. ولاحظت الشيء ذاته عندما قابلت اثنين من الزرادشتيين الذين كانوا قد اعتنقوا الدين من خلفية إسلامية شكلية (قال كلاهما إن عائلتيهما لم تكونا متدينتين): لم يستبعدا، لكن لم يبذل الناس قصارى جهدهم لجعلهم يشعرون أنهما مرحب بهما. ويعترف بعض البارسيين على وجه الخصوص بأنهم جماعة عشائرية، ولا يحددون هويتهم دائما حسب الإيمان ولكن أيضا حسب العرق، ولا يقبل إلا بعض الزرادشتيين الأكثر تحررا المعتنقين الجدد للزرادشتية.
وعلى الرغم من قلة عدد الزرادشتيين، إلا أن لديهم انقسامات داخلية. فالليبراليون والمحافظون يختلفون حول كيفية التعامل مع الزواج من خارج الديانة (حيث يريد التقليديون استبعاد أطفال هذه الزيجات المختلطة تماما، في حين يريد الليبراليون ضمهم) وما إذا كان سيسمح لغير الزرادشتيين بدخول الأجزاء الأكثر قداسة من معابد النار، حيث يحتفظ بالشعلة التي لا تنطفئ. توجد أيضا خلافات حول كيفية تفسير الأفستا. وبشكل عام، من المستبعد، على سبيل المثال، أن يشدد الزرادشتيون المعاصرون على القوة المستقلة للشر كما كان سيفعل أسلافهم الساسانيون. توجد أيضا اختلافات ثقافية بين الإيرانيين والبارسيين؛ فالإيرانيون يتحدثون الفارسية ويفضلون الأطباق الإيرانية، بينما يتحدث البارسيون الكجراتية ويفضلون الطعام الهندي.
ومع ذلك، ففي معبد النار بلندن، الذي يعد حلقة الاتصال الاجتماعية والدينية الرئيسية في بريطانيا، بذل جهد لاستيعاب جميع أنواع الزرادشتيين. ففي بهو مدخل المعبد، الذي كان يوما ما قاعة سينما، يصور بساط حائط إيراني جنودا إمبراطوريين فارسيين من حقبة داريوس؛ وفي قاعة الصلاة الرئيسية التي كانت في السابق غرفة العرض الرئيسية، توجد صورة لداداباي ناوروجي تحتفي بأشهر بارسي عاش في بريطانيا. وتواجه صورة لزرادشت، على الجدار الأيسر لقاعة الصلاة، صورة للملكة على الجدار المقابل. ولا يزال أمام خشبة المسرح، حيث كانت الشاشة يوما ما، عدة صفوف من المقاعد المريحة التي تركت منذ أيام كان المبنى دار عرض سينمائية. ويظهر البيانو على المسرح أن المعبد يستخدم للترفيه الدنيوي، وكذلك لاجتماعات الصلاة. ويعرض فوق المسرح الشعار الزرادشتي المكتوب بأحرف ذهبية مثبتة على الحائط: «الفكر الجيد، الكلمة الطيبة، العمل الصالح.»
زرت هذا المعبد عندما كنت أحضر حفل تأبين لال وشهريار، اللذين توفيا بفارق أشهر بينهما في عام 2004. (دفنا في المقبرة الزرادشتية في بروكوود، حيث يقام اجتماع صلاة بانتظام في كنيسة صغيرة. وتحيط بالكنيسة مقابر تحظى بعناية فائقة، وغالبا ما يوضع على الأضرحة رسم «فارافاهار»، بينما تئوي المقابر الحجرية الأفخم ذات الطراز الفارسي موتى العائلات الأغنى.) في المراسم، ردد كاهن - فمه مغطى بقناع من القماش حتى أسفل ذقنه، والغرض من ذلك هو منع تلوث النار المقدسة بالنفس أو اللعاب - بتناغم لمدة تسعين دقيقة باللغة الفارسية القديمة، وزوجته جالسة بجانبه، تغطي جزءا من شعرها بوشاح. وعلى الطاولة أمامهم كان يوجد نبيذ، وحليب، وماء، وفاكهة، وأزهار بيضاء وأرجوانية، حيث استخدمت هذه الأزهار رموزا لأرواح الموتى. كما ظهرت على الطاولة صور لال وشهريار؛ وعرضت صور أخرى تظهر حياتهما في إيران وبريطانيا على شاشة باستخدام جهاز عرض. كانت أغصان خشب الصندل تحترق في كانون صغير، كان يحمل على أوقات حول المصلين المجتمعين، الذين كانوا يلوحون بأذرعهم لتوجيه الرائحة نحوهم. بعد ذلك قدمت مجموعة مختارة من الأطعمة، اشتملت على أطباق هندية وإيرانية.
وبينما كنت أتحدث إلى الزرادشتيين بعد ذلك ونحن نشرب النبيذ في أكواب بلاستيكية، أدركت أمرا؛ وهو أنني أخيرا، في هذه الضاحية الشمالية للندن، في دار السينما المهجورة، كنت في حانة المجوس التي تكلمت عنها أشعار حافظ.
الفصل الرابع
الدروز
تمتد بيروت، عاصمة لبنان ، عشرين ميلا، في شريط من المباني الحديثة التي تضم مليون نسمة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتتناثر هنا وهناك منازل قديمة عسلية اللون بأسقف حمراء بقيت منذ كانت المدينة أصغر وأجمل. وأثناء سيري على الكورنيش في عام 2011، بجوار العشاق المتحفظين والملاهي الساحلية، سمعت في كل مكان أصوات ارتطام الأمواج بالصخور. وكان بحر آخر مجازي جليا أيضا. فقبل قرن من الزمان، سمع ماثيو أرنولد في مياه القناة الإنجليزية الباردة «الهدير الحزين، الطويل، المرتد» لبحر الإيمان. في بيروت، كان ذلك البحر لا يزال فائضا وعاصفا.
وعلى الرغم من أن الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت أربعة عشر عاما انتهت رسميا في عام 1989، لا تزال الجماعات الدينية المختلفة، التي كانت تلك الحرب سببا في تأليب العداوة فيما بينها، يراقب بعضها بعضا بحذر. أصيب في الحرب واحد من بين كل أربعة لبنانيين وقتل واحد من كل عشرين. وارتكبت جميع الجماعات أعمالا وحشية؛ وجميعها عانت منها. لكن التنوع في لبنان ليس فقط مصدرا للنزاع. فهذا البلد، الذي ينقسم سكانه البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة بين ثماني عشرة طائفة وديانة معترفا بها، يقدم أقرب صورة موجودة في الشرق الأوسط للمساواة الدينية؛ ففيه دستور يعلن أن «الدولة تحترم جميع المعتقدات» وشعب يتسامح مع التنوع الديني أكثر من معظم شعوب العالم؛ وفقا لاستطلاع مؤسسة جالوب.
كتب الشاعر اللبناني خليل جبران في كتابه «حديقة النبي»، مشيرا بشكل لاذع إلى هذا التعدد في الطوائف: «ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين. ويل لأمة مقسمة إلى أجزاء وكل جزء يحسب نفسه فيها أمة.» ومع ذلك، فإن سبب كل هذا التنوع هو سبب صالح؛ فقد كانت هذه الجماعات آمنة في لبنان أكثر من معظم الأماكن الأخرى؛ لأنها تتألف في معظمها من مناطق جبلية لا تستطيع القوات الحكومية دخولها إلا بعناء. في الوقت ذاته، موقع لبنان على البحر الأبيض المتوسط جعله جزءا من الغرب والشرق. فقد كان البحر الأبيض المتوسط، وليس يابسة أوروبا، هو قلب الحضارة الغربية القديمة؛ فحوله عاش اليونان القدامى، كما قال سقراط مرة، «مثل ضفادع حول بركة». وشحن التجار التوابل، والقمح، والأصباغ، والعبيد عبر البحر. وتبادل عبره الفلاسفة والقديسون الأفكار والمعرفة. فالشاعر اليوناني هوميروس من القرن الثامن، والمؤرخ اليوناني هيرودوت من القرن الخامس، وعالم الرياضيات اليوناني إقليدس لم يكونوا من البر الرئيسي لليونان؛ إذ كانوا من جزيرة في بحر إيجة، وجنوب إيطاليا، ومصر، على الترتيب. وولد الفيلسوف اليوناني فيثاغورس في جزيرة ساموس في بحر إيجة لأب لبناني وقضى نحبه وهو يدرس في جنوب إيطاليا. كنت في لبنان لمقابلة أعضاء إحدى مجموعاته الدينية الثمانية عشرة، المسماة الدروز. كنت أرغب في معرفة ما إذا كانوا خلفاء العصر الحديث لأتباع فيثاغورس، الذين شكلوا جماعة قديمة وسرية من الفلاسفة الإغريق تسمى أخوية فيثاغورس. •••
ظهر فيثاغورس في منهج الفلسفة الذي درسته في الجامعة؛ إذ ربما كان مدرسا لسقراط، لكنني لم أستطع تذكر أي شيء كتبه. اشتريت من مكتبة ببيروت كتابا فرنسيا عن الفيلسوف، ترجم إلى العربية. وأثناء قراءتي للكتاب، أدركت سبب عدم رؤيتي للكثير من أعماله؛ فهو لم يدون أيا منها على الإطلاق. وعلى الرغم من أن لبنان كان جزءا من العالم اليوناني، كان اليونان ينظرون إليه على أنه غريب وغامض (إلى حد ما مثلما كان ينظر إليه مستشرقو القرن التاسع عشر) بسبب الحضارات القديمة التي وجدت هناك. واستغل فيثاغورس هذه الغرابة وإدراك أن الشرق يحتوي على حكمة خفية منقولة من الكلدانيين القدماء وبني إسرائيل؛ حيث انتشرت أساطير تزعم أنه تلقى تعليمه على يد حاخامات يهود، وكهنة مصريين، ومنجمين كلدانيين. ومع ذلك، لم يكن على استعداد للكشف عما تعلمه لأحد، باستثناء القلة المختارة التي سمح لها بالالتحاق بمدرسته. ويبدو أن هؤلاء التلاميذ كان يتعين عليهم الالتزام بالصمت المطلق مدة خمس سنوات، ولم يسمح لهم حتى بإلقاء نظرة خاطفة على معلمهم إلا بنهاية ذلك الوقت فقط. فأولئك الذين أفشوا أسرار تعاليم فيثاغورس كان يمكن أن يتوقعوا انتقاما بلا رحمة من الأعضاء الآخرين، الذين اعتبروا أي خرق للسرية خيانة لا تغتفر. بل إن هذا امتد إلى بعض تعاليمهم التي كانت أكثر صعوبة في تفسيرها. فعلى سبيل المثال، كان الجميع يعلم أنه لم يسمح لأتباع فيثاغورس بأكل الفاصوليا أو حتى دهسها. ولم يفهم أحد السبب؛ لأن الأخوية كانت تفضل الموت على توضيح السبب. ولخصت روح السرية، التي استنكرها الآخرون في ذلك الوقت بوصفها دجلا، في شعار في بداية الكتاب، وضعه هناك الكاتب الفرنسي: «ادنوا، أيها الفلاسفة القليلون، فأسلوب حياة فيثاغورس يحيط بكم! لكنكم، أنتم أيها الجمهور العادي من البسطاء، بعيدون كل البعد عنه.»
وبالرغم من ذلك كشف عدد لا بأس به من الناس تلك الأسرار، ليخرج على الأقل بعض من معتقدات فيثاغورس إلى النور. وآمن أتباع فيثاغورس بتناسخ الأرواح، وهذا دفعهم إلى تطهير الروح، التي تتسم بأنها خالدة، وإهمال الجسد الذي اعتبروه مجرد غلاف مؤقت لها. وكانوا يرتدون ملابس بيضاء غير مصبوغة رمزا لالتزامهم بعيش حياة قاسية ناكرة للذات. (عندما واجه يوليوس قيصر كهنة الدرويد السلتيين في بلاد الغال، ظن أنهم لا بد أن يكونوا هم أيضا من أتباع فيثاغورس؛ لأنهم آمنوا أيضا بتناسخ الأرواح، وكانوا يرتدون ملابس بيضاء، ويحفظون تعاليمهم، ويدرسون النجوم. ومن المحتمل أنه كان مصيبا؛ لأن الغاليين كانوا قد تعرضوا للأفكار الإغريقية عدة قرون.) تعامل بعض من أتباع فيثاغورس مع ممتلكاتهم باعتبارها مشاعا، وكانوا يميلون إلى تجنب أكل اللحوم، أو المنتجات الحيوانية، أو حتى الطعام المطبوخ. وكانوا متحدين لدرجة أنهم كانوا قادرين في سنواتهم الأولى على السيطرة على مدن بأكملها، وحتى في القرون اللاحقة كانوا معروفين بتضامنهم. وكانوا يفصحون عن هويتهم بعضهم لبعض من خلال عبارات ورموز سرية مستمدة من افتتانهم بالأرقام والهندسة. أكملت مجلة درزية عثرت عليها القصة. ففي مقال بعنوان «فيثاغورس الحكيم»، أشارت المجلة إلى أن «الاضطهاد أدى إلى قمع الطائفة وشتت أعضاءها، لكن أتباع فيثاغورس حافظوا على تعاليمهم عبر الأجيال.»
قد يبدو طبيعيا أكثر أن نبحث عن خلفاء هؤلاء الفلاسفة اليونانيين في اليونان، وليس لبنان. لكن ذلك سيكون تجاهلا لحدث يعتبره بعض المؤرخين نهاية العصور القديمة وبداية العصور الوسطى. ففي عام 529 ميلادية أغلقت أكاديمية أفلاطون أبوابها للمرة الأخيرة . وكان قد مر تسعة قرون منذ أن أسسها أفلاطون في أثينا. وبالرغم من موت الفيلسوف، وإحراق الرومان للمدينة، وتشتيت معلميها، نجت فكرة الأكاديمية؛ وهي مكان يمكن للناس أن يدرسوا فيه مجانا، وحافظت على تفسير معين للفلسفة اليونانية. وحاول أساتذتها الجمع بين تعاليم الفلاسفة القدامى الذين كانوا يوقرونهم؛ مثل فيثاغورس، وأفلاطون، وأرسطو. وعلموا أن ثمة متسببا أعلى لوجود الكون، وأطلقوا عليه اسم «الواحد». لكنه كان حقا مثل الرقم 1؛ سرمديا بكل ما في الكلمة من معنى، وخاليا من النقائص البشرية مثل العقل أو الإرادة.
كانت تلك الأفكار ملعونة في المسيحية التي تؤمن بوجود إله خلق العالم بمشيئته. وقرر الحاكم البيزنطي جستينيان، وهو إمبراطور مسيحي متدين، أن وجود الأكاديمية كان إهانة لدينه وقوته الإمبراطورية. وفي أثينا، أصدر مرسوما بأنه «لا ينبغي لأحد أن يعلم الفلسفة أو يفسر القوانين.» ولجأ آخر سبعة أساتذة في الأكاديمية، الملقبين باسم «خلفاء أفلاطون»، إلى بلاد فارس. وتدهورت مدارس أثينا.
كانت نهاية مأساوية لعهد الفلسفة اليونانية في عالم البحر الأبيض المتوسط، حيث كان الفلاسفة يعاملون أحيانا على أنهم أنبياء أو حتى آلهة. وقد جذب أفلاطون انتباه طائفة دينية ادعت أن لديها إمكانية الوصول إلى تعاليم الفيلسوف غير المكتوبة؛ وكان لديها مراسم انضمام خاصة بها. وانتهى به الأمر بعالم الرياضيات الغامض فيثاغورس، معلم سقراط، باعتباره صانع معجزات، قادرا على استشراف المستقبل والوجود في مكانين في وقت واحد. وكان لهذه الطوائف بعد أخلاقي قوي؛ فقد كان أتباع فيثاغورس (الفيثاغوريون) على وجه الخصوص يستحثون على تمحيص ضمائرهم ليلا والتغلب على الشراهة، والكسل، والشهوانية، والغضب. لكن هذه الطوائف صممت أيضا لتلائم أشكال العبادة الوثنية القديمة، وفي أوروبا، كانت المسيحية تتجاهلها. كتب أحد المسيحيين المجادلين: «ما علاقة أثينا بأورشليم؟» وكيف المفكرون الأكثر تعاطفا، مثل القديس أوغسطينوس من هيبون، أفكار أفلاطون لتتناسب مع تعاليم المسيحية. ومع ذلك، تعرض أرسطو للتجاهل حتى العصور الوسطى، ولا يذكر فيثاغورس عموما في الغرب اليوم إلا من أجل نظريته المتعلقة بالمثلثات.
في الشرق الأوسط، تمكنت الفلسفة اليونانية من الهروب من مرسوم جستينيان؛ لأن تلك المنطقة كانت بعيدة عن بيزنطة، وكانت تحكمها جزئيا الإمبراطورية الفارسية المنافسة، وفي أقل من مائة عام أصبحت تحت حكم الإسلام. وظل الحرانيون يوقرون فيثاغورس باعتباره نبيا حتى أواخر القرن الحادي عشر. وبعيدا عن معاداة الفلسفة اليونانية، كان العديد من المسلمين الأوائل حريصين على اعتبار حضارتهم الوريث الحقيقي لليونان القديمة. وقد أقر الفيلسوف العربي العظيم الكندي بأن العرب واليونانيين كانوا ذوي قربى: فقحطان، أبو العرب، كان أخا لجد الإغريق، المدعو يونان. واعتبر عالم لاحق، هو الفارابي، أن المسلمين قبلوا الأفكار الفلسفية اليونانية التي كان المسيحيون قد فضلوا تجاهلها أو قمعها. وادعى أحد الخلفاء المسلمين الأوائل أنه رأى أرسطو في المنام وأنه حينئذ تناقش معه في الفلسفة. اقتنع الخليفة، نتيجة لنقاشهما، بإباحة ترجمة الأعمال اليونانية إلى العربية.
كان المسلمون المبتدعة يكنون احتراما أكبر لليونانيين. وكانت مجموعة سرية من المسلمين، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «إخوان الصفا» وعاشوا في جنوب العراق في القرن العاشر، تكن، هي الأخرى، توقيرا عظيما لفيثاغورس (استنكر العالم المحافظ ابن تيمية كتاباتهم ووصفها بأنها «بضع فتات بلا طعم من فلسفة فيثاغورس»). وتماما مثل أتباعه الفيثاغوريين، شعروا أن الكون مبني على الرياضيات؛ فعلى حد تعبيرهم «طبيعة الموجودات بحسب طبيعة العدد». ويهتم الدروز أيضا بالفلاسفة العظام، وبخاصة بعضهم وليس بالضرورة أشهرهم في الغرب. ووفقا للمؤرخة الدرزية نجلاء أبو عز الدين في كتاب صدر عام 1984، فإن «العقيدة الدرزية تتجاوز عقائد التوحيد التقليدية المعترف بها وصولا إلى تعبيرات أسبق عن بحث الإنسان عن التواصل مع الواحد. ومن هنا كان تقديسها لهيرميس، حامل الرسالة الإلهية، ولفيثاغورس ... ولأفلاطون المقدس، ولأفلوطين.» أثارت ثلاثة أشياء في هذه الجملة اهتمامي عندما قرأتها في غرفتي في هارفارد بينما كنت أستعد لرحلتي إلى لبنان. من كان هيرميس؟ ولماذا كان أفلاطون «مقدسا»؟ ولماذا كان فيثاغورس وأفلوطين مهمين جدا؟ سيصبح كل شيء في النهاية واضحا، أو أوضح، على أي حال.
عندما التقيت بالزعماء الدينيين الإيزيديين في لالش، أخبروني أن الدروز يشبهونهم؛ وأضاف أحدهم: «حتى إنهم لديهم نوعية الشوارب نفسها.» وأخبرني أحد الأساتذة الجامعيين الدرزيين خلال مدة وجودي في لبنان أن علاقة الدروز بالإسلام كانت مثل علاقة المورمون بالمسيحية. فلديهم وحيهم وفلسفتهم اللذان قد يعتبرهما عامة المسلمين هرطقة. وفي الغالب يقودهم سياسيا عائلة واحدة: هي آل جنبلاط، الذين كانوا قد نجحوا في تحقيق عملية توازن ببقائهم ملاك أراض إقطاعيين، مقرهم قلعة في جبال لبنان الجنوبية، وفي الوقت نفسه يقودون حزبا سياسيا اشتراكيا متطرفا حديثا. ويعتمد آل جنبلاط اعتمادا كبيرا على الولاء القبلي للدروز، لكن حزبهم من الناحية النظرية منفتح على جميع الأديان. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية، مكنتهم مهاراتهم السياسية من التفوق على منافسيهم القدامى على قيادة الدروز، آل أرسلان، الذين يمتلكون سلسلة نسب أعرق، ولكن أموالا وسلطة أقل. وكنت آمل أن أقابل كلا من الأمير طلال أرسلان ووليد جنبلاط، بالإضافة إلى كبير رجال الدين لدى الدروز.
في وسط بيروت، كانت مجموعة صغيرة من الناس تتظاهر. رأيت شعاراتهم على أعمدة الإنارة واللافتات بالقرب من مركز المدينة المجدد: «لا للطائفية»، «لا للرشوة»، «لا للغباء». كانوا يطالبون بالحق في الزواج المدني حتى يتمكن اللبنانيون من مختلف الطوائف من الزواج بسهولة أكبر. كانت فرصة نجاحهم ضئيلة. فلبنان مجتمع ليبرالي من نواح كثيرة؛ فالحانات والملاهي الليلية تعج كل ليلة بالمسلمين والمسيحيين على حد سواء. ولكن ميلا راسخا للنزعة المحافظة ينتشر في الخفاء، ولا تستحسن التسلسلات الهرمية الدينية المسيحية والمسلمة المحافظة ذات النفوذ الزواج من خارج الديانة.
كان جنود متمركزين في نقاط رئيسية حول وسط المدينة. ظل خلاف بين الفصائل السياسية في مجلس النواب اللبناني مستمرا عدة أشهر، مما حال دون تشكيل الحكومة، ونزلت القوات إلى الشوارع لمنع حدوث اضطرابات. يمكن للأحزاب الدرزية أن تؤثر في هذه النزاعات، ولكنها لا تمتلك الأغلبية: فبوسع وليد جنبلاط أن يطلب ولاء ستة أعضاء على الأقل في البرلمان المؤلف من 128 عضوا، ولآل أرسلان عضوان.
كان من المقرر أن ألتقي بالسفيرة البريطانية في أحد المقاهي، ومن هناك كنا سنذهب معا لمقابلة جنبلاط . وأثناء توجهي إلى مكان لقائنا، تجولت عبر قسم من المدينة رمم بشكل جميل. ولأنه يقع على حدود الحرب الأهلية، فقد دمرته الشظايا ونيران الأسلحة، لكن رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الملياردير في أواخر التسعينيات من القرن الماضي وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، استثمر مبالغ طائلة في ترميمه قبل اغتياله بالقرب منه في انفجار سيارة مفخخة عام 2005؛ ربما بتحريض من الحكومة السورية. أعادت الحادثة إلى الأذهان ذكرى الحرب الأهلية وجعلت بعض اللبنانيين يتوقعون بدء صراع داخلي جديد.
مررت بمسجد شيد مؤخرا يفوق في ارتفاعه كنيسة مجاورة، ولاحظت أن الكنيسة في المقابل كانت حاليا تزيد من ارتفاع برجها ليتساوى مع ارتفاع المئذنة. كنت أحاول أن أحسم أمري بشأن ما إذا كانت هذه إشارة بائسة للتنافس الديني أم تذكيرا منعشا للذاكرة بالحرية الدينية، عندما شتت انتباهي اكتشاف. فبعيدا عن الأنظار في شارع جانبي، كان يوجد مسجد، مهمل نسبيا بجانب هذين المبنيين الأحدث والأكبر، بناه حاكم درزي للمدينة منذ عدة قرون. عندما ألقيت نظرة على المسجد من الخارج، لاحظت ما يشبه نجمة خماسية متداخلة مع زخارفه الحديدية الخارجية.
كانت النجمة الخماسية رمزا له أهمية خاصة عند الفيثاغوريين، وكان بإمكانهم استخدامها لتعريف أنفسهم للأعضاء الآخرين. لقد أثارت اهتمامهم لأنها مكونة من عشرة مثلثات؛ إذ يمثل لهم رقم عشرة الكمال، والمثلث رمز لنظرية فيثاغورس الشهيرة. اعتقد الفيثاغوريون أن الأرقام والإسقاطات الهندسية للأرقام كانت اللبنات الأساسية للكون. لذلك عندما يكون هناك نمط في الهندسة أو الرياضيات، فإنهم ينسبون إليه رسائل أخلاقية وعملية. وكانوا يؤمنون بأن نظرية فيثاغورس لم تثبت فقط أن طول وتر المثلث يجب أن يكون خمسة إذا كان طول ضلعيه الآخرين ثلاثة وأربعة. ففي لغة فيثاغورس الرقمية، كان الرقم اثنان هو رقم المرأة، وثلاثة هو الرقم المخصص للرجل، ومن ثم كان الرقم خمسة هو رقم الزواج. والرقم أربعة كان يمثل العدالة لأنه يمكن تقسيمه مرتين بالتساوي. لذا فإن جوانب المثلث التي أطوالها ثلاثة، وأربعة، وخمسة بوصات كانت توضح بعبارات لا لبس فيها رسالة مكتوبة في الهيكل الرياضي للكون، ألا وهي: «يجب على الرجل أن يتصرف بعدل في الزواج». وقد اشتهر الأزواج الفيثاغوريون بإخلاصهم لزوجاتهم.
تساءلت عما يعنيه وجود هذا الرمز الفيثاغوري هنا. هل كانت مصادفة؟ نحيت هذا السؤال جانبا في الوقت الحالي؛ لأنني كنت متأخرا عن مقابلتي. أسرعت مارا بمحلات الملابس والمطاعم الباهظة الثمن، والأسقف المقوسة الأنيقة، والنوافذ ذات المصاريع، ووصلت إلى السفيرة في الوقت المناسب لألحق بوسيلة توصيلي إلى منزل وليد جنبلاط. •••
يصل عدد الدروز إلى نحو مليون شخص، نصفهم أو أكثر في سوريا والبقية منقسمون بين إسرائيل (120 ألفا) ولبنان (250 ألفا). وفي كل بلد كان عليهم أن يختاروا جانبا ينحازون إليه. فالدروز في إسرائيل يخدمون في الجيش وينأون بأنفسهم عن الفلسطينيين. وفي سوريا، كانوا يدعمون في الغالب حكومة بشار الأسد خلال الحقبة الدموية التي أعقبت انتفاضات 2011. وعندما بدأت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، قاتلت ميليشيا جنبلاط الدرزية جنبا إلى جنب مع تحالف مؤلف في معظمه من المسلمين واليساريين في مواجهة حكومة البلاد التي يهيمن عليها المسيحيون ويدعمها الغرب. أصبحت الحرب أكثر تعقيدا مع مرور الوقت. وتفكك كلا الجانبين: فغالبا ما كانت الجماعات المسيحية تتقاتل، وأحيانا كانت تتحالف مع دول ذات غالبية مسلمة مثل العراق وسوريا. واختلف الدروز مع الجماعات الإسلامية الأخرى وخاصة الميليشيات التي تنتمي إلى الطائفة التي أصبحت أكبر جماعة دينية منفردة في لبنان، وهي طائفة الشيعة المسلمون. وفي مرحلة الصراع الطويلة التي تأرجحت فيها الأوضاع، دمر وسط المدينة القديم.
الآن عاد حيا عصريا من جديد، وكان الشارع الذي يسكن فيه جنبلاط هادئا ويبدو عليه يسر الحال، وفيلته كبيرة ومريحة. وقف مجموعة كاملة من الحراس حول المدخل. وركبنا مصعدا إلى الطابق العلوي، وعندما خرجنا منه، أقبل نحونا كلب ضخم يتقافز. تبعه جنبلاط عن قرب. وبرزت من جانبي رأسه الأصلع كتلة من الشعر الأبيض الأشعث. كان لديه شارب كثيف وملامح شخص داهية. قبل أن يخلف والده، كمال، ويصبح مالك إقطاعية، وزعيم حزب اشتراكي، وزعيم المتمردين في الحرب الأهلية، كان مدرسا للتاريخ. كانت السفيرة قد همست لي في المصعد قائلة: «إنه يعطيني كتابا في كل مرة نأتي فيها. وفي كل مرة أراه، أظل خائفة من أن يختبرني في الكتاب الذي أعطاني إياه آخر مرة.»
عندما دخلنا غرفة مكتبه، فهمت ما كانت تعنيه. فقد تناثرت الكتب وقصاصات من الصحف على مكاتبه المتعددة؛ وعلقت على الحائط صور لعثمانيين من القرن الثامن عشر وبندقية قديمة مزخرفة. أخبرنا أنه قد اكتشف متجرا للتحف في إسطنبول أعجبه بشدة. فكرت في أن هذا الرجل سيشاركني بالتأكيد في حماسي لتتبع أصول قومه والكشف عن روابطهم باليونان القديمة. لكن عندما سألته عن الديانة الدرزية، أعطاني إجابة غير متوقعة. «لا أعرف شيئا عن الدروز»، هكذا صرح الزعيم الأبرز للدروز ملوحا بعنف بذراعه. ومن بين أكوام الكتب التي لديه، اختار كتابين من تأليف طارق علي وأعطاني إياهما هدية. ودعاني لزيارته في قصره في الجبال. ثم ودعنا. إما أن أقوى رجل درزي في لبنان، وهو رجل مثقف بحكم مناصبه ومؤهلاته، كان قد استبعد من تعاليم دينه، أو أنه كان حكيما بما يكفي لتجنب نقلها إلى شخص غريب. كانت لدي نية صادقة لقبول دعوته لقضاء بعض الوقت بين المجتمعات الدرزية، لكن كان علي أولا أن أعثر على شخص أكثر استعدادا للحديث معي.
لحسن الحظ، وافق على المساعدة رجل درزي يدعى ربيعة، كان يعرف السفيرة وكان حريصا على مساعدتنا في فهم مجتمعه. أخبرنا أن المشكلة الوحيدة هي أنه هو شخصيا لم يكن يعرف الكثير عنه. لم يكن متفردا في ذلك. فالدروز العاديون يعيشون أساسا على النحو الذي يختارونه، بشرط أن يساعدوا في الدفاع عن المجتمع، والحفاظ عليه، والزواج ضمن نطاقه. لكن لا يسمح لهم بمعرفة تعاليم دينهم. وهذا هو السبب في أنهم يعرفون باسم «الجهال». فعلى الرغم من قوة جنبلاط وثروته، كان في يوم من الأيام واحدا من «الجهال». ولا يعرف تعاليم الدين بالكامل إلا المنضمون للطائفة الدينية؛ الذين يعرفون أيضا باسم الشيوخ أو «العقال»، والذين يكرسون أنفسهم لحياة التأمل والفقر. وأوضح ربيعة أنه لهذا السبب كان قد رتب لنا زيارة لدار الطائفة، المقر الإداري للديانة الدرزية في لبنان. كانت رحلة قصيرة عبر شوارع بيروت المزدحمة.
عندما وصلنا إلى هذا المكان المقترن بالغموض، وجدت أنه مبنى متواضع مكون من طابقين في منطقة درزية محصورة غرب بيروت تسمى فردان. داخل المبنى، كان رجال، يرتدون عباءات سوداء، وسراويل سوداء فضفاضة، وطرابيش طويلة بدون حافات ملفوفة بقماش أبيض - الزي التقليدي لشيوخ الدروز - يسيرون في الأروقة. ومن حين لآخر، كنت أرى نساء أيضا، يغطين شعرهن ونصف وجوههن بقماش أبيض. هؤلاء كن شيخات (حيث تسمى أنثى الشيخ شيخة).
كان لدينا موعد مع شخصية تسمى شيخ العقل. كان هذا الرجل هو الرئيس الرسمي لرجال الدين الدروز. تلقيت مسبقا تحذيرا بألا أستغرق أكثر من اللازم من وقته؛ فقد كان معروفا بكونه مشغولا وحاد الطباع إلى حد ما. لذا دخلت مكتبه شاعرا ببعض الذعر، برفقة ربيعة والسفيرة. سألته عن العلاقة بين الدروز والإسلام، فأظهر أنه على دراية بالقضايا الإسلامية، مقتبسا في كثير من الأحيان من القرآن، حرصا منه على إثبات أن الدروز مسلمون تقليديون. «نحن نعلم الحاجة إلى الأعمال الصالحة. ونتجنب كل شيء ممنوع في الدين والقانون الدولي. ونحترم الآخرين. ديننا الإسلام. وطائفتنا هي الموحدون. ولقبنا هو الدروز.»
لم يعتذر على عدم إخباري بالمزيد. وقال: «الأمر يتعلق بالخصوصية وليس السرية. ألا تتمتع المرأة بالخصوصية في بيتها؟ نحن نطلب الخصوصية ذاتها لمعتقداتنا.» وكانت طريقته قد أرهبتني ودفعتني إلى الصمت. لكن ربيعة لم يرض بأن يدع الأمر هكذا. لذا تحدث من الخلف. قال: «حدثنا عن «التقمص» يا فضيلة الشيخ. ما أساس إيماننا به؟» حدق فيه الشيخ بغضب وأجابه بسرعة بسؤال آخر بطريقة مدرس يحاول كبح تلميذ وقح. هل فهم ربيعة معنى «التقمص»؟ إذا كان الجواب بالنفي، فما الذي كان يفعله بطرح السؤال؟ كانت الرسالة المستقاة من نبرة صوته واضحة بما فيه الكفاية: كان ربيعة ينتهك خصوصية عقيدته.
كان «التقمص» كلمة جديدة على أذني. بدت مثل الكلمة العربية «قميص». لماذا لم يرغب الشيخ في الحديث عنه؟ أوضح ربيعة ونحن نمضي مغادرين بالسيارة أن «التقمص» يعني «تناسخ الأرواح». إنها فكرة إمكانية تغيير الأشخاص لأجسادهم كما يغيرون القمصان؛ فالجسد مجرد عباءة للروح. فهمت لماذا لم يعجب الشيخ بالسؤال. فمعظم المسلمين لا يعتبرون تناسخ الأرواح من المعتقدات التقليدية. ومع ذلك، فسر هذا اهتمام الدروز بفيثاغورس. فقد اشتهر بإيمانه بتناسخ الأرواح؛ ففي مرة منع رجلا من ضرب كلب، قائلا إنه تعرف في عوائه على صوت صديق ميت. للسبب ذاته، كان الفيثاغوريون غالبا نباتيين. ولذلك يبرز السؤال التالي: ما مدى عمق تبجيل الدروز للفلاسفة الإغريق؟
كنت آمل أن أكتشف المزيد من اجتماعي التالي، الذي عقد في مكان أفخم من الاجتماعات السابقة. كانت القلعة تقع على تل بجنوب بيروت. عند أبوابها قابلتنا مجموعة منشغلة من الخدم. واصطحبونا إلى غرفة استقبال كان فيها الأمير طلال أرسلان، وهو رجل ضخم ومرح في أوائل منتصف العمر، جالسا تحت صورة والده، الذي بدا أكثر مرحا من الابن، والذي يظهر في الصورة وهو يدخن النرجيلة. أكد الأمير - وهو لقب حصل عليه بسبب انحداره من ملوك العرب في فترة ما قبل الإسلام - ما عرفته عن «التقمص». قال: «نحن لا نؤمن بالموت على الإطلاق». فلم يكن الدروز يولون القبور أي اهتمام؛ فالروح تسكن الجسد فقط باعتباره غلافا مؤقتا لها، وتولد من جديد إلى الأبد. لم يكن من المعتاد البكاء في الجنازات. و«القبور» القليلة التي قدسها الدروز كانت في الواقع أضرحة فارغة. وأوضح الأمير أنه «توجد ثلاثة أمور مهمة في معتقداتنا. تناسخ الأرواح، واحترام جميع الأديان السماوية، والإيمان بالعقل الكوني».
لكن عندما ألححت عليه ليقول المزيد، كانت الإجابات التي تلقيتها غامضة. أخبرني رجل أحمر الشعر كان جالسا إلى جانب الأمير أن الديانة الدرزية ديانة روحانية أكثر من كونها شعائرية. وقال آخر من تابعي الأمير إنها فلسفية أكثر من كونها دينية. وأضاف بازدراء: «ليس كل الشيوخ يفهمون الفلسفة. فقلة منهم سيفهمون الأفلاطونية المحدثة للشيخ أبي عارف حلاوي.» كان حلاوي وليا درزيا اشتهر بزهده، وتوفي عام 2003 عن عمر ناهز المائة؛ وتعلق قصائده الدينية الموجهة إلى «خالق الكون» في البيوت الدرزية. ولكن ما معنى أن نقول إنه كان أفلاطونيا محدثا؟ وما هو العقل الكوني؟ •••
تظهر لوحة لرافائيل جميع فلاسفة اليونان القديمة في مشهد خيالي، حيث يقف أرسطو وأفلاطون جنبا إلى جنب في وسطهم جميعا. ويشير أرسطو إلى الأسفل نحو الأرض وأفلاطون إلى الأعلى نحو السماء. تلخص الصورة بدقة الفرق بين مدرستين فكريتين. فقد ركزت فلسفة أرسطو على العالم المادي: وتشتق الكلمة الحديثة «فيزياء» من عنوان أحد كتبه. بينما رأى أفلاطون العالم المادي مجرد ظل لعالم الأفكار. وكانت وجهة نظره مؤثرة للغاية عند الكتاب الذين أعادوا تشكيل الفلسفة الإغريقية في القرون الأولى بعد الميلاد، والذين أطلق عليهم العلماء المعاصرون تسمية الأفلاطونيين المحدثين ومن أبرزهم كاتب من القرن الثالث يدعى أفلوطين. كان أفلوطين وتابعاه يامبليخوس وفرفوريوس الصوري من الشرق الأوسط (إذ ولدوا في دلتا مصر، وبلدة سورية بالقرب من حلب، ومدينة صور اللبنانية، على الترتيب)؛ وهذا دليل على أن الفلسفة اليونانية كانت بالفعل قد صارت جزءا لا يتجزأ من ثقافة البحر الأبيض المتوسط أو حتى الشرق الأوسط. وحاول هؤلاء الثلاثة، جنبا إلى جنب مع كتاب آخرين أقل تأثيرا من نفس المرحلة، تكوين توليفة من الفلسفة اليونانية من شأنها تسوية أي خلافات بين مختلف مدارس الفكر اليوناني.
عندما أغلق عيني وأفكر، أشعر كما لو أنني أستطيع التفكير في المفاهيم المجردة - على سبيل المثال، الأرقام أو الأفكار مثل الحب أو الحقيقة - تتسم بالمثالية والثبات، على عكس الأشياء التي أقابلها في العالم المادي. شبه أفلاطون العالم المادي بالظلال التي ترفرف على جدار أحد الكهوف؛ فلن يلمح العقل الحقائق التي يمثل العالم المادي مجرد ظل لها إلا إذا أصبح أكثر انعزالا وانفصالا عن المؤثرات الخارجية وركز على عالم الأفكار. لقد كان الجزء المفكر من الشخص، وليس الجسد، هو ما كان أفلاطون يعتقد أنه قد ينجو من الموت. ومع ذلك، فمن الواضح أن هذا العالم الروحي أو الفكري لديه القدرة على التأثير في العالم المادي. فمن خلال التفكير، يمكنني اتخاذ قرار بشأن ما يتعين فعله؛ ثم أحرك ذراعي لتنفيذ قراري. لذلك اقترح الأفلاطونيون المحدثون أن الروح أو العقل يمكن أن يعملا على المستوى المادي وكذلك الفكري. ووضعوا فرضيات حول التسلسل الهرمي لمستويات الوجود، وكيانات مثل العقل الذي يمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر. وعلى قمة هذا التسلسل الهرمي كان «الواحد».
وعلى الرغم من تسميتهم بالأفلاطونيين المحدثين، كانوا أيضا من المتحمسين لفيثاغورس. يبدو أن فيثاغورس كان من دعاة التوحيد، وأحد رموزه المقدسة كان دائرة بها نقطة في المركز. تمثل الدائرة الكون، والنقطة هي «الواحد»؛ فعلى غرار «النقطة الثابتة للعالم المتحرك» لتي إس إليوت، اعتمد الكون بأسره على «النقطة الثابتة» غير المتغيرة والسرمدية. وهذا لا يعني أن «الواحد» يمتلك إرادة، أو أنه يفعل أشياء؛ فطبيعته بعيدة جدا عن عالمنا الزائل غير الكامل لدرجة أنه كان يفوق قدرة الفكر البشري على العثور على حتى جملة واحدة لوصفه، عدا أنه موجود وغير متغير ومثالي. وهو لم يخلق العالم؛ فهذا من شأنه أن يفسد كماله بتثبيته في لحظة معينة من الزمن. وإنما وجوده يستتبعه وجود كل شيء آخر؛ مثلما أن وجود العدد 1 يستتبعه وجود جميع الأرقام الأخرى. فالكون «ينبثق» من «الواحد»، على حد تعبير الأفلاطونيين المحدثين، وتسمى نظرية سبب وجود الكون بالانبثاق.
وما انبثق من «الواحد» في المستوى الأول كان الفكر أو العقل الكوني، وتلاه انبثاق كيان يسمى الروح الكونية؛ وشكل هؤلاء الثلاثة نوعا من ثالوث الفيلسوف. ومن العقل والروح الكونيين انبثق العالمان المادي والروحي. اقترح بعض الأفلاطونيين المحدثين أنه يوجد عدد من الكائنات الروحية الأخرى التي كانت وسيطة بين «الواحد» والبشرية. واستند قانون أخلاقي على هذه الرؤية للكون. فأن تكون صالحا يعني أن تتحرك نحو «الواحد»؛ أي أن تتحد معه بالابتعاد عن العالم المادي. كتب أفلوطين: «فلينهض من يملك القوة ويرجع إلى نفسه، منصرفا إلى الأبد عن الجمال المادي الذي جعله يشعر بالفرح يوما ما.» كانت الأنانية وحب الذات مصدرين للانقسام والسبب الأصلي للانفصال عن الواحد. وكان أفلوطين حريصا على إبقاء فلسفته سرا عن الغرباء. ونصت قاعدته على «عدم الإفصاح عن شيء لمن لا يملكون المعرفة»، رغم أن هذه القاعدة نقضت بعد وفاته عندما نشر أتباعه أعماله الرئيسية.
ما لم أستطع فهمه في البداية هو كيف أصبحت هذه الأفكار القديمة من صميم طائفة إسلامية حديثة في لبنان. كان الأمير على استعداد لتنويري. نظر من نافذة غرفة الاستقبال حيث كنا نلتقي إلى الشريط الساحلي الضيق الذي كان يفصل قلعته عن الشاطئ. كان يمكن رؤية الطريق الرئيسي شمال بيروت من هذا الموقع الممتاز. قال الأمير طلال: «إنه مكان استراتيجي؛ لهذا السبب أعطانا إياه العباسيون». أشار إلى أحد مساعديه، الذي حمل لاحقا في يديه كتابا عربيا ثقيلا مجلدا بأناقة. كان عن تاريخ عائلة الأمير على مدى الألف سنة الماضية. أعطاني الأمير إياه. وبقراءته، وبشق طريقي في مجموعة من الكتب الأخرى التي تلقيتها في الأيام اللاحقة من دروز تمنوا لي النجاح، جمعت تدريجيا جزءا على الأقل من قصة الدروز. •••
يحكي كتاب أرسلان كيف أرسل الخلفاء العباسيون العائلة، في القرن الثامن، من بغداد للدفاع عن الساحل اللبناني من البيزنطيين. أدى آل أرسلان هذه المهمة بكفاءة، ولكن في النهاية ظهر تهديد جديد وغير متوقع على الإطلاق. ففي عام 910، تلقى العباسيون أخبارا مزعجة؛ إذ ظهر في البراري المهملة في شمال أفريقيا، رجل ادعى أنه من نسل النبي محمد وخليفته الشرعي كحاكم للإسلام. وبفضل مساعده المخلص الذي نشر رسالته بين القبائل البربرية في المنطقة، تجمع حول هذا الرجل العديد من المؤيدين، الذين هزموا أتباع العباسيين المحليين وأطاحوا بهم. كان المهدي، كما أطلق هذا الرجل على نفسه، ينتمي إلى فرع صغير من الإسلام يسمى الإسماعيليين. بنى هو وأحفاده على مدى القرون اللاحقة الإمبراطورية الفاطمية الضخمة ودعموها، ولم تكن تشمل شمال أفريقيا فحسب، بل مصر ولبنان أيضا. وأسسوا القاهرة. وأعلنوا الحرية الدينية لرعاياهم، الذين كان من بينهم الكثير من المسيحيين واليهود. وجمعوا مكتبة ضخمة من الفلسفة الإغريقية.
كانت القاهرة الفاطمية بيئة مواتية جدا لأولئك الذين أرادوا مزج الفلسفة الإغريقية بالإسلام. وأولى الفاطميون اهتماما كبيرا بالتعليم فبنوا الجامع الأزهر ومدرسة لتعليم الشريعة الإسلامية ، والفلسفة، وعلم الفلك؛ وظل الفكر الإغريقي دارجا بين علماء المسلمين في كل من القاهرة وبغداد. كيف هؤلاء العلماء أفكار الأفلاطونيين المحدثين لتتلاءم مع الإسلام. وكان من الطبيعي أن ينظر إلى «الواحد» على أنه الله. اعتبر بعض العلماء أن الكائنات الوسيطة بين الله والخلق على عقول غير مادية أو «رؤساء ملائكة»، وقال فيلسوف واحد على الأقل، وهو الفارابي، إن هذه العقول اتخذت هيئة النجوم والكواكب.
وبعد مائة عام من الوحي المثير للمهدي، كان حفيد حفيده يحكم القاهرة. كان يعرف باسم الحاكم بأمر الله، وقد خالف تقليد التسامح وفرض الشريعة على رعاياه بقسوة غير مسبوقة. وأصدر عددا من المراسيم المثيرة للجدل؛ حيث طالب بنشر اللعنات الموجهة ضد الخلفاء السنة الأوائل في المساجد ومداخل الأسواق، ومنع رعاياه المسيحيين من الاحتفال بعيد الفصح، وأمر بحرق الزبيب في المدينة (لأنه قد يستخدم في صنع النبيذ)، ودعا إلى سكب عسل المدينة في نهر النيل (لأنه قد يستخدم في صنع شراب الميد المخمر)، وأعلن أنه لم يعد بإمكان الإسكافيين صنع أحذية نسائية (حيث لم يكن مسموحا للنساء بالخروج). وأمر غير المسلمين بارتداء أشياء ثقيلة لدرجة مؤلمة حول أعناقهم. وسمع عن طقس النار المقدسة، الذي يجرى في كنيسة القيامة بالقدس يوم أحد الفصح، وقرر أنه خدعة، واستشاط غضبا منه لدرجة أنه سوى الكنيسة بالأرض. ولم يعد بناؤها إلا بعد وفاته. وساعد تدمير الكنيسة على إشعال الحروب الصليبية، التي من شأنها إفساد العلاقات بين المسيحيين والمسلمين إلى الأبد.
وعلى الرغم من أن سلوك الحاكم بدا قاسيا أو حتى غير عقلاني لضحاياه (وكثيرين غيرهم)، ظن المعجبون به أن غرابة أطواره دليل على قربه من الله. وأثارت سلسلة من الأحداث الألفية - قرب مرور ألف عام على ميلاد المسيح، وأربعمائة عام على هجرة محمد - التوقعات بأن نهاية العالم قد تكون قريبة. وفي هذا الجو المحموم ابتكر مجموعة من المفكرين فلسفة التوحيد؛ أي العقيدة الدرزية. حتى إن سبب تسمية «الدروز» بهذا الاسم غامض. ربما كان نسخة معدلة من لقب نشتكين الدرزي، وهو من أوائل الموالين واعتبر زنديقا فيما بعد. وأثارت تعاليم الديانة شائعات مروعة. فقد اعتقد الدروز، أو هكذا شاع في القاهرة، أن الحاكم كان الظهور أو التجسد البشري لله نفسه. لكن الدروز اليوم ينفون هذه الشائعات. وعلى النقيض سمحت الأفلاطونية المحدثة باستخدام طرق مبطنة لإثبات أن هناك صلة وثيقة بين شخص على الأرض والذات الإلهية. ففي الترجمة العربية، كان «اللاهوت» هو الله بذاته؛ و«الناسوت» هو الله متجليا على الأرض في هيئة إنسان.
وأيا كانت الصيغة التي قد يستخدمها الدروز للتعبير عن هذا الأمر (فقد تكون مبطنة ومعقدة مثل قانون الإيمان المسيحي)، فيبدو أنهم اعتبروا الحاكم تجليا (ناسوتا) لله على الأرض. وعلاوة على ذلك، اعتبروا أن خمسة من قادتهم هم التجليات الدنيوية لكائنات سماوية أخرى أقل شأنا، وهي: العقل الكوني، والروح الكونية، وثلاثة كائنات أخرى تسمى الكلمة، والسابق، والتالي. واتخذت هذه الكيانات الخمسة هيئة البشر من قبل؛ مثل يسوع والحواريين، وموسى وهارون، وأفلاطون وأرسطو وفيثاغورس، ومحمد وصحابته. وفي كل مرة، كانوا يرشدون البشرية إلى مرحلة جديدة من الفهم من خلال إقامة دين جديد. فقد جاء موسى باليهودية، ويسوع بالمسيحية، ومحمد بالإسلام. والآن، كان على الديانة الدرزية أن تقود الطريق في حقبة جديدة من تاريخ البشرية، لتحل محل الإسلام التقليدي. واعتقد حمزة بن علي، زعيم الحركة الدرزية، أنه هو نفسه كان تجسيدا للعقل الكوني على الأرض. وأنه في التجسدات السابقة، كان فيثاغورس ويسوع.
عندما كان الحاكم لا يزال على قيد الحياة، كان ثمة تسامح مع الدروز. ولكن عندما اختفى في ظروف غامضة أثناء سيره على جبل المقطم فوق القاهرة سنة 1021، خلفه ابنه، ويبدو أنه كان أقل استعدادا للتسامح مع دين حظي فيه والده (ولكن ليس هو) بهذا القدر الكبير من الاحترام. فقتل آلاف الدروز. ولجئوا تدريجيا إلى تلال جنوب لبنان، وقبلوا دخول معتنقين جدد بعض الوقت، وكانوا يتعرفون بعضهم على بعض من خلال إشارات سرية وكلمات مشفرة، حيث كانت أصولهم العرقية متنوعة للغاية. فالنجمة الخماسية ، على سبيل المثال (كل نقطة فيها لها لون مختلف: أبيض، وأزرق، وأصفر، وأحمر، وأخضر) كانت تمثل القادة الدروز الخمسة والكيانات السماوية الخمسة المقابلة لهم. وسرعان ما توقفت الطائفة عن قبول معتنقين جدد، الأمر الذي عزز التوجه نحو السرية؛ وكما كتب مؤرخ لبناني: «لذلك صارت الديانة الدرزية موروثة بالكامل، امتيازا مقدسا، كنزا لا يقدر بثمن يجب حمايته بغيرة وحماسة من أي شيء قد يدنسه.» ما كان فيثاغورس ليستطيع أن يصوغ الأمر بطريقة أفضل من هذه.
وكان للعقيدة الجديدة حد أدنى من القواعد والطقوس. فقد أعيد تأويل الفرائض على المسلم المؤمن - الصلاة خمس مرات في اليوم، وصيام شهر رمضان مرة واحدة في السنة، والحج إلى مكة - واعتبرت متطلبات أكثر تجريدية، مثل التحلي بالإيمان، وقول الحق، ومساعدة المرء لإخوانه في الدين. وسمح للدروز العاديين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر. وكان بإمكانهم الصلاة بأي طريقة يرغبون فيها - أو ألا يصلوا على الإطلاق، إذا آثروا ذلك. أخبرني أحد الدروز العاديين أنه كان يدعى مرتين في السنة لحضور جلسة صلاة حيث كان بإمكانه نظريا طرح أسئلة حول العقيدة. لكنه أوضح أنه لم يكن يوجد أي التزام، قائلا: «إذا سألتني عن الأمور الدينية، فلن أستطيع الإجابة عليك. فأن تكون درزيا هو ولاء اجتماعي لطائفة؛ يولد المرء بداخلها.»
ومن غير المستغرب أن الموقف الليبرالي للدروز تجاه الإسلام قد أثار حفيظة رجال الدين الأصوليين. ففي القرن الرابع عشر، عندما كانت الأراضي العربية محاصرة بالأعداء من جميع الجوانب - الصليبيون في الغرب والمغول في الشرق - أراد العالم ابن تيمية استخدام العنف لسحق كل الأفكار «المنحرفة». وقد كان محافظا جدا لدرجة أنه (يقال) لم يأكل البطيخ أبدا لأنه لم يكن لديه دليل على أن النبي أو صحابته قد فعلوا ذلك. وفعل شيء لم يفعلوه يمكن أن يقود إلى خطر «الابتداع»، الذي اعتبره العلماء المحافظون أمرا خطيرا. لا عجب في أن ابن تيمية كان عدوا لدودا للدروز. وأصدر فتوى صارمة بحق كل من الدروز والعلويين، واصفا إياهم ب «الكافرين المضللين». فلم يكن يجوز الأكل من طعامهم، ويجوز استعباد نسائهم، والاستيلاء على أموالهم، ورفض توبتهم، وقتل علمائهم، ومقاطعة جنازاتهم: «يجب قتلهم أينما وجدوا، ولعنهم على النحو المبين». أعقب ذلك مرحلة من الاضطهاد أجبر فيها الدروز على الامتثال ظاهريا للإسلام التقليدي. لكن في نهاية المطاف، رضخ أسيادهم، الذين كانوا في ذلك الوقت من العثمانيين، ومنحوهم حكما ذاتيا وحرية العبادة (على أرض الواقع).
تساءلت: ماذا عن اليوم؟ ما المواقف التي واجهها الدروز مع المسلمين الذين لم يشاركوهم رؤيتهم الباطنية؟ في حانة عصرية في وسط بيروت، التقيت بامرأة توفي والدها وهو يقاتل في الحرب الأهلية بوصفه عضوا في ميليشيا الدروز. وصلت في سيارة بورش صفراء. وكانت الحانة توحي بأنها مكان سيئ السمعة، ولكن في الواقع كان شباب بيروت الأثرياء يترددون عليها كثيرا. أخبرتني عندما جلسنا على كرسيين باهتين: «الأمر كله يتعلق بالسياسة. فعندما ينحاز وليد جنبلاط للسنة، يصبح السنة ودودين، وعندما ينحاز للشيعة، فإنهم جميعا يقولون إن الدروز لا يمكن الوثوق بهم.» لقد أفسحت تقلبات وتحولات الحرب الأهلية الطريق أمام مجموعة من التحالفات السياسية الأقل دموية، ولكنها تتغير بالقدر ذاته.
كانت قد واجهت العديد من الاتهامات الشنيعة في المدرسة؛ على سبيل المثال، أن الدروز يمارسون طقوس جنس جماعي سنوية، أو أنهم يعبدون عجلا ذهبيا مخبأ داخل صندوق. من الشائع أن توجه هذه المزاعم ضد جميع الأقليات في الشرق الأوسط. فالادعاء الأول يوجه للدروز، والسامريين، والعلويين، والإيزيديين. والثاني يوجه للدروز والسامريين. وتاريخيا وجه كلا الاتهامين إلى المسيحيين أيضا، ووجه المسيحيون نسخة من الاتهامات ذاتها للمسلمين. والسبب الكامن وراء هذه العادة غير واضح؛ فهو ليس مجرد تعمد للأذى، ولكن ربما أحد عناصر الخيال الشهواني، وربما، أيضا، ذكرى من بقايا الماضي عن طوائف - حركة زرادشتية منشقة، مجموعات صوفية مختلفة من القرن التاسع - كانت بالفعل تشجع العلاقات الجنسية دون التقيد بالزواج. ربما يكون السبب الأكبر لاتهام الدروز بالفجور الجنسي هو أنهم سمحوا للرجال والنساء بالصلاة معا، وقدموا للمرأة شيئا يقترب من المساواة. (كان الفيثاغوريون أيضا معروفين بأنهم كانوا يسمحون بمشاركة أسرارهم مع النساء وكذلك الرجال.) •••
للكشف عن المزيد من العقيدة الدرزية؛ كنت ذاهبا لزيارة معقلهم، في جبال الشوف في جنوب لبنان. تعتبر كل رحلة في لبنان تعليما دينيا؛ لأن أديان البلد المختلفة تنحو جميعها إلى الإعلان عن نفسها. يمكن للمرء أن يتجه شمالا على طريق ساحلي ضخم، غالبا ما يكون مكتظا بالسيارات، ويمر أمام الكازينوهات والمتاجر الكبرى وصولا إلى تمثال ضخم للمسيح يستقبلك وهو باسط ذراعيه؛ ثم ينطلق صاعدا الجبال، إلى قرى عامرة بتماثيل مريم العذراء، وكروم العنب، والأسماء الآرامية، على حواف الصدوع المذهلة. وبالاتجاه جنوبا من بيروت، يسافر المرء عبر ضواح مزدحمة مزينة بملصقات زعيم حزب الله، حسن نصر الله. بعد مدينتي صور وصيدا الآخذتين في التوسع على نحو غير منظم، يهبط المرء إلى المساحات الرعوية المفتوحة لمعقل الشيعة؛ وعند دخول القرى هناك، قد تستقبلني صورة قبضة تحطم رأس جندي إسرائيلي، وفي سجن الخيام سيئ السمعة، توجد قائمة بمن ماتوا أثناء مدة اعتقالهم خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. هذه الرموز السياسية لا تدع مجالا للشك في الهوية الدينية لسكان المنطقة.
ومع ذلك، فالطريق إلى الشرق مزين بطريقة أكثر خفاء. ففي رحلة استغرقت ساعة مليئة بالتعرجات، والسرعة العالية، وصرير الفرامل بسيارة أرسلها وليد جنبلاط أخذتني إلى جبال الشوف، حيث تتجمع الطائفة الدرزية عادة وحيث توجد قلعة جنبلاط، وفي القرى التي مررنا بها لم أر أي لافتة دينية على الإطلاق. اشترى حسن، السائق، قطعة من «الكنافة»، وهي كعكة حلوة مصنوعة من الزيت والجبن، من متجر توقفنا عنده في طريقنا. أثناء ما كنت أتناولها، نظرت إلى بساتين البرتقال، والجبال الشاهقة، ووديان الشوف العميقة. نمت هنا الطماطم، والزيتون، والموز، والليمون. وأعطت الزهور الوردية التي تشبه الجرس لونا إضافيا للمشهد. وأدى التوسع في أعمال البناء إلى انتشار فيلات خرسانية ذات أسقف حمراء، مغطاة بطبقة رقيقة من الحجر الجيري ذي اللون الأبيض المائل للصفرة على سفوح التلال.
بعيدا بالأسفل، كان البحر يظهر أحيانا عبر التلال المحيطة. وكان المشهد صورة رمزية للبنان، إضافة إلى كونه واقعيا. ارتأيت أن البحر والجبال معا قد جعلا لبنان على ما هو عليه؛ مزيج مسكر من الحداثة الليبرالية الدولية محدودة التفكير والقبلية العنيدة، والتمتع بالحياة والتدين المتعصب. جاء القديسون والقديسات إلى الجبال اللبنانية في أوائل الحقبة المسيحية ليعيشوا حياة عزلة دعمها القرويون المحليون بتبرعاتهم من الطعام. وبعد دخول الإسلام، تظهر روايات العصور الوسطى أن القرى المسيحية رحبت بالمثل بالنساك المسلمين. وعندما توجه دعاة الدروز الأوائل إلى جبال الشوف في أعقاب هجرتهم من مصر، واعظين غيرهم بإنكار الذات وممارسين له، كانوا يتبعون الخطى المتكررة نفسها. ويقول أحد النصوص الدرزية الأولى: «اذهبوا إلى من يعيشون في ظل جبل حرمون. فإنهم على استعداد لاتباعكم.»
لم يكن الدعاة ليجدوا القرويين المسيحيين فقط ولكن أيضا آخر ما تبقى من طائفة وثنية. ففي الوقت الذي وصل فيه مبشرو الدروز الأوائل، كان لدى الحرانيين معبد في بعلبك في لبنان؛ على بعد ستين ميلا فقط شمال جبال الشوف، حيث كنت الآن. ربما كان بعض الحرانيين من بين أولئك الذين تبنوا الفلسفة الدرزية، ووجدوا أنها سهلت قبول الإسلام؛ لأنها شاركتهم إيمانهم بتناسخ الأرواح وسمحت لهم بمواصلة تبجيل فيثاغورس وشخصيات أخرى من التراث الإغريقي القديم تجاهلتها المسيحية والإسلام.
لاحظت أسماء متاجر غريبة في إحدى المدن الدرزية؛ على سبيل المثال: صيدلية الحكمة ومستشفى التنوير. وفي مغسلة ملابس، رأيت قصيدة دينية درزية معلقة مستهلها: «يا خالق الكون ...» كتبها الحلاوي، الشيخ الموقر الذي عرفت اسمه في قلعة الأمير طلال أرسلان. ورسمت فوق مدخل مبنى، بسيط بشكل مختلف، نجمة خماسية.
ميزت صفة أخرى القرى الدرزية عن غيرها من القرى؛ وهي أنه كان يوجد رجال منتشرون في كل مكان على نحو غريب يرتدون سترات عمل بنية اللون، مع قبعات صوفية بيضاء على رءوسهم الحليقة، ويعملون في المنازل والحدائق ومحطات الوقود. الشعر الوحيد الذي كان يمتلكه كل منهم كان شاربا أشعث خشنا. سألت حسنا عنهم. فقال: «شيوخ.» كان هؤلاء «عقال»؛ لكنهم كانوا أصغر مكانة من أولئك الذين رأيتهم عندما زرت دار الطائفة. يعيش الناس العاديون من الدروز كما يشاءون، لكن رجال الدين الدروز يلتزمون بفلسفة إنكار الذات. ويشجع الشيوخ الذكور على الاعتماد في العيش على الأرض، ومن الأقوم بشكل خاص ألا يأكلوا إلا الطعام الذي يزرعونه بأنفسهم. إنهم يعيشون حياة متقشفة، ويصلون ويتأملون بانتظام، ويصومون في رمضان، ويتجنبون أكل لحم الخنزير وشرب الكحوليات، ولا ينخرطون في أي نوع من الإسراف (على سبيل المثال، عند تقديم كوب من الماء لشيخ، لا يفترض أن يشربه كله، لكنه يرتشف منه فقط دون أن يروي عطشه). يشكل رجال الدين الدروز مجموعة كبيرة نسبيا: فربما خمسة عشر بالمائة من جميع الدروز، رجالا ونساء، من الشيوخ. أخبرني حسن أن الانضمام إلى رجال الدين لم يكن عملا معقدا: فالشخص يتقدم بطلب للقبول، وعلى مدى حقبة من الزمن يقيم مستوى التزامه وقدرته على فهم الأمور الدينية.
كانت زوجة حسن من شيخات الدروز. ومثلما يحرث الشيوخ الأرض، كانت تعمل هي وشيخات أخريات في التطريز والحرف المنزلية الأخرى التي أتاحت لهن كسب الدخل دون الخروج إلى العالم. وإذا خرجت زوجة حسن من منزلها، فسترتدي وشاحا أبيض تغطي به رأسها ونصف وجهها، مثل النساء اللواتي كنت قد رأيتهن في دار الطائفة. لم يكن حسن رجلا كثير الكلام، لكنه كان قد بدأ في التحدث بحرية أكبر. لذلك سألته: ما الأماكن التي زارها في لبنان؟ «أذهب إلى بيروت، ثم أعود إلى هنا». لم يكن قد غادر المناطق الدرزية قط؛ وخمنت أن عالمه كله لا يمكن أن يتجاوز الخمسة عشر ميلا مربعا على كلا الجانبين. وتوقعت أنه كان مقاتلا في الحرب الأهلية.
مررنا في رحلتنا عبر البلدات والقرى الدرزية المتناثرة على سفوح التلال. كانت المنازل كبيرة، وبعضها ضخم، ومع ذلك لم تستخدم إلا بوصفها منازل صيفية للمهاجرين الدروز الأثرياء. أخبرني حسن أنه من أصل ستة آلاف من سكان قريته، يوجد ما بين عشرين إلى خمسة وعشرين شخصا يمتلك كل منهم أكثر من 100 مليون دولار. وقد جاء جزء كبير من هذه الثروة نتيجة لمشاريع تجارية ناجحة في الخارج، خاصة في غرب أفريقيا. وتحول العديد من قرى الدروز إلى بلدات مهجورة، وربما لا يعمر بالسكان سوى ثلث المنازل فقط فعليا على مدار العام. عندما مررنا بقرية كانت قريبة من قرية حسن، سألت ما إذا كان قد سقط العديد من القتلى خلال سنوات العنف. قال: ثلاثة عشر؛ خمسة عندما قصفت إسرائيل القرية، وقتل الآخرون في نقاط التفتيش عندما تبين من بطاقات هوياتهم أنهم من الدروز. «كانت حربا مروعة.» سألت: متى توقفت؟ قال لي: «لم تتوقف. لا تزال مستمرة.»
يعتبر «قبر» النبي أيوب في جبال الشوف في لبنان موقعا مقدسا للدروز الموجودين بالبلاد، الذين يصل عددهم إلى 250 ألف درزي. ونظرا إلى أنهم يؤمنون بتناسخ الأرواح، فإنهم يعتبرونه ضريحا فارغا. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
عندما بدأت الحرب الأهلية، شهدت جبال الشوف بعض المعارك الوحشية بين الدروز وجيرانهم المسيحيين، الذين كان قد أتى بهم الحكام الدروز إلى هنا بصفتهم مزارعين مستأجرين في القرن السابع عشر. وفي نهاية المطاف كانت الغلبة للدروز وطردوا المسيحيين من أجزاء من الشوف (رغم أن جنبلاط شجعهم مؤخرا على العودة). وفي مرحلة لاحقة من الحرب، كان الدروز في كثير من الأحيان يقاتلون الميليشيات الشيعية التي يقع معقلها جنوب موقعهم. وبعد انتهاء الحرب الأهلية في عام 1989، عاود التوتر بين الدروز والشيعة الظهور على السطح من حين لآخر. وحدثت أسوأ واقعة في مايو 2008، عندما قصف حزب الله الدروز في الشوف وسيطر على قريتين درزيتين تتمتعان بمواقع استراتيجية. في القتال الذي أعقب ذلك، استأنف الدروز أسلوبا خاصا في قتل أعدائهم - ألا وهو نحر أعناقهم. في وقت لاحق أخبر مستشارون لجنبلاط وأرسلان السفير الأمريكي (في محادثات نشرها أخيرا موقع ويكيليكس) أن الدروز كانوا يعيشون وسط «خضم من الشيعة» ويخشون انتقام الشيعة. كانت أحداث عام 2008 مثالا على الكيفية التي يمكن بها أن يعاود العنف الطائفي الظهور في لبنان دون سابق إنذار، حيث لا توجد سلطة مركزية فعالة يمكنها حل النزاعات؛ فالحكومة اللبنانية نفسها رهينة للتوترات ذاتها. كانت «نحن شعب صغير» لازمة سمعتها كثيرا في تلال الشوف. •••
يوما ما كانت الأمور مختلفة. اقتطع فخر الدين، الإقطاعي الدرزي الأبرز في أوائل القرن السابع عشر، من نطاق هيمنة العثمانيين إقليما كان في الأساس مستقلا، وكانت حدوده قريبة من حدود لبنان الحالية. فخر الدين شخصية ذات أهمية وطنية؛ فهو يمنح لبنان مؤسسا محليا وشرعية تاريخية في مواجهة أولئك الذين يقولون إن البلاد كانت صنيعة القوى الاستعمارية الفرنسية عام 1926. وفي نهاية المطاف، أنهى الجيش التركي العثماني دويلته المستقلة. أخذني حسن إلى قلعة مدمرة على قمة جرف مرتفع على الحافة الجنوبية للشوف. لم يتبق سوى أنقاض صغيرة من قلعة كبيرة كانت موجودة هناك يوما ما، مطلة على السهل الذي بالأسفل. كانت هذه أيضا إحدى قلاع فخر الدين. قال حسن: «حاصر الأتراك هذا المكان، لكن فخر الدين لم يستسلم. وواصل المقاومة. ثم سمم الأتراك الينابيع التي كانت القلعة تحصل منها على كل احتياجاتها من المياه. لكنه حتى حينها رفض الاستسلام. سأخبرك بما فعله. لقد عصب عينيه وعيني حصانه، وقفزا معا من على هذا الجرف حتى لا يقبض عليه.» نظرت للأسفل. لا بد أن السقطة كانت من ارتفاع مائة قدم أو نحو ذلك. عاد حسن إلى المكان الذي كان فيه النبع المسموم. الآن لم يكن يوجد سوى رطوبة فقط تحت الأقدام. لكن هذه الأرض بدت كأنها تمثل له أرضا مقدسة. فهنا سقط بطل درزي عظيم. قال حسن عندما أخبرته بعنوان كتابي: «ممالك منسية؟ لكننا لم ننس».
إن قصة فخر الدين أسطورة ترمز إلى شجاعة الدروز. ففي الحقيقة ألقى الأتراك القبض عليه وأعدموه. وتنافست بعده عائلات أخرى مختلفة لتبرز بين الدروز. ويعيش فائزو اليوم، آل جنبلاط، في قلعة في بلدة المختارة منذ القرن الثامن عشر. وفي عام 1853، زار القلعة اللورد النبيل الإنجليزي كارنارفون (الذي مول ابنه فيما بعد بعثة توت عنخ آمون). كان البريطانيون قد اكتشفوا في أربعينيات القرن التاسع عشر أن الدروز كانوا أقلية في حاجة إلى راع، وقرروا لعب هذا الدور. أراد كارنارفون، الذي كان في طريقه لأن يصبح أحد كبار رجال الدولة البريطانيين، التعرف على أحدث حلفاء أمته. كان منزل كارنارفون الفخم في إنجلترا في ذاته مهيبا إلى حد ما؛ ففي السنوات الأخيرة ظهر المنزل في المسلسل التلفزيوني «دير داونتون» (داونتون آبي) باعتباره الدير ذاته. ومع ذلك، يبدو أنه أعجب كثيرا بالمختارة، التي وصفها في كتاب نشر بعد ذلك بسنوات قليلة. وتمثل أفضل مشهد في سرد لمبارزة على طراز العصور الوسطى أقيمت في فناء القلعة: «فرسان «الميدان» بألوانهم المبهجة، و«الغلمان» يقفون بجانب الخيول ويناولون الفرسان الرماح الجديدة، وصيحات الاستحسان التي تحيي كل ضربة موفقة، والسيدات يقفن في الشرفات ... الحشد المسلح والمتغطرس ... الأبراج المربعة التي ترتفع من منحنيات الجدار الطويلة على كل جانب.»
كان كارنارفون على يقين من أنه قد زار أثرا من بقايا العصور الوسطى التي لن تدوم طويلا. حتى وهو يتذكر كرنفال المختارة، فإنه يكتب بأسلوب رثائي عن «الاستقلال الإقطاعي الرائع لطائفة لدروز ... التي ربما يكون محكوما عليها الآن بالانقراض في الجبال في سوريا.» لقد صمد الدروز وخالفوا ذلك التوقع، ويرجع ذلك جزئيا إلى دعم كارنارفون وآخرين. وفي ستينيات القرن التاسع عشر، كتبت المجتمعات الدرزية في عريضة جماعية إلى البريطانيين: «نحن الدروز ليس لدينا، بعد الله، حام آخر غير الحكومة البريطانية.» حتى إنه انتشر اعتقاد بين الدروز بأنهم كانوا بريطانيين من حيث الأصل، أو على الأقل أنهم يتشاركون مع البريطانيين في سلف مشترك. وصدق بعض الدروز هذا الأمر حتى أوائل القرن العشرين، ويبدو أن القادة الدروز ما زالوا يطلبون أحيانا المساعدة من البريطانيين. وعندما التقيت لاحقا بأحد كبار شيوخ الدروز، أبو محمد جواد، بينما كان مستلقيا على فراش الموت في كوخ بسيط - حيث وضعت حلويات منزلية الصنع على عربة جاهزة لتقديمها للضيوف - كان الشيء الوحيد الذي لديه القوة ليقوله إشارة إلى هذا التحالف القديم والغريب.
ربما بدا مفاجئا أن تتبنى دولة مسيحية سياسة مؤيدة للدروز؛ لأن أحد أعداء الدروز الرئيسيين في ذلك الوقت كانوا المسيحيين الموارنة. لكن في نظر البريطانيين، كانت مسيحية الموارنة أقل أهمية بكثير من حقيقة أن الفرنسيين كانوا يدعمونهم. ومع ذلك كان ثمة سبب آخر لتفضيل البريطانيين للدروز ، وهو اكتشاف رائع لأصحاب نظريات المؤامرة. فمن بين جميع النظريات المتفائلة حول أصول الدروز - بالإضافة إلى نسبهم المزعوم من أصل بريطاني، قيل إنهم ينحدرون من سلالة كونت فرنسي يدعى درو، أو إنهم، وفقا للثيوصوفية الروسية مدام بلافاتسكي، من سلالة لاما التبت - كان الاقتراح الأكثر إثارة للاهتمام موجودا في مجلد في أعماق مكتبة لندن، يعود تاريخه إلى عام 1891. يحتوي الكتاب على سجلات محفل ماسوني يسمى كواتور كوروناتي. ويناقش مقالها الأول، بقلم حضرة القس هاسكيت سميث، «أنه، حتى يومنا هذا، يحتفظ الدروز بالعديد من الدلالات الواضحة على علاقتهم الوثيقة والحميمة بالصنعة الماسونية القديمة.»
رسم فنان الحرب البريطاني أنتوني جروس هذا التصور للقادة الدينيين الدروز (الجالسين في الدائرة، في المنتصف) برفقة أعضاء فوج الفرسان الدروز البريطانيين في عام 1942، أثناء الحرب العالمية الثانية. كان بين الدروز والبريطانيين صداقة تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، على الرغم من حقيقة أن هذا الفوج الدرزي كان قد نشره الفرنسيون الفيشيون في مواجهة البريطانيين قبل إقناعهم بالانضمام للجانب البريطاني. الصورة مهداة من أنتوني جروس/متحف الحرب الإمبراطوري.
فقد اعتقد الماسونيون أنهم تابعوا تقاليد البنائين الذين أقاموا هيكل سليمان. وارتأى الأخ هاسكيت أن الدروز كانوا الأصليين - أي الأحفاد الفعليين للبنائين - وكان مصرا على إثبات ذلك. وأمضى أسابيع عدة في لبنان، يعيش بين الدروز ليجري اختبارا بسيطا. فالماسونيون يعتقدون أن الكلمات المشفرة التي يستخدمونها متوارثة جيلا بعد جيل من بناة الهيكل؛ ومن ثم افترض الأخ هاسكيت أنه لا بد أن الدروز يعرفون الكلمات ذاتها. ولكن نظرا إلى أنه واجه صعوبة كبيرة في اختراق سريتهم - كما روى بتحسر، في كل مرة كان يسألهم عن معتقداتهم، «يتبدل الموضوع بأكمله ببراعة» - أدرك أنه سيتعين عليه التغلب على هذه السرية بالحيلة.
ويستحضر لنا، ربما بصدق، صورة غريبة على نحو مذهل، قائلا: «لقد بذلت محاولات كثيرة لجذب انتباه الدروز بكلمات، تهمس بغموض، كأنها حديث جانبي مسرحي درامي، أو تلفظ بجدية، أو تنطق عرضا عندما يكون الدروز أقل حذرا.» جعلني هذا أتخيل رجل دين إنجليزيا باحثا يرتدي زي الكهنة، يحاول مفاجأة المزارعين الدروز الأشداء والمسنين بالظهور من ورائهم والصراخ بكلمات بالعبرية القديمة. ولو كان الدروز على دراية بالكلمات، فإنهم مع ذلك حافظوا على رباطة جأشهم؛ لأن الأخ هاسكيت لم يجد إثباتا لنظريته. وبالرغم من ذلك فقد قدمها إلى زملائه الماسونيين، كما يظهر سجل عام 1891؛ مشيرا في السياق ذاته إلى تشككهم في النظرية. وادعى واحد من المستمعين إلى الأخ هاسكيت، مستاء من اعتبار حركته مجرد فرع وأن يقدم مجتمع شرق أوسطي على أنه المجتمع الأصلي، أن الدروز لا بد أنهم ببساطة استعاروا عاداتهم من الماسونيين. (في الواقع، زعم المؤرخ فيليب حتي أن فرسان الهيكل، الذين حاول الماسونيون محاكاتهم، ربما يكونون قد تأثروا بالدروز في «التنظيم والتعليم». فمفهوم الراهب المحارب المتقشف الناكر للذات هو أحد المفاهيم المشتركة بين فرسان الهيكل والدروز، على الرغم من عدم وجود الكثير من الأدلة على الأفكار الفلسفية المشتركة بينهم.)
وأيا كان سبب التشابه الثقافي بين الجماعتين، فمن المؤكد أن ماسونيا مثل كارنارفون كان سيكتشف التشابه. ويوجد أكثر من ملاحظة نزيهة في وصفه لارتقاء الدروز نحو الأسرار العليا للعقيدة: «رويدا رويدا، يسمح له بإزاحة الحجب المتتالية التي تخفي السر العظيم ... إنه يتعلم فقط لنسيان ما كان تعلمه من قبل؛ ويصنع، ويسير على أنقاض إيمانه السابق: ببطء، وبألم، وبتشوش يصعد بمشقة كل درجة متتالية من درجات مراسم الانضمام ... ويسمع في كل خطوة - كما لو كان يسخر من أمل العودة - انهيار آخر درجة خطا عليها، وتحطمها في الهاوية التي لا حد لها التي تهيج تحته. حقا لم يتمكن من تسلق هذه المرتفعات الغامضة إلا قلة قليلة.» •••
تساءلت، في قلعة جنبلاط، عن عدد الأسرار التي سأتعلمها. وأثناء قيادة حسن نحوها للسيارة التي كانت تقلني، أبطأ السرعة على نحو يدل على الاحترام. ولاحظت وجود حجر بسيط أمامنا، على جانب الطريق. قال حسن: «إنه نصب تذكاري لكمال بك»، مشيرا إلى كمال جنبلاط، والد وليد («بك» لقب شرفي). توقفت السيارة. وقال حسن : «لقد اغتيل هنا في هذا المكان»، وظل جالسا خلف عجلة القيادة دون حركة، ناظرا إلى الحجر. لا بد أن حسن كان طفلا وقتئذ، لكن نبرة صوته وطريقته أوحتا بأنه قد شهد الواقعة التي كان يصفها. «لم يكن معه سوى حارس شخصي واحد فقط، وكانت سيارته قادمة من الطريق نفسه الذي نحن ماضون إليه الآن. وجاءت سيارة أخرى في الاتجاه المعاكس.» نظرت إلى الأمام، باتجاه المنعطف الحاد التالي، حيث ينحني الطريق إلى الأعلى. قال حسن: «من هناك. وكان بالسيارة مجموعة من الرجال أطلقوا عليه النار وقتلوه.» ولم يذكر من المسئول، لكن من المسلم به عموما أن الرئيس السوري حافظ الأسد هو من دبر الهجوم لمعاقبة جنبلاط على رفضه لمعاهدة سلام بوساطة سورية تهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية بشروط وجد جنبلاط أنها غير مقبولة. تنهد حسن. فقد سقط بطل درزي آخر.
أعاد تشغيل السيارة وصعدنا آخر بضع ياردات إلى قرية المختارة. وأخيرا ألقيت أول نظرة لي على قلعة وليد جنبلاط. كانت عبارة عن مبنى حجري ضخم عسلي اللون، يضم صالونا لتصفيف الشعر ومحل بقالة وحدائق تحظى بعناية جيدة في المستوطنة التي على سفح التل. بعد أن تركت حقائبي في مبنى خارجي، توجهت إلى بوابة حراسة القلعة، حيث جلس الحراس الشخصيون يتجاذبون أطراف الحديث ويشربون القهوة أمام خزانة قديمة ذات باب زجاجي متسخ لمحت من خلاله مجموعة مختارة من البنادق وما يشبه قاذفة صواريخ.
أخيرا ظهرت شخصية مألوفة ذات شعر أبيض أشعث: كان وليد جنبلاط هنا ليأخذني، وكلبه يتقافز خلفه. تجنبت محاولة سؤاله مرة أخرى عن الديانة الدرزية في الوقت الحالي، وبدلا من ذلك تجولت في بيت أجداده مبديا إعجابي. بنيت القلعة بما يمكن تسميته النمط اللبناني الكلاسيكي: سقف من القرميد الأحمر، ومربعات صغيرة من اللونين الأحمر والبرتقالي على الجدران، وأعمدة رفيعة بأسقف مقوسة ومدببة يتدلى من كل واحد منها فانوس. في الفناء - ربما في المكان ذاته الذي شاهد فيه كارنارفون المبارزة - كانت توجد نوافير، وقوصرات فوق النوافذ، وتابوت حجري روماني مزين بمشاهد لباخوس وهو يرقص بين كرمات العنب. كانت الغرف الداخلية أكثر فخامة؛ أرضيات رخامية ضخمة، ونوافير، وأسقف دمشقية منحوتة. وكانت في لوحة ضخمة لحصار لينينجراد، مهداة من الاتحاد السوفييتي، إشارة إلى الجهة التي تحول إليها ولاء الدروز عندما نفد الدعم البريطاني.
أثناء تناول العشاء، حاولت مجددا التحدث عن الديانة الدرزية، ووعدني أن يعرفني على بعض رجال الدين. لكنه فضل أن يتحدث عن السياسة. كانت سوريا تنحدر إلى حرب أهلية، وكان على الدروز هناك أن ينحازوا إلى جانب؛ وقال وهو يحتسي كئوس الفودكا وأكواب القهوة السادة الساخنة للغاية إنه مما أحرجه أنه كان يوجد كثيرون يريدون أن يساندوا الأسد. سألت كيف انتهى الأمر بالدروز في سوريا من الأصل، فقال لي إنهم أجبروا على الفرار إلى هناك عام 1711 نتيجة لصراع داخلي بين الدروز أنفسهم، بين جماعتين تسميان القيسيين واليمنيين. طرد اليمنيون شرقا، إلى ما أصبح فيما بعد سوريا. ويمثل أحفادهم الآن أكبر مجتمع درزي في العالم؛ حيث يعيش معظمهم على هضبة بازلتية تسمى جبل الدروز. انفصل الدروز في إسرائيل (الذين يبلغ عددهم الآن ما يزيد قليلا عن 120 ألفا) عن إخوانهم في لبنان عندما فرضت الحدود الدولية على المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى.
في اليوم التالي، وفى وليد جنبلاط بوعده واصطحبني لمقابلة «العقال» في مأدبة غداء في حديقة أعلى سفح التل. وأدهشني أنه قاد السيارة بنفسه: ألم يقلق من أن يتكرر معه ما قد حدث لوالده؟ قال: «الأمر متروك للقدر.» إن الاعتقاد بأن أحداثا معينة مقدر لها الحدوث ولا يمكن تجنبها هو أمر شائع في الشرق الأوسط (وهو اعتقاد قديم؛ ويعتمد علم التنجيم البابلي على الاعتقاد القائل بأن شئون البشر مقدرة مسبقا). كانت رحلة خالية من الأحداث، باستثناء الناس الذين أخذوا يلوحون لجنبلاط في القرية الوحيدة التي مررنا بها. وعندما وصلنا إلى الحديقة التي كان مقاما فيها الغداء، كان الأمر أشبه بملاقاة محيط من الطرابيش البيضاء والعباءات السوداء: كان يوجد ما يزيد عن مائة شيخ جالسين على طاولات طويلة، يتأملون أطباقا ضخمة من لحم الضأن والأرز. جاء المضيف، الشيخ علي، للترحيب بنا. كان رجلا سمينا ومرحا للغاية، بدا، في ثوبه الدرزي الذي يعود للقرن التاسع عشر المكون من بنطال فضفاض أسود وطربوش عثماني، مثل باشا من فيلم من ثلاثينيات القرن الماضي عن الشرق. قيل لي إنه كان موهوبا بشكل خاص في تنظيم النزهات الخلوية. أستطيع أن أصدق ذلك. ومع ذلك، أثناء تجولي في منزله بعد تناول الوجبة، رأيت صورا على جدار غرفة معيشته أظهرت جانبا آخر من الشيخ. كانت من أوائل الثمانينيات، عندما كانت الحرب الأهلية قد بدأت للتو، وأظهرت الشيخ علي في مرحلة شبابه وهو يدرب الطلاب العسكريين على القتال. في تلك الأوقات كانت الأزمة كبيرة جدا لدرجة أن الشيوخ اضطروا إلى القتال رغم التزامهم بالزهد.
كان الشيوخ حريصين على توضيح أن هذه الممارسة لم تكن عادية - وعادة ما يحرصون على تجنب توريط أنفسهم في أي صراع من أي نوع. قال الشيخ علي: «نحن الشيوخ نعمل من أجل خدمة الناس، والحفاظ على العادات التي تعمل على استمرارية الطائفة، وحفظ كرامة الدروز، وتحول دون الآفات الاجتماعية.» وأضاف، لكن عندما كانت كرامة الدروز على المحك، كان كل شيء مباحا: «نعم، يجب أن ينهض كل شخص في زمن الحرب ويقاتل بالعصي إذا لزم الأمر. فمجتمعنا تدب فيه الحياة في الحرب؛ لقد سئمنا زمن السلم.» ضحكت المجموعة الصغيرة من الشبان المتجمعين حول الشيخ موافقة على كلامه. وأوضح الشيخ علي أن إشارته إلى العصي كان يقصدها بجدية؛ فهكذا حارب الدروز الفرنسيين في عشرينيات القرن الماضي، وتغلبوا على الجنود المسلحين بالسيوف، والعصي، والحجارة قبل الاستيلاء على أسلحتهم وبدء انتفاضة واسعة النطاق. لقد بدأ كل هذا لأن الفرنسيين كانوا قد اعتقلوا أحد ضيوف زعيم الدروز المحلي، الأمر الذي اعتبره الدروز إهانة لكرامتهم.
تحدث معي شيخ آخر، أعور في إحدى عينيه، عن فلاسفة الإغريق. وأخبرني أن العالم المسلم الغزالي، خلال القرن الحادي عشر، قال في مجادلة رائعة بأن الفلسفة متناقضة مع ذاتها. فهي لم تستطع تفسير الله؛ ومن ثم لم تضف شيئا لأولئك الذين درسوها سوى الشك. قاد الغزالي مسألة توجيه التهم الفكرية إلى الإغريق، وتوقف الإسلام السني التقليدي تدريجيا عن أن يستلهم من فلسفة الآخرين. لكن الدروز، المعزولين في قراهم الجبلية والمصرين على ألا يكونوا تقليديين بالفعل، لم يتأثروا بأقوال الغزالي. واستمروا في تبجيل أفلاطون، وفيثاغورس، وأرسطو.
بعد الغداء، عدت إلى بلدة المختارة، وتجولت في الأزقة نزولا على سلالم تتناثر عليها ثمار برتقال سقطت حديثا من الأشجار. مررت بكنيسة، لكن بابها الصغير كان مغلقا. وفي الجوار كان يوجد مطعم صغير كنت جالسا فيه أكتب بعض الوقت قبل أن تدعوني مجموعة من الشباب المبتهجين الجالسين على الطاولة المجاورة للانضمام إليهم لشرب «العرق». قدموا لي الحمص والفتوش. وقالوا: «نتمنى لو كنا نستطيع أن نقدم لك طبقنا المحلي. توجد خنازير صغيرة في التلال يطلق الناس النار عليها، ويطبخونها في النبيذ الأحمر. لكن هذا ليس موسمها.» لا يوجد طبق أشد حرمة في الإسلام من لحم خنزير مطبوخ في نبيذ. كنت أعلم أنهم لا بد أن يكونوا «جهالا»؛ أي الدروز الذين لا يملكون أي معرفة بدينهم ولا يلتزمون بأي تشريعات دينية حاكمة فيما يختص بالطعام.
قالوا: «أخبرنا برأيك في تناسخ الأرواح. هل تؤمن به؟» حاولت أن أرد بلباقة، لكن هذا لم يكن كافيا لهم. قال أحدهم: «لا، إنه حقيقي. لدينا إثبات.» تحدث آخر بصوت عال: «كان بإمكان ابنة عمي عندما كانت طفلة أن تقول كلمات لا يمكن لشخص عادي أن يقولها، وكان بإمكانها فعل أشياء استثنائية مقارنة بسنها.» وروى آخر قصة رجل تذكر أنه قتل في يوم زفافه وكان قادرا على رسم صور للفساتين التي كانت ترتديها النساء الحاضرات. حتى إنه التقى الرجل الذي قتل ذاته السابقة، وسامحه.
في وقت لاحق من ذلك اليوم قابلت امرأة غيرت اسمها بسبب حلم كانت فيه تعيش في أمريكا. وبعد النظر في مسألة الحلم، قررت عائلتها أنها كانت تجسدا لفتاة درزية ذهبت لتعيش هناك وتوفيت صغيرة. كان اسم تلك الفتاة كارمن؛ لذلك تغير اسمها إلى كريمة تكريما لذاتها الميتة. إن الإيمان بتناسخ الأرواح منتشر جدا، كما أخبرني لاحقا صديق درزي، لدرجة أن الصبي الذي بدا أنه على دراية بحياة رجل مات في الوقت نفسه الذي ولد فيه الصبي يحظى بالقبول باعتباره التجسد الجديد لروح الرجل الميت، ويثق به أولاد الرجل الميت في تقسيم ميراثهم.
رفض الدروز النسخ الأغرب من تناسخ الأرواح التي تبنتها الجماعات الإسلامية السابقة (التي رأت إحداها احتمالات العدالة الشعرية التي يمكن أن يوفرها الانبعاث في جسد جديد. فقد اعتقدت هذه المجموعة أن الرجل الذي مارس الجنس مع خروف قد يولد من جديد في هيئة خروف في حياته المستقبلية.) ويؤمن العلويون بأنه يمكن للناس أن يولدوا من جديد في هيئة نباتات، على سبيل المثال، لكن الدروز يرفضون ذلك. فهم يؤمنون بأن أعضاء طائفتهم يولدون دائما من جديد داخلها. ووفقا لهذا الرأي، فإن الدروز موجودون كشعب قبل وقت طويل من ظهور الدين؛ فأجسادهم شابة وأرواحهم عمرها آلاف السنين، وقبل أن يكونوا الطائفة الدرزية الحالية، كانوا صحابة الرسول محمد وتلاميذ فيثاغورس. والدروز لديهم إجابة عن السؤال القديم حول ما يحدث للأرواح عندما لا يوجد ما يكفي من الأجساد لاستقبالها: في هذه الحالة تذهب أرواح الدروز، كما تقول الأساطير الشعبية الدرزية، إلى الصين.
وبينما كنت أتجول في شوارع المختارة في تلك الليلة، فكرت مليا في الطرق التي أسهم بها الإيمان بتناسخ الأرواح في تشكيل الطائفة الدرزية. ربما ساعدهم في البداية على استمالة المعتنقين الجدد. وتخيلت قول الدروز الأوائل للمسيحيين: «بقبولك محمدا نبيا، أنت لا ترفض يسوع؛ لأن محمدا هو يسوع بعدما ولد من جديد.» وفي حالة الوثني الذي كان يبجل فلاسفة الإغريق، يمكن أن يجادلوا بأن الزعيم الدرزي حمزة بن علي كان فيثاغورس بعدما عاد إلى الحياة مجددا. في القرون اللاحقة، تعززت سمة الشجاعة التي يشتهر بها الدروز في القتال بالإيمان بأن الموت سيؤدي بسرعة إلى ميلاد جديد.
وعند خوض غمار المعارك، كان الجنود الدروز يصيحون: «من يريد أن ينام في بطن أمه الليلة؟» ويمنح هذا الإيمان أيضا الدروز شعورا عميقا بالولاء الجماعي. وهم يعتبرون أنفسهم قد أقسموا على عهد رب الزمان، وهو تعهد بالولاء للخليفة الحاكم. ولم يقدموا هذا التعهد في هذه الحياة بالطبع، ولكن في القرن الحادي عشر؛ في تجسد سابق، عندما كانوا الأشخاص الذين شكلوا الطائفة الدرزية الأولى.
وأخيرا، يدعم الإيمان قواعدهم الصارمة الرافضة لقبول معتنقين جدد أو للزواج من خارج الديانة. فأحد المتطلبات القليلة على الدرزي أو الدرزية العاديين أن يتزوجا أشخاصا من داخل عقيدتهم. ونظرا إلى تمتعهم بحياة أبدية من خلال ولادتهم من جديد داخل الطائفة، فإن إنجاب أطفال من شخص غريب - لا يعد درزيا - يؤثر على هؤلاء الأطفال ليس فقط في هذه الحياة، ولكن في حيواتهم المستقبلية أيضا. وفي هذا الخصوص، يمكن لذلك الأمر أن يكون له بعض العواقب الوخيمة في هذا العالم. في يوليو 2013، تزوج رجل من درزية، وقال لعائلتها إنه درزي من قرية أخرى. عندما اكتشفوا أنه مسلم سني، تعقبوه وأخصوه. وأدان وليد جنبلاط الحادث. كانت الطائفة أكثر تسامحا عندما خطبت أمل علم الدين، المنحدرة من عائلة درزية شهيرة، في عام 2014 إلى الممثل الأمريكي جورج كلوني. ومع ذلك، لم تكن جدة أمل راضية عندما أجرت إحدى الصحف المحلية مقابلة معها. ونقل عنها قولها: «ماذا جرى؟ ألم يعد يوجد شباب درزي؟» •••
جبل الشوف هو معقل الدروز في لبنان، لكنهم يسكنون أيضا جبلا بأقصى الجنوب، بالقرب من الحدود مع إسرائيل. ويوجد على هذا الجبل ضريح يسمى حاصبيا، وفي اليوم التالي لمأدبة الغداء مع العقال أتيحت لي فرصة زيارته مع السفيرة البريطانية وربيعة، وهو الرجل ذاته الذي طرح السؤال الصفيق حول تناسخ الأرواح عندما التقينا شيخ العقل في بيروت. كانت رحلة طويلة؛ حيث صعدنا إلى قمة الجبل، ثم نزلنا نزولا حادا إلى واد أسفل الجرف حيث يفترض أن فخر الدين قفز بحصانه، ومررنا بقرية مسيحية محاطة بكروم العنب، ثم بقرية شيعية مزينة بملصقات حزب الله.
عندما وصلنا إلى حاصبيا رأيت أنها كانت بلدة ذات أبنية حجرية قديمة. وكان أحد هذه الأبنية قلعة مدمرة، لا يزال تسكن أحد أركانها الحجرية المتداعية عائلة كانت موجودة هناك منذ الحروب الصليبية. وكانوا قد خففوا من قسوة الفناء الحجري الرمادي بالزهور. ويوجد ركن آخر، أقل ملاءمة للسكنى، كان مملوكا لفرع منفصل من العائلة ذاتها، وكان يستخدم لعقد التجمعات السياسية. وفي الجزء الداخلي لمدخل حجري بسقف طويل مقوس، علقت صورة كبيرة لمنافس جنبلاط، طلال أرسلان، ووضعت كراسي بلاستيكية لإقامة حفل استقبال مرتجل على شرف السفيرة.
وبمجرد انتهاء حفل الاستقبال ذهبنا لزيارة ضريح قريب على قمة تل يسمى البياضة. لقد كان «خلوة»، أو مكانا يستطيع فيه الدرزي أن يعزل نفسه عن العالم ويصلي؛ صومعة، بالمعنى الغربي. وكان في مركزه غرفة للصلاة (بسيطة وغير مزخرفة، كما كان بوسعي أن أرى من خلال النافذة؛ حيث كان محظورا دخول الغرفة ذاتها). وكان معظم المباني المحيطة به يؤدي دور أماكن معيشة لجماعة من شيوخ الدروز يشبهون الرهبان. كان خمسة من هؤلاء، أحدهم يرتدي صندلا، قد أعدوا لنا وجبة من حبوب الصنوبر والعسل. وجلسوا وأجابوا عن أسئلتنا بصبر. وكان الرجل الذي يرتدي الصندل يعيش هناك منذ أربعين عاما. وكما هو الحال مع شيوخ الدروز الآخرين، كان من عادتهم تناول الطعام الذي يعدونه لأنفسهم فقط. وأوضح واحد منهم، قائلا: «تأسس هذا المكان منذ 350 عاما على يد رجل روحاني جدا. وأصبح رجلا مقدسا جدا وقرر بناء خلوة هنا. كانت بالأسفل، ثم نقلت إلى قمة التل. لم يكن يهدف إلى أي مكسب دنيوي؛ لذلك أصبح مشهورا. ثم جاء الناس وبنوا خلوات خاصة.»
بنى الدروز أيضا في مرحلة ما بجانب الضريح شيئا مثيرا للفضول؛ دائرة من الحجر، محاطة بحافة حجرية منخفضة. يبدو أن لها بعض الأهمية الدينية التي لم يبينها مضيفونا؛ لأنني اضطررت إلى خلع حذائي قبل أن أخطو عليها. ووضع حجر ذو لون أغمق، صغير ومستدير، في مركزها: كان الشكل ككل، عند رؤيته من الأعلى، عبارة عن نقطة في مركز دائرة. كان رمز النقطة في مركز الدائرة علامة مقدسة لفيثاغورس، تمثل «الواحد» في قلب الكون، «النقطة الثابتة في العالم المتحرك». وبالوقوف على النقطة والتحدث، كان بإمكاني أن أسمع صدى صوتي بوضوح خارج الحافة الدائرية. ربما كان هذا الصوت سيروق لفيثاغورس هو الآخر. فقد كان أول من حدد الجواب الموسيقي، حيث اكتشف أن التناغمات المبهجة تعمل وفقا لصيغ رياضية (خفض طول قضيب معدني إلى النصف يعني أن النغمة التي سيصدرها عند النقر عليه ستكون ضعف التردد). وكان يؤمن بأن الكواكب تصدر موسيقى أثناء دورانها في السماء، وأن الشخص الذي يركز وقتا كافيا ويدرك ما الذي يجب أن يستمع إليه؛ يمكنه سماع «موسيقى الأجرام السماوية». خطرت هذه الفكرة لأحد الشيوخ الذين كنت قد قابلتهم. سماها بالعربية «حنين الأفلاك». وعلى الرغم من أنني درست الفلسفة الإغريقية سنوات في الجامعات الغربية، كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذا الأمر.
كان الوصي على الضريح، الذي قابلناه في منزله في البلدة وليس في الضريح ذاته، رجلا مسنا ذا لحية طويلة وروح دعابة شقية. أرشدنا إلى غرفة معيشته، حيث كانت توجد مائدة عامرة بأطباق ضخمة من الطعام على شرفنا. وأجرى مع السفيرة محادثة مازحة إلى حد ما حول وضع المرأة فيما يتعلق بانضمامهن للعمل مع رجال الدين الدرزي؛ إذ أوضح أن بإمكانهن أن يصبحن شيخات، لكن بسلطة محدودة، قبل أن يقلب الطاولة على السفيرة بسؤالها عن الكيفية التي انتهت بها الإمبراطورية البريطانية. وسأل: «هل غابت عنها الشمس؟» (عبارة «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» عبارة شائعة في الشرق الأوسط؛ لسبب ما. لدرجة أنني لا يمكنني أن أحصي عدد المرات التي اقتبست فيها تلك العبارة وقيلت لي؛ من كثرتها.)
أصبح الوصي أكثر جدية عندما سألته عن فيثاغورس. هل يمكنه أن يشرح لماذا منع الفيلسوف أتباعه من أكل الفاصوليا؟ فاندهش الشيخ. وقال إن فيثاغورس لم يفعل شيئا كهذا. وأشار إلى أطباق الطعام التي أعدتها عائلته لزوارها. وقال: «أتمنى لو أنا كنا قد أعددنا لكما طبق فاصوليا؛ حتى تريا أن الدروز مسموح لهم بأكلها!» كان افتراضه الفوري هو أنني إذا كنت أسأل عما سمح به فيثاغورس وما حظره، فهذا سؤال حول العادات الدرزية أيضا . (وردت، في مجلة درزية لبنانية نشرت مقالا عن «فيثاغورس الحكيم»، قائمة بتعاليمه التي تفسرها جميعا على أنها استعارات، وهو النهج ذاته الذي يتبعه الدروز تجاه أحكام الإسلام.) •••
إن وضع الدروز اليوم كطائفة أفضل من الإيزيديين أو الزرادشتيين. فقد تمكنوا، حتى الآن، من التمسك بأرضهم واستقلالهم، ويرجع ذلك جزئيا إلى عدم وجود جماعة دينية واحدة تهيمن على لبنان. ونجا جنبلاط حتى الآن من الاغتيال ولا يزال ذا أهمية سياسية في لبنان؛ وفي سوريا، أدى بعدهم عن المدن الرئيسية وحجم مجتمعهم المحلي إلى حمايتهم حتى الآن من أسوأ ما في تلك الحرب الأهلية التي يشهدها البلد؛ وفي إسرائيل لديهم حرية دينية، ويخدم كثيرون منهم في الجيش الإسرائيلي. إن التهديدات كثيرة. ولبنان غير مستقر، والدماء تسيل في سوريا، وإسرائيل صادرت نسبة كبيرة من أراضي الدروز لإيواء المهاجرين اليهود في البلاد. وجهل الدروز العاديين بدينهم لا يفيدهم في الحفاظ عليه في الخارج. ومع ذلك ففي كل منطقة نجح رجال دينهم وقادتهم العلمانيون في الحفاظ على وحدة مجتمعهم الداخلي وتميزه. وبعد أن رأيت مدى خطأ كارنارفون في التقليل من قيمة الدروز، عدت من المختارة وحاصبيا عازما على ألا أفعل الفعلة ذاتها.
عندما عدت إلى بيروت، دبرت لقاء أخيرا مع أستاذ درزي في الجامعة الأمريكية في بيروت يدعى سامي مكارم. دعاني إلى شقته، وعندما وصلت، قدم لي كوبا من عصير التوت الحلو. قال: «إلهنا مختلف عن إلهكم الإبراهيمي. ففي الديانة السامية يعرف الله من خلال أعماله. لكنه عندنا حال فينا ومتعال في الوقت ذاته.» يرى الدروز الله، مثل «الواحد» في الأفلاطونية المحدثة، على أنه ثابت؛ ليس السبب في وجود الكون، لكنه سبب أسباب الكون (فالواحد يسبب العقل والروح الكونيين؛ والعقل والروح الكونيان يسببان الكون). لا يمكن وصف الله؛ ومن ثم فإن الدروز يتحدثون عنه على أنه فقط «خالق الكون»، لأنه لا يمكن استخدام أي تسمية أخرى بأي درجة من الثقة.
ووفقا لفكرة الانبثاق، يؤمن الدروز أن العالم جزء من الله مثلما الحلم جزء من الحالم. وتابع مكارم: «إن انفصال المرء عن الله والتفكير في الانعزال هو شر. فالأنا موجودة في الأفراد الذين هم بطريقة ما انبثاق من الله. والأنا موجودة بالضرورة. لكن بماذا يمكننا محاربتها؟ بالحب. الحب، وقبول أننا نعتمد على النظام الكوني.» ذكرني هذا المفهوم بكلمات القديس برنارد من كليرفو: «مثلما تفقد قطرة ماء مسكوبة في الخمر، وتأخذ لون الخمر ومذاقه؛ أو مثلما يصبح قضيب من الحديد، مسخن حتى التوهج، مثل النار نفسها، متناسيا طبيعته الخاصة؛ أو مثلما لا يبدو الهواء، المشع بأشعة الشمس، منيرا وإنما ضوء بذاته؛ كذلك تتلاشى جميع المشاعر البشرية في القديسين من خلال بعض التحول الذي لا يوصف إلى إرادة الله.»
سألت الأستاذ الجامعي، هل الدروز خلفاء للفيثاغوريين؟ ابتسم لي بحذر ولم يرد. من الواضح أنه كان قد قرر أنه لا يمكن إعطاء إجابة عن هذا السؤال لشخص غير منضم للطائفة. فقد أخبرني بما يلي: «يقول هيرميس الهرامسة، مؤسس علم الفلك، إن الكشف عن حقيقة لإنسان غير مستعد لقبولها هو ثلاث خطايا في آن واحد. فهذا سيجعله يكفر بالحقيقة، ويسيء الظن بك، ويقول إن الحقيقة هراء.» في نظر مكارم، ما الذي يمكن أن يجعل شخصا ما مستعدا لقبول الحقيقة؟ هل تؤهلني دراستي للفلسفة اليونانية؟ لا يبدو ذلك. قال مكارم: «إن التكيف مع الحقيقة يستغرق أجيالا. وهذا ما يعنيه تناسخ الأرواح. فالمعرفة الحقيقية هي تذكر.» كان فيثاغورس يعتقد أنه من خلال تذكر تجسداته السابقة يمكنه أن يحشد من الحكمة ما يفوق عمره. وبالمثل، يؤمن الدروز بأنه بما أن أرواحهم تتناسخ في مجتمع المستنيرين، فهم وحدهم من يمكنهم أن يأملوا في بلوغ الحكمة الحقيقية. وهذه حقا واحدة من أفكار فيثاغورس.
الفصل الخامس
السامريون
لا بد أن أسباط إسرائيل العشرة المفقودة هم أكثر من يعثر عليهم بين جميع المفقودين. ففي القرن التاسع، ورد أنهم في شبه الجزيرة العربية. وبعد ذلك ببضعة قرون، كانوا على ما يبدو بالقرب من الهند؛ حيث أفادت إحدى خرافات العصور الوسطى بحماس أنهم كانوا في حراسة يأجوج ومأجوج وملكة الأمازونيات وكانوا يخططون لتدمير المسيحية. حتى عندما كان الأوروبيون يستكشفون قارات جديدة، رأوا الأسباط العشرة في كل مكان، وكأنهم جيش من الأشباح. واقترح البعض أنه ربما كان هذا هو الأصل الذي أتى منه الأمريكيون الأصليون؛ وسأل توماس جيفرسون عما إذا كانوا يرغبون في العودة إلى وطنهم في جبل صهيون.
أنا نفسي وجدت الأسباط المفقودة عندما كنت أعيش في القدس، بين عامي 1998 و2001. كنت هناك لغرض مختلف تماما. بصفتي موظفا سياسيا في القنصلية العامة البريطانية في القدس، كانت مهمتي الرئيسية هي إقناع الفلسطينيين بدعم عملية السلام في الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي كنت فيه هناك، بدا من الممكن التوصل إلى اتفاق من نوع ما. لم يكن ليعطي أيا من الطرفين ما كانا يريدانه بالضبط، لكنه كان سينهي دورات التمرد والقمع التي اتسمت بها التجربة الفلسطينية، وأتاح للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء فرصة العيش في قدر أكبر من السلام والكرامة.
على الرغم من أنه ثبت لاحقا أنه كان أملا زائفا، كان يعني أنه عندما وصلت إلى القدس لأول مرة في عام 1998 كان يوجد شعور بالتفاؤل، وكان من المأمون بدرجة كافية استكشاف المنطقة الرائعة التي كنت أعيش فيها. رأيت مدن إسرائيل التي تكاد تكون إعجازية، حيث تطورت الدولة، واللغة، والاقتصاد الرائد في العقود القليلة التي تلت تأسيس إسرائيل في عام 1948، في أعقاب الهولوكوست. (في الواقع وضعت اللغة، العبرية الحديثة، بدءا من ثمانينيات القرن التاسع عشر فصاعدا، كنسخة مبسطة من العبرية التوراتية على يد عالم يدعى إليعازر بن يهودا. نشأ نجل بن يهودا على التحدث بالعبرية فقط، بناء على إصرار والده، وهي قاعدة صارمة؛ لأنها كانت تعني أنه لا يمكن لأطفال آخرين فهمه. لكن في نهاية المطاف، بالرغم من الشكوك وبعض العداء، نجح مشروع ابن يهودا واعتمدت اللغة على نطاق واسع.) رأيت، أيضا، المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، التي احتلتها إسرائيل عام 1967. كان الفلسطينيون يمتلكون واحدة من أكثر الثقافات حيوية في أي شعب عربي؛ حيث ألهمتهم رغبتهم في الحرية تشكيل هوية قوية، يعبرون عنها من خلال السينما، والفن، والمسرح.
زرت مدينة نابلس عدة مرات، وهي مدينة ذات منازل من الحجر الجيري الأبيض كانت تشتهر ذات يوم بجمالها وبزيت الزيتون، وكانت على بعد نحو ثلاثين ميلا شمال القدس. جاء اسمها من الاسم الذي أطلقه عليها الرومان، نيابوليس، والذي يعني «مدينة جديدة». وكان يطلق على المدينة القديمة التي كانت موجودة في الجوار، والتي دمرها الرومان، اسم شكيم، وتعني «السرج»؛ لأنها كالسرج تماما تنخفض من المنتصف وتحدها من الجانبين سلسلة جبلية، حيث يوجد هنا جبلان يحيطان بواد. وهذان الجبلان هما جبل جرزيم غربها، وجبل عيبال شرقها. وهما قريبان بما يكفي حتى إنه كان يوما ما يمكن لحيوانات ابن آوى أن يعوي أحدها للآخر عبر الوادي بين الجبلين. يشغل موقع مدينة شكيم القديمة الآن مخيم للاجئين تابع للأمم المتحدة يسمى بلاطة، وأتيحت لي فرصة زيارته عندما مولت القنصلية مشروعا مسرحيا هناك.
في عام 1950، استقر هنا في خيام فلسطينيون من قرى قريبة مما يعرف الآن بتل أبيب، هاربين أو مطرودين من قبل الجيش الإسرائيلي المنتصر. حاليا حلت محل الخيام منازل خرسانية، وأصبح المكان ضاحية فقيرة من ضواحي نابلس، رغم أن أهلها لم يتقبلوا أبدا مصادرة بيوتهم الأصلية. أخذتني مجموعة من شبان المخيم الذين شاركوا في المشروع المسرحي في جولة في المنطقة المحلية. وتجولنا في مدينة نابلس وجربنا بعضا من الكنافة الحلوة الشهيرة، المصنوعة من الجبن وتقطر بالعسل، والتي تعد إلى جانب صابون زيت الزيتون من السلع المميزة للمدينة.
يقع بئر يعقوب على أطراف بلاطة. وسواء استخدم البطريرك اليهودي يعقوب هذا البئر أم لا، فمن المؤكد أنه يعتبر موقعا مقدسا منذ آلاف السنين. ففي الأناجيل المسيحية، طلب يسوع من امرأة أن تخرج ماء من البئر ليشرب. اندهشت المرأة، التي كانت سامرية، لأنه تحدث معها؛ لأن «اليهود لا يعاملون السامريين». يظهر الصراع ذاته بين اليهود والسامريين في مثل يسوع عن السامري الصالح: رجل يهودي يرقد جريحا على جانب الطريق، ويمر به كاهن يهودي ولاوي ويتجاهلانه (ليس لأنهما قاسيا القلب، ولكن لأنه كان محرما على الكاهن أن يلمس جثة، وخشيا أن يكون ميتا). وسامري هو الذي يساعد اليهودي الجريح، ولذلك فهو، كما يقول يسوع، من يجب أن يحبه أتباعه اليهود. وحقيقة أنه سامري هي التطور غير المتوقع في القصة؛ لأن السامريين واليهود كانوا أعداء قدامى. وكانت ممارساتهم الدينية شبه متطابقة، لكن الاختلافات في تأويل التاريخ جعلتهم في حالة حرب.
يمضي التأويل السامري على النحو التالي. في القرن الثامن قبل الميلاد، احتلت مملكتان، إسرائيل ويهوذا، قرابة أراضي إسرائيل الحديثة. وتقاتلت المملكتان، لكن سكانهما كانوا يشتركون في دين ونسل مشترك؛ لأنهم كانوا جميعا ينتمون إلى إحدى القبائل الاثنتي عشرة التي كانت تنحدر من أبناء يعقوب الاثني عشر. وكانت مملكة إسرائيل هي الأقدم بين المملكتين وكانت في الأصل موقع الأماكن الدينية المقدسة. ولكن عندما غزا الآشوريون تلك المملكة في القرن الثامن قبل الميلاد، سبي عشرات الآلاف من سكانها إلى شمال العراق. ونجت مملكة يهوذا، وأصبح سكانها يدعون اليهوذيين، ثم اليهود. وسيقوا، هم أيضا، إلى السبي في بابل، وعادوا بأفكار جديدة وتقاليد مختلفة. أما المنفيون من إسرائيل، فلم يسمع عنهم مرة أخرى، وأصبح يطلق عليهم اسم «الأسباط العشرة المفقودة».
ولكن، يقول السامريون، إن القبائل العشر لم تفقد جميعها حقا. فبالفعل رحل الآشوريون البعض، لكن آخرون بقوا. وكان تبجيل جبل جرزيم هو الوصية الأخيرة من وصاياهم العشر. وفي العقيدة السامرية، خلق آدم من تراب مجمع من جبل جرزيم. وهنا استقرت سفينة نوح، وليس على جبل أرارات، وهنا أعطي موسى الشريعة، وليس على جبل سيناء، وهنا أخذ إبراهيم إسحاق ليقدمه قربانا، وليس على جبل المريا في القدس. كان لديهم ثلاثة عشر اسما مختلفا تكريما له، مثل آر جرزيم، «جبل الوصايا»، جابات أولام، «جبل العالم»، وآر أشيكينا، «جبل مسكن الرب». وقد بنوا عليه معبدا، وفي كل عام ينصبون الخيام على قمة الجبل، ويعيدون تمثيل قربان عيد الفصح وفقا للطقوس الواردة في سفر الخروج.
لم يسموا أنفسهم يهودا، ولكن بدلا من ذلك سموا أنفسهم العبرانيين أو الإسرائيليين. كما أطلقوا على أنفسهم اسم «الشمارين»، وهي كلمة آرامية تعني «الأوصياء»؛ أصل كلمة «السامريين». اعتبر السامريون أنفسهم ملتزمين حرفيا بالتقاليد القديمة التي كان قد تخلى عنها جيرانهم الجنوبيون من اليهود. واعتبروا الهيكل اليهودي في القدس بدعة آثمة من الملك داود، وهو شخصية يكنون لها بغضا خاصا؛ وحتى يومنا هذا، لم يحمل أي سامري اسم داود. والقدس، من وجهة نظر السامريين، مدينة وثنية غير صالحة لتكون موقع الهيكل.
تتطابق النسخة اليهودية فيما يتعلق باختفاء الأسباط العشرة، لكنها بعد ذلك تتطور بشكل مختلف. فقد أقرت السلطات الدينية اليهودية بأن القبائل العشر كانت مفقودة حقا. وكان السامريون ينحدرون من نسل شعوب من أجزاء أخرى من الإمبراطورية الآشورية، واستقروا هناك مكان الأسباط العشرة (فوفقا لسفر الملوك «وأتى ملك أشور بقوم من بابل وكوث وعوا وحماة وسفروايم، وأسكنهم في مدن السامرة عوضا عن بني إسرائيل») واتبعوا فيما بعد الممارسات اليهودية. أقنع هؤلاء المستوطنون في النهاية كاهنا منشقا من الهيكل في القدس بإنشاء معبد لهم على جبل جرزيم. من الممكن أن يقبل السامريون باعتبارهم على قدم المساواة مع اليهود؛ ولكن فقط «عندما ينكرون جبل جرزيم ويعترفون بأورشليم وبقيامة الموتى»، كما يقول التلمود البابلي؛ لأنهم «يتزوجون من نساء غير شرعيات»، وهو ما يعني على الأرجح الزواج بنساء من أعراق أخرى. وطالما حافظوا على هذه العادات غير المقبولة، فلن تكون ثمة أي صلة بين اليهود والسامريين.
كان من المحتم أن يتسبب حكم التلمود في حدوث توتر، لكن الخصومات السياسية جعلت العلاقات أسوأ؛ فوفقا لنمط يعود إلى مملكتي إسرائيل ويهوذا القديمتين، تميل المجموعتان إلى دعم فريقين متضادين في صراعات السلطة الإقليمية. عندما حارب الإسكندر الأكبر اليهود سانده السامريون؛ وعندما غير الإسكندر رأيه ودعم اليهود، انتهى به الأمر إلى الدخول في حرب مع السامريين. وعندما تمرد اليهود على خلفاء الإسكندر الإغريق في الحروب المكابية في القرن الثاني قبل الميلاد، دعم السامريون الجانب الآخر؛ وانتقاما، أحرق المتمردون اليهود المعبد السامري. ولكن في أعقاب تلك الحروب، قمع اليهود وازدهر السامريون.
وبحلول زمن يسوع، ربما يكون عدد السامريين قد بلغ نصف مليون شخص تقريبا. ومع ذلك كانت العلاقات أسوأ من أي وقت مضى. في سنة 9 ميلادية تسللت عصابة سامرية إلى أورشليم ودنست الهيكل اليهودي ببعثرة عظام بشرية فيه. وفي سنة 50 ميلادية، قتل يهودي كان مسافرا من الجليل لزيارة الهيكل في أورشليم على يد سامريين في قرية في موقع جنين الحالية. وكان يسوع يكرز بين هذين التاريخين، وأخبر رسله في البداية ألا يدخلوا بلدات السامريين عندما يمضون في مهماتهم التبشيرية؛ إما لهذا السبب أو بسبب الخوف على سلامتهم. ومع ذلك، رجع في وقت لاحق عن قراره وخطط للسفر عبر الأراضي السامرية في طريقه إلى أورشليم. يظهر لقاء يسوع بالمرأة السامرية عند بئر يعقوب وحكاية السامري الصالح موقفا أكثر ودية تجاه السامريين. في الواقع، اتهم يسوع في مرحلة ما بأنه سامري. وربما لهذا السبب، اجتذبت المسيحية في وقت مبكر السامريين الذين غيروا دينهم.
ولكن ماذا حدث للسامريين بعد ذلك؟ كما اتضح، كان لدى أصدقائي من بلاطة مفاجأة لي. صعدنا طريقا ملتويا على جانب جبل جرزيم، ودخلنا قرية صغيرة على قمته. تميزت الأبنية بأحرف عبرية قديمة كخيوط العنكبوت، وكان رجل يرتدي حلة بيضاء وطربوش رجل دين لونه أحمر وأبيض يسير في الشارع. وشرح متحف صغير هوية الرجل وغيره من سكان القرية. كانت هذه القرية الواقعة على قمة الجبل، التي أطلقوا عليها اسم «اللوز»، وشارع في إحدى ضواحي العاصمة الإسرائيلية، تل أبيب، هما المكانين المتبقيين اللذين لا يزال يمكن فيهما العثور على ال 750 سامريا الموجودين في العالم.
نجا السامريون من المصير الذي تعرض له اليهود سنة 70 ميلادية عندما هزمت الجيوش الرومانية ثورة يهودية ونهبت مدينة أورشليم ودمرت هيكلها إلى الأبد، والكارثة الأسوأ التي حاقت باليهود بعد ثورة أخرى في ثلاثينيات القرن الثاني الميلادي، عندما قتل نصف مليون يهودي ونفي الباقون نفيا تاما من موطنهم. وفي الواقع انتعش السامريون في غياب منافسيهم القدامى. وذكر زعيمهم في هذا الوقت، بابا رابا، بعد ذلك في الأساطير بوصفه مصلحا وصانع معجزات. ربما يكون العمل التبشيري المسيحي قد أثار سلسلة من حركات تمرد السامريين في القرن السادس، دمر بعدها الإمبراطور جستينيان جميع معابد السامريين، ومنعهم من العمل في الحكومة ومن الانضمام للجيش الإمبراطوري، وحظر عليهم الشهادة ضد مسيحي في المحكمة، ومنعهم حتى من نقل ممتلكاتهم إلى ذريتهم. وليس غريبا أن السامريين أصبحوا معادين للغرباء؛ حيث ذكر حاج مسيحي يدعى أنطونينوس من بياتشينزا أنه عندما زار البلدات السامرية، «أخفوا آثار أقدامنا بحرق القش، وسواء كنا مسيحيين أو يهودا، كان لديهم خوف كبير من الاثنين.» وبالمثل، لا عجب في أن السامريين رحبوا بقدوم العرب المسلمين عام 637.
قد يبدو غريبا، باعتبار أن الصراع العربي الإسرائيلي أصبح يحدد العلاقة بين المسلمين واليهود، أن تلك العلاقة كانت يوما ما وثيقة ومحترمة. ففي وقت من الأوقات، كان اليهود والمسلمون يستقبلون القبلة ذاتها في صلاتهم، شطر أورشليم، قبل أن يتحول المسلمون صوب مكة بدلا منها. وعلى الرغم من أن المسلمين الأوائل حاربوا القبائل اليهودية في شبه الجزيرة العربية، فإن العديد من الآيات القرآنية تدعو إلى احترام اليهود والتسامح معهم. وعموما اعتبر المسلمون واليهود بعضهم بعضا موحدين بصورة أشمل من المسيحيين لأن كلتا المجموعتين رفضت فكرة أن يسوع هو تجسد الله، ورفضوا تصوير الله بأي صورة. أكد العالم اليهودي العظيم موسى بن ميمون (الذي عرف الإسلام من الداخل، بعد أن أجبر على ممارسته بوصفه مسلما في مرحلة ما من حياته قبل السماح له بالعودة إلى اليهودية) أن المسلمين، «في إسناد الوحدانية إلى الله؛ ليس لديهم أي خطأ على الإطلاق». فقد استقى العلماء المسلمون من العلم اليهودي عند وضع الفقه الإسلامي الأول، وكانوا يدخلون أحيانا عقوبات تلمودية بدلا من العقوبات القرآنية الأقل شدة (على سبيل المثال، انتهاج ممارسة الرجم في حالة الزنى). لم يضمن أي من هذا معاملة جيدة لليهود، الذين يمكن دائما استخدام رفضهم لاعتناق الإسلام ضدهم. وبعد الفتح الإسلامي، واجهوا تمييزا قانونيا وكانوا دائما عرضة لنوبات الاضطهاد. لكنهم ظلوا طويلا موالين لحكامهم المسلمين حتى الحملة الصليبية الأولى، عندما قاتلوا إلى جانب المسلمين للدفاع عن القدس من المسيحيين الفرنجة.
شكك الحكام المسلمون الأوائل فيما إذا كان السامريون من أهل الكتاب حقا، وفرضوا عليهم ضرائب إضافية مقارنة بجيرانهم المسيحيين واليهود. ومع ذلك، فقد استفاد السامريون من الفتح الإسلامي، حتى أكثر من اليهود. فقد كتب المؤرخ الإسرائيلي ناثان شور أن «الفتح العربي ساعد حقا المجتمع السامري الداخلي، ومنحه حرية العبادة التي لم يكن يعرفها منذ قرون وجعل ازدهار دين المجتمع السامري وأدبه في العصور الوسطى أمرا ممكنا.» تخلى السامريون عن الآرامية وبدءوا يتحدثون العربية، وابتكروا أسماء مميزة لأنفسهم (على سبيل المثال، عبد يهوه، بدلا من النسخة الإسلامية، عبد الله؛ فخلافا للنسخة اليهودية من الوصايا العشر، لا تحرم نسخة السامريين من الوصايا استخدام اسم الله).
ودون اضطهاد، ظل السامريون يعتنقون الإسلام؛ من أجل المكاسب الاقتصادية، والرقي الاجتماعي، ولأسباب دينية. لذلك استمر المجتمع في التقلص، ولم تدم المعاملة الجيدة. وأصدر الحكام المسلمون المتشددون، أحيانا تحت ضغط من رجال الدين، قوانين عقابية ومهينة تهدف إلى تشجيع السامريين على تغيير دينهم، ولم يكن بمقدور أولئك الحكام الذين كانوا ليبراليين أو ودودين أن يفعلوا أكثر من منح الإغاثة المؤقتة. وتقلصت مجتمعات السامريين في القاهرة، وغزة، وحلب، ودمشق تباعا واختفت، حتى أصبحت نابلس المكان الوحيد الذي يمكن العثور عليهم فيه. وبحلول القرن السادس عشر، عندما ظهر سامريون معاصرون في السجلات الغربية لأول مرة، كانوا يتوقون إلى العثور على أي عدد منهم قد يظل موجودا، مبعثرا في أنحاء العالم. وخدعهم عالم فرنسي يدعى جوزيف اسكاليجيه في ذلك الوقت وجعلهم يظنون أنه قد يكون هو نفسه عضوا في جماعة مفقودة منذ زمن طويل في أوروبا؛ ولذا كتبوا إليه آملين: «نسألك بحق الرب، ونستحلفك باسمه المقدس، ألا ترد طلبنا دون إجابة ... هل يوجد بينكم كهنة ينحدرن من نسل لاوي، أو هارون، أو فينحاس، أو هل لديكم كهنة على الإطلاق؟» (كان هارون، من سبط لاوي، جد جميع الكهنة اليهود في العصور التوراتية، وكان فينحاس حفيد هارون.) كانت تلك نسختهم الخاصة من أسطورة الأسباط العشرة.
على الرغم من تضاؤل عددهم، اعتبر السامريون أنفسهم ورثة لتاريخ مشرف وقديم. وفي رسالتهم إلى اسكاليجيه تفاخروا بأنه لا يزال لديهم رئيس كهنة ينحدر من نسل فينحاس (أضاف كاتب الرسالة بصيغة تنافسية: «لا يملك اليهود كهنة منحدرين من فينحاس»). لقد تذكروا، على عكس معظم اليهود، السبط الذي ينتمون إليه؛ فالكهنة السامريون مثل الكهنة اليهود، «الكوهينيم»، من نسل لاوي، بينما يرجع السامريون العاديون نسبهم إلى يوسف. وفي عشرينيات القرن التاسع عشر قال سامري يدعى إسرائيل الشلبي للمبشر جوزيف ولف إن السامريين لم ينسوا أنهم من نسل يوسف، الذي تعرض للخيانة والبيع في سوق العبيد بسبب إخوته. وقد ورث السامريون عنه مظلمته؛ ومن ثم كانوا يستاءون من اليهود، ويقول تعقيبا على ذلك: «نحن أبناؤه، لا يمكننا أبدا أن ننسى أن إخوة يوسف، أبينا، عاملوه بقسوة شديدة.»
حتى عام 1772، كانت قوانين نابلس تفرض على السامريين ارتداء أجراس في الأماكن العامة ومنعتهم من ركوب الخيول (في حالات الطوارئ، يمكنهم ركوب البغال). وكانت السياسات المحلية في نابلس عنيفة وسريعة التغير؛ حيث انتهز العديد من الديماجوجيين الفرص لمهاجمة السامريين كوسيلة لتلميع مؤهلاتهم الإسلامية. ونجح أحد هؤلاء في بدء شغب في خمسينيات القرن التاسع عشر، وأثناء ذلك أخذ بعض الرجال في الهتاف بأن السامريين يجب أن يمنحوا خيار اعتناق الإسلام أو الموت. وجاء حاخام اليهود الأكبر من القدس في الوقت المناسب ليتقي حدوث كارثة بأن صدق على أنهم موحدون حقيقيون (وهي خطوة ذات أهمية تاريخية، بالنظر إلى العلاقة السيئة التقليدية بين اليهود والسامريين).
سجل القس بليني فيسك، وهو مبشر أمريكي نشرت مذكراته بعد وفاته عام 1828، لقاءه مع السامريين: «استفسروا عما إذا كان يوجد أي سامريين في إنجلترا، وبدوا غير راضين على الإطلاق عندما أجبناهم بالنفي. وعندما علموا أنني من أمريكا، استفسروا عما إذا كان يوجد سامريون هناك. فأجبتهم بالنفي، لكنهم بثقة أكدوا عكس ذلك، وأنه يوجد الكثير منهم في الهند أيضا.» توجه رجل ويلزي، يدعى جون ميلز، كان قد علم نفسه العبرية، واللاتينية، واليونانية، إلى نابلس في خمسينيات القرن التاسع عشر. علق ميلز بقوله إنه وجد السامريين شعبا جذابا: «كمجتمع، لا يوجد شيء في فلسطين يمكن مقارنته بهم ... فهم طوال القامة ويتسمون بالرقي في المسلك.» وبعبارة ذات مغزى، أضاف أنه كان بينهم «شبه لا تخطئه عين كالشبه بين أفراد العائلة الواحدة.» وقد استمر ذلك حتى اليوم، بما في ذلك شحمة الأذن الكبيرة بشكل مميز. عندما سألوه عما إذا كان يوجد عبرانيون في بلده، ظن ميلز أنهم يقصدون اليهود وقال: نعم. ومجددا أصبحوا متحمسين بشدة لفكرة أنهم قد يجدون مستوطنة مفقودة من السامريين. لكن الحقيقة أنهم كانوا وحدهم في العالم.
كانوا يأملون في العثور على المسيا، أو التاهب، كما يطلقون عليه. كتب جون ميلز أنهم يعتقدون أن المسيا الذي ينتظرونه سوف يأتي «ليس لسفك الدم، وإنما لشفاء الأمم؛ وليس لشن الحرب، بل لجلب السلام». لقد توقعوا، لأسباب لا يوضحها ميلز، أن المسيا سيأتي في عام 1910، لكنه لم يفعل. من ناحية أخرى، كان الانتداب البريطاني، الذي دخل حيز التنفيذ في فلسطين عام 1920، نقطة تحول. فمن تلك اللحظة بدأ المجتمع في التعافي، بتشجيع من المسيحيين البريطانيين الذين كان لديهم انطباع جيد عن السامريين بسبب صلاتهم التوراتية. وقد جاء العون في الوقت المناسب؛ حيث كان المجتمع قد وصل إلى انخفاض لم يسبق له مثيل وهو 146 عضوا.
وكانوا قد استمروا عبر القرون في نسخ نصوصهم التوراتية القديمة على الرقوق، التي اعتقدوا أنها تثبت الادعاءات بأن جبل جرزيم هو جبل الرب المقدس. وتذكروا أيضا النزاع القديم بين إسرائيل ويهوذا. وعندما اقترحت إقامة الدولة اليهودية الجديدة في الأربعينيات، أوضح كاهن سامري لمسئول بريطاني بكل عزة بوصفه آخر ورثة بيت إسرائيل: «أنا لا أعادي اليهود في استردادهم مملكتهم مرة أخرى. أنا غاضب من أنهم سيستقرون على أرض ملك لإسرائيل، ولم تكن ملكا لهم من قبل مطلقا!» لم تردعه حقيقة أن عدد السامريين في ذلك الوقت كان مائتي شخص واليهود نحو أحد عشر مليونا. وكما علق كاتب الرحلات البريطاني إتش في مورتون في الآونة ذاتها تقريبا: «أظن أن السامريين يعتبرون العرب الذين كانوا موجودين هناك منذ عام 638 بعد الميلاد مجرد متطفلين!» •••
أثناء إجراء البحث المتعلق بهذا الكتاب، عاودت النظر، في عام 2012، في العناصر التي كنت قد احتفظت بها منذ كنت قنصلا في القدس. كانت بمنزلة مجموعة من الذكريات. فقد كانت توجد تذكرة لحضور قداس عيد الفصح في كنيسة القيامة، حيث نظرت إلى أسفل من قبة الكنيسة لأرى البطريرك الأرثوذكسي يجلب النار، حسب الظاهر بمعجزة، من الكشك الصغير الذي يقال إنه يئوي قبر المسيح. وكانت توجد صورة فوتوغرافية للحائط الغربي، حيث لا يزال اليهود يذهبون لينوحوا على تدمير الهيكل عام 70 بعد الميلاد على يد الرومان، الذين كانوا مصرين على القضاء على الديانة اليهودية؛ لأنها أظهرت مقاومة شديدة لحكمهم. (والحائط الغربي هو في الواقع الجسر الذي بني عليه المعبد، وليس جزءا من المبنى الأصلي نفسه.) وكانت توجد أيضا صورة لقبة الصخرة الذهبية، التي بنيت على موقع الهيكل القديم بعد الفتح الإسلامي.
وعثرت على تذكار من السامريين: نشرة إخبارية مطبوعة بأربع لغات؛ العربية، والإنجليزية، والعبرية، والخط ذاته الشبيه بخيوط العنكبوت الذي كنت قد رأيته على مباني قريتهم سنة 1998. كان هذا هو الخط السامري القديم، وهو نسخة أقدم من الكتابة العبرية. ومدون أسفل كل صفحة من الكتيب الصغير الرمز الاصطلاحي «إيه بي - ذا سماريتان نيوز [أخبار الطائفة السامرية]». سجل الكتيب أن عيد الفصح الذي أقيم عام 2001 في ذروة الانتفاضة الفلسطينية جرى بطريقة سلمية. وكان الفلسطينيون قد وافقوا على تجنب أي مواجهة مع القوات الإسرائيلية. تلقيت الشكر على تدخلي؛ فبعد زيارتي الأولى للسامريين، زرتهم عدة مرات أخرى، بما في ذلك تلك المرة التي طلبوا مني فيها تشجيع الفلسطينيين على تعليق القتال أثناء عيد الفصح.
لا يعني ذلك أنهم كانوا يواجهون أي صعوبة في التعامل مع الفلسطينيين، فكما أوردت النشرة: «تلقى السامريون، الذين نزلوا من الجبل إلى نابلس لشراء البقالة من أجل العيد، ترحيبا حارا من السكان ... فسكان نابلس يتعاملون مع الوجوه الغريبة بارتياب ... ومع ذلك ، عندما عرف الزبائن أنفسهم بأنهم سامريون، سرعان ما تحولت الشكوك إلى ابتسامة عريضة مصحوبة بالمصافحات.» أثناء قراءتي لهذه الكلمات، تساءلت عما إذا كان من المحتمل أن السامريين يمثلون شيئا أكثر روعة من أسباط إسرائيل العشرة المفقودة؛ إذ يمكن أن يكونوا جسرا بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
لذلك كنت آمل أن يشكلوا فصلا جيدا في هذا الكتاب. فأفكارهم وعاداتهم، التي تشبه أفكار اليهود وعاداتهم، ستكون مألوفة لدى معظم القراء أكثر من تلك الموجودة في فصول الكتاب الأخرى. لكن وجود هذه الطائفة، التي وصفها الباحث الإسرائيلي ناثان شور بأنها «ربما تكون أصغر مجموعة من الناس احتفظوا على مدى قرون عديدة بوعي وطني خاص بهم»، قد يساعد في إلقاء الضوء على ما يجعل مجموعة من الناس يعتبرون أنفسهم أمة. فما الذي يجعلنا نرسم الخط الخفي بيننا وبينهم؟
عندما زرت السامريين للمرة الأولى، كان الكثيرون لا يزالون يأملون في إمكانية تحقيق السلام الدائم. وبعد أكثر من عقد من الزمان، تلاشت تلك الآمال. كنت خائفا مما قد أجده إذا عدت. لكنني كنت عازما على الذهاب؛ لأنني كنت قد تلقيت دعوة. كنت قد كتبت إلى محرر نشرة إيه بي الإخبارية، بنياميم تسيداكا (التهجئة السامرية لاسم بنيامين)، آملا في أن يتذكرني من المدة القصيرة التي أمضيتها في القرية. لم يرد في البداية. لكن بعد بضعة أسابيع تلقيت رسالة بريد إلكتروني غريبة من حسابه: «سيقام قربان الفصح هذا العام ظهر يوم الجمعة، الموافق الرابع من مايو 2012.» كان موقعا على الرسالة باسم «بيني»، ويبدو أنها قد أرسلت إلى قائمة طويلة من الأطراف التي يحتمل أن تكون مهتمة. تلت ذلك قائمة قراءات من سفر اللاويين وتعليمات بشأن متى ينبغي قراءتها. وفيما يخص وقت عيد الفطير [الفصح]، أوصت الرسالة بتناول ماتزوث كوشير (فطير غير مخمر) وحرمت المعكرونة. وحتمت ضرورة أن يصلي المرء في اتجاه الشرق؛ إلا إذا كان في الهند أو روسيا، ففي هذه الحالة يجب عليه مواجهة جهة الجنوب الغربي. من الواضح أن قربان الفصح وعيد الفطير كانا عيد الفصح، على الرغم من اختلاف التاريخ السامري عن التاريخ اليهودي. (لدى المجموعتين تقويمان مختلفان قليلا، ويمكن أن يكون العيد السامري قبل النسخة اليهودية بيومين أو ما يصل إلى شهر بعدها.)
قررت أن الرابع من مايو سيكون وقتا مناسبا لزيارة بيني والسامريين. ومع ذلك، يجب أولا أن أتمكن من اجتياز سلطات الحدود الإسرائيلية. كان لدي سبب لأن أعتقد أن هذا سيكون صعبا. فجواز سفري كان يحتوي على أختام من كل دولة تقريبا يمكن أن تثير شكوكهم: العراق، وإيران، والمملكة العربية السعودية، وأفغانستان، وباكستان. كان ذلك قد تسبب في احتجازي لدى وصولي إلى مطاري شيكاغو ولندن؛ لا أستطيع إلا أن أتخيل ما سيحدث في تل أبيب ذات الوعي الأمني. ومع ذلك، فقد قضيت، قبل وقت طويل، بضعة أسابيع في تعلم العبرية، أثناء عملي في القدس. وظننت أن هذا قد يساعدني في التخفيف من حدة التوتر قليلا مع السلطات، لكنني أدركت بعد ذلك أن كل ما كنت أتذكره هو أغنية عاطفية. وشككت في أن ينجح ذلك في استمالة أي شخص.
كانت حارسة الحدود في مطار بن جوريون في حيرة من أمرها. قالت: «هل أنت قادم لعيد الفصح؟ لكن عيد الفصح انتهى.» حاولت أن أوضح أنه كان يوجد عيد فصح آخر، تحتفل به في قرية صغيرة في الضفة الغربية مجموعة تسمى السامريين، وعندما قلت ذلك، أدركت أنها لم تكن قد سمعت بهم من قبل. رافقني أحدهم جانبا إلى غرفة انتظار خاصة في زاوية من صالة الوصول، مخصصة للأفراد المشتبه بهم الذين يلزمهم استجواب مكثف. جلست على مقعد. وكانت مجموعة من النساء الفلسطينيات على المقعد المقابل لي. وبجواري كان يجلس صبي ذو بشرة داكنة له «بيئوت» (سوالف طويلة) ويضع كبة (غطاء رأس، يسمى أيضا يارمولكه) اليهود الأرثوذكس ومعه كيس ضخم من السلع الاستهلاكية عليه ملصقات باللغة العربية. أخبرني أنه من اليمن، وقد عاد لتوه من زيارة لعائلته في قرية بالقرب من عاصمة ذلك البلد، صنعاء. منذ أشهر قليلة، كان واحدا من أربعمائة يهودي متبقين في اليمن؛ وكان الآن ينتظر الحصول على الجنسية الإسرائيلية.
لحسن الحظ كان الاستجواب قصيرا؛ لأن أحد العاملين في المطار كان قد سمع عن السامريين وجاء لنجدتي. وهكذا في غضون بضع ساعات كنت قد ركبت حافلة متجهة إلى القدس وكنت أحاول أن أصف لراكبة أخرى، سائحة من الدول الإسكندنافية، المعالم السياحية التي عاودت تذكرها على الفور. خلفنا كانت مدينة تل أبيب الساحلية التي بناها مهاجرون يهود في القرن العشرين، وهنا على اليسار كانت قرية أبي غوش العربية، وأمامنا كانت القدس، «أورشليم الذهبية»، كما وصفتها أغنية إسرائيلية ناجحة من الستينيات. وكان أكثر شيء ذهبي في المدينة هو قبة مزارها الإسلامي الرئيسي. ولكن مثلما كان الحجر الأبيض لمباني القدس يعكس ضوء الشمس المتغير، كانت شخصية المدينة تتغير وفقا للزاوية التي يراها منها المرء. فهي مكان الحكومة الإسرائيلية، لكنها أيضا وجهة رئيسية للسياح المتدينين والعلمانيين على السواء؛ وجوهرة معمارية لا تزال أسوار مدينتها معلما بارزا يمكن رؤيته من على بعد أميال، لكنها أيضا مدينة حدودية، في كثير من الأحيان يجد فيها المتدينون والعلمانيون، اليهود والعرب أنفسهم في منافسة حزينة على المكان، وعلى التحرر من الخوف.
بعد وصولي إلى فندقي في ذلك المساء، اتصلت ببيني تسيداكا وسألته عن أفضل طريق للوصول إلى قرية اللوز، على جبل جرزيم. أجاب بأن المسألة سهلة؛ فكل ما كان علي فعله هو ركوب حافلة فلسطينية صغيرة من عند باب العامود، في البلدة القديمة بالقدس. وستقلني شمالا إلى مدينة رام الله في الضفة الغربية التي يسير شئونها الفلسطينيون؛ وهناك يمكنني ركوب حافلة أخرى، تحمل لوحة أرقام فلسطينية، لتقلني إلى نابلس. ومن نابلس يمكنني أن أستقل سيارة أجرة. بدا هذا مناسبا؛ إذ كنت قد ركبت حافلات فلسطينية صغيرة من قبل. ولكن كان ثمة شيء آخر أردت التحقق منه قبل بدء الرحلة. كنت أعلم أنه في بعض الأحيان كانت توجد قيود على سفر المركبات الفلسطينية في الضفة الغربية. لذلك اتصلت بالمحافظ الفلسطيني لمدينة نابلس للتأكد من أنني سأتمكن من الوصول إلى القرية. بدا المحافظ مذعورا. وقال: «لقد أغلقوا كل الطرق من أجل عيد الفصح السامري. لن تنجح أبدا في الوصول. تعال الأسبوع المقبل.» حاولت أن أقول إنني كنت قادما من أجل عيد الفصح تحديدا، لكنه كان قد أنهى المكالمة. وصرت في حيرة من أمري. لكن عندما فكرت في البدائل، أدركت أنه كانت توجد طريقة أخرى للوصول إلى السامريين.
عندما استولت إسرائيل على القدس الشرقية وما وراءها من أراض، حتى نهر الأردن، في حرب سنة 1967، كان يوجد العديد من اليهود، بما في ذلك في حكومة إسرائيل، ممن أرادوا الانسحاب في أسرع وقت ممكن. كان لدى الآخرين رؤية أكثر توسعية وأرادوا الاحتفاظ بالأراضي المحتلة. وجادلوا بأن حدود إسرائيل السابقة لا يمكن الدفاع عنها. كانت المشاعر الدينية في جانبهم؛ فقد صارت البلدة القديمة في القدس، إلى جانب ما تبقى من الهيكل القديم، في قبضة اليهود لأول مرة منذ عام 70 بعد الميلاد. تمسكت إسرائيل بذلك، ومنذ ذلك الحين اتخذت سلسلة من الإجراءات المصممة بوضوح لجعل القدس الشرقية جزءا لا يتجزأ من إسرائيل.
كما اعتقدت مجموعة من الإسرائيليين المتدينين أن بقية الأرض الواقعة بين الحدود الشرقية السابقة لإسرائيل ونهر الأردن - المنطقة المعروفة باسم الضفة الغربية - يجب أن تظل إلى الأبد جزءا من دولة إسرائيل. فأقاموا مستوطنات هناك، في كثير من الأحيان على الأراضي التي كانت إسرائيل في الأصل قد صادرتها لأغراض عسكرية. ولأن هذا كان يمثل انتهاكا لاتفاقيات جنيف، التي تحظر على سلطة الاحتلال استخدام الأراضي المصادرة للاستيطان المدني، على الفور أثارت هذه الخطوة جدلا كبيرا. كذلك جعلت إسرائيل في مواجهة مستمرة مع القرويين الفلسطينيين الذين يعيشون بالقرب من المستوطنات، بينما كان المستوطنون أهدافا سهلة للهجمات الإرهابية. ومع ذلك، فقد انضم إلى المستوطنين المتدينين آخرون جذبتهم دوافع اقتصادية؛ حيث أتيحت الأراضي الجديدة، التي وقعت قطع كثيرة منها فوق مصادر مياه قيمة وفي مواقع استراتيجية، بتكلفة منخفضة للإسرائيليين اليهود. وكان لدى المستوطنين سيارات وحافلات تحمل لوحات أرقام إسرائيلية، مستثناة من إغلاق الطرق والقيود المفروضة على تنقل الفلسطينيين. فحتى لو كانت الطرق مغلقة في وجه الفلسطينيين، فستمر هذه السيارات؛ ومن ثم كان من الواضح أنني كنت بحاجة إلى أن أستقل إحداها. توجهت إلى محطة الحافلات المركزية في القدس لمعرفة ما إذا كان بإمكاني العثور على واحدة قد تأخذني إلى أي مكان بالقرب من قرية السامريين.
كانت محطة الحافلات مزدحمة، لكن غالبية الناس فيها كانوا متجهين إلى أماكن تقليدية؛ تل أبيب، ونتانيا، وإيلات. بعد مراجعة دليل الحافلات، وجدت أن حافلات الضفة الغربية كانت في ركن خاص عند أبعد نقطة في المحطة. وكانت الحافلة، كما لاحظت عندما استقللتها، مصفحة، وكان معظم الركاب جنودا ببنادق آلية. رأى منظرو حركة الاستيطان مجتمعاتهم المحلية عودة إلى أرض كانت توراتيا ملكا لليهود، وتحديا عنيفا للإرهاب. أما من منظور الفلسطينيين، فقد مثلت المستوطنات استغلالا عنصريا للاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية، وعملية سلب تتقدم ببطء من شأنها أن تعوق طموحاتهم في إقامة دولة مستقلة. وعلى مدى السنوات كانت الاشتباكات بين المستوطنين والفلسطينيين متكررة ودموية.
اتجهت الحافلة شمالا ومرت عبر «جدار الفصل»؛ سياج من جهة، وجدار مرتفع من جهة أخرى، بني لتقليل الهجمات الإرهابية على الإسرائيليين. عزل الجدار الفلسطينيين عن القدس، مما قيد جدلا إمكانية وصولهم إلى أماكنهم المقدسة، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. على الجانب الآخر من الجدار، كنت داخل إسرائيل وخارجها في آن واحد. فقد كنت في حافلة إسرائيلية، تتجه إلى بلدة تبدو مثل أي بلدة إسرائيلية، على طريق بناه الإسرائيليون. ومع ذلك، كنت رسميا خارج إسرائيل؛ فالمنطقة التي دخلت إليها لم يكن يديرها مدنيون منتخبون بل حاكم عسكري، والأطفال غير اليهود المولودين هناك لا يحق لهم الحصول على الجنسية الإسرائيلية. كان طريق للفلسطينيين، وعر إلى حد ما ومليء بالحفر، يمضي بمحاذاة الطريق الإسرائيلي في نقاط معينة ثم يختفي. وصلتني رسالة على هاتفي الخلوي، الذي كان يبدل الشبكات تلقائيا: «مرحبا، استنشقوا رائحة الياسمين، وتذوقوا طعم الزيتون، فلسطين ترحب بكم!» لم تسمح النوافذ ذات الزجاج السميك بدخول الرائحة أو الطعم، لكن لم يكن من السهل حظر الإشارات اللاسلكية، تماما مثل الذكريات والشعور بالذنب. حتى شبكات الهاتف الخلوي الفلسطينية والإسرائيلية، بدت متداخلة ومتنافسة.
لسنوات، كان محور تركيز عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين على رسم حد بينهما. لكن الحد على الخريطة هو مجرد خط ثنائي الأبعاد، واقترح أثناء مفاوضات كامب ديفيد في عام 2000 أن ثمة حاجة إلى وضع حد ثلاثي الأبعاد. فقد كان الحرم الشريف (المعروف بالإنجليزية باسم
Temple Mount (جبل الهيكل))، الذي كان مقدسا عند المسلمين، بناء على هذا الاقتراح فلسطينيا، وكانت بقايا الهيكل اليهودي القديم تحته جزءا من إسرائيل. ربما حتى الأبعاد الثلاثية ليست كافية. فلفهم التعقيدات بين إسرائيل وفلسطين، ثمة حاجة إلى بعد رابع؛ غير مرئي بالعين المجردة، لكنه مألوف لكل من يعيش هناك: وهو التاريخ. فكل مكان في إسرائيل، والضفة الغربية، وغزة له اسم بالعربية واسم بديل بالعبرية؛ وبالمثل كل مكان له روابط وتاريخ يهودية وفلسطينية. لا تزال كلمتا «إسرائيل» و«فلسطين» غير مستخدمتين من قبل السكان لوصف دولتين منفصلتين، وإنما بالأحرى تستخدمان كاسمين بديلين للأرض التي تقع بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. ويتزايد باطراد عدد العرب، الذين يشكلون خمس المواطنين الإسرائيليين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم فلسطينيون، بينما تجعل المستوطنات الإسرائيلية التي تنتشر في أنحاء الضفة الغربية «حل الدولتين» - أي فكرة وجود دولة فلسطينية مستقلة - أقل قابلية للتطبيق مع كل عام يمر.
مدينة نابلس، التي كنت متجها إليها، معروفة للإسرائيليين باسم شكيم؛ فهذا هو اسمها التوراتي القديم. وهي مدينة بها مساجد إسلامية تاريخية ولكنها تضم أيضا أماكن مقدسة يهودية مثل قبر يوسف. وبالمثل، تشتمل ضواحي تل أبيب على مدينة يافا الفلسطينية التاريخية؛ حيث تعود أصول العديد من اللاجئين الذين يعيشون في ضواحي نابلس إلى هناك. وهذا التداخل لا يقتصر على جغرافيا الشعبين فحسب. فاللغات أيضا متداخلة؛ فعندما اخترع ابن يهودا اللغة العبرية الحديثة ولم يتمكن من العثور على الكلمات التي يحتاج إليها في الكتاب المقدس، استعاض عن ذلك بأن استعارها من العربية. واستمرت العملية منذ ذلك الحين، مع تبني الإسرائيليين للمصطلحات العامية العربية مثل «ياللا»، والتي تعني «هيا بنا»، واستخدام الفلسطينيين للكلمة العبرية «محسوم» للدلالة على نقطة تفتيش. وكذلك يرتبط الحمض النووي للشعبين. فقد خلصت دراسة نشرت في عام 2010 - مع إقصاء التأثيرات الأوروبية الجنوبية على الحمض النووي اليهودي، والتي ربما قد حدثت نتيجة لحالات اعتناق الديانة اليهودية - إلى أن «الجيران الأقرب جينيا لمعظم السكان اليهود هم الفلسطينيون، والبدو، والدروز».
حتى لو كان اليهود والفلسطينيون ينحدرون من أسلاف مشتركين، فإن اختلافاتهم الدينية قد طغت على روابط القرابة. وأصبح الشعور بالثقة المكتسب من خلال الصلاة معا ومشاركة المعتقدات مهما أكثر من الثقة المكتسبة من خلال تشارك العائلة أو القبيلة ذاتها. يوما ما حدث شيء مشابه بين اليهود والسامريين. أظهرت دراسة جينية في عام 2004 أن اليهود الكوهينيم والسامريين مرتبطون ارتباطا وثيقا؛ وهو الأمر الذي يدعم الزعم السامري بأنهم بالفعل من نسل قبائل إسرائيلية أفلتت من أذى الآشوريين.
لم يكن من السهل الوصول إلى قرية السامريين. فقد كانت المستوطنة الأقرب إلى السامريين، كما أخبرني رفاقي الركاب، هي هار براخا. وهي مستوطنة صغيرة ومتعصبة دينيا. والوصول إليها يعني ركوب ثلاث حافلات مختلفة. أوصلتني أول حافلة إلى آرييل، وهي مدينة جامعية كبيرة ولطيفة أنشأها المنظرون الأيديولوجيون في السبعينيات من أجل منع إقامة دولة فلسطينية من خلال المكوث وسط الضفة الغربية؛ وقد تمكنت منذ ذلك الحين من جذب عدد كبير من السكان، الذين أراد الكثير منهم مساكن رخيصة. تجولت في شوارعها الهادئة التي تصطف على جانبيها الأشجار، جائعا أبحث عن مركز المدينة الذي لم أتمكن من العثور عليه. تخليت عن فكرة شراء الطعام وانتظرت الحافلة التالية. كانت أقل ازدحاما من الأولى، والآن أثناء سفرنا رأيت كروم العنب والحدائق التي تعهدها المستوطنون اليهود المحليون بالرعاية في محاولة لعيش حياة توراتية أكثر أصالة. فلو كانت علاقاتهم بالفلسطينيين أكثر سلمية، ربما كانوا سيروا مشاهد توراتية في قرية فلسطينية خلال موسم حصاد الزيتون، أو في مخيم بدوي مع شيخ يجلس عند مدخل خيمته في منتصف النهار. بدلا من ذلك، كان وجودهم حدوديا بكل ما في الكلمة من معنى.
نزلت من الحافلة الثانية خارج نابلس مباشرة، عند ظلة على جانب الطريق محمية بجدران خرسانية بالقرب من محطة وقود؛ كان ذلك عند سفح جبل جرزيم الذي تقع على قمته مستوطنة هار براخا. كان العثور على أي تاريخ أو قداسة هناك أمرا يستلزم أن يمتلك المرء خيالا واسعا، لولا مجموعة الأطفال الواقفين بجانبي في انتظار الحافلة التالية. كان لديهم «بيئوت» مثل اليهود المتزمتين، كالرجل اليمني الذي تعرفت إليه في المطار، ونظروا إلى بنظرات فضولية. من الواضح أن الغرباء لا يسلكون عادة هذا الطريق. وصلت الحافلة التالية، واستقللناها - صبيان صاخبون في المقدمة، وفتيات رزينات في الخلف - صاعدين الجبل إلى مجموعة المنازل التي كانت تتألف منها هار براخا. ومن حافة المستوطنة، كان بإمكاني رؤية قرية السامريين على بعد ثلاثمائة أو أربعمائة ياردة؛ وكان يوجد طريق يؤدي إليها، تصطف الأشجار على أحد جانبيه ويمتد حقل مفتوح على الجانب الآخر. ترجلت من الحافلة وبدأت أسير.
يسمي الإسرائيليون القرية السامرية كريات لوزة، في حين أن اسمها الفلسطيني هو الطور. كان السامريون يطلقون عليها اسما ثالثا أيضا: اللوز. وفي هذا الأمر كما هو الحال في كثير من الأمور الأخرى، حاولوا بجد أن يكونوا محايدين بين الجانبين. يحمل سكان اللوز أوراق هوية من الحكومتين الفلسطينية والإسرائيلية - ويمكنهم أيضا حمل جوازات سفر من الأردن المجاورة. ومن الواضح أنهم ليسوا مسلمين، لكنهم ليسوا يهودا أيضا. وقد تمكنوا، في معظم الأحيان، من البقاء منفتحين على كلا المجموعتين. كنت قد أتيت إلى القرية لأول مرة في عام 1998 مع مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين. هذه المرة، دخلت القرية بصحبة رجل يهودي، أوقف شاحنته أمامي بينما كنت أسير وعرض علي توصيلة. كانت تتناثر على مقعده الأمامي أوراق أزاحها جانبا. وقال مازحا: «غالبا لا يأتي أحد هنا سوى أنا والرب»، وأوضح أنه بائع متجول يزور المستوطنات والبلدات الفلسطينية. وقال إن الوضع لم يكن خطيرا جدا؛ فقد أصبحت الأمور هادئة الآن.
بدت القرية ذاتها وكأنها صممت لتكون واجهة للتنوع. فقد كان بها شارع واحد فقط، حيث كان شباب القرية من المراهقين يتواصلون اجتماعيا. وكانت مجموعة من الفتيان تتحدث بالعربية؛ بعض الطلاب من جامعة نابلس يلتقون بصديق سامري. وفتيات يرتدين تنورات قصيرة جالسات على طاولة في المتجر الرئيسي ويتحدثن العبرية. كن سامريات من ضواحي تل أبيب وكن أكثر اندماجا في المجتمع الإسرائيلي (بدا ذلك واضحا من ملابسهن؛ فقد كان سكان القرية العاديون يرتدون ملابس أكثر تحفظا). خمنت أن هذه الزيارات قد تكون فرصة جيدة لهن للعثور على أزواج، حيث لا يسمح للسامريين - وخاصة النساء السامريات - بالزواج من أشخاص من خارج دينهم.
كان لدي بعض المشاكل العملية الطابع. إذ كنت قد أتيت إلى القرية دون ترتيب مكان أمضي فيه ليلتي، وكنت قد خططت للإقامة في أحد فنادق نابلس، لكن بدا لي أن القواعد الأمنية يمكن أن توقفني. لم يكن لدي أي فكرة عن المكان الذي سأنام فيه، لكنني افترضت أنه يمكنني على الأقل الحصول على بعض الطعام من متجري القرية. لكن خلال أيام التحضير لعيد الفصح تلك، لا يؤكل الخبز العادي أو يباع في القرية. وكانت أفضل الأشياء التي استطعت العثور عليها لتناول وجبة بسيطة هي علبة زيتون وعلبة جبن. أثناء وقوفي في الصف لشرائهما، رأيت مجموعة مختارة من الأكواب والقمصان تتدلى من سقف المتجر، مكتوبا عليها
Good Samaritan (أي السامري الصالح). كان هذا هو أيضا اسم مركز الاستقبال بالقرية، الذي كان مغلقا.
شققت طريقي إلى أنقاض معبد السامريين، الذي كان في أعلى نقطة في القرية. أحاط سياج بالأطلال، التي لا يزال علماء الآثار ينقبون فيها، وقد حققوا بعض الاكتشافات الرائعة هناك. عرض صبي أن يريني المكان مقابل مبلغ مادي. تركني أمر عبر البوابة، التي كان معه مفتاحها، وأراني الأساسات الصخرية لما كان يوما ما مزارا مقدسا رائعا. كان علماء الآثار قد توصلوا إلى أن هذا المعبد السامري قد بني منذ خمسة وعشرين قرنا، داخل منطقة كبيرة مسيجة مساحتها 315 × 321 قدما. كان بإمكان آلاف الزوار الصلاة في المعبد في مدة زمنية ما. وقدم العديد من الحيوانات قرابين هناك لدرجة أنه عثر على أربعمائة ألف قطعة عظام في الموقع. ونصت النقوش على أنه «بيت الرب». وتوصل كبير علماء الآثار في الموقع إلى نتيجة مثيرة للجدل مفادها أن المعبد السامري بني قبل المعبد اليهودي الأول.
من حافة السياج نظرنا إلى نابلس في الوادي بالأسفل. كان بإمكاني رؤية كنيسة بئر يعقوب. كان ليعقوب اثنا عشر ابنا، وشكل كل واحد منهم سبطا: أسباط إسرائيل الاثني عشر. سألت الصبي عن السبط الذي كان ينتمي إليه. قال: «ميناشي.» كان ميناشي أحد قسمي سبط يوسف؛ لذلك كان يوسف، الذي كان قبره ظاهرا أسفلنا، هو الجد الأكبر لهذا الصبي. وقد يكون، بالطبع، جد العديد من الأشخاص الآخرين الذين ليسوا سامريين الآن. فلا بد أن العديد من السكان المسلمين في نابلس والقرى المحيطة بها من أصل سامري. ومن المعروف أن بعض العائلات لم تعتنق الإسلام إلا مؤخرا. وانتخب أحد أفراد واحدة من هذه العائلات، وهو عدلي يعيش، رئيسا لبلدية نابلس بفارق ستة وسبعين بالمائة، بوصفه مرشحا لحماس. وادعى بيني تسيداكا فيما بعد أن أكثر من تسعين بالمائة من الفلسطينيين ينحدرون من نسل السامريين واليهود. «إذا سألت شخصا متدينا من أي من الجانبين، سيقول إن هذا هراء. ولكنها الحقيقة!» (كان بيني نفسه مدركا للتاريخ الطويل الذي ربطه بالأرض التي يعيش عليها. وفي مناسبة لاحقة، كنت معه في بريطانيا عندما سأله رجل يهودي عن المدة التي عاشت فيها عائلة بيني في إسرائيل. ولم يسمع رد بيني جيدا وقال: «مائة وسبع وعشرون سنة؟ هذا وقت طويل!» قال بيني: «لا، مائة وسبعة وعشرون «جيلا».») •••
اتضح أن منزل بيني على بعد مسافة قصيرة سيرا على الأقدام من أنقاض الهيكل. وكان نوعا ما المتحدث الرسمي باسم السامريين؛ وكانت فيلته الصيفية المريحة تستخدم أيضا مقرا لصحيفة الطائفة. كان المنزل مغطى بحجر خشن باللون الأبيض المائل للصفرة يستخدمه غالبا الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء لتغطية الأسمنت الرمادي الذي يستخدمونه لبناء منازلهم وإضافة لمسة جمالية له. عاش بيني في الطابق العلوي الذي يطل على سفح التل. وبالإضافة إلي استقبل هنا عددا لا حصر له من الزوار - حاخاما، وزوجين مسيحيين إنجيليين، وطاقم تصوير فيلم - وأجاب عن جميع أسئلتنا. كانت أسئلتي تتعلق بمعتقدات السامريين. يرفض السامريون النصوص الدينية اليهودية مثل سفري دانيال وإشعياء؛ فعندهم، لا يوجد نظير لأسفار موسى الخمسة (أسفار العهد القديم الخمسة الأولى، التي تسمى أحيانا بالتوراة). والتوراة السامرية تختلف قليلا عن التوراة اليهودية. وكما ذكر سابقا، لا تتضمن النسخة التي تحويها من الوصايا العشر أي حظر على النطق باسم الرب باطلا، ولكنها تتضمن وصية لبناء مذبح على جبل جرزيم. يزعم بيني أن التوراة السامرية هي النسخة الأكثر مصداقية. ويرى أن قومه قد حافظوا على النص بشكل أفضل على مر القرون؛ لأنهم بقوا في مكان واحد، ونسخوا بدقة الكتابات المقدسة الثمينة من المخطوطات القديمة إلى المخطوطات الجديدة.
لكن الاختلاف الأكبر في الشعائر بين السامريين واليهود يأتي من رفض السامريين لجميع التقاليد اليهودية التي نشأت بعد كتابة التوراة. فعلى سبيل المثال، بما أن التوراة لا تطلب صراحة من الرجال تغطية رءوسهم طوال الوقت، فإن السامريين لا يرتدون «الكبة» عموما، كما يفعل اليهود الأرثوذكس، ولا ترتدي النساء السامريات الشعر المستعار أو الحجاب لتغطية شعورهن. ونظرا إلى أن التوراة تأمرهم بأن يقدموا الحملان قرابين في عيد الفصح وأن يضعوا دمها أعلى إطارات أبوابهم وعلى جوانبها، فهذا هو ما يفعلونه بالضبط؛ كما سأرى لاحقا. ولا يحتفلون بعيدي البوريم والحانوكا اليهوديين، اللذين ظهرا بعد تاريخ نزول التوراة.
وكذلك يرفضون أي إجراءات يهودية للتخلي عن قواعد التوراة أو تخفيفها. ويحافظون على التقاليد القديمة للكهنوت. وعندما كان الهيكل اليهودي قائما، كان يخدمه الكهنة، الذين كان يقودهم رئيس كهنة. ولا يزال يوجد في اليهودية دور لكهنة سبط لاوي بالوراثة، الكوهينيم؛ فهؤلاء، على سبيل المثال، يقدمون البركة الكهنوتية في الصلاة اليهودية الأرثوذكسية، ويحظر عليهم القانون اليهودي الزواج من النساء المطلقات أو اليهوديات اللاتي كن يعتنقن ديانات أخرى. ومع ذلك، فهم لا يقدمون القرابين، واستحوذ الحاخامات إلى حد كبير على دورهم القيادي في المجتمع اليهودي. لكن عند السامريين لا يزال دور الكهنة كما كان منذ ألفي عام. أخبرني بيني أنه يوجد ثمانية وعشرون رجلا سامريا من الكهنة، وهم رجال راشدون من عائلات تدعي انحدارها من نسل لاوي. وهم يشرفون على عمليات الختان، وقراءات التوراة، والخطبة، والزواج، والطلاق (أكد لي بيني أن الطلاق «نادر جدا، حيث يحدث خمس مرات في المائة عام»)، ويقودون الصلاة. كما أنهم يقدمون حيوانات قرابين مرة في السنة في عيد الفصح. ويلعب رئيس كهنة السامريين دور المحكمة العليا في الشئون الدينية.
الرجال السامريون، مثل الرجال اليهود الأرثوذكس، لا يلمسون زوجاتهم أثناء مدة الحيض. وتتضمن القواعد السامرية ما هو أكثر من ذلك إلى حد ما؛ فحتى الأشياء التي تلمسها المرأة الحائض تعتبر غير نظيفة؛ مما يعني أنه يجب عزلها تماما. أوضح بيني: «للمرأة أثناء مدة الحيض غرفة خاصة، حيث تقيم فيها مدة سبعة أيام. وبعد ولادة ذكر، تفصل مدة أربعين يوما، وبعد ولادة أنثى، تكون المدة ثمانين يوما. لا يسمح باللمس، لكن يسمح لها بالتحدث؛ وتجلس على طاولة أخرى.» وعلى حد زعمه: «لكن الفائدة الكبرى هي أن يقوم الزوج بواجباتها في المنزل! فالأسرة تساعدها. وهذا يقلل من الإجهاد الطبيعي.» وفي نهاية هذه المدة، تأخذ المرأة حماما شعائريا لتطهير نفسها.
يبدأ السبت السامري من غروب شمس يوم الجمعة حتى غروب شمس يوم السبت، تماما مثل السبت اليهودي؛ ولكن بتشدد أكبر. وهم لا يصلون في تشددهم إلى درجة تشدد الإسينيين، وهي طائفة يهودية متشددة فرض أتباعها على أنفسهم قاعدة (مؤلمة بالتأكيد) تقضي بأن لا يتغوطوا يوم سبتهم. لكن السامريين لا يستطيعون إشعال النار في يوم السبت، وفي زمان الشموع والفوانيس كان هذا يعني الجلوس في الظلام؛ وعلى عكس اليهود، لا يجوز لهم أن يطلبوا من أشخاص من خارج دينهم أن يضيئوا لهم الشموع. وكتبوا في رسالتهم إلى اسكاليجيه في القرن السادس عشر أنهم يعاشرون زوجاتهم يوم السبت. ولم يتركوا منازلهم إلا للصلاة. وحتى اليوم، لا يخرج السامريون من القرية يوم السبت، ولا يدخنون في ذلك اليوم أيضا. ولا يزالون يرتدون يوم السبت ملابس يعتقدون أنها تحاكي تلك التي كان يرتديها اليهود الذين شاركوا في الهجرة الجماعية التوراتية من مصر. أخبرني بيني أنه كان يرتدي هذه الملابس في أيام السبت حتى عندما كان طالبا في الجامعة العبرية.
وأخبرني بيني أن السامريين كان يتعين عليهم العيش في أرض إسرائيل، التي يفسرونها بأنها تشمل مصر. (في الواقع، كان السامريون يعيشون على الجزر اليونانية في القرن الثاني قبل الميلاد، ولكن جرى تشديد للقواعد منذ ذلك الحين.) يستطيع بيني السفر إلى الخارج، وهو ما يفعله لحضور المؤتمرات، ولكن لا يجوز له أكل اللحوم من خارج الطائفة؛ فاللحم ليس حلالا للسامري ما لم يذبح الحيوان على يد سامري بما يتفق تماما مع تعاليم سفر التثنية، التي تطالب بتقديم ساق الحيوان اليمنى الأمامية لكاهن. ومع ذلك، يمكن أن يأكل بيني طعاما نباتيا في مطعم حلال أو كوشير (أي طعاما معدا حسب تعاليم الشريعة اليهودية).
بالإضافة إلى ذلك، حدث بيني معرفتي بتاريخ السامريين. فعائلته كانت تمتلك تاريخا طويلا من الشعراء والرواد. فجده الأكبر غادر نابلس عام 1905 وأسس مجتمعا ثانيا من السامريين في يافا. كانت يافا مدينة ساحلية تضم الكثير من الجنسيات وبها طائفة يهودية كبيرة، مقارنة ببعد نابلس واتجاهها المحافظ، ووفرت فرص عمل أكثر تنوعا. وكان هناك أيضا المزيد من شركاء الحياة المحتملين في هذه المدينة حيث كان يعيش الكثير من اليهود. وبسبب تقلص عدد العرائس السامريات المتاحات - لأسباب لم تحدد بشكل قاطع، كانت الطائفة تعاني لعدة أجيال من نقص عدد المواليد الإناث - قرر ابنه يفيت إتيان أحد المحرمات القديمة وهو: الزواج من امرأة يهودية. (كان من أقنع يفيت بذلك هو رئيس إسرائيل المستقبلي، إسحاق بن تسفي، الذي كان قد أصبح مهتما بالسامريين عندما التقى والد يفيت الذي خاطبه بالعبرية القديمة.)
نجح يفيت رغم كل الصعاب. وتزوج امرأة يهودية من روسيا اسمها ميريام. كان بيني حفيدهما. وأثناء جلوسه على أريكة غرفة معيشته بينما كانت زوجته تحضر العشاء، أشار بفخر إلى رأسه ذي الشعر الأبيض المجعد بشدة الشبيه برأس أينشتاين - الذي ورثه من الجانب الروسي من عائلته، على حد قوله. وقال لي : «إذا سألتني، فهذا يجعلني أيضا أكثر هدوءا»، وأظن أنه كان يقصد أكثر صبرا. لكن لماذا كان لدى السامريين قاعدة تمنع الزواج من خارج طائفتهم؟ كان أحد الأسباب هو حمايتهم من التورط مع طوائف أقوى. ففي الشريعة الإسلامية (والتقاليد السامرية أيضا) يأخذ أطفال الزوجين ديانة الأب. والمرأة التي تتزوج من خارج طائفتها تأخذ معها أطفالها المستقبليين أيضا، وتحرم رجلا أو آخر في تلك الطائفة من عروس محتملة. لذلك حاولت (وتحاول) الطوائف في الشرق الأوسط أن تمنع نساءها من الزواج من رجال من ديانات أخرى؛ باستخدام العنف في بعض الأحيان. وحتى وقت قريب، كان من شأن استفزاز طائفة أخرى من خلال زواج الرجل السامري، وهو عضو أصغر أقلية في المنطقة، من إحدى نسائها؛ أن يعرض جميع السامريين للخطر. وكان من شأن زواج امرأة سامرية من خارج طائفتها أن يعني ببساطة أن الطائفة سوف تتضاءل. ويضمن الحظر المفروض على الزواج من آخرين بقاء ثقافة السامريين وسلالتهم، وعدم تأثرهم بالثقافات الأوسع نطاقا التي تحيط بهم. بالإضافة إلى ذلك، يقدر السامريون سلسلة نسبهم باعتبارها رابطا وثيقا بأسلافهم التوراتيين.
سألت بيني عما حدث لجدته. قال إن السابقة لم تمر دون إثارة بعض الجدل والخلاف. «فالشيوخ لم يعترفوا بها في البداية.» أكمل ضاحكا: «لكنهم قبلوها بعد أن أنجبت ست بنات.» فقد كانت البنات أكثر ما يحتاج إليه السامريون. وأصبح الزواج المختلط أكثر شيوعا بين السامريين في يافا على وجه الخصوص. فقد تزوج بيني ذاته من يهودية من أصل روماني كانت قد قبلت عادات السامريين الخاصة عندما تزوجته. قال بيني: «من العنصري بعض الشيء أن تسأل عن أصلك: «هل أنت يهودي أم مسيحي؟» لقد تغيرت لتنضم إلينا. وأصبحت إسرائيلية مثلنا.» أكمل حديثه قائلا إن في هذه الأيام، كان نحو خمس وعشرين بالمائة من زيجات المجتمع بين رجال سامريين ونساء غير سامريات، معظمهن يهوديات. بعضهن كن من أوروبا الشرقية. وجاءت اثنتان من عائلات مسلمة في آسيا الوسطى.
فيلم وثائقي عن السامريين أجريت في مقابلة مع امرأتين أوكرانيتين تزوجتا من رجلين سامريين - ويبدو أنهما تكيفتا جيدا مع الحياة في مجتمعهما الجديد - وأجريت فيه أيضا مقابلة مع أحد أفراد الأسرة الكهنوتية الذي لم يعجبه هذا التوجه الجديد. وقال: «عندما نتبنى نساء أجنبيات وندخلهن في أمتنا، فهذا يجعلني أشعر بالخوف على المستقبل، وبالخوف من ألا نكون قادرين على السيطرة عليهن. فأمتنا، التي احتفظت على مدى 3642 عاما بتقاليدها وعاداتها الفريدة، يجب أن تستمر في الاحتفاظ بها في المستقبل، وإلا ستنزلق إلى هاوية الفوضى.»
في الوقت ذاته، تعتبر الزيجات بين النساء السامريات والرجال غير السامريين من الأمور المحرمة أشد التحريم. تناول فيلم وثائقي ثان، أنتج عام 2008، معاناة امرأة سامرية، هي صوفي تسادكا، التي نبذتها الطائفة لرفضها قواعدها وزواجها من رجل يهودي. (وهي ممثلة بارزة في التلفزيون الإسرائيلي.) في إحدى المقابلات، لم يظهر الرجال السامريون أي تعاطف معها. وعلق أحدهم أنه لو كانت أخته تنوي الزواج من خارج الديانة وترك عقيدتها: «سأقول حسنا ... ولكن عندما تخلد للنوم في الليل، ستنتهي حياتها. مثلما تذبح الشاة.» لا يوجد دليل على أن أي امرأة سامرية قد قتلت بالفعل لهذا السبب، لكن هذه السلوكيات القاسية هي التي حمت الطائفة من الاندماج في طائفة أخرى على مر القرون؛ إنها الجانب المظلم من الدفء والروح الجماعية التي أظهرها السامريون والتي افتقدتها صوفي بوضوح في الفيلم الوثائقي.
يتسم السامريون بأنهم تقليديون صارمون - ولو لم يكونوا كذلك، لما ظلوا موجودين - لكن بيني، مثل جده، كان يبحث عن طرق جديدة لتفسير التقاليد القديمة لعقيدته. وكان من ضمن أفكاره نشر رسالة السامريين وطريقة حياتهم حتى يتمكن غير السامريين من تقليدها. وفي عام 1864، نشر جون ميلز مجموعة من الجداول التي كان كاهن سامري قد أرسلها منذ عدة عقود إلى الطائفة في إنجلترا. كانت نسخة سامرية من أسطورة الأسباط المفقودة، وتتسم بالقدر نفسه من البؤس. قال ميلز إنه أضاف المخطط من أجل الأهمية التاريخية؛ «لأنه، على الأرجح، الوثيقة الأخيرة من نوعها التي سيعدها كاهن سامري على الإطلاق.» وكم كان مخطئا. فبيني الآن يعد مخططات مماثلة ويرسلها حول العالم إلى الأشخاص الذين يريدون اتباع أسلوب حياة السامريين. «إنها ظاهرة جديدة للأشخاص الراغبين في الانضمام إلى الطائفة؛ عزابا، وعائلات، وقبائل. فأنا على اتصال بالآلاف منهم عبر الإنترنت. لكني لا أومن بضم الآلاف على الفور. لذا نقبل عائلة واحدة تلو أخرى. فهم يريدون العيش وفقا للتوراة. ويرسلون لي الكثير من الأسئلة وأرسل لهم كتبا. ويجدون الأمر مثيرا. فهم من جميع أنحاء العالم؛ الهند، الاتحاد السوفييتي السابق، أوروبا، أمريكا، أستراليا، البرازيل. وبعضهم من اليهود.»
أدركت أن الرسالة الإلكترونية الجماعية من بيني كانت توجيها لأولئك الذين يتطلعون إلى انتهاج أسلوب حياة السامريين. وتوضح رسائل البريد الإلكتروني هذه أي من قراءات من التوراة السامري يتوافق مع أي تواريخ سبت في التقويم، وتوضح أيضا تواريخ الاحتفال بالأعياد السبعة للسنة السامرية. تشمل هذه الأعياد الشبوعوت، عندما يحج السامريون حول أماكنهم المقدسة على جبل جرزيم (على سبيل المثال، الأماكن التي يعتقدون أن آدم، وإسحاق، ونوحا قد قدموا فيها قرابين لله)؛ وصيام يوم كيبور (يوم الغفران)، حيث تستمر صلاة السامريين لمدة أربع وعشرين ساعة دون انقطاع؛ وعيد سوكوت (عيد العرش)، وهو عيد للحصاد يحتفل به السامريون بتزيين منازلهم بالفاكهة (على عكس اليهود، الذين يبنون ظلة في الهواء الطلق، يحتفل السامريون بالسوكوت بالكامل داخل بيوتهم). قد تحتوي غرفة المعيشة لعائلة سامرية عالية الهمة بشكل خاص على رمان، وتفاح، وليمون، بأحجام كبيرة، بالإضافة إلى ما قد يصل إلى نصف طن من الفاكهة التي تتدلى من السقف فوق رءوس المحتفلين بالعيد، بعد ربطها بسعف النخيل وأغصان الصفصاف. يجلس السامريون تحت هذه الكمية الكبيرة من الفاكهة، يشربون الجعة المصنوعة في المنزل ويأكلون الكعك واللوز المنقوع في الماء.
جاء بالفعل عدد قليل جدا من متابعي بيني عبر الإنترنت للعيش في القرية. «لا يتعين عليهم الانضمام بأنفسهم. يمكنك أن تعيش حياة سامرية في المنزل. وإذا أرسلوا ممثلا، فإنني أستضيفه. فالناس يبحثون دائما عن شيء يمنعهم من الشعور بالملل. ولكن من دواعي اعتزازنا أن يعتبرنا الناس من أهل الحق.» وبقدر ما أعلم، فقد احتل بيني مكانة فريدة في طائفته المكونة من 750 شخصا فقط. لكن عندما سألته من الذي سينشر الصحيفة، ويحضر المؤتمرات، ويبحث في تاريخ السامريين عند رحيله، ابتسم وقال: «عندنا مثل يقول: يخلق الله بديلا في كل جيل. أظن أنهم سيعثرون على مجنون مثلي في كل جيل.»
حتى الآن، جاءت عائلة واحدة كان بيني قد راسلها لتعيش في اللوز. كانوا أمريكيين، وكانوا في السابق يعتنقون المسيحية. زار أحد أفراد العائلة، يدعى ماثيو، بيني أثناء وجودي هناك، وأتيحت لي فرصة التحدث معه. قال لي ماثيو: «كان اهتمام والدتي بالعهد القديم يتزايد باطراد.» تساءلت والدته، شارون، عن سبب عدم التزام المسيحيين بالشريعة اليهودية؛ وبسبب رغبتها في الالتزام بها على نحو أوثق، وأثناء بحثها على الإنترنت عن المعلومات، صادفت اسم بيني. «منذ ست إلى ثماني سنوات زارنا بيني، وبدأنا ببطء في فعل كل ما يفعله السامريون. بدءا من فصل النساء أثناء مدة الحيض، إلى عدم الخروج من الحي يوم السبت، وما إلى ذلك. ودعا رئيس الكهنة المسن شارون للمجيء إلى الطائفة والانضمام إليها؛ لذلك بحثت عن برامج دراسات دينية وقبلت في الجامعة العبرية.»
بعد ثماني سنوات من أول لقاء مع السامريين، كان ماثيو في منزل بيني يستعد لقربان عيد الفصح. لم يواصل أفراد عائلته الآخرون المسيرة؛ فقد حاد إخوة ماثيو عن الطريق بعد أن سئموا من الحاجة إلى حضور الصلوات المنتظمة في الكنيس، وانتقلت شارون إلى القدس. وعلى الرغم من ذلك، دعي ماثيو، قبل عامين من زيارتي، للانضمام إلى احتفال الطائفة بعيد الفصح ولتناول لحم الحملان التي قدمت قرابين، وكان هذا يعتبر من أسمى علامات القبول. قال: «تعيش العائلات معا، وهذا ما أحبه في الطائفة.» ومن الناحية العملية، سيساعده بقاؤه بين السامريين في تعلم اللغتين العبرية والعربية، وهو ما لم يفعله بعد، لكنه خطط للاضطلاع بتلك المهمة، ثم دراسة الأعمال التجارية والاستقرار بشكل دائم في الحي الآخر للطائفة، في تل أبيب، بوصفه أول سامري أمريكي. (في العام التالي، سمعت أنه تخلى عن هذه الخطة وعاد إلى أمريكا. منذ ذلك الحين لم يحذ أي غريب آخر حذوه بالقدوم للعيش في القرية.)
أخذني بيني في جولة بالقرية بعد ظهر ذلك اليوم، موضحا الكيفية التي كانت العائلات تستعد بها لعيد الفصح. لاحظت أنه كان يتجول ببساطة في منازل الآخرين، دون الحاجة حتى إلى قرع الجرس أو الاستئذان. في مخزن بالطابق السفلي لأحد المنازل، حيث كدست أسرة الأطفال وعرباتهم على الحائط لتوفير مساحة، كان رجل يحمل الاسم العربي غيث (اسمه العبري موشيه) يفرد العجين، المصنوع من الدقيق والماء فقط، على صفيحة معدنية مقوسة ساخنة تسمى «الطابون». كانت يلزم تحضير مخزون كبير؛ فكما هو الحال في التقليد اليهودي، لا يمكن تناول شيء إلا الفطير غير المخمر خلال أيام عيد الفصح السبعة، التي كانت على وشك أن تبدأ. وزع علينا بيني بضع قطع من الخبز الساخن، الهش، عديم النكهة. في المدة التي سبقت عيد الفصح وخلاله، كان من المتوقع أن يتولى الرجال مهام الطبخ وغيرها من المهام. جلست زوجة غيث على مقربة، ومزاجها سيئ بعض الشيء. وقالت بالعربية: «أتولى الطهي 364 يوما في السنة، ولا أحد يأتي لالتقاط صور لي وأنا أفعل ذلك. وهو يفعل ذلك يوما في السنة ويظن الجميع أنه أمر مذهل؟!»
كان ثمة التزام سامري آخر لم أكن قد رأيته بعد، لكنني تلقيت مقدمة مكثفة عنه في صباح اليوم التالي. رحت في غفوة متقطعة في قاعة الضيوف حيث أجلسني السامريون، واستيقظت على صوت غريب، همس قوي يتردد في الغرف الفارغة حولي. كان واضحا أنه لم يكن أي نوع من المحادثات أو المناقشات؛ لأنه كان نحو ثلاثين صوتا يتحدثون بلا انقطاع، ولكن بلا تناغم. لبضع دقائق لم أتمكن من معرفة مصدر هذا الصوت. ثم أدركت أن قاعة الضيوف كانت بجوار الكنشا، أي الكنيس السامري. ذهبت لأرى ما كان يحدث. وعند مدخل «الكنشا» تعين علي أن أخلع حذائي وأضعه في غرفة خارجية؛ فمثلما خلع موسى حذاءه عند تلقيه الناموس على جبل سيناء (أو جبل جرزيم، حسب العقيدة السامرية)، كذلك يخلع السامريون أحذيتهم في حضرة ذلك الناموس.
كانت غرفة الصلاة جهة الشرق، وكان محراب في أحد طرفيها مغلقا بستارة صفراء، وأمامه جلس رئيس الكهنة ذو الرداء الأبيض وأخوه. كانت هناك ساعة صغيرة وبجانبها مينوراه، الشمعدان السباعي، على الحائط المطلي باللون الأبيض، وكانت الثريات ومراوح السقف معلقة بالأعلى. شيد المبنى في ثمانينيات القرن الماضي، ولكن المحراب كان يضم لفائف رقية مكتوبة منذ قرون، ربما حتى من آلاف السنين. أطلق عليها ميلز اسم «مبتغى العلماء الأوروبيين ومبعث يأسهم»، وكاد إصراره على رؤيتها «أن يتحول إلى حمى». عندما اطلع عليها في النهاية، وجد كتابة على إحداها تزعم أن الوثيقة كتبت في العصور التوراتية. كان هذا مستبعدا - فحتى الورق الرقي لن يصمد كل هذه المدة الطويلة - ولكن ربما نسخت من وثيقة من تلك الحقبة. توجد لفائف عمرها سبعمائة عام في المكتبة البريطانية اشتريت من السامريين في القرن التاسع عشر. وفي المواضع التي تحتوي فيها اللفائف على صلوات، يكون الرق داكنا وباليا في الأماكن التي لمسها الكاهن وهو يتلو تلك الصلوات.
حافظ السامريون بعناية على مر الأجيال على لفائفهم القديمة، التي تسجل توراة تختلف إلى حد ما عن التوراة اليهودية. في هذه الصورة الملتقطة عام 1905، يعرض كاهن سامري واحدة من هذه اللفائف للزوار المهتمين. صورة مجسمة من معرض «مشاهد لفلسطين» (1905)، معهد جيتي للأبحاث.
كان صوت الهمهمة القوي، الذي كنت قد سمعته، صادرا من جميع الذكور السامريين في القرية، الذين كانوا يرتدون جلابيب قطنية رقيقة تصل إلى أقدامهم، مجتمعين في هذه الغرفة ويتلون الصلوات، كل في وقته وبإيقاعه الخاص، مستخدمين كلمات مختلفة، دون أي تناغم. بين الحين والآخر كانوا يتوقفون ويسجدون على أيديهم وركبهم ويلمسون الأرض بجباههم. يغطي السامريون رءوسهم في وقت الصلاة، كما يفعل بعض اليهود المتدينين في جميع الأوقات بالكبة. كان لدى السامريين ثلاثة أنماط مختلفة من أغطية الرأس؛ قبعة صلاة بيضاء مثل تلك التي يلبسها المسلمون، وطربوش أحمر، وبيريه أسود. فضل السامريون الذين كانوا يعيشون في تل أبيب البيريه؛ إذ كانوا يتبعون الموضات الأحدث قليلا. وقد أحدث هذا التأثير تغييرا غريبا. فالسترة الصوفية التي يلبسها رجل فوق جلباب وطربوش أحمر تجعله يبدو كأنه خرج من كتاب عن الإمبراطورية العثمانية؛ أما الرجل الذي بجانبه، الذي يرتدي معطفا واقيا من المطر وبيريه، فيبدو كأنه فنان فرنسي.
يصلي السامريون صباحا ومساء مدة أسبوع قبل عيد الفصح؛ وفي أيام السبت العادية، يصلي الناس إما في البيت أو في الكنيس. وكانت الصلوات عبارة عن مقتطفات من التوراة السامرية مختلطة بقصائد دينية كتبها السامريون على مر القرون. وبدا أن معظم الناس يعرفونها عن ظهر قلب، لكن مراهقا واحدا يضع نظارة كان يقرؤها من كتاب؛ وفي الخلف، كان الأطفال الصغار أقل مشاركة، وغلب النعاس أحدهم في الزاوية، وسقط طربوشه على أحد الجانبين. طلب مني زملاؤه في المدرسة، ضاحكين، أن ألتقط صورته. كان هذا أقصى ما يمكن أن يفعله المراهقون للتمرد على الوضع. فيبدو أن عدم الحضور للصلاة على الإطلاق كان أمرا غير وارد. أخبرني أحد المراهقين، الذي كان يحرص على التحدث بين الصلوات، قليلا عن عائلته: كان لديه ابن أخ ستلطخ جبهته بدماء القربان في ذلك اليوم؛ وفقا للتقاليد، باعتباره الابن البكر لعائلة كهنوتية، وكان ابن أخ آخر يدرس علوم الكمبيوتر ويريد الخدمة في الجيش الإسرائيلي. كان الصبي يقطع قصة حياته بين الحين والآخر ليسجد مع الآخرين.
في وقت لاحق من ذلك الصباح، بعد الصلاة، تجولت في الشارع الرئيسي. وقرب نهايته كان يوجد متجر لبيع الجعة والويسكي، يديره رجل سامري يدعى جميلا. جلسنا وشربنا القهوة وتحدثنا قليلا؛ وانضم إلينا بعض الرجال الآخرون من القرية ونظروا إلى الصور التي التقطتها. سألوا بارتياب عن سبب التقاطي صورا للصبي النائم. هل كنت أحاول السخرية منهم؟ قوطعت محادثتنا عدة مرات بمكالمات هاتفية، من فلسطينيين في نابلس يطلبون طلبيات، بعدها ينطلق جميل لتجهيز بعض التوصيلات.
قال: «كان يوم أمس منهكا. كنت أعد الفطير غير المخمر للعائلة. إنها حقا عائلة كبيرة!» كان والده كاهنا، واحتلت صورة ضخمة لمراسم قربان عيد الفصح مكان الصدارة على أحد جدران المحل. سألته عن أحوال السامريين. قال: «أنا قلق بعض الشيء.» كان يوجد سلام في نابلس في الوقت الحالي، وهو أمر جيد، لكنه قد لا يدوم. «لا بد أن تبقى الأشياء كما هي. فالانتفاضة كانت سيئة لكلا الطرفين، الفلسطينيين والإسرائيليين. أما الآن فقد أصبح الوضع هادئا وآمنا. نحن بحاجة إلى نابلس؛ إذ نأتي بكل شيء من هناك، كل طعامنا.» وكان بها كذلك العديد من السامريين الذين يمتلكون متاجر وممتلكات أخرى. فقد عاش السامريون في نابلس حتى أواخر الثمانينيات، عندما أخافتهم الانتفاضة الأولى ودفعتهم إلى الانتقال إلى قريتهم المنفصلة.
كثيرا ما كان ياسر عرفات يتباهى بأن السامريين عوملوا معاملة طيبة في ظل الحكم الفلسطيني، مما يشير إلى أنها قد تكون مقدمة للسيادة الفلسطينية على الضفة الغربية، التي ستكون في الوقت ذاته مفتوحة لليهود. وأنشأ مقعدا مخصصا للسامريين في البرلمان الفلسطيني. فاز والد جميل في الانتخابات اللاحقة، في الغالب بسبب أصوات المسلمين؛ فقد كان معروفا في نابلس، حيث أكسبه متجر الجعة والويسكي الذي يمتلكه العديد من الأصدقاء.
كان والد جميل متمسكا بتقاليد السامريين العريقة المتمثلة في تقديم النصح للحكام المسلمين. وعلى الرغم من أن المجتمع في القرون الماضية كان ضعيفا ومحروما بشكل جماعي، فإنه غالبا ما كان أفراده يفضلون على غيرهم لشغل مناصب حساسة؛ لأنهم لم يكونوا يتدخلون في المنافسات القبلية القاتلة التي أدت إلى انقسام المسلمين المحليين. ومع ذلك، يمكن أن تجعل هذه المنافسات الناصح السامري عرضة للخطر. كان رجل يدعى يعقوب الشلبي سامريا غير عادي: أظهر حبا مبكرا للمال والمغامرة، حيث قبل المال من أحد المبشرين لينزل في بئر يعقوب ويستعيد الكتاب المقدس الذي أسقطه أحد الزائرين. ولاحقا سافر إلى إنجلترا (فعل ذلك مخالفا، على الأرجح، قواعد السامريين) وكتب مذكراته في عام 1855. وسجل فيها التجارب التي خاضها عمه الأكبر بوصفه أمين خزانة لحاكم نابلس، خلال المرحلة التي استولت فيها على الحكم إحدى الجماعات المنشقة، ثم حلت أخرى محلها. تلقى هذا العم الأكبر تهديدا بالقتل، وسجن ، وحكم عليه بالإعدام؛ لكنه هرب، أو أطلق سراحه، أو منح إرجاء تنفيذ. وتمكن من أن يؤدي خدمات لكل من العائلات المتحاربة المتنافسة تباعا. لقد نجا، لكن شعره شاب قبل الأوان.
انتهى ترحيب عرفات بالسامريين في المشاركة السياسة في نابلس بشكل ألطف. إذ ألغي المقعد المحجوز لهم، مما جعل المجتمع المسيحي الأكبر هو الأقلية الوحيدة التي تملك مقاعد محجوزة في البرلمان الفلسطيني. بينما كنت جالسا مع جميل وانضم إلينا عدد قليل من القرويين الآخرين، سألت إذا كان السامريون قد شعروا بالإهانة. أجابوا جميعا في آن واحد: لا؛ في الواقع، لقد شعروا بالارتياح. فمشاركة الطائفة في السياسة لم تتسبب إلا في مشاكل، وهم يفضلون أن يكونوا محايدين.
قد يكون من الصعب الحفاظ على الحياد، خاصة في حالة طائفة تمثل أقلية ضعيفة. ومع ذلك، فقد نجح السامريون حتى الآن في الحفاظ على مسارهم المحايد بمهارة كبيرة. في وقت لاحق من ذلك اليوم، تجولت متجاوزا نهاية القرية، مارا ببوابة وضعت هناك على ما يبدو لمنع الناس من دخول القرية يوم السبت. مشيت بجوار حقول البطاطس والمنحدرات القليلة الأشجار. على المنحدرات ذاتها في عام 1855، سمع جون ميلز بنات آوى يعوي بعضها لبعض في الليل «وينافس بعضها بعضا بأصواتها المتعاقبة المزعجة». في ذلك الوقت لم يكن أحد يعيش على الجبل، وعندما كان السامريون يصلون لتأدية مراسم قربان عيد الفصح، كانوا ينصبون خياما يمكنهم الإقامة فيها طوال الليل. بدا مستبعدا أن يكون أي من حيوانات بنات آوى باقيا هناك الآن. كانت المنازل تنتشر في كل مكان، بما في ذلك منزل فخم فخامة خاصة يخص الملياردير الفلسطيني منيب المصري. كان بعض العمال المحليين مشغولين في أحد مشاريع البناء. ونظروا إلي بريبة بعض الشيء حتى تحدثت معهم باللغة العربية، وهو ما أسعدهم. وقالوا إن الأمور كانت هادئة، وكانت تلك أنباء سارة. سألتهم عما إذا كانت هذه البيوت لا تزال جزءا من القرية السامرية. أجاب أحدهم: «لا؛ فالناس الذين يعيشون هنا فلسطينيون.» تساءلت: أليس السامريون أنفسهم فلسطينيين؟ أجاب بتردد: «أظن ذلك، لا سيما كبار السن منهم؛ لست متأكدا بشأن الجيل الأصغر سنا. حسنا، إذن: لنقل إن هذه المنازل ملك للعرب.»
كان ارتباك الرجل معبرا؛ لأن وضع السامريين مبهم. بحلول منتصف القرن العشرين، كان السامريون والمسلمون يتعايشون بشكل أفضل مما كان عليه الوضع قبل مائة عام. في خمسينيات القرن الماضي، كتب مبعوث من البارون إدموند دي روتشيلد رسالة إلى البارون مفادها أن السامريين «يتمتعون بعلاقات جيدة مع المسلمين». أخبرتني أحلام، وهي مسلمة من نابلس، أنها تتذكر الذهاب إلى بيوت السامريين لحضور عيد الحصاد «سوكوت» في أوائل الستينيات: «كنا نذهب إلى منازلهم للاحتفال بالأعياد، وكان ثمة عيد خاص يزينون فيه بيوتهم بالفواكه. كانوا يبذلون جهدا كبيرا للتواصل، في الواقع، أكثر مما كان يفعل المسيحيون. فقد كانوا يدعوننا لتناول الطعام معهم بالرغم من عدم قدرتهم على قبول أي طعام منا»؛ وذلك بسبب قواعد الكشروت، التي تنص على أنه يجب على السامريين، مثل اليهود، أن يتناولوا طعاما محضرا بطريقة معينة فقط. اكتشفت أحلام أنه كانت توجد حدود لهذه الألفة. كانت تأخذ دروسا خصوصية بعد المدرسة من أحد المعلمين في المدرسة، الذي كان يحب زميلة مسلمة سرا. تجرأ على إخبار تلميذته بذلك، لكنه لم يستطع إخبار المرأة ذاتها. تساءلت أحلام عن السبب. كانت في ذلك الوقت أصغر من أن تفهم القواعد الصارمة التي فصلت السامريين عن المسلمين وغيرهم من الغرباء.
بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية سنة 1967، تحسن وضع السامريين أكثر لأن إسرائيل وجدت أنه من المفيد توظيفهم في المناصب الإدارية شبه الرسمية. تمكن السامريون في الوقت ذاته من البقاء على وفاق مع الفلسطينيين. وبعد اندلاع الانتفاضة، كان من الصعب الهروب من العنف. فقد تعرض كاهن سامري تعس الحظ لإطلاق النار مرتين في ليلة واحدة، مرة على يد مسلحين فلسطينيين ظنوا خطأ أنه مستوطن إسرائيلي، ثم على يد جنود إسرائيليين رأوه يقود سيارته نحوهم بتهور - حيث فقد السيطرة على عجلة القيادة - وظنوا أنه انتحاري. ولكنه نجا وتلقى بعد ذلك اعتذارا من كلا الجانبين. يسود السلام الآن ، والسامريون أفضل حالا مما كانوا عليه منذ قرون عديدة ، لكنهم لا يعتبرون هذا أمرا مفروغا منه.
بالعودة إلى شقة بيني، بينما كانت الشمس تغرب وبداية الاحتفال بعيد الفصح تقترب، انتظرت بينما كانت امرأتان تناقشان معه مشروع تسجيل موسيقى مقدسة (حيث أصدرت تسجيلات مختلفة للموسيقى السامرية على قرص مضغوط، يغنيها أفراد المجتمع أنفسهم). عندما انتهوا سألته عن الأمور السياسية. قال: «نحاول أن نكون نوعا ما جسرا بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فماديا ليس لدينا القدرة على الإسهام. نحن نكافح من أجل بقائنا. إذا أيدنا طرفا وفاز الطرف الآخر، فماذا سيلحق بنا؟ سيقولون إننا متعاونون مع العدو.» لكن لم يكن لدى السامريين رغبة في إقامة دولة خاصة بهم. «ليست لدينا مطالب إقليمية؛ لم نقل أبدا: «مرحبا، كانت عائلتنا تمتلك هذه الأرض، إنها ملكنا.» نرى مقدار البؤس الذي سببه هذا الأمر للمنطقة بأكملها. وأظن أنني أنا نفسي أحظى بأكثر مما كنت أتوقع.»
في وقت معين، كان علي مغادرة منزل بيني لأنه كان عليه أن يحضر نفسه للمشاركة في القربان. بدأ الأمر في وقت أبكر من المعتاد؛ لأن يوم السبت سيبدأ عند غروب الشمس في ذلك العام؛ ولذا يجب أن تتم مراسم القربان قبل ذلك، في وقت مبكر من بعد الظهر بدلا من المساء كما هو معتاد. وتبعا لتقليد ارتداء الملابس ذاتها التي ارتداها أسلافهم التوراتيون عند الفرار من مصر، ارتدى السامريون أردية، بكل منها أربعة وعشرون زرا (واحد لكل حرف من الأبجدية السامرية). وكان الكهنة يرتدون ألوانا خاصة: الأحمر لدم الحمل، والأزرق للسماء، والأبيض لنقاء القلب. كان الحدث يشكل عنصر جذب سياحي ضخم، وكان هذا نعمة ونقمة على السامريين في آن واحد. قال بيني: «لا أحب أن أكون غريبا، لكن هكذا هو الأمر. فأي شخص يحافظ على التقاليد هو شخص غريب.» وأوضح أن الحفاظ على التقاليد أمر محوري للهوية السامرية.
أثناء انتظاري في الشارع بالخارج، شاهدت وصول حشود من الزوار. كان بعض المسيحيين والكثير من اليهود يأتون ليروا شيئا لا يمكن رؤيته في أي مكان آخر؛ عيد فصح به تقديم حملان قرابين، كما كان يحدث حتى تدمير الهيكل اليهودي منذ ما يقرب من ألفي عام. كانت السيارات الواقفة تملأ الشوارع شيئا فشيئا، وكانت طواقم تصوير الأفلام تعد كاميراتها، وكان الوافدون مبكرا يشغلون أفضل الأماكن لمشاهدة الحدث. تلقيت دعوة لحضور حفل الاستقبال الذي يسبق تقديم القربان، الذي سيقام في القاعة التي كنت قد نمت فيها طوال الليل.
كان هذا الحفل يتكون من مجموعة من الخطب؛ التي كان يسهل أن تكون مملة، باستثناء أن جمهورها كان يشكل مزيجا غير عادي. جلس قائد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية قبالة محافظ نابلس الفلسطيني، وانخرط الاثنان في مزاح يمزج بين الجد والهزل. وتجلى في الطرف الآخر من القاعة تقارب أكثر غرابة، حيث جلس ممثلو حركة المستوطنين بجانب الفلسطينيين الذين ألقوا لاحقا خطابات حماسية حول أوجه الظلم في الحكم الإسرائيلي (لا سيما القيود المفروضة على تنقل الفلسطينيين، التي كانت تعوق اقتصاد نابلس).
عبر جميع المتحدثين - المحافظ، وقائد القوات، ومنيب المصري الذي كان يرعى الحدث - عن احترامهم للسامريين. ذكرني هذا بشيء قاله بيني؛ إن السامريين هم المسألة الوحيدة التي يمكن أن يتفق عليها الفلسطينيون والإسرائيليون. أخيرا، نهض رجل سامري، وهو رجل قصير ذو وجه مميز توفي والده مؤخرا، ليتحدث. قال: «كان شعبنا على وشك الانقراض، لكننا تمالكنا أنفسنا وبنينا طائفتنا، والآن لن نذهب إلى أي مكان، نحن باقون هنا.»
أظهر الحدث مدى حرص السامريين في موازنة علاقاتهم مع الفلسطينيين والإسرائيليين. من الواضح أنه كانت توجد بعض الآراء السياسية المختلفة داخل المجتمع؛ فأولئك الذين عاشوا في تل أبيب كانوا يرتاحون لاستخدام اللغة العبرية، وتحدثوا بحرية أكبر عن ولائهم لإسرائيل، بينما كان بعض السامريين في جبل جرزيم أقرب إلى الفلسطينيين. فهموا جميعا الحاجة إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع كلا الجانبين. قدمت إسرائيل فرصا أفضل للتعليم والعمل، وكانت حكومتها سخية تجاه السامريين. وقيل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لديه صورة له مع رئيس الكهنة، وقد شاهدها العديد منهم عندما زاروه. وقيل لي إن رئيس الكهنة كان قد تنبأ بصعود نتنياهو إلى السلطة . على الناحية الأخرى، كان السامريون أقل ارتياحا للتدرج الهرمي الديني المحافظ في إسرائيل. قال لي أحد السامريين: «نحن نفضل الابتعاد عن الحاخامات اليهود.» ينظر إلى السامريين في القانون الفلسطيني على أنهم مجتمع ديني منفصل، وهذا يعني (على سبيل المثال) أن الزيجات التي يعقدها كهنتهم معترف بها قانونا؛ أما في القانون الإسرائيلي فكان وضعهم أكثر غموضا.
كهنة سامريون مجتمعون هنا لقربان عيد الفصح. حقوق الطبع والنشر لحنان ياساكر/جيتي إيمدجز.
انتهى التجمع، وبدأ الناس في الرحيل في صفوف طويلة. فقد حان وقت بدء مراسم تقديم القرابين. اعتاد السامريون، منذ عقود، على التجمع في خيام على الجبل من أجل تأدية المراسم، ولكن الآن كانت توجد منطقة مصممة خصوصا للحدث، محاطة بسياج من الأسلاك الشائكة. وكان مئات السياح يتدافعون نحو السياج، وحاول بعضهم التسلق فوقه، مما أثار صيحات حراس الأمن الأقوياء البنية. كان السامريون الآن متجمعين داخل المنطقة المسيجة، بعدما شقوا طريقهم بصعوبة عبر الحشود ليدخلوا تلك المنطقة. كان الكهنة يلبسون أرديتهم التقليدية الملونة؛ وكان الرجال السامريون الآخرون يرتدون مآزر بيضاء وقبعات بيسبول استعدادا للعمل الدموي الذي كانوا على وشك إجرائه. ووقفت النساء بالخلف مع الأطفال الأصغر سنا. ووفقا لقواعد عيد الفصح المنصوص عليها في سفر الخروج، فإن كل عائلة كبيرة بما فيه الكفاية تجلب حملا لتقدمه قربانا. لذلك جمع قطيع صغير من الحملان وسط حشد السامريين، بينما كانت تملأ حفر كبيرة في أحد طرفي المنطقة المسيجة بالحطب المعد للحرق، وتجهز أكوام من التراب في مكان قريب، مما كان يحمل نذيرا بالسوء للحملان.
كاهن سامري يرتاح بعد تضحية عيد الفصح، دم الحمل يظهر بوضوح على جبهته. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
كان كبار الكهنة ينشدون الأغاني بينما كانت الحملان تساق إلى مكان الذبح، حيث كانت الهياكل المعدنية جاهزة. ثم عندما ذبحت الحملان، أطلق السامريون صيحة عظيمة. وبدأ الرجال الذين يرتدون المآزر في العمل، وعلقوا الذبائح على الهياكل المعدنية حتى يتمكنوا من سلخها. وبدءوا يهتفون بفرح ، وهم يغنون بالعبرية القديمة، «الرب إلهنا رب واحد!» وهم يتبادلون الإشارات والإيماءات فيما بينهم. وأنشدوا أبياتا من أغنية البحر، وهي الأغنية الاحتفالية التي غناها بنو إسرائيل بعد خلاصهم من مصر: «مركبات فرعون وجيشه ألقاهما في البحر.» جمع دم الحملان، وجهز للرسم به على عتبات أبواب القرية بعصا نبات الزوفا. أخيرا وضعت الحملان المذبوحة في أسياخ للشي. وبمجرد أن يحترق الحطب الموجود في الحفر كليا ويتحول إلى فحم، تطهى الحملان وهي مغطاة بطبقة من التراب فوقها للاحتفاظ بالحرارة. كان هذا، كما وعدني بيني، مشهدا مستخرجا من الماضي البعيد.
لقد تحدى السامريون قرونا من التوقعات المتشائمة التي أطلقها أولئك الذين زاروهم خلال مرحلة انحدارهم الطويلة. علق كاتب إنجليزي سنة 1714: «لقد استمرت طائفة السامريين حتى الآن في العالم نحو 2400 سنة، وتقريبا في المكان ذاته حيث ظهرت أول مرة. لذلك لا عجب في أن شيئا ما بهذه الروعة يمكن أن يثير الفضوليين.» لكنه خلص إلى أنه «بعد مدة قصيرة لن يكون لهم وجود في المكان الذي استمروا فيه مدة طويلة جدا؛ وقريبا لن يعثر على اسمهم في أي موضع سوى التاريخ.» وفي خمسينيات القرن التاسع عشر، كان المبشر الويلزي ميلز متشائما بالقدر ذاته. وتنهد قائلا: «قبل أن تتوفى أجيال كثيرة، على الأرجح ستكون هذه الأمة قد اندثرت.» ولكن ثبت أنهم جميعا كانوا مخطئين.
فهنا، على أحد الجبال المقدسة في الأرض المقدسة، كان رئيس الكهنة رقم 132 (كان الأول هارون، شقيق موسى)، يرتدي ثيابا زاهية، ويستريح مع زملائه بعد المجهود المبذول في قربان عيد الفصح. وجاءت نساء الطائفة لتقبيل أيديهم. وكانت جباه الأبناء البكر معلمة بدم الحملان. وفوق هذا المشهد الذي يبدو يهوديا، أعلنت لافتة أن شركة الاتصالات الفلسطينية كانت ترعى هذا الحدث. ربما كان من السهل جدا تخيل أن التجربة السامرية، بما فيها من قيود وعدم استقرار واعتمادها على حسن نية كل من السلطات الإسرائيلية والفلسطينية، قد توفر أساسا للتعايش المشترك بين جميع الطوائف المختلفة في هذا المكان المضطرب. لكن من المؤكد أنها تمنح على الأقل بصيصا من الأمل.
الفصل السادس
الأقباط
التاريخ: يوم الجمعة العظيمة عام 1727 للشهداء. وافق ذلك شهر برمودة، عندما تهب الرياح الترابية الموسمية على طول وادي النيل، حيث يحين وقت حصاد القمح وتجنب ارتفاع حرارة الشمس. في مثل هذا الوقت من العام، لآلاف السنين، صلى المصريون من أجل ارتفاع منسوب مياه النيل وري حقولهم بالمياه الغنية بالطمي في أرض كانت واحدة من أكثر الأماكن جفافا على وجه الأرض. لذا كانوا يصلون الآن، وهم متجمعون حولي، من أجل «ارتفاع منسوب مياه الأنهار». لو أغمضت عيني في لحظات معينة، لتخيلت نفسي في مصر القديمة. ولكن في التقويم الغربي، كان العام هو 2011، وكان أقرب نهر هو نهر التايمز؛ وبعينين مفتوحتين، كان بإمكاني رؤية الواجهة الجميلة لشرفات لندن من خلال النوافذ ذات الزجاج الملون.
إن كنيسة القديس مرقس، بكنسينجتون، مكرسة لمبشر القرن الأول الإنجيلي الذي، وفقا للتقاليد، جلب المسيحية لأول مرة إلى مصر. وأولئك المصريون الذين ظلوا مسيحيين يعرفون بالأقباط. تتباين تقديرات أعدادهم تباينا كبيرا، من أربعة ملايين إلى اثني عشر مليونا، بالإضافة إلى الجاليات في السودان، وليبيا، والغرب. وبسبب انقسام الكنيسة المسيحية في القرن الخامس حول طبيعة المسيح، طور الأقباط منذ ذلك الحين شكلهم المتمايز من المسيحية، المتمثل في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تحت قيادة بطريرك الإسكندرية. وانتشر هذا النهج القبطي من المسيحية جنوبا من مصر إلى إريتريا وإثيوبيا؛ وربما سافر يوما ما إلى الشمال أيضا. وعندما كرس الزعيم القبطي (الذي يطلق عليه هو الآخر لقب «البابا») شنودة الثالث، بطريرك الإسكندرية رقم 117، كنيسة القديس مرقس في عام 1979، كانت حينئذ الكنيسة القبطية الوحيدة في أوروبا. لكن هذا لم يكن أمرا جديدا بقدر ما كان عودة إلى أمر قديم. إذ يشير كتاب أيرلندي من القرن الثامن عن الشهداء إلى «الرهبان المصريين السبعة المقدسين الذين يرقدون في صحراء أولاه». وربما كان للرهبان الأقباط، مثل أولئك الذين استقروا في أيرلندا، دور ما في تشكيل الكنيسة الأيرلندية الأولى؛ التي شاركت الأقباط تركيزهم على الرهبنة، وتقشفهم.
ويوجد فرق آخر بين المسيحيين المصريين والأوروبيين وهو أن الأقباط احتفظوا بالعديد من القواعد التي خففها المسيحيون الأوروبيون، أو حتى شددوها. فقد تحملت أبرشية كنيسة القديس مرقس أكثر من خمسين يوما من الصوم القبطي الكبير القاسي، يمتنعون خلالها تماما عن جميع أنواع الأسماك، واللحوم، والمنتجات الحيوانية مثل الحليب والجبن. وفي يوم الجمعة العظيمة (التي تسمى «جود فرايداي» (أي الجمعة الطيبة) في بريطانيا وأمريكا) لا يأكلون شيئا حتى غروب الشمس، ويصلون طوال اليوم: حيث كانت الصلاة في كنيسة القديس مرقس قد بدأت عند الفجر، عندما وضع صليب في ممر الكنيسة وزين بالشموع والورود. اشتملت إحدى الصلوات على أربعمائة إيماءة تبجيل (ومع أن التبجيل، عند البعض، كان يعني مجرد انحناءة للرأس، نزل رجل على الأرض ليسجد). ومع أنهم كانوا يعيشون على بعد آلاف الأميال من وطنهم، فإن حماس الأقباط لإيمانهم لم يضعف.
يرجع تاريخ الكثير من الأشياء التي استطعت رؤيتها أمامي - كان ستار مليء بالتفاصيل يفصل المذبح عن المصلين، وأيقونات للقديس مرقس ومريم العذراء - إلى القرون الأولى بعد الميلاد، عندما حلت المسيحية محل تعدد الآلهة في مصر القديمة. لكن في الكتب الموضوعة لإفادة الآخرين في الممرات بوصفها كتبا إرشادية للصلاة، رأيت أن الكنيسة لم تستخدم التقويم الغربي ولا الإسلامي الموجود أحيانا في العالم العربي. وبدلا من ذلك، استخدمت التقويم الذي عرفه الفراعنة، حيث تسمى الشهور برمودة وكيهك («الشهر الذي تتجمع فيه الأرواح») وتوت (الذي سمي تيمنا بالإله تحوت الذي يرسم عادة برأس قرد بابون). وفيما يخص ذلك، كان تأريخ العام على أساس عصر الشهداء الذي يبدأ في العام الغربي 284. كان هذا عندما ذبح الإمبراطور دقلديانوس المسيحيين؛ وهو اضطهاد لا يزال يتذكره الأقباط.
إن أسلوب الترانيم في كنيسة القديس مرقس في ذلك اليوم كان يمكن أن يكون مألوفا لسياسي وعالم يوناني يدعى ديميتريوس الفالرومي، الذي عاش في مدينة الإسكندرية الساحلية في مصر في القرن الثالث قبل الميلاد. فقد كتب: «في مصر، عندما يغني الكهنة ترانيم لمدح الآلهة، يستخدمون الحروف المتحركة السبعة التي ينشدونها بترتيب معين؛ والموسيقى الصادرة عن هذه الحروف تبدو جيدة جدا لدرجة أن الرجال يفضلونها على الناي والقيثارة.» وهكذا يفعلون الآن. فقد غنى الكاهن والشماسون «أوه-أوه-أوه»، وهم يتنقلون بين مجموعة من النغمات، ثم «إيه» و«آه»، وبصعوبة شديدة كان يمكن سماع الحروف الساكنة للكلمات. كانت هذه ترنيمة «بيك اثرونوس» [أي «عرشك يا الله»]. فهي تتحول من الحزن إلى الفرح بفكرة القيامة، مثلما فعلت الأغنية القديمة التي استندت إليها حيث نعت الفرعون الذي مات واحتفلت بتولي خليفته. كنت أسمع موسيقى الفراعنة الجنائزية في أكثر شوارع لندن اخضرارا. ويدور هذا الفصل حول كيفية وصولها إلى هناك، وما يعنيه ذلك للمسيحية في مصر. •••
كان أول تعيين لي خارج البلاد بالقاهرة في عام 1997. كنت حينها دبلوماسيا مبتدئا قادما مباشرة من لندن لدراسة اللغة العربية. قال السفير: «مرحبا بك في السفارة، وآمل ألا تسيء فهمي إذا قلت لك إننا لا نريد رؤيتك هنا مرة أخرى. اخرج واقض وقتك مع المصريين.» لم تكن مجموعتنا الصغيرة من الطلاب بحاجة إلى المزيد من النصائح. فقد كانت المدينة مصدرا للإلهام. لقد كانت تجمعا كبيرا للبشرية، ربما ثمانية عشر مليون شخص، مع وصول المزيد كل يوم؛ تاركين وراءهم الحياة في القرى الواقعة على امتداد نهر النيل ويتدفقون إلى العاصمة بالقطار، أو بالحافلة، أو سيرا على الأقدام، أو في عربات، ليستقروا في أحياء فقيرة عشوائية، على حافة المدينة القائمة، حيث الفقر والغنى جنبا إلى جنب. اعتدت أن أسير من الشارع الذي تصطف على جانبيه الأشجار إلى الأحياء الفقيرة وأشاهد المتلاعبين بالسكاكين وتجار الشوارع يقفون وسط مياه الصرف الصحي التي كانت تتدفق عبر الأزقة الترابية.
كانت المدينة أيضا مهرجان ضوضاء بهيجا، فوضويا، مربكا، وغامرا. عشت في المهندسين، وهي ضاحية عصرية مليئة بالأشجار. ولكن حتى هناك كنت أسمع بائع النعناع ينادي خارج نافذتي بحصانه وعربته في الساعة الخامسة صباحا، ومكبرات الصوت في المسجد وقت الظهيرة، ثم دوي أبواق السيارات في وقت متأخر من الليل. كنت أدرس في المجلس الثقافي البريطاني على ضفاف النيل، التي أصبحت أقل رومانسية بسبب أبخرة محرقة جثث كانت تنفث الرماد عبر الشرفة التي كنت أجلس عليها لتناول الغداء. لكن كان بإمكاني تحمل ذلك، وكل المضايقات الأخرى لتلك المدينة الملوثة والمزدحمة؛ لأنني كنت مغرما. ليس بشخص، ليس في ذلك الحين. لكنني كنت مغرما باللغة العربية. كانت مفتاحي لعالم خفي لكنه على مرأى من الجميع. فقد أتاحت لي دخول أماكن لم يكن بمقدوري دخولها لولاها، وجعلتني أقرأ كتبا وشعرا يعود تاريخه إلى أكثر من ألف عام؛ لأنها لم تكن قد تغيرت كثيرا خلال ذلك الوقت، لكونها لغة القرآن المقدسة؛ وفتحت لي المجال لإجراء محادثات كان من المستحيل أن أجريها من دونها. وكان للغة أيضا نظام استثنائي في تصميمه. فيمكنك تكوين جذر من ثلاثة أحرف. مثل الموتيفة الموسيقية، يمكن التعامل مع ذلك الجذر باثنتي عشرة طريقة مختلفة، كل واحدة تغير معناه تغييرا دقيقا. وكانت النتيجة لغة دقيقة بعذوبة مثل واحدة من مقطوعات باخ.
عند معظم الغربيين، تعتبر اللغة العربية هي لغة الإسلام. لكنني وجدت أن عدد المسيحيين في كنائس مصر الناطقة بالعربية في أيام الأحد يفوق عدد المسيحيين في كنائس إنجلترا. وقد انضممت إليهم؛ فكل أسبوع كنت أستقل سيارة أجرة أو المترو، الذي بناه اليابانيون ويتحرك بسلاسة ويتمتع بنظافة كبيرة، وصولا إلى ضاحية شبرا غير المميزة، والمتهالكة إلى حد ما. لذا لم يكن يوجد مكان أفضل منها للهروب من حياة المغتربين. كانت تقريبا مركز ثقل مصر، بتعريفها للطبقة الوسطى بمتاجرها الصغيرة، ومطعمها الوحيد المشهور، وشوارعها المرصوفة. كانت الأرض مغطاة بالحصى، والضوضاء تنبعث من كل مكان، وكانت لا تزال توجد الرائحة النفاذة الكريهة للهواء الملوث؛ لكن لم يبد أن هذه الأشياء كانت تزعج أصدقائي المصريين بقدر ما كانت تزعجني. لا توجد في قرى مصر أماكن يختار الأثرياء العيش فيها، وكانت الشقق الأفضل (كما أخبرني أصدقائي) هي التي تطل على الشارع الرئيسي الصاخب، وليس على الطرق الترابية الخلفية الهادئة. عندما زارتني إحدى صديقاتي في لندن، اشتكت من الهدوء الذي منعها من النوم.
وحتى يومنا هذا، لم تكن شبرا مقصدا للسياح. ومع ذلك فهم مخطئون إن كانوا يظنون أنها لا تتمتع بأي مميزات. فلديها شيء واحد على الأقل لن يجدوه في أي مكان آخر في الشرق الأوسط: محطة سميت تيمنا باسم قديسة أوروبية. عندما ركبت المترو في وسط القاهرة، مررت بمحطات سميت على أسماء رؤساء مصريين، ناصر، السادات، مبارك؛ ومررت بمحطة اسمها على اسم الفرعون رمسيس؛ ثم وصلت إلى محطة تسمى سانت تريزا.
كيف أصبحت القديسة تيريز دو ليزيو، وردة المسيح الصغيرة، على خريطة القاهرة؟ يمكن العثور على الجواب قبالة شارع شبرا الرئيسي في كنيسة في غاية الروعة. تحمل الكنيسة اسم القديسة تريزا لأنها تأسست على يد الكرمليين الفرنسيين، ومن أسباب روعتها رواق الكنيسة المغطى من أعلى إلى أسفل بلوحات جدارية نذرية باللغات الإنجليزية والفرنسية، والعبرية والعربية، تركها يهود، ومسلمون، ومسيحيون لتكون شاهدة على معجزات القديسة. لا تزال الكنيسة تجتذب بعض الزوار المسلمين الذين يأتون لإشعال الشموع في الخلف، وحتى عندما جاء إسلامي مسلح لتخريب الكنيسة منذ عدة سنوات، هاجم الصليب لكنه ترك صور القديسة وشأنها.
وفي يوم دخلت إلى ساحة الكنيسة الصغيرة المرصوفة بالأسفلت والتقيت بما كان سيصبح مجتمعي في مصر مدة عام. كان يوجد رجل ضخم يدعى عاطف، كان يبدو مثل حارس ملهى ليلي لكنه أراد أن يصبح راهبا؛ وماجي، التي كانت تتدرب بجد لتصبح مهندسة معمارية؛ وسميح، المهندس الواثق من نفسه. لاحظت بين رعية الكنيسة علامات تدل على ماضيها الفرعوني، فقد كانت توجد أسماء مثل رمسيس ونفرتيتي. وزعم رجل يدعى وائل، الذي كان يطمح إلى أن يصبح عارض أزياء، أن ملامحه كانت تشبه بالضبط ملامح الفراعنة. وكان يترأس الجميع بشكل ملكي الأب بولس، وهو كاهن من عائلة قبطية كاثوليكية. (في القرن التاسع عشر، أنشأت الكنيسة الكاثوليكية كنيسة بابوية في مصر، يمكن لأعضائها الأقباط الحفاظ على تقاليدهم الخاصة مع قبول سلطة أسقف روما. تضم هذه الكنيسة البابوية اليوم أكثر من 160 ألف عضو.) كان يمثل لي نموذجا يستحق الدراسة في الكياسة المصرية. وهي بقدر كبير على طرف نقيض من كياسة الإنجليز الباردة التي لا تصرح بالكثير؛ لذا وجدت نفسي أتنقل بين المجاملات المبالغ فيها، والدعوات غير المقصودة، وكرم الضيافة الهائل. لخصت لي كل ذلك مناقشة بين الكاهن وبائع ورد. وبعد مفاوضات مطولة حول السعر، أكد بائع الورد: «بالطبع، أودك أن تحصل عليها مجانا.» وردا على ذلك بفطنة تفوق ما يمكن أن أتمتع به يوما ما، أجاب الكاهن بمجاملة جاهزة بالقدر نفسه من عدم الصدق: «كما تعلم، لم آت إلى هنا إلا لأمتع نظري برؤيتك.»
كان الكاهن بالغ الكرم في مساعدتي لمعرفة أهم الخصائص المميزة للقاهرة، وكان مراوغا بلا هوادة عندما حاولت رد كرم ضيافته. في المرة الوحيدة التي جاء فيها إلى شقتي، شرب كوبا واحدا من الماء، وعندما حاولت إقناعه بالبقاء مدة أطول، قال: «لا: لقد شرفتك بما فيه الكفاية.» ومع ذلك، فإن لطف أصدقائي الأقباط معي لم ينضب أبدا. فقد كانت الكنيسة أكثر من مجرد كنيسة. وكان رعية الأبرشية يأخذون إجازاتهم معا، ويتحدث بعضهم مع بعض ساعات في الساحة، ويجتمعون بشكل متكرر خلال الأسبوع. وعلموني الرقص المصري ودعوني مرة للانضمام إليهم في الزيارات الخيرية لفقراء القاهرة، وهم أناس يعيشون في أكواخ مؤقتة على أسطح المباني السكنية العالية. كما كان أصدقائي الجدد يوبخونني بانتظام على تراخي المسيحية البريطانية. ولا عجب في ذلك. فالقبطي المتدين ينبغي أن يصلي سبع مرات في اليوم، ويتجنب شرب الكحوليات، ولا يدخن السجائر أبدا. ويصوم الأقباط ليس فقط أثناء الصوم الكبير ولكن أيضا في صوم الميلاد وفي أوقات أخرى من العام؛ 210 يوما في السنة إجمالا. ومع أنهم ملزمون بالتخلي عن اللحوم ومنتجات الألبان خلال هذه الأوقات (والأسماك أثناء الصوم الكبير)، فإن البعض يذهب إلى أبعد من ذلك بتناول الفاكهة فقط، أو الفول المطهي. والبعض لا يأكل أي شيء على الإطلاق من منتصف ليل وغروب شمس كل يوم من أيام الصوم الكبير. وهذا أكثر صعوبة من صيام المسلمين في رمضان. اعترتني رغبة في تكرار الحكم الذي أصدره هيرودوت، الذي ذهل قبل خمسة وعشرين قرنا عند زيارته لأحد المعابد المصرية العظيمة، الذي زادت ثرواته في وقت ما بسبب التبرعات، لدرجة أنه امتلك ثلث أراضي البلاد الخصبة: «المصريون متدينون بإفراط أكثر من أي دولة أخرى في العالم.» (في استطلاعات الرأي الأخيرة، اتفق المصريون مع هيرودوت؛ فهم يعتقدون أنهم أكثر الشعوب تدينا في العالم.)
لم يكن هذا هو تصوري بشأن الأقباط فقط، ولكن أيضا عندما سمعت خطب يوم الجمعة في المساجد المحلية المزودة بمكبرات الصوت. وبدا أن كل سائق تاكسي يشغل القرآن على مشغل الكاسيت الخاص به، وأحيانا يعلق، وكأنه خبير، على جودة صوت القارئ. في حفل موسيقي صوفي، أثار المغني الرئيسي، الذي تختفي عيناه خلف نظارات داكنة، تصفيقا حارا، ودخل بعض مستمعيه في حالة نشوة. كان هذا التغلغل للدين يعني أن الاختلافات الدينية كانت، أيضا، واضحة. وفي مرات عديدة عندما كنت أسير في شوارع القاهرة، كان الناس يأتون إلي ويسألونني عن فريق كرة القدم الذي أشجعه. وفي بضع مرات كانوا بدلا من ذلك يسألون - بالقدر نفسه من الحماس على ما يبدو - إن كنت مسلما أو مسيحيا. أخبرتني معلمتي للغة العربية أن الناس كانوا يسألونها السؤال نفسه، ولكن بطريقة غير مباشرة. كانوا يسألونها عن اسمها، ثم اسم والدها. (وبوصفها مسلمة ليبرالية، كانت تمشيا مع مبادئها الشخصية تتهرب من أسئلتهم؛ إذ كانت تشعر بأنه ينبغي أن يكون للناس الحق في الحفاظ على خصوصية دينهم.) وكان للأقباط طريقتهم الخاصة في طرح السؤال ذاته. ففي مرة في متجر محلي كبير، كشف الصراف عن معصمه خلسة لي، وأظهر وشما على شكل صليب.
كانت تلك الاختلافات تعبر عن نفسها بعنف من وقت لآخر أثناء إقامتي في مصر. منعتني السفارة من زيارة أجزاء من جنوب مصر، وخاصة مدينة المنيا، بسبب الجماعات الإرهابية الإسلامية التي كانت تهاجم قوات الأمن والمسيحيين المحليين هناك. في سبتمبر من سنة 1997، عندما كنت في الإسكندرية مع أصدقاء من كنيسة سانت تريزا، رأيت على شاشة التلفزيون مقتل سائحين ألمانيين رميا بالرصاص في ميدان التحرير. كانت أول مواجهة لي مع الإرهاب. قال سميح: «لا تخف يا جيرارد. إنه القدر. لا بد أن نموت جميعا في يومنا الموعود.» لكنني لم أشعر بالارتياح. وبعد شهرين قتل اثنان وستون شخصا في مذبحة في الأقصر نفذها إرهابيون مسلحون بالبنادق والسكاكين. وكان من بين الضحايا طفل عمره خمس سنوات. وعثر لاحقا على ملاحظة تمدح الإسلام في جسد منزوع الأحشاء لأحد الضحايا.
ومع ذلك، تخللت هذه الأحداث الرهيبة رسائل تذكير عرضية عن نهج من التعايش يتميز بمزيد من الإنسانية. منها، على سبيل المثال، الهجوم الذي حدث في ميدان التحرير، والذي جعلني أشعر بخوف شديد عندما رأيته في الأخبار في الإسكندرية. فقد هرب الرجال الذين نفذوه بعد ذلك، أو هكذا قرأت، إلى منطقة مجاورة تسمى بولاق أبو العلا. ووفر أهالي المنطقة الحماية للقتلة. وتصادف أنني كنت أعرف هذا المكان. كان من المناطق المفضلة لدي للسير فيها، حيث تضيء مشاعل الماغنيسيوم التي يستخدمها اللحامون المباني ذات الطراز الاستعماري التي كانت فخمة يوما ما، وغبار وأوساخ الطرق المهملة فيما بينها. لكن كاهن هذه المنطقة، وهو رجل ضخم في كنيسة إيطالية ضخمة، أخبرني أن المسلمين هناك كانوا إخوته، وقال إنه لم يكن لديه أي مشكلة معهم. وكان الأقباط يترددون على الكنيسة دون أن يتعرضوا لأي مضايقات على الإطلاق. وأثناء خروجي من الحي، مررت بسوق شعبي لبيع الملابس. هنا كان يوجد أناس من كل الأنواع: رجال يعتمرون العمائم، ورجال يرتدون سترات، وجينز، وأردية عمل سابغة؛ نساء محجبات، ونساء غير محجبات، وامرأة فقيرة للغاية حتى إنها لم تكن تستطيع تحمل ثمن الحجاب، وضعت صندوقا من الكرتون حول رأسها ليقيها من الشمس، وفتاة ذات شعر طويل مضفر تعلم أخاها الصغير كيفية رشم الصليب.
غادرت مصر عام 1998 ولم أعد إلا نادرا ولأوقات وجيزة. ثم في عام 2011 رأيت ميدان التحرير في الأخبار مرة أخرى. كان الشعب المصري قد احتشد هناك لإسقاط الرئيس. ووقف المسيحيون والأصوليون الإسلاميون متكاتفين. واعتدت على المتظاهرين عصابات مأجورة. وتنحى الرئيس حسني مبارك. وتولى المجلس العسكري الحكم. واندلعت مواجهات بين مسيحيين ومسلمين. وتعرضت بعض الكنائس للهجوم. وقتل عديد من المسيحيين. كنت قد خططت للذهاب إلى مصر على أي حال، من أجل هذا الكتاب، وبدا أن القيام بالرحلة في ذلك الوقت أنسب من أي وقت آخر. •••
عندما هبطت الطائرة في القاهرة في مارس 2011، تطلعت إلى مدينة أتذكرها جيدا. كان بإمكاني رؤية قصور الأغنياء في ضاحية مصر الجديدة الشمالية الهادئة، واستطعت أن أرى أفقر فقراء القاهرة، سكان نهر النيل الذين لا يملكون بيوتا إلا زوارقهم الصغيرة المكشوفة، وهم يتأرجحون فيها كل مساء بسبب ارتداد الماء عن القوارب السياحية الفاخرة. مررت في الطريق من المطار بثكنات عسكرية ضخمة عليها جداريات تظهر انتصارات الجيوش الفرعونية المصرية؛ ثم تحول الطريق إلى جسر عملاق، ومررت بسرعة فوق الصروح القاتمة للدولة، ووزاراتها، ومحطة القطار الرئيسية. ثم مررت بقباب الكاتدرائية القبطية وبجانبها مسجد، وتساءلت: هل كان هذا تضامنا، أم تنافسا؟
كان فندقي، الواقع على جزيرة في النيل تسمى الزمالك، أثرا مهترئا من ماضي القاهرة البهي ولكنه كان مريحا. وكان مهندس معماري متقاعد يجلس بطريقة غريبة على كرسي باهت في الردهة وبدا أنه يملي رسائل مختلفة، عادة رسائل شكوى، على موظف خدوم. خارج الفندق، كان مجموعة من الشابات المحجبات يرسمن على الجدران لوحة تمثل سلطة الشعب. وبينما كنت أسير في الشارع لاحظت اللافتات على المحلات والجدران. أعلنت إحداها باللغة الإنجليزية عن العملة الليبية بسعرها المنخفض الجديد بينما كان الحلفاء الغربيون والعرب يهددون بشن حرب: «الدينار الليبي سعر البيع 2، سعر الشراء 3,65.» وعلى لافتة أخرى كان مكتوبا باللغة العربية: «بسم الله: يوجد الكثير من رجال الشرطة الشرفاء. دعونا نحتف بشرطتنا.» وكانت لافتة ثالثة، على باب متجر، أكثر وضوحا، وتحتوي على كلمة واحدة فقط بأحرف لامعة: «فياجرا».
ظهرت جزيرة الزمالك على نهر النيل منذ ما يزيد قليلا عن قرن من الزمان، وقد تكونت من الطمي الذي كان يجرفه ماء النهر عاما بعد عام، والذي كان سببا في خصوبة وادي النيل. (بعد بناء السد على النيل عام 1970، توقف الطمي عن التدفق. وكذلك انتهى «ارتفاع منسوب المياه» - أي الانحسار والفيضان السنوي للنهر.) استقطبت الزمالك الطبقات العليا التي بنت عليها القصور والحدائق التي أصبحت الآن هشة وباهتة. ركبت سيارة أجرة لعبور الكوبري متجها إلى المناطق الأقدم في القاهرة، التي تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل. أثناء عبورنا النيل، أشار السائق بفخر إلى الهيكل المحترق لمقر الحزب الحاكم السابق، القابع على حافة النهر. وصرح مقدم برامج في الإذاعة: «يمكننا الآن التحدث عن الفساد في المجتمع بحرية!»
كنت متوجها إلى المتحف المصري، وهو مبنى متواضع مغطى بجص وردي وعالق بين جسر خرساني متعدد الأدوار وميدان التحرير الفسيح. يزور هذا المتحف كل يوم الآلاف من الناس لمشاهدة 165 ألف قطعة أثرية ما بين تماثيل كبيرة وصغيرة، وتوابيت، ومومياوات. وفرت السياحة في عام 2009 فرص عمل لما يصل إلى اثني عشر بالمائة من القوة العاملة المصرية، لكن المتحف المصري كان دائما أكثر من مجرد مصدر للمال. إنه نصب تذكاري للهوية المصرية. ويوجد على جداره الأمامي رمز آخر؛ قائمة طويلة من الأسرات التي حكمت مصر، وكأنها تقول للمصريين: «كان يحكمكم الملوك دائما.» وفي مصر الثورية عام 2011، كان المتحف هو المكان الوحيد الذي ما زال يحظى فيه الحكام المستبدون بشعبية كبيرة، على الرغم من أنهم موتى ومحنطون.
وبدلا من اللعنات والفخاخ المعقدة لدرء المتسللين، كان طارق العوضي، مدير المتحف، وصيا على المومياوات. وجدته في مكتبه في قبو المتحف. كان مكتبه محاطا بمجموعة من الساعات المذهبة المزخرفة، وكل منها يظهر وقتا مختلفا. كنت قد جئت لأسأله عن التاريخ. قال العوضي: «المصريون منفصلون عن ماضيهم. ويشعرون أنه ليس لديهم أي شيء مشترك معه.» وأوضح أن المنهج الدراسي قسم التاريخ إلى عصور: الفرعوني، والقبطي، والإسلامي. وقد حظي العصر الإسلامي بأكبر قدر من الاهتمام. لكن العوضي كان يرى أن معرفة المزيد عن العصور السابقة يمكن أن يساعد في تعزيز وحدة المصريين كشعب. وبوصفه مسلما، شعر أن الماضي القديم للبلاد كان تراثا مشتركا بين المسيحيين والمسلمين: «المجتمع في بلدنا متماسك وإن كان فيه أكثر من دين، والعادات واللغة وحتى بعض التقاليد الدينية متماثلة عند جميع المصريين، ومختلفة عنها عند العرب.» لكن لعقود عديدة، قيل للمصريين إنهم عرب. ولذلك، على حد قول العوضي: «يتساءل المصريون: من نحن؟ هل نحن عرب أم مصريون؟»
بعد مقابلتي مع العوضي، تجولت في قاعات المتحف، وألقيت نظرة على دمى ونماذج لسفن وتماثيل الأوشابتي (الجنائزية) الصغيرة التي بدت كأنها قد صنعت أمس، حيث كانت محفوظة بشكل مثالي. ومنحني هذا شعورا غريبا؛ كما لو أن ستار الزمن قد صار رقيقا بطريقة ما، وقد يخطو الفراعنة المحنطون من خلاله ويعودون للحياة في العصر الحديث. من المؤكد أن المصريين كانوا يتوقعون أن تعود أجسادهم إلى الحياة مرة أخرى، وهو أمر لم يتنبأ بحدوثه معظم الشعوب القديمة الأخرى. على سبيل المثال، عندما ينزل جلجامش الملك في الملحمة العراقية تحت الأرض للبحث عن صديقه الميت إنكيدو، يلتقي ظلالا، لا أشخاصا من لحم ودم. أو كما يقول: «تحول إنكيدو إلى صلصال!»
لكن سكان وادي النيل كانوا محاطين برمال أكثر جفافا بمائة مرة من الصحراء العراقية؛ صحراء جافة جدا لدرجة أنه اكتشفت قطع من الورق مدفونة فيها منذ ألفي عام ولا تزال الكتابة عليها واضحة. دفن قدماء المصريين موتاهم في هذه الرمال، وحتى من دون العملية التي ابتكرت لاحقا المتمثلة في إزالة أعضاء الجسم وحشو الجثة بملح النطرون للحفاظ عليها، غالبا ما كانت الجثث تحنط بشكل طبيعي بسبب جفاف الرمال والحرارة. وعند اكتشافها بعد سنوات عديدة، كان لا يزال من الممكن التعرف عليها. ومن الممكن تخيل الروح (كا) وهي تدخل فيها مرة أخرى وتعيدها إلى الحياة. يقول نقش مصري من القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد: «لينهض الذين في قبورهم؛ فليفكوا أربطتهم. انفضوا الرمال من على وجوهكم» (وهنا يبدو أنه يخاطب الموتى أنفسهم)، «اتكئوا على جانبكم الأيمن، وانهضوا بجانبكم الأيسر.»
لو عاد الفراعنة بالفعل إلى الحياة اليوم، ونهضوا من توابيتهم المذهبة، فسيجدون أن بلادهم قد تغيرت تغيرا يستحيل معه التعرف عليها. فقط في الريف يمكنهم رؤية مشاهد مألوفة؛ حيث تغتسل العائلات في نهر النيل وتغسل أوانيها، وتوجد أشجار النخيل الخضراء وأكوام القمح المدروس التي تتخلل الحقول ، ويتجول الجاموس بجانب الجداول. وبخلاف ذلك سيندهشون من الأدخنة الخانقة والمباني السكنية المكتظة بالقاهرة، التي تعد الآن إحدى أكبر مدن العالم، ومن زيادة عدد السكان في مصر الآن، أكثر عشرين مرة مما كانوا عليه في العصور القديمة، ومن حقيقة أن الأمة، التي كانت يوما ما سلة غلال الإمبراطورية الرومانية، تستورد الآن أربعين بالمائة من طعامها. وسيكتشفون أن ديانتهم المتمثلة في آلهة برءوس حيوانات، التي كانت يوما ما تسيطر بقوة على المجتمع المصري، قد اختفت.
أو ربما لم تختف تماما، كما اتضح بعد ذلك. كان لدي موعد في فندق بالقرب من ميدان التحرير مع زوجين أطلقا على نفسيهما اسم أوزوريتس؛ وهما مصريان معاصران يعبدان الإله المصري القديم أوزوريس. بدا الزوج، حمدي (اسم مستعار)، مثل تمثال الكاتب المصري القديم، سمين ومرح. قدمت على مائدتنا زجاجات بيرة سقارة، التي سميت على اسم أقدم أهرامات. وراء الأرائك ذات القماش القطني المنقوش والنوافذ الزجاجية، كان نهر النيل يتدفق، خالدا بلونه البني. وفقا للأسطورة المصرية، فقد طاف أوزوريس، إله العالم السفلي، مع مجرى النهر في نعش بعدما خدعه أخوه الشرير ست. وأنقذته أخته إيزيس، لكن ست وجده مرة أخرى وقطعه إلى أشلاء. عثرت إيزيس على كل القطع باستثناء قضيب أخيها الذي أعادت بناءه له من الذهب. ثم أحيته بطريقة سحرية. وأصبح إله البعث، وكان يعتقد أنه يتحكم في انحسار وفيضان النيل، وهما رمزان للموت والبعث.
أخبرني الزوجان أن أوزوريس، وإيزيس، وست - وآلهة مصرية أخرى مثل آمون - كانوا مجرد إله واحد. وأضافا أنه كان من الخطأ الحديث عن قدماء المصريين بوصفهم مشركين أو «كفارا»، كما فعل بعض المسلمين. فقد قدموا للعالم معظم أفكاره الدينية المعاصرة، بما في ذلك كلمة «آمين».
أوضح حمدي: «عندما يقول الآخرون: «آمين»، أقول: «آمون»!»
وأضافت زوجته: «نحن من اخترعنا يوم الراحة المقدس. وكتب الفرعون أخناتون مزامير داود. انظر إلى الترانيم التي كتبها لآتون، وسترى أنها هي نفسها المزامير.»
وأخبرتني عن عيد مصري حديث يمكن أن يعود مصدره إلى عيد قديم. فقبل ألفي عام كان يشار إليه باسم «قدوم أوزوريس إلى القمر»؛ ويسمى الآن شم النسيم، لكنهم ما زالوا يحتفلون به في الاعتدال الربيعي. «يتمتع هذا اليوم بقداسة خاصة. إنه اليوم الوحيد الذي يتوقف فيه كل شيء.» لا يوجد أي عيد آخر في مصر الحديثة يحتفل به المسيحيون والمسلمون. «يأكل الناس الأشياء الخضراء، والأسماك والخس، ويجلسون على العشب، ويلونون البيض الذي يأكلونه.» (يوجد طعام هو اختصاص مصري يأكلونه في شم النسيم، وهو الفسيخ، وهو نوع من الأسماك المحفوظة يقول الأكاديميون إن تاريخه يعود إلى آلاف السنين. لقد تذوقته مرة ووجدته لاذعا بشكل صادم. لكن بعض المصريين يحبونه.) وأصرت على أن هذا العيد المصري القديم كان أصل عيد الفصح.
وبفخر قومي عميق، سردت العادات والأفكار الدينية العديدة والمنتشرة التي نشأت في مصر القديمة: عادات الحج والصلاة، والصوم، ومفهوم المسيا، وأشجار عيد الميلاد، وتسمية عيد الميلاد، وإضاءة الشموع في الكنائس، والمزيد. قال حمدي: «إن العلم المصري عمره أربعة عشر ألف سنة. ودائما ما كانت تمثل ألوانه الأحمر، والأبيض، والأسود، الفخر الوطني. والنسر في وسطه هو رمز لحورس.» استطعت أن أرى أن هذين الزوجين، أيضا، كانا يبحثان عن هوية من شأنها أن تكون ملكا لجميع المصريين. ومع أنني وجدت صعوبة في تخيل أنه سيكون هناك العديد من الأشخاص الذين سينضمون إليهما في عبادة أوزوريس، فقد صرحا بكل جرأة في نهاية حديثنا بأن: «الديانة المصرية ستعود!» بعد عام، عندما كان الإخوان المسلمون يحكمون مصر، قابلت هذين الزوجين مرة أخرى، لكنهما تحدثا بشكل مختلف وأكثر حذرا. وقالا إنهما كانا مهتمين بثقافة مصر القديمة، وليس بالدين.
ومع ذلك، كانا محقين في أن المصريين القدماء كان لهم تأثير على الأديان اللاحقة. ولم يقتصر الأمر على أن المصريين كانوا أول من آمن ببعث الجسد، ولكن الفرعون أخناتون، والد توت عنخ آمون، كان أول موحد معروف في التاريخ. وألغى جميع الآلهة باستثناء محبوبه آتون، إله الشمس، وبنى تماثيل مخنثة ترمز إلى اتحاد الذكر والأنثى . وعثر على ترنيمة لآتون، ربما كتبها الفرعون نفسه: «تسطع الأرض عندما ترتفع في الأفق الشرقي وتتألق في هيئة آتون في وقت النهار، يا لتنوع أعمالك! إنها محجوبة عن أعين الناس، أيها الرب الواحد، لا يوجد لك مثيل!» يتشارك اليهود الذين عاشوا في مصر في بعض عاداتهم مع الفراعنة؛ فقد تجنب اليهود والمصريون أكل لحم الخنزير وسمك السلور، واشتركا في ممارسة عادة ختان الذكور. ومقارنة بعدد التقاليد القديمة التي لاحظت بقاءها واستمرارها في العراق، لم يستمر سوى القليل في مصر. فلم يكن في البلاد طوائف مثل المندائيين أو الزرادشتيين التي حافظت على بقاء تقاليد ما قبل المسيحية إلى العصر الحديث. والعادات الشعبية في مصر، على الرغم من تعددها وتنوعها، هي في الغالب من العصور الوسطى. ولم أعثر إلا على ثلاث عادات فقط تعود إلى العصور الفرعونية.
إحداها هي العادة التي يميز بها المصريون الموت. ففي مقبرة في القاهرة تعود إلى القرون الوسطى، تجمعت مجموعة من المساكن المصغرة في صف صامت على طول الطرق الترابية المستقيمة الفارغة بالقرب من الجامع الأزهر. وعلى الرغم من أن هذه المساكن يسكنها في الواقع في معظم أوقات العام واضعو اليد، فإنها مبنية فوق القبور وموجودة لممارسة عادة مصرية خاصة: فبعد أربعين يوما من وفاة أحد الأقارب، وفي كل ذكرى سنوية للوفاة، يتجمع العديد من العائلات المصرية في هذه المساكن الصغيرة لتناول وجبة هناك. وقد جاء أسلافهم، بالطريقة ذاتها، ليأكلوا بالقرب من قبور أحبائهم، ويقدموا الطعام لأرواحهم. أخبرني طبيب قابلته كيف استمرت في جنوب مصر العادة القديمة المتمثلة في استئجار الندابات في الجنازات، وأنه لمدة أسبوع بعد الوفاة، تئوي الأسرة الثكلى الزوار وتطعمهم. وقد صادف الطبيب نفسه مرة ندابات ارتجلن هتافات أثناء إجرائه عملية جراحية. ووقفن، يرتدين في الغالب زي الحداد الأسود، حول طاولة العمليات وارتجلن لحنا حزينا لهذه المناسبة؛ وذلك لأنهن كن يرفضهن قبول إمكانية بقاء المريضة على قيد الحياة. «آه، أيتها المرأة المسكينة التي قطع لحمك وأنت ما زلت على قيد الحياة!»
وتوجد عادة أخرى أقل جاذبية تعود حتما إلى العصور الفرعونية. كتب هيرودوت أن المصريين «يمارسون الختان بغرض النظافة»، وتشير بردية من القرن الثاني قبل الميلاد إلى أن هذه الممارسة كانت تطبق على الفتيات والفتيان على حد سواء. ولا تزال كذلك. فقد وجدت دراسة استقصائية مدعومة من الأمم المتحدة في عام 2008 بشكل صادم أن أكثر من تسعين بالمائة من النساء المصريات اللائي شملهن الاستطلاع قد تعرضن لهذه الممارسة؛ مع أنها غير شائعة بين المصريين الأفضل تعليما. وتعرف أيضا باسم تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، حيث تتضمن قطع البظر وأحيانا الشفرين أيضا بسكين. حظرت حكومة مبارك هذه الممارسة في عام 2007 بعد وفاة فتاة أثناء الجراحة. ومع أن أصلها ليس إسلاميا (حيث يمارسها بعض المسيحيين وكذلك المسلمون)؛ فقد استمرت هذه العادة المصرية القديمة الأبشع على الإطلاق أكثر من أي عادة أخرى، وعلى عكس تلك العادات الأخرى، تجتذب دعم الإسلاميين الأصوليين وليس عداءهم.
وتوجد علامة أخرى من مصر القديمة تحدق في وجوه معظم الزوار في وقت أو آخر. وهي «يد فاطمة» ذات اللون الأزرق التي تتدلى من الكثير من مرايا السيارات في القاهرة، والتي يعتقد اليوم أنها تمنع العين الشريرة، والحسد الذي يجتذبه الناس من خلال حظهم الطيب. في العصور القديمة كانت «يد حورس»، التي غالبا ما كانت تصنع من اللازورد الأزرق، تؤدي الغرض ذاته. وفي القرن التاسع عشر، بذل المصريون قصارى جهدهم لتجنب العين الشريرة؛ حيث كانوا يلبسون الأولاد ملابس الفتيات، ويلطخون وجوه الفتيات الجميلات لإخفاء حسنهن، ويطلقون على أنفسهم أسماء بغيضة مثل «العفش» أو «عصفورة» أو «الجحش».
تفهم قلة قليلة من المصريين المغزى الحقيقي لهذه العادات، مثلما يفكر معظم الإنجليز في الإله تيو عندما يلمسون الخشب من أجل الحظ. لكن السلطات الدينية المسيحية والإسلامية تريد من أتباعها التخلي عن هذه التقاليد. ويدينها تيار الإسلام السلفي بوجه خاص. في عام 2012 دعا السياسي الأصولي الإسلامي مرجان الجوهري إلى تدمير أبي الهول والأهرامات. وتقاطع الجماعات السلفية في مصر الاحتفال بشم النسيم وطالبت بإيقافه. ولا تزال كلمة «فرعون»، أيضا، كلمة بذيئة عند الإسلاميين. وعندما أراد الإخوان المسلمون في عام 2011 الترويج لدستور جديد كان سيجري التصويت عليه بنعم أو لا، ابتكروا شعار: «صوت بلا، ليحكم فرعون البلاد!» •••
لقد ضعف الدين الأصلي لمصر بسبب قرون من الحكم الأجنبي - من قبل الفرس، والإغريق، والرومان - بدءا من القرن الرابع قبل الميلاد. كليوباترا نفسها كانت من أصل إغريقي وفارسي، مع أن أسرتها حاولت اتباع العادات المصرية (أحد هذه التقاليد التي لم تكن مقبولة اجتماعيا كان زواج الفراعنة من أخواتهم؛ فكليوباترا كانت تنحدر من عدة أجيال من زواج المحارم). وصار المصريون الأصليون يحملون تسمية خاصة؛ لتمييزهم عن المستوطنين الإغريق الذين امتلكوا معظم الأرض وتولوا أمور الإدارة. فأطلق عليهم اسم «إيجيبتيي»؛ الذي اشتق منه كل من كلمة «إيجيبت» (مصر) و«كوبت» (قبطي). وبحلول القرن الثالث الميلادي، استطاع واعظ مسيحي أن يدعي أن الدين القديم كان يهيمن عليه اليونانيون، وأن المسيحية هي دين الأقباط.
لم يقتلع الإغريق بالحكم الروماني، الذي دخل مصر بعد مصرع كليوباترا، لكنه أدى إلى إلغاء دور الفرعون؛ وهو ما أدى بدوره إلى تقويض المعابد، التي كانت تعتمد على الدعم المالي من الفراعنة ولعبت دورا مهما في الحفاظ على استمرارية الثقافة القديمة. في القرن الثاني الميلادي، نرى مثالا على اضمحلال التقاليد في تقرير نقابة نحاتي الكتابة الهيروغليفية في مدينة أوكسيرينخوس؛ حيث بلغ عددهم خمسة فقط، كما ذكرت النقابة، ولم يكن لديهم متدربون لمواصلة هذه المهنة.
بقيت المعابد عدة قرون في ظل حكم الرومان، على الرغم من انخفاض قوتها. لكن في القرن الرابع، اعتنقت الإمبراطورية الرومانية الديانة المسيحية وبذلت جهودا مضنية لقمع الدين القديم. وبحماس انضم إليها العديد من المصريين، وهاجموا الفلاسفة الوثنيين وطمسوا وجوه الآلهة على الجداريات في معابدهم حتى تبطل قوتهم السحرية. وفي الحدود الضيقة لوادي النيل في مصر، لا يوجد تسجيل لبقاء أي مجتمع غير مسيحي في زمن الفتح الإسلامي. وحتى اللغة المصرية القديمة غمرت بكلمات جديدة أتت بها المسيحية؛ حيث حلت الكلمة اليونانية «سايكي»، أي: الروح، محل كلمة «كا» الفرعونية.
وبقيت بعض العادات، كما علمت في كنيسة القديس مرقس؛ لأنها اعتبرت جديرة بأن تنضم إلى الطقوس المسيحية الجديدة. وكان رجال الدين المسيحيون في مصر في كثير من الحالات المسجلة إما كهنة معابد اعتنقوا المسيحية أو أبناء كهنة معابد. لذا كانت ترنيمة مثل «بيك إثرونوس»، التي سمعتها في كنيسة القديس مرقس في كنسينجتون، مألوفة جدا لهم. واحتاجت فقط إلى بعض التعديلات حتى تصبح موجهة إلى يسوع المسيح. وقد كانت الصنوج أيضا مستخدمة في عبادة الآلهة القديمة. ولبعض الوقت، حظرت الكنيسة المسيحية استخدامها، لكنها رضخت فيما بعد؛ ولا تزال تستخدم في الطقوس القبطية اليوم.
حدث خلاف بين الكنائس القبطية، والأرمنية، والسريانية من جهة، والبيزنطيين والأوروبيين من جهة أخرى، في مجمع خلقيدونية في القرن الخامس حول طبيعة المسيح. وتمثل هذا الاختلاف ببساطة في شعور الأقباط بأن المجلس لم يكن حازما بما فيه الكفاية في اتخاذ موقف في مواجهة أولئك الذين أرادوا التمييز بين يسوع الإنسان ويسوع الإله. وشدد الأقباط على أن ليسوع طبيعة واحدة فقط، وما زالوا يشيرون إلى أنفسهم على أنهم ميافيزيون (كلمة
mia physis
في اللغة اليونانية تعني «طبيعة واحدة»). نتج عن ذلك رفض البطريرك القبطي للمجمع؛ وعلى الرغم من أن مصر كانت آنذاك جزءا من الإمبراطورية البيزنطية، كان البطريرك وليس الإمبراطور هو الحاكم الحقيقي لمصر. وتأثرت العلاقات بين الأقباط وبيزنطة. وعكس الخلاف توترات أخرى أيضا؛ ربما من بينها كراهية الأقباط الطويلة الأمد للحكم الأجنبي. ومن المؤكد أن الانقسام الديني زاد من عمق هذه الكراهية، ولم يقاوم الأقباط كثيرا عندما غزا العرب المسلمون مصر في القرن السابع. وتوترت العلاقات إلى حد ما عندما فرضت الحكومة الإسلامية الجديدة ضرائب باهظة على السكان غير المسلمين؛ مما أدى إلى حدوث وقائع تمرد. ومع ذلك، ظل معظم المصريين مسيحيين حتى القرن العاشر، وظلت اللغة القبطية لغة شائعة حتى القرن الثالث عشر، حيث فرضت اللغة العربية تدريجيا. وفي القرن الرابع عشر، في أعقاب الحروب الصليبية والغزوات المغولية، زادت وتيرة أعمال الشغب ضد المسيحيين، وفرضت السلطات قوانين للحد من نفوذ الأقباط ومكانتهم. وأثناء رحلة الراهب الألماني يوهان فانسليب لاستكشاف مصر عام 1672، ذكر أن الأقباط كانوا «خائفين للغاية من الاستبداد المستمر لدرجة أنهم كانوا يرتجفون كأوراق الشجر من أقل ضجة.»
إن الإعجاب بالفراعنة ظاهرة حديثة بين كل من الأقباط والمسلمين. ففي القرآن، يحتل الفرعون الذي اشتهر برفضه السماح لموسى واليهود بمغادرة مصر موضعا بارزا. وقد وصف بأنه «من المفسدين»، إذ نصب نفسه إلها، ومجد نفسه، واحتقر الفقراء. ولذلك، على عكس «الصابئة» في حران، كان الفراعنة دائما يعرفون بأنهم وثنيون وكان ينظر إلى مواقعهم الدينية بعين الريبة. ويقال إن أحد الحكام المسلمين الأوائل أراد هدم الأهرامات. ووفقا لمؤرخ القرون الوسطى المقريزي، نجح صوفي من القرن الرابع عشر في تحطيم أنف أبي الهول، ويبدو أنه كان غاضبا من حقيقة أن الفلاحين المحليين كانوا يقدمون القرابين له بوصفه إلها (إشارة نادرة إلى احتمالية أن الآلهة القديمة كانت لا تزال تعبد، سرا). ولم يكن الشخص العادي الذي يعيش في مصر يرى بالضرورة أن «المصرية» هوية. وذكر ويليام براون، وهو زائر بريطاني للقاهرة في القرن الثامن عشر، أن التجار المحليين كانوا يشيرون إلى أنفسهم ببساطة على أنهم عرب. وأصبح في هذه المرحلة مصطلح «الأقباط»، الذي كان يستخدم في الأصل لوصف المصريين الأصليين، مستخدما لوصف المسيحيين فقط.
لكن خلال القرن التاسع عشر، بدأ هذا التوجه يتغير. وكان الحافز وراء ذلك سلسلة من الاكتشافات، التي جرت في البداية على يد علماء آثار غربيين، وكشفت عن المهارات والإنجازات الفنية للمصريين القدماء. واكتشف علماء الآثار معبد أبي سمبل، الذي تحرسه تماثيل بارتفاع خمس وستين قدما للفرعون رمسيس الثاني، في عام 1813. وفي عام 1817، عثروا على مقبرة سيتي في وادي الملوك، بما في ذلك فرش الرسامين التي كانت لا تزال على الأرض تحت الصور اللامعة باللونين الأزرق والذهبي التي تظهر مسيرة روح الفرعون في الحياة الأخرى. أسهمت هذه الاكتشافات وغيرها في ظهور ظاهرة «الهوس بالحضارة المصرية» في أوروبا وأمريكا؛ التي تتمثل في حماس لمحاكاة العمارة المصرية القديمة.
تزامن ذلك مع حدوث تحولات ثقافية وسياسية داخل مصر ذاتها. ففي القرن التاسع عشر، على الرغم من كون مصر والسودان ولايتين تابعتين رسميا لإمبراطورية السلطان العثماني في إسطنبول، كانت تحكمهما في واقع الأمر بوصفهما كيانا منفصلا أسرة محمد علي؛ التي سميت على اسم مؤسسها، وهو مغامر ألباني ناجح، أسس قاعدة سلطته من خلال دعوة خصومه إلى مأدبة ثم ذبحهم جميعا عندما هموا بالرحيل إلى منازلهم. وعلى الرغم من هذه البداية الدموية، شكلت الأسرة الحاكمة قوة للإصلاح والتحديث في مصر.
وكان إسماعيل، العضو الثالث في الأسرة الحاكمة، الذي حكم من عام 1863 إلى عام 1879، طموحا بشكل خاص. فقد حد من تجارة الرقيق، وبنى أكبر سكة حديدية في أفريقيا، وبدأ حفر قناة السويس. كما افتتح أول متحف مصري عام 1863، قبل ذلك المتحف الكائن في ميدان التحرير. وصمم هذا المتحف على الطراز الفرعوني. ولطمأنة المسلمين المتدينين الذين ترددوا في محاكاة الفراعنة المشركين، أكد عالم ديني يدعى طهطاوي أن الفراعنة كانوا في الواقع «صابئة» يعبدون إلها واحدا في صور مختلفة. وفي عام 1864 كتب واحد من تلاميذ طهطاوي، واسمه أبو السعود، تأريخا لمصر القديمة داعيا سكانها المعاصرين إلى تقليد أسلافهم «في العمل معا بوصفهم مصريين حقيقيين وطنيين، من أجل نهضة مصر.» واعتبارا من عام 1867، ظهرت الأهرامات على طوابع البريد المصرية.
لم تكن هذه مجرد حركة عاطفية للحنين إلى الماضي. بل كانت لها صلة بمكانة مصر في العالم. فبفضل أمجاد تاريخ مصر، تمكن إسماعيل من مواجهة الحكام الأوروبيين بثقة. كما أن تلك الأمجاد شكلت أساسا لرؤية مصر ليس باعتبارها ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية وإنما بوصفها دولة مستقلة كما أراد لها إسماعيل. وأثر هذا التركيز على هوية مصر المستقلة على موقف إسماعيل تجاه الدين أيضا. فقد وبخ وزيرا مسلما تحدث عن موظف حكومي بازدراء قائلا «هذا المسئول القبطي»، والتفت إلى الشخص المتكلم وقال: «الجميع مصريون على حد سواء.» كان هذا التأكيد على المساواة بين المسيحيين والمسلمين (بالإضافة إلى الهوية الوطنية الموحدة) مهما؛ فلم يعف المسيحيون من دفع الجزية المفروضة عليهم بصفتهم غير مسلمين إلا عام 1855. ومنح إسماعيل أراضي للمدارس القبطية، وجعل الأقباط يشاركون في برلمان أولي أنشأه، وأطلق عليه اسم مجلس شورى النواب؛ وعين قبطيا رئيسا للصحافة الرسمية للحكومة وآخر رئيسا لوزارة المالية. في نهاية مدة حكمه عين نوبار باشا، المسيحي الأرمني، رئيسا للوزراء. واستفاد أيضا اليهود الموجودون في البلاد من مناخ الانفتاح الديني الجديد؛ حيث شجع إسماعيل الكاتب المسرحي المصري اليهودي يعقوب صنوع بالإشادة به ووصفه بأنه «موليير مصر». وسار التحرر الديني جنبا إلى جنب مع الاحتفال بالتراث المصري القديم ومشروع بناء الدولة المصرية.
لا عجب إذن في أن الأقباط المثقفين أحبوا مصر القديمة، مع أن الكتاب المقدس المسيحي نادرا ما يتحدث عنها بلطف أكثر من القرآن. فأنشئوا نادي رمسيس الاجتماعي وصحيفة اسمها «فرعون». حتى إنه كانت توجد جهود لإحياء اللغة القبطية بوصفها لغة للحياة اليومية. إذ كان فانسليب قد كتب في سبعينيات القرن السابع عشر أنه «سعد برؤية الرجل الذي ستختفي معه اللغة القبطية تماما.» وفي بداية القرن العشرين، أصر عالم مصريات قبطي يسمى كلوديوس لبيب على أن يتكلم أطفاله اللغة القبطية في البيت. وافتتح متحف قبطي عام 1908 للاحتفال بالإنجازات الثقافية المصرية في عصر ما بعد الفراعنة.
وبحلول عام 1919، كان الأقباط ميسوري الحال بقدر بني جلدتهم المسلمين؛ فقد كانوا يمتلكون عشرين بالمائة من الأراضي الزراعية في البلاد؛ وفقا لتقدير بريطاني، وقدر أيضا أن هذا كان أعلى بكثير من نسبتهم من تعداد السكان. وكان رئيس الوزراء في ذلك العام، يوسف وهبة، قبطيا (ثالث مسيحي يتولى هذا المنصب). لكن بحلول هذا الوقت، تغير السياق السياسي عن أيام إسماعيل. فقد كانت بريطانيا تسيطر على الحكومة من وراء الستار؛ إذ كانت قد أصبحت أكبر دائن لمصر، ثم تولت فعليا إدارة شئون البلاد، عندما تسببت خطط الإنفاق الطموحة التي وضعها إسماعيل في إغراق بلاده في الديون. وبالإضافة إلى الظهور في الحكومة، كان الأقباط نشطين أيضا إلى جانب المسلمين في الحركة المتنامية من أجل استقلال مصر عن الهيمنة البريطانية؛ حيث تجمع المتظاهرون في ميدان التحرير عام 1919 تحت راية الهلال والصليب الموحدين. وعندما شكل حزب الوفد القومي المصري ، بقيادة زعيم صاحب رؤية يدعى سعد زغلول، وفدا من سبعة ممثلين مصريين للذهاب إلى السفير البريطاني والمطالبة بالاستقلال، كان زغلول حريصا على ضم قبطي. حتى إن كاهنا مسيحيا خطب من منبر أهم جامع في البلاد، الجامع الأزهر، عام 1919، لأول مرة في التاريخ. وأعلن القمص سرجيوس قائلا: «إذا بقي البريطانيون في مصر بحجة حماية الأقباط، فليمت كل الأقباط ويحيا المسلمون أحرارا.»
في القاهرة أثناء زيارتي في عام 2011، كان هناك عوامل تحيي ذكريات ذلك الوقت. فبالقرب من ميدان التحرير، في الجهة المقابلة لمكتبة للكتب القديمة كانت جدرانها الخارجية ملطخة ببقع الدم، كان هناك رجل يرتدي قميصا مكتوبا عليه «البنادق لا تقتل. الحكومات تفعل» يبيع قمصانا مرسوما عليها هلال وصليب. ورأيت ذلك الرمز مرسوما على الجدران في جميع أنحاء المدينة. ومن خلال استحضار روح ثورة 1919، كان الأشخاص الذين رسموه يؤكدون على الوحدة الوطنية في مواجهة أولئك الذين أرادوا إثارة الخلافات بين المسيحيين والمسلمين.
التقطت هذه الصورة لرمز الهلال والصليب في عام 2011 في منطقة بالقرب من الجامع الأزهر في القاهرة، وهي منطقة تضم أغلبية مسلمة. ويعبر هذا الرمز عن رغبة المسيحيين والمسلمين في التغلب على خلافاتهم والعمل معا من أجل الحرية. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
ومع ذلك، لم يكن كل السياسيين المصريين الذين طالبوا بالاستقلال في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي؛ متفتحي العقل مثل زغلول. ففي عام 1928، توجهت مجموعة من العمال في المعسكر البريطاني في مدينة الإسماعيلية الساحلية للقاء حسن البنا، وهو من المعارضين المثقفين للعلمانية، وقالوا له: «نحن نرى أن العرب والمسلمين ليس لهم منزلة ولا كرامة. إنهم ليسوا أكثر من مجرد أجراء يمتلكهم الأجانب.» وأقسموا أن يكونوا جنودا للإسلام، لكن البنا اختار للجماعة اسما أكثر براءة هو: الإخوان المسلمون. كان من بين المطالب الأولى التي قدمها الإخوان للحكومة المصرية حظر الكحول وقمع الدعارة التي انتشرت خلال الحرب العالمية الأولى، عندما كان الجنود الأجانب متمركزين في مصر. ودعا الإخوان البريطانيين إلى الانسحاب من مصر. لكن كان لهم أيضا طموحات أكبر تتمثل في: توحيد جميع أراضي المسلمين تحت قيادة خليفة يفرض شريعة إسلامية صارمة.
حاول السياسي القبطي وليم مكرم عبيد الوصول إلى أرضية مشتركة مع الإخوان، وكان السياسي الوحيد الذي احتج عندما حلت الحكومة المصرية الحركة عام 1948. كما كان السياسي الوحيد الذي حضر جنازة حسن البنا بعد مقتل الأخير على يد عملاء حكوميين في العام التالي. وبدورهم، زعم الإخوان أنه ليس لديهم أي خلاف مع الأقباط. لكن من الناحية العملية، أرادت الحركات الإسلامية الجديدة تقويض خصومها العلمانيين. وقد ساعدتهم مهاجمة الأقباط، الذين غالبا ما لعبوا دورا في الأحزاب العلمانية في البلاد، في هذا المسعى. وفي أربعينيات القرن الماضي، أدى الخطاب الإسلامي إلى حرق الكنائس، والاعتداء على الكهنة، ومهاجمة الاحتفالات القبطية. وفي الوقت ذاته، أثر حتما تركيز البنا على النضال ضد الأجانب المسيحيين في خطاب الإخوان المسلمين حول المسيحية بشكل عام. ولم يشارك الإخوان إسماعيل حماسه لأن تكون مصر دولة يتساوى فيها جميع المواطنين. وبدلا من ذلك، كان البنا فخورا بمصر بالأساس؛ بسبب دورها التاريخي في الدفاع عن الإسلام في مواجهة الصليبيين، تلك الرؤية التاريخية التي لم تمنح الكثير من الكرامة الحقيقية للأقباط. فقد قدمت الحركة للأقباط موقف الدونية السلمية، وليس المساواة التي قدمها بعض القوميين العلمانيين.
وعندما حدث الاستقلال فعلا، لم يصعد إلى السلطة ليبراليون على غرار زغلول ولا إسلاميون. ففي عام 1952، أطيح بفاروق، حفيد حفيد محمد علي، على يد مجموعة من ضباط الجيش الذين لم يكونوا معروفين من قبل. وأصبح أحد هؤلاء، وهو محمد نجيب، رئيسا للبلاد. وبعد ذلك بأربع سنوات أطاح به البكباشي جمال عبد الناصر، الذي نجح بعد ذلك في تحقيق انسحاب جميع القوات البريطانية من البلاد، وحكم مصر من عام 1956 حتى عام 1970. ومع أنه خلص مصر من كل سيطرة أجنبية، إلا أن عنوان سيرته الذاتية ليس «أول المصريين» بل «آخر العرب». فقد كان المؤلف يشير إلى حقيقة أن عبد الناصر رأى نفسه عربيا وليس مصريا؛ إذ أراد للشعوب الناطقة بالعربية، التي تعيش في بلاد مختلفة تمتد من مراكش إلى بغداد، أن تتحد وتثور على حكامها الاستعماريين، وتشكل أمة واحدة.
لم يكن عبد الناصر مهتما جدا بمصر على هذا النحو. وبالفعل اختفى اسم «مصر» من على الخريطة أكثر من عقد، حيث غير ناصر اسم الدولة إلى الجمهورية العربية المتحدة وسعى إلى توحيدها مع سوريا. كما أعاد توزيع أراضي مصر، وسحق النظام الإقطاعي القديم. أثر هذا على ملاك الأراضي المسلمين والأقباط على السواء، ولكن بما أن النخبة القبطية العادية كانت تبلي بلاء حسنا في ظل النظام الملكي، فقد تأثرت بشدة؛ يشير أحد التقديرات إلى أن الأقباط فقدوا خمسة وسبعين بالمائة من ثرواتهم وممتلكاتهم. وكان الأقباط العاديون من الطبقة العليا الذين أفقرهم هذا الإجراء في كثير من الأحيان من قادة الطائفة السياسيين، ومن ثم لم تكن الطائفة أفقر فحسب، بل كانت أيضا أقل نفوذا. ولم يضم مجلس قيادة الثورة المؤلف من ثمانية عشر عضوا، والذي تولى إدارة مصر بعد الثورة، مسيحيا واحدا. ومع ذلك، لم يسمع أحد تقريبا بواقعات عنف ضد الأقباط بينما كان عبد الناصر على قيد الحياة. ويرجع ذلك جزئيا إلى أجهزته الأمنية المخيفة، التي قمعت الحركات الإسلامية بلا رحمة، وإلى شعبيته الكبيرة. لم يعبر ناصر أبدا عن أي تحيز ديني؛ فهناك مكان للمسيحيين وكذلك للمسلمين في القومية العربية (وفي الواقع، كان بعض مؤيديها الأوائل من المسيحيين السوريين). وكان ناصر على علاقة وثيقة بالبابا القبطي، وقام بمبادرات جيدة تجاه الأقباط مثل حضور افتتاح كاتدرائيتهم الجديدة في القاهرة.
وفيما يخص طائفة أخرى، كان صعود ناصر بمنزلة بداية النهاية. ففي عام 1956، بعد أن انضمت إسرائيل إلى بريطانيا وفرنسا في مؤامرة سرية لزعزعة استقرار مصر والاستيلاء على قناة السويس، جرد ناصر العديد من المصريين اليهود من جنسيتهم. وعمل على طرد الآلاف من البلاد، وتأميم - أي: مصادرة - أعمالهم التجارية. وكانت اليهودية هي الديانة الأقدم في البلاد؛ حيث كان هناك يهود في مصر منذ القرن السابع قبل الميلاد على الأقل. وقال لي طبيب مصري مسيحي يدعى أمين مكرم عبيد في شقته المطلة على النيل: «كان لدينا جيران يهود عندما كنت طفلا. رجل يدعى السيد شحيط وعائلته. أخبر والدي أنه وجد زوجا لأختي. وبعد ذلك ببضعة أشهر اختفى. اختفوا جميعا. كنا نشك فيما حدث» - كانوا قد رحلوا - تنهد الطبيب قائلا: «ولكن لم يكن لدى أي منا الشجاعة للسؤال؛ لأننا حينئذ كنا سنتورط بوصفنا مسيحيين. كيف يمكن أن يؤثر إيمان شخص ما داخل أربعة جدران على قبول المجتمع له؟» كان قد علق لوحة لرجل يرتدي شالا يهوديا للصلاة في موضع هو أول ما يراه الزائر، على أمل أن تصدم الناس وتبعد عنهم تحيزهم. لا يزال يوجد كنيس يهودي واحد في القاهرة، ولكن لم يتبق في البلد كله سوى عشرة يهود.
بعد وفاة عبد الناصر، واجه الأقباط تحديا جديدا. فقد كانت عمليات حرق الكنائس نادرة قبل عبد الناصر ولم يسمع بها أحد خلال مدة حكمه. وعندما أصبح أنور السادات رئيسا عام 1970، تغير هذا الحال. فقد نصب السادات نفسه على أنه «الرئيس المؤمن»، ولكي يطوق منتقديه اليساريين، تحالف مع الإسلاميين. ومنحت العصابات المتطرفة ترخيصا واسع النطاق للعمل في الجامعات المصرية، حيث هاجموا منتقدي السادات اليساريين وفرضوا أيضا نسختهم الخاصة من الشريعة الإسلامية في الجامعات. وفي عام 1972، كان الحرق المتعمد لإحدى الكنائس القبطية إيذانا ببداية حقبة جديدة من العنف الطائفي.
في الوقت ذاته، كان نهج الحكومة في التعليم يمر بتغيير أوسع نطاقا. تذكر يوسف سيدهم، المحرر بجريدة «وطني» القبطية، تلك المرحلة عندما تحدث معي في مكتبه بوسط القاهرة. «بعد أسلمة مصر في أواخر السبعينيات، حذف التاريخ المسيحي من المنهج الدراسي. فقد مورس ضغط من أولئك الذين تولوا شئون التعليم. وسلب التاريخ القبطي.» وفي الكتب المدرسية الجديدة، خصصت أربع صفحات فقط من 240 صفحة للتحدث عن ماضي مصر المسيحي. وحل القرآن محل الشعر الدنيوي في فصول اللغة العربية، مهمشا التراث الثقافي المشترك بين المسيحيين والمسلمين. وخصصت شبكات التلفزيون الحكومية للبرامج الدينية الإسلامية ثلاثين ساعة في الأسبوع، بينما خصصت للبرامج المسيحية مساحة زمنية مرة واحدة فقط في السنة (في عيد الميلاد المجيد). وفي مقال متعمق لصحيفة «الأهرام» المصرية في مايو 2013، تذكر الخبير التربوي كمال مغيث أنه في الثمانينيات، صرح أحد كتبه المدرسية بأن الكتاب المقدس ملفق. وأجبر زملاؤه المسيحيون على حفظ آيات من القرآن.
كذلك أشار لي جورج إسحاق، وهو معارض مخضرم للحكومة العسكرية المصرية، أن عصر السادات كان هو اللحظة المحورية. وقد ذاع صيت إسحاق، وهو رجل في الستينيات من عمره، قبل عشر سنوات بسبب احتجاجاته الصريحة على حكم الرئيس حسني مبارك. والتقيت به في مقهى للفنانين يسمى جروبي. ومن الواضح أنه كان يحظى بشعبية بين الزبائن؛ فأثناء حديثنا، كان يقاطعنا شخص ما كل دقيقتين ويصافحه، أو ينهض هو نفسه لتحية شخص ما على طاولة أخرى.
قال إسحاق، بين هذه المقاطعات: «بدأت الطائفية في مصر مع السادات. فعندما قال السادات: «أنا مسلم وهذه دولة مسلمة»، تسبب هذا في خوف الناس بما يتجاوز المعنى الحرفي للكلمات. وسواء أكان ذلك من حسن الطالع أم العكس، فقد كان رئيس الكنيسة القبطية في ذلك الوقت رجلا يدعى شنودة» - كان يقصد البطريرك شنودة الثالث، الرجل الذي كرس كنيسة القديس مرقس - «وكان يتمتع بشخصية مؤثرة. وجذب الناس إلى الكنيسة، وأصبحت حياتهم كلها داخل الكنيسة.» أومأت برأسي موافقا. فقد رأيت آثار ذلك في الكنيسة في شبرا، التي كانت أكثر بكثير من مجرد مكان للصلاة. لقد أصلح شنودة الكنيسة القبطية، مانحا القوة لجيل جديد من رجال الدين المتعلمين والمتسمين بالحيوية؛ فقد كان هو ومعاصروه مصدر الإلهام لحدوث طفرة في أعمال الرهبنة. «ثم بدأ التوتر. وتظاهر الكهنة عندما منعوا من بناء الكنائس.» فقد اشترط قانون مصري قديم على الأقباط الحصول على تصريح قبل بناء كنيسة جديدة، أو حتى تجديد كنيسة قائمة. وكانت حكومة السادات بطيئة في منح هذه التصاريح؛ مما تسبب في حالة من الإحباط وسط الأقباط. وفي عام 1981، أدى خلاف حول خطة لبناء كنيسة قبطية إلى اشتباكات دامية في ضاحية فقيرة ومكتظة بالقاهرة؛ حيث قتل سبعة عشر شخصا في أسوأ حادث على الإطلاق من أعمال العنف بين الأقباط والمسلمين. وقاد البطريرك شنودة الثالث احتجاجا سلميا على ما اعتبره إخفاقا حكوميا في حماية الأقباط، واتهم الإسلاميون شنودة بالسعي لإقامة دولة قبطية، وقالوا إن الدولة الإسلامية وحدها هي التي ستوقف العدوان القبطي، ودعوا إلى فرض حظر كامل على الكنائس الجديدة. واستجاب السادات لذلك الأمر بوضع شنودة وعدد من رجال الدين المسلمين قيد الإقامة الجبرية. لكن في وقت لاحق من ذلك العام، اغتيل السادات على أيدي متطرفين إسلاميين غاضبين من اتفاق السلام مع إسرائيل. (صاح الرجل الذي أطلق عليه الرصاصات القاتلة وهو يفعل ذلك قائلا: «قتلت الفرعون!») حل حسني مبارك محل السادات وبنى ظاهريا علاقة أفضل بكثير مع الكنيسة القبطية، حيث منح تصاريح لبناء الكنائس وجعل عيد الميلاد القبطي عطلة رسمية. لكن إسحاق رأى الأمور بشكل مختلف. وتابع قائلا: «لقد وجد مبارك أن بإمكانه استخدام هذه القضية لتشتيت الانتباه. وقامت القوات الأمنية بتحالفات تكتيكية مع السلفيين.» كان السلفيون إسلاميين مثل الإخوان المسلمين لكنهم عزفوا عن السياسة.
وزاد عدد قوات الأمن زيادة كبيرة في مواجهة خطر الإرهاب. فبين عامي 1974 و2004، ومع تزايد الاعتداءات على الأقباط والشرطة نفسها، زاد عدد أفراد الشرطة المصرية من 150 ألفا إلى 1,7 مليون. ومع ذلك، ظل الأقباط محرومين من المساواة. فلا يوجد رؤساء جامعات أو رؤساء شركات حكومية أقباط. وأخبرني موظف بنك مصري، مسلم، أن الموقف تجاه الأقباط يشبه الموقف الذي «قد تتخذه تجاه أخ أصغر؛ غير شقيق، في الواقع. شخص تعرف أنه موجود، لكنك تفضل حقا عدم وجوده.» ولم توفر حكومة مبارك الحماية الكاملة للأقباط. فعلى سبيل المثال، في شهر يناير من عام 2000، قتل ستة عشر مسيحيا في قرية الكشح. وكانت أطول عقوبة أصدرت في جرائم القتل عامين، على الرغم من أن رجلا حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات إضافية لحيازته سلاحا ناريا غير مرخص.
ومع ذلك، لم تواجه الكنيسة القبطية مبارك أبدا بالطريقة التي واجهت بها السادات لمدة وجيزة. كما أنها لم تطالب بالديمقراطية في مصر، أو وافقت على مشاركة الأقباط في مظاهرات ميدان التحرير عام 2011. ويبدو أنها شعرت أن البديل لمبارك - وهو الإخوان المسلمون - سيكون أسوأ. ولم تفعل جماعة الإخوان شيئا يذكر لتهدئة مخاوف الأقباط عندما دعت في التسعينيات إلى إقصاء الأقباط من المناصب العليا في الجيش أو في عام 2007 عندما نص الدستور المصري على أن المسلم وحده هو الذي يمكن أن يكون رئيسا. وفي عام 2006، نقل عن المرشد الأعلى لجماعة الإخوان، مهدي عاكف، قوله: «طز في مصر»، التي تعني تقريبا «فلتذهب مصر إلى الجحيم» - وذلك على ما يبدو لأنه، بصفته إسلاميا، كان ينبذ الدولة الوطنية لصالح استعادة الخلافة الإسلامية.
وكان الحل، لبعض الأقباط، هو الهجرة، التي كانت أسهل عليهم بسبب مستويات تعليمهم المرتفعة نسبيا والموقف الإيجابي من جانب الحكومات الغربية. وبين عامي 1993 و1997، قدم الأقباط ستة وسبعين بالمائة من طلبات المصريين للهجرة الدائمة إلى الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا. وانغمس آخرون أكثر في الكنيسة، واستثمروا طاقتهم في جعلها مجتمعا داخليا أكثر شمولا وفاعلية. التقيت قبطيا أصيب بجروح في احتجاج على حرق الكنيسة، ألقى خلاله الأقباط الحجارة وأطلقت قوات الأمن النار. وعلى الرغم من أن ساقه لم تشف بعد، قال: «ما دمت تشعر بالتهديد من الآخرين، فستكون هويتك قوية.» كما أن المسيحيين ليسوا وحدهم من يفضلون المؤسسات الدينية على المؤسسات العلمانية. فقد ذكرت مؤسسة جالوب في عام 2013 أن اثنين وتسعين بالمائة من جميع المصريين، مسلمين ومسيحيين، يثقون في مؤسساتهم الدينية. ولم تقترب أي مؤسسة أخرى من هذه النسبة. وببساطة، فإن البطريرك شنودة ومن يكافئه من المسلمين، بسبب فطنتهم وتفانيهم، اكتسبوا قدرا كبيرا من التأثير. وقد أساء بعض رجال الدين المتشددون استخدام هذا الأمر. وكانت المحصلة الإجمالية هي أن الأشياء التي كانت توحد المسلمين والمسيحيين أخذت تقل شيئا فشيئا.
عرفت كل هذه المعلومات في القاهرة. لكنني كنت أعلم أنه إذا أردت أن أفهم مصر، وخاصة أن أفهم المسيحيين في مصر وطبيعة علاقتهم بجيرانهم المسلمين، فعندئذ سيتعين علي الذهاب إلى المكان الذي جاء منه معظم أقباط مصر: جنوب القاهرة، حيث يمتد وادي النيل مئات الأميال من الصحراء التي لا نهاية لها. كان سكان هذه المنطقة (التي تسمى الصعيد، أو مصر العليا - وهو الاسم ذاته الذي كانت تحمله في العصور القديمة) أبطأ في اعتناق الإسلام، وفي أواخر عشرينيات القرن الماضي، كان ثمانون بالمائة من مسيحيي مصر يعيشون في الصعيد.
وعلى الرغم من هجرة أعداد كبيرة من الأقباط نحو الشمال منذ ذلك الحين - حيث قال لي أحد العلماء إن أكثر من نصف الأقباط يعيشون الآن في القاهرة والمدن الشمالية الأخرى - فإن الصعيد لا يزال معقلهم. وما لا يقل عن ربع سكان مدينة المنيا، على سبيل المثال، التي تقع على بعد 140 ميلا جنوب القاهرة، هم من الأقباط؛ وهي أكبر نسبة للأقباط في أي مدينة في مصر. لكن هذه المحافظة تعاني الفقر، حيث يزيد معدل البطالة فيها عن ثمانين بالمائة؛ وأكثر من ثلث سكان المحافظة أميون (وإن كانت الأرقام أفضل في المدينة). وقد وقع في هذه المحافظة أكبر عدد من الاشتباكات بين المسيحيين والمسلمين؛ فربما يكون ما يصل إلى خمسة وستين بالمائة من العنف الطائفي في مصر قد حدث هناك. لذا قررت أنه لكي أفهم الأقباط - تاريخهم، ومعتقداتهم، ومستقبلهم - كنت بحاجة إلى فهم المكان بشكل أفضل. وفعلت ذلك في عام 2012، بينما كانت أول انتخابات ديمقراطية في مصر تنتقل إلى جولتها الثانية. وبعد مدة وجيزة من زيارتي، كان المصريون سيختارون بين المرشحين المتبقيين: أحمد شفيق، وهو مسلم تلقى تعليمه في مدرسة للرهبان اليسوعيين، وكان قد عمل في الحكومة في ظل حكم الرئيس مبارك، ومحمد مرسي، من جماعة الإخوان المسلمين. (كانت المنيا واحدة من أكثر المناطق المؤيدة لمرسي في مصر، حيث أعطته أربعة وستين بالمائة من الأصوات، وحصل شفيق على ستة وثلاثين بالمائة.)
بنيت محطة القطار الرئيسية في القاهرة - التي تسمى محطة رمسيس؛ لأن تمثال رمسيس كان هناك يوما ما - لأول مرة في خمسينيات القرن التاسع عشر، عندما أمر إسماعيل ببناء أول خط سكة حديدية في أفريقيا لنقل القطن من القاهرة إلى الإسكندرية؛ لتصديره عن طريق البحر. وفي هذا المكان، أيضا، خلعت الناشطة النسائية المصرية هدى شعراوي حجابها في عام 1923، بعد عودتها من مؤتمر في أوروبا، على مرأى من الجماهير المذهولة التي جاءت لتستقبلها؛ وهي خطوة كانت مصدر إلهام للأجيال اللاحقة من النسويات العربيات. أسرعت عبر الأقواس المغاربية التي تأخذ شكل حدوة الحصان والجدران المكسوة بالبلاط الخزفي؛ لشراء تذكرتي. وجدت أنه يوجد رصيف خاص للصعيد، وأعداد متناثرة من الناس تنتظر هناك للصعود على متن القطار. وفي مكتبة صغيرة على رصيف القطار كانت توجد كتب معروضة، أعلن العديد منها بصور بها نيران متوهجة عن موضوعها: الحيل التي يستخدمها ممارسو السحر الأسود وكيفية مقاومتها. وتذكرت الصبية السلفيين الذين تصوروا أنهم عثروا على أدوات لإلقاء التعاويذ في قبو الكنيسة المحروقة.
سرعان ما بدأت عجلات القطار في الدوران ببطء نحو الجنوب، عبر ضواحي القاهرة ذات المباني السكنية الرخيصة المبنية من الطوب. في محطة تصطف على جانبيها الأشجار في واحدة من أفقر ضواحي القاهرة، دخل صبية القطار لبيع المناديل المعطرة والحلوى الرخيصة. وبعد نحو نصف ساعة من الرحلة، انضمت إلى مسار القطار قناة ضيقة مسدودة تمضي بمحاذاته. في النهاية غادرنا المدينة وتوجهنا إلى حقول وادي النيل الخضراء، وتكرر توقفنا في بلدة صغيرة تلو الأخرى. وطوال الوقت كانت القناة تمضي بمحاذاة السكة الحديدية. ورأيت أناسا يغسلون فيها الصحون وملابسهم. في المساء، وصلنا إلى المنيا. عندما خرجت إلى الرصيف، انتزع حمال مسن حقيبتي بسرعة، وعلى الرغم من اعتراضاتي، تمسك بها بتجهم وحملها عبر جسر السكة الحديدية.
كان يوجد فندق رئيسي وحيد في المدينة، وهو عبارة عن مبنى خرساني ضخم يسمى أخناتون، وفيه سجلت دخولي وأمضيت هذه الليلة. كانت غرفتي تحتوي على تجهيزات كانت أنيقة يوما ما؛ في السبعينيات، حسبما ظننت. لم يكن يوجد سائحون مقيمون هناك. وفي البهو لم يكن يوجد سوى موظفي الفندق يدخنون السجائر. تحدثت معهم بعض الوقت، وأوضحوا لي مدى تفوق سكان المنيا على سكان المناطق الأخرى. قال لي أحدهم: «لا يمكنك أن تثق في سكان القاهرة، فهم ليسوا ودودين مثلنا. وإذا ذهبت جنوبا من هنا، إلى أسيوط، فستجد الناس هناك سريعي الغضب للغاية . لكن هنا في المنيا، الناس بين بين. فهم يتميزون بالوسطية.»
وجدت أثناء تجولي في المدينة أن المنيا كانت بالفعل ودودة أكثر من القاهرة، وجميلة، بطريقتها الخاصة الهادئة، حيث تطل على نهر النيل والتلال الرملية المنخفضة خلفه. وكانت حديقة صغيرة على ضفاف النهر مليئة بالعائلات، حيث كان بعض الناس يلعبون كرة القدم، وآخرون يدخنون الشيشة. وعلى متن قارب يرسو على جانب النهر، كان حفل زفاف يجري على قدم وساق، حيث كان العروس والعريس يرقصان على أنغام أغنية مصرية شعبية. وامتلأت ساحات المدينة بالناس الذين يستمتعون بنسيم المساء، وجلس الرجال والنساء معا. كانت معظم النساء غير محجبات، وهي علامة شبه مؤكدة - في هذه المدينة المحافظة - على أنهن مسيحيات. (في القاهرة تخرج نساء مسلمات دون حجاب؛ ولم أر قط واحدة منهن في المنيا.) ونظرا إلى أنه كان مساء أحد أيام الأحد، خمنت أن هؤلاء الأزواج ربما خرجوا لتوهم من الكنائس والمراكز الاجتماعية المسيحية في الشوارع المجاورة. وعندما ذهبت إلى كشك على جانب الطريق للحصول على كوب من عصير البرتقال، كانت راهبة أمامي في الصف تطلب كوبا من عصير قصب السكر.
مكنني أصدقائي في الفندق من التواصل مع سائق محلي ليأخذني إلى القرى والأديرة في المناطق الريفية. وفي صباح اليوم التالي، أثناء انتظاري له، تجولت في الحديقة مرة أخرى. وعبر النهر رأيت ثورا يجر محراثا في الحقول. وتركت الاحتفالات الليلية اللطيفة في المدينة الكثير من القمامة في الحديقة، وجاءت شاحنة جمع القمامة لجمعها. وألقت فتاة محجبة - من قرية مجاورة، حسبما خمنت - أكياس القمامة في الشاحنة ثم قفزت وراءها. وأثناء ما كانت الشاحنة تبتعد، كانت تغني وتضحك واضعة قدميها على الأكياس.
تزدهر الأديرة المسيحية في مصر اليوم، ويرجع ذلك جزئيا إلى انغماس المسيحيين في مجتمعهم الطائفي. ويتوسع بسرعة دير أبي فانا، الذي يعود تاريخه إلى القرن الرابع ويظهر هنا في عام 2012. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
عندما وصل السائق كان مسرورا لسماع أننا سنرى بعض الأديرة القبطية المحلية. كان هو نفسه قبطيا واسمه جورج. (على الرغم من أن القديس مرقس يعتبر مؤسس الكنيسة القبطية، عادة ما يسمى الأطفال على اسم مار جرجس - وصورته وهو يغرز رمحا في تنين هي صورة شائعة في الكنائس والمنازل، تماما مثلما كان يصور المصريون القدماء الإله حورس وهو يغرز رمحه في فرس النهر.) واشتكى قائلا: «السائحون لا يهتمون أبدا بالمواقع القبطية. فهم لا يريدون إلا رؤية أشياء من مصر القديمة. أخبرهم عن كنائسنا لكنهم لا يريدون زيارتها أبدا.» ومع ذلك، فإن الأديرة تشبه المعابد القديمة في بعض الأمور وتعتبر نسخا معاصرة منها. وفي السنوات الأولى للمسيحية، كانت الرهبنة تعني العزلة؛ حيث كان الرجال يذهبون إلى مكان بعيد، غالبا في الصحراء، للصلاة. وفي مصر نحو عام 320 ميلادية أسس القديس باخوميوس أول مجتمع للرهبان المسيحيين. وخصصه لأولئك الذين لا يستطيعون تدبر مصاعب العيش بمفردهم. لكن الأديرة اتخذت نمطا مألوفا: مجتمع من الرجال الأتقياء، يعيشون في منطقة محاطة بسور ويزرعون حقولا مجاورة، ويتعبدون في كنائس صغيرة داخل تلك المنطقة التي يأتي إليها الحجاج زوارا؛ وقد كان مثل النظام الذي عملت به المعابد المصرية دائما. وكان للعديد من الأديرة الأولى أوجه تشابه مع المعابد في الطريقة التي تنحدر بها جدرانها العالية إلى الداخل، وفي النقوش على مداخلها.
أراني جورج صورا لأديرة محلية. لفتت انتباهي صورة معينة. كانت لصناديق زجاجية بها جثث محنطة جزئيا، وتحمل الصناديق بطاقات لإظهار أنها تحتوي على جثث الشهداء المسيحيين الذين تنيحوا في عهد دقلديانوس. كانت هذه الجثث، بأسنان تبرز من خلال لحم أسود ملتو بعنف، مكسوة بتوقير بأشرطة فضية وملابس زفاف ترمز إلى السعادة الأبدية التي ظفر بها أصحابها لتضحياتهم. لأول وهلة، وجدت الصور صادمة، بل بشعة. لكنها كانت، كما أدركت، تعبيرا عن إيمان عميق لا يتزحزح. فإيمان الأقباط بالاستشهاد ساعدهم على تحمل الأوقات العصيبة. مررت أنا وجورج بالحقول التي بها أكوام من القمح المحصود وأخرى كان قصب السكر يقف فيها شامخا. أشار جورج إلى قصب السكر. وقال: «هذا هو المكان الذي اعتاد المسلحون الاختباء فيه، فيما مضى عندما حدثت الاضطرابات هنا. كان لدي صديق شرطي، وهكذا قتل رميا بالرصاص.» بين عامي 1992 و1998، عملت جماعة إسلامية مسلحة تسمى الجماعة الإسلامية في المنيا وبلدات أخرى في جنوب مصر، وهاجمت كلا من قوات الأمن والمدنيين المسيحيين المحليين. والآن، في عام 2011، شكلت الجماعة حزبا سياسيا وبذلت جهدا لإظهار أنها قد تغيرت؛ حيث أقنعت خمسة أقباط بالانضمام إليها، ودعت إلى اقتصاد السوق الحر، وفازت بواحد من المقاعد البرلمانية الستة عشر في المنيا.
قادتنا الرحلة عبر طرق ريفية حيث كانت توجد حركة مرورية قليلة من نوع مختلف. مر بنا رجل على ظهر حمار يجر عربة مليئة بالبرسيم الحجازي؛ وبعد ذلك جاء حفل زفاف في حافلة، حيث خرجت الموسيقى المفعمة بالحيوية من جهاز استيريو. قال جورج: «إنهم قادمون من الدير»، في إشارة إلى دير أبي فانا، وجهتنا الأولى. «ذهبوا ليأخذوا «البركة» من الرهبان قبل الزفاف.» وجدت نفسي أستخدم كلمة «بركة» كثيرا خلال هذه الزيارة إلى المنيا. وعندما وصلنا إلى الدير وجدت أن مجرد مقابلة كاهن أو راهب كان أيضا بركة: «جئت لرؤيتك؛ لآخذ البركة منك»، هكذا كان يقول الشباب عند تحية الرهبان بأرديتهم السوداء الطويلة والقبعات السوداء الضيقة المزينة بصلبان ذهبية. كان الكثير من الشبان يزورون الدير. وكان بعضهم أكثر احتراما من الآخر. فقد ذهب أحدهم، عندما حسب أنه غير مراقب، ليجلس على عرش رئيس الدير في كنيسة الدير؛ حيث أثار اهتمامه نقش لأسد على ذراعيه، الذي كان يرمز إلى القديس مرقس الإنجيلي.
يقع الدير، الذي في واجهته سور عال وبوابة، على حافة وادي النيل، حيث يلتقي الوادي بالصحراء. ويظن البعض أنه ربما كان يوجد فيما مضى معبد قديم في الموقع، ومن المحتمل أن بلدة حور القريبة سميت على اسم الإله حورس. وجاء مصري يدعى أبو فانا إلى هذا المكان في القرن الرابع الميلادي، ووزع كل أمواله في الطريق إلى هناك. واشتهر بتقشفه (إحدى معجزاته، حسب التقليد، أنه ظل دون طعام مدة سبعة وثلاثين يوما)، وإحيائه للموتى، وقراءته للأفكار، وقضى ثمانية عشر عاما على عمود. وبحلول العصور الوسطى ، كان الدير قد تعرض للإهمال. فقد كان به راهبان فقط، وفقا للمقريزي، وهو عالم عربي من القرن الخامس عشر.
هذا الخبز، المنقوش عليه بالأحرف القبطية، يقدمه الرهبان بركة للزوار. تظهر اللوحات الجدارية المصرية القديمة أن عادة تزيين الخبز بهذه الطريقة تعود إلى آلاف السنين. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
يوجد الآن أكثر من عشرين راهبا، كثير منهم من الشباب، وهم نتاج نهضة الكنيسة القبطية. أخبرني أحدهم، الذي كان يعتني بمتجر الدير - وكان يبيع الصلبان والملصقات الدينية - أنه كان طالبا في كلية الطب قبل دخول الدير. ومنحني بركة في شكل رغيف خبز منقوش عليه بإتقان ثقوب على شكل رموز مقدسة وكتابة قبطية (كما نرى في رسومات المقابر، كان المصريون في العصور الفرعونية يزينون أرغفة الخبز أحيانا بالثقوب). تتألف حياة الراهب القبطي من الصلاة في جماعة لساعات - بما في ذلك الصلاة يوميا في الساعة الثالثة صباحا - والصلاة بمفرده، وفي بعض الأحيان الانخراط في الأعمال اليدوية الشاقة.
قدمني جورج إلى رئيس الدير، وجلسنا معا في غرفة حارة ومتربة نوعا ما بها العديد من الأرائك. وقدموا لي الشاي وكمية لا نهائية من المشروبات الغازية الحلوة المذاق. ولاحقا خرجنا إلى ضوء الشمس. قال لي رئيس الدير: «اعتاد الرهبان الاختباء هناك، في ذلك البرج، إذا جاء قطاع الطرق إلى الدير.» لا تزال تحدث مشاكل مماثلة. وجاء راهب إلينا، وبأمر من رئيس الدير، رفع كمه على مضض ليريني تقلص الجزء العلوي من ذراعه حيث كسر العظم. فقبل بضع سنوات، أسرته مجموعة بدوية تعيش في مكان قريب. وعلى الرغم من أن الاختطاف كان متعلقا بنزاع على الأرض - حيث أراد الدير أن يبني على أرض يستخدمها البدو في الرعي - فقد انقلب طائفيا. قال الراهب إن آسريه طلبوا منه أن يبصق على الصليب. وعندما رفض كسروا ذراعه. قال رئيس الدير: «عندما وجدناه، كان يتضور جوعا وعطشا ولم يكن قادرا على الحركة.» كان هذا الراهب بالذات فنانا موهوبا رسم على العديد من جداريات الدير. واستغرق شهورا حتى يتعلم الرسم من جديد. •••
بالعودة إلى المنيا مساء ذلك اليوم، انتقلت من فندقي إلى قارب على نهر النيل، وتبين فيما بعد أن مجموعة من الأقباط البروتستانت في المدينة هي التي تديره. (بالإضافة إلى أولئك الأقباط الذين انضموا إلى الكنيسة البابوية الكاثوليكية، كان يوجد آخرون انضموا إلى مختلف الطوائف البروتستانتية خلال المائة والخمسين عاما الماضية، وكانت توجد في العديد من القرى حول المنيا كنائس بروتستانتية وكاثوليكية بالإضافة إلى الكنائس القبطية الأرثوذكسية.) كان الماء يرتطم طوال الليل بجانبه، على بعد بوصات من رأسي. وبعد عام من زيارتي، أحرقت مجموعة من الغوغاء الإسلاميين المنزل العائم احتجاجا على الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وفي القارب المجاور له، مات رجلان، مسيحي ومسلم، حرقا، بينما شكل مسلمون آخرون سلاسل بشرية لحماية الكنائس المسيحية في المدينة. وكان العقاب الشائن لهذا الشغب هو صدور 529 حكما بالإعدام، ليس عقابا على حرق الكنائس وإنما لقتل شرطي أثناء أعمال الشغب.
كنت قد أقنعت كاهنا قبطيا بأن يأخذني في جولة ليريني أبرشيته في اليوم التالي. عاش الأب يوأنس في شقة بطابق علوي في مبنى بسيط يقع على الطريق من كنيسته مباشرة، في قرية تسمى قفادة، على بعد عدة أميال من المنيا. أوصلني جورج بالسيارة لرؤيته. وجلسنا جميعا في مطبخه، وقضمت قطعة من كعكة كريمة جافة بعض الشيء لكنها حلوة جدا، كان الكاهن قد اشتراها للاحتفال بهذه المناسبة. اكتشفت أن والده وجده توليا منصب الكاهن قبله. وكان يتمتع بموهبة طبيعية للتواصل مع الآخرين، وطريقة مصرية مميزة في الإطراء. سأل جورج من أي مدينة هو، وعندما أجاب جورج بأنه من المنيا، قال القس ما تبين أنه مجاملته المعتادة: «المنيا؟ أحسن ناس.»
ومن بين أربعين ألف نسمة في قفادة، كان أكثر من تسعين بالمائة مسلمين. ومع ذلك، كان العمدة مسيحيا. وكانت عائلته تمتلك أرض القرية فيما مضى، حتى صادرت حكومة ناصر معظمها وأعادت توزيعه. وعلى الرغم من أن الأسرة أصبحت حينها أكثر فقرا، كانت لا تزال تحظى بالاحترام. قال الكاهن: «في عام 1940، جاء جنود من الحكومة ليخبروا العمدة أنه يتعين عليه معاقبة السكان المحليين لأنهم تخلفوا عن دفع ضرائبهم. لكن بدلا من معاقبتهم، دفع ضرائبهم بنفسه.» لم ينس أهل القرية الواقعة أبدا وكانوا سعداء باحتفاظ العائلة بلقب العمدة؛ مع أن العائلة كانت مسيحية وتعيش في الغالب في مكان آخر.
أخبرنا الكاهن وهو يقلنا بسيارته في أنحاء المدينة: «لم يعد أحد منهم يعيش هنا الآن. المنزل القديم يكاد يكون فارغا. فالعمدة الحالي طبيب أسنان في المدينة وشقيقته هي التي تسكن في المنزل. ويبيع الجيل الأصغر سنا أراضيهم.» وأضاف، وهو يطلق بوق سيارته لشخص تعرف إليه: «مشكلتنا كمجتمع طائفي هي أننا نغادر القرى ولا نعود. فالمسلمون يرحلون للعمل لكنهم يحتفظون بمنازلهم في القرية. لكن المسيحيون يذهبون إلى المدن من أجل التعليم العالي ويبقون هناك. انتهى بي الحال إلى رؤية أبناء الأبرشية القدامى مرة واحدة في السنة، في حفلات زفاف في القاهرة.»
كان منزل العمدة القديم ذو الجدران البيضاء يطل على فناء صغير غير مرصوف يبعد قليلا عن الشارع الرئيسي. وكانت كنيسة الأب يوأنس بجوار المنزل، حيث جلست على مقعد في الجزء الخلفي من صحن الكنيسة بينما كان الأب يوأنس يتحدث إلى الأطفال المسيحيين المحليين. جلسوا منتبهين، والفتيات مفصولات عن الفتيان، عندما كان يخبرهم عن الرهبان في واحد من أقدم الأديرة في مصر، الذين كانوا مقدسين للغاية لدرجة أنهم كانوا يستطيعون الطيران. وكان يوجه الأطفال بشأن كيفية التصرف في الكنيسة. فقال: «ينبغي أن تعلموا أن هذا مكان مقدس. فعندما تأتون إلى هنا، تراقبكم الملائكة. لذا تصرفوا باحترام!»
لم يسبق أن شهدت القرية عنفا طائفيا، واتضح لي أحد الأسباب وراء ذلك عندما اصطحبني الأب يوأنس لرؤية صديقه الشيخ حسن، الذي كان يعمل مأذونا - وهو منصب ذو سلطة دينية واجتماعية. أوقف الكاهن سيارته المتهالكة في ممر منزل كبير حسن التجهيز بجوار سيارة سيدان باهظة الثمن. خرجت زوجة المالك وحيت الكاهن بحرارة، ثم أدخلتنا إلى حجرة صغيرة تشبه الصوبة الزجاجية. كان المأذون شخصية تتمتع بنفوذ في القرية: واحتراما له، أطلق عليه لقب شيخ. وعلى عكس العمدة، كان موجودا بكثرة في الحياة اليومية للقرية. وكان يحب الأب يوأنس وقد ساعده بطرق مختلفة، كان آخرها حماية الكنيسة من عصابة من المجرمين الذين كانوا قد أتوا لينهبوها، مستغلين انهيار القانون والنظام الذي أعقب سقوط حكومة مبارك.
وكانت العلاقة الطيبة بين الكاهن المسيحي والمسئول المسلم بالغة الأهمية للحفاظ على السلام في القرية. ومع تفشي الفقر في الطبقات المسيحية العليا بسبب الإصلاح الزراعي الذي فرضه عبد الناصر، ثم رحيلهم إلى المدن؛ كانت الكنيسة القبطية هي المؤسسة الوحيدة التي يمكنها التوسط نيابة عن مجتمعهم الطائفي في بلد فيه للقوة والسلطة شأن أكبر من الحقوق القانونية والعدالة. وبالنظر إلى روح دعابة الأب يوأنس، وبساطة حياته، وتواصله مع شعبه؛ وجدت أنه من السهل فهم سبب ثقة الناس به. لكن كلما استثمر الناس في المؤسسات الدينية لتمثيلهم، قل استثمار وقتهم وأموالهم في المؤسسات الأخرى - الأحزاب السياسية، أو النقابات العمالية، أو الهيئات الاجتماعية العلمانية - المشتركة بين الناس من مختلف الأديان. وفي الوقت ذاته، فضلت الشرطة عدم التدخل في النزاعات، حتى العنيفة منها، إذا كان ذلك سيفقدها شعبيتها. لذلك إذا تمكن الزعماء الدينيون من التوسط لتحقيق السلام بين المسلمين والمسيحيين؛ يمكن تجنب الفتنة الدينية. خلاف ذلك، لم تكن المجتمعات المحلية تملك تقريبا ما من شأنه أن يحول دون تصاعد الأحداث إلى إراقة للدماء.
لاحقا قال جورج عندما انطلقنا مرة أخرى في سيارة الأب يوأنس الصغيرة: «نحن في الصعيد تهتاج مشاعرنا بسرعة. فالناس يمكن أن يتحولوا من الود إلى العنف خلال دقيقة. ولا يتطلب الأمر سوى شيء صغير لإحداث الفرق.» أعطى الأب يوأنس مثالا لحادثة وقعت في قرية مجاورة قبل عام أو نحو ذلك. حيث زوج مسيحيان محليان ابنتهما لرجل قبطي مناسب، لكن دون علمهما وقعت في حب رجل مسلم وكانت على علاقة به. وتعاطى كلاهما المخدرات. وأثناء عدم وجود الوالدين، كانت الابنة تستخدم منزلهما للقاء عشيقها. وفي إحدى الأمسيات، عاد الوالدان على غير المتوقع ووجدا ابنتهما في السرير مع حبيبها، وكانا في حالة ذهول. لم تتردد الأم، وخنقتهما .
وأمضت تلك الليلة في المطبخ، وهي تقطع جثة القتيل وتضعها في كيس بلاستيكي. وطلبت من زوجها التخلص منه في مكان ما في الصحراء. فاختار موقعا سيئا، حيث ألقى به في منطقة تبين أنها موقع أثري. ولوحظت أضواء سيارته وجاء الحراس للتحقق من الأمر. وهرب، ولكن عثر على الحقيبة واكتشفت محتوياتها المروعة.
عرف الوالدان المذنبان أنه لن يمر وقت طويل قبل أن يتم التعرف عليهما. فقد كانت أسرة القتيل تبحث عنه، وابنتهما كانت مختفية؛ وسرعان ما سيفهم الناس ما قد حدث. فهربا. وانتقمت عائلة القتيل بالطريقة القديمة. فقتل سبعة أشخاص من العائلة المذنبة قبل اعتبار مسألة الثأر قد سويت. قال الكاهن إنه حينها عاد الزوجان المذنبان. «وأثناء تشييع جثمان واحد من الأشخاص الذين قتلوا، جاءت والدة الرجل المسلم المقتول. وقالت للزوجين: «لو كنتما خبرتمونا بما فعلتما، لشكرناكما على قتله. كنا سنقتله بأنفسنا لو علمنا بما حدث.» ولكن كان لا بد من الثأر من إهانة ترك جثته دون دفن.»
بين الحب والموت علاقة طويلة الأمد في مصر. فبالقرب من المنيا رأيت مقبرة إيزادورا، ابنة كاهن وثني كان يعيش تحت حكم البطالمة، وماتت عندما سبحت عبر النيل لتقابل سرا بالليل عشيقها الذي كان والدها قد منعها من رؤيته. أصبحت المقبرة مزارا للعشاق الشباب. لكنهم يواجهون اليوم عقبات أكبر؛ فعلاقات الحب بين المسيحيين والمسلمين هي من الأسباب الشائعة للعنف بين الجماعتين. وفي كثير من الأحيان لا يملك المصريون حرية اختيار من يتزوجون، ووفقا للإسلام والقانون المصري، فإن الزواج ليس علاقة تتسم بالمساواة. فلا يسمح الإسلام للرجل المسيحي بالزواج من مسلمة، وفي القانون المصري، يعتنق أطفال الزوجين ديانة أبيهم وليس ديانة أمهم. لذا فإن النساء المسيحيات اللائي يتزوجن من رجال مسلمين لن يكون بمقدورهن تربية أطفالهن باعتبارهم مسيحيين. ومعظم اللائي يتزوجن مسلمين تنبذهن عائلاتهن؛ وتعتنق كثيرات الإسلام. قدر أسقف قبطي في عام 2007 أن هناك ما بين خمسة آلاف وعشرة آلاف قبطي يعتنقون الإسلام سنويا، وعلق الكهنة الأقباط بشكل منفصل بأن الغالبية العظمى من هؤلاء المعتنقين الجدد من الفتيات دون سن الخامسة والعشرين. والخوف من فقدان بناتهم أمام الخاطبين المسلمين سبب آخر للأقباط لبناء شبكات اجتماعية لا تتخطى حاجز التقسيم الديني.
اعتنق آخرون الإسلام بسبب رفض الكنيسة القبطية شبه التام للطلاق؛ حيث شدد البابا شنودة القواعد حتى أصبح الزنى الأساس الوحيد لإنهاء الزواج. وعلى الأقباط الذين يريدون ترك أزواجهن أو زوجاتهم لأي سبب آخر أن يتركوا الكنيسة أولا. لذا ينضم البعض إلى طائفة مسيحية أخرى، ويعتنق آخرون الإسلام. ويحاول بعض المنتمين إلى هذه المجموعة الأخيرة بعد ذلك العودة إلى الكنيسة القبطية، لكنهم بفعل ذلك يخاطرون بإشعال فتيل الصراع؛ لأنه لا بد، وفقا للشريعة الإسلامية، من قتل المرتد عن الإسلام. في مثل هذه النزاعات، يصبح الدين وسيلة للأزواج أو الزوجات لحشد مجتمع أوسع نطاقا إلى جانبهم. على سبيل المثال، وقعت عبير فخري، وهي قبطية تعيش في المنيا، في حب رجل مسلم وتركت زوجها من أجله في عام 2011. تعقبتها عائلتها واحتجزتها الكنيسة القبطية التي حاولت إقناعها بالعودة إلى زوجها. ولكن ترددت شائعات بأنها قد اعتنقت الإسلام بالفعل (وهي شائعة أكدتها هي شخصيا لاحقا)، ومن ثم أثار احتجازها أعمال شغب وإحراقا للكنائس على يد إسلاميين أصوليين وتبادلا لإطلاق النار تسبب في مقتل اثني عشر شخصا. وفي أطفيح، إحدى ضواحي القاهرة الكبرى، أشعلت علاقة حب بين رجل قبطي وفتاة مسلمة أعمال شغب أحرقت فيها أيضا كنيسة.
لا يزال الكهنة الأقباط شخصيات بارزة في مجتمعاتهم. وبموجب قانون كنيستهم، يجب عليهم جميعا أن يتزوجوا. بعض الأطفال هنا من عائلات الكهنة. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
قد تؤدي عوامل خارجية أيضا إلى نشوب الصراع. فقبل بضعة أشهر، قال الأب يوأنس إن محطة تلفزيونية يديرها من قبرص قس قبطي يدعى زكريا بطرس اشتهرت بهجومها على الإسلام. وفي ذروة أفعالها الشائنة في مصر، واجه الكهنة الأقباط عداء غير عادي من المسلمين المحليين. على سبيل المثال، بصقت مجموعة من النساء المسلمات على يوأنس. وقال: «الناس الذين يبثون كراهية الإسلام، ويسبون القرآن، ويحرقون المصاحف، كل هذا له عواقب وخيمة ومريرة للغاية علينا.» •••
سألت الأب يوأنس عما إذا كان الأقباط قد سبق لهم العيش في قرى قبطية بالكامل. أجاب بأنه أمر غير معتاد لأن قلة من المسيحيين في مصر يمارسون الزراعة. ومع ذلك، كانت قريتان يعرفهما قبطيتين بالكامل، ووافق على اصطحابنا إلى إحداهما، وهي دير الجرنوس. كان جورج مرتابا بعض الشيء. وقال إن سكان دير الجرنوس «صعاب المراس». وأضاف: «لا يستطيع أحد أن يسبب لهم أي مشاكل. في الواقع، كل القرى المجاورة تخشاهم. وعندما يحتشدون ويخرجون من قريتهم، يهرب الجميع.» لكن الأب يوأنس كان يعرف كيفية التعامل معهم. وأثناء دخوله بالسيارة إلى القرية، أنزل زجاج النافذة وألقى المجاملات على كل رجل، وامرأة، وطفل رآه: «كيف حالك يا حلوتي؟ كم أنت جميلة!» كان أسلوبه مبالغا فيه؛ وربما أراد أن يتأكد من أن الناس سوف ينظرون إليه ويرون لباسه الكهنوتي والصليب معلقا من مرآة الرؤية الخلفية. فرؤية سيارات تحمل الغرباء لم يكن أمرا مألوفا في هذا المكان.
ولم يكن للدولة وجود داخل البلدة. وفي هذا الشأن، كانت دير الجرنوس المعادل المسيحي لبلدات جنوب مصر المسلمة المسلحة التي لا تجرؤ الشرطة مطلقا على دخولها. ومثلما يمكن لتلك البلدات (وأحيانا ضواح بالقاهرة) أن تفرض قواعدها الخاصة دون إبداء الكثير من الاهتمام بالقاهرة، كذلك كانت دير الجرنوس تبني كنيسة ضخمة تجعل المنازل المتواضعة المحتشدة حولها تبدو أصغر حجما. وعلى سطح الكنيسة، كان رجال يرتدون جلابيب رمادية يبنون قبابا وأبراجا لجعلها تبدو أعلى في الأفق. صعدنا لمقابلتهم، وسألهم الأب يوأنس من أي مدينة هم. قالوا: أسيوط، وهي مدينة على بعد ساعة أخرى أو نحو ذلك جنوبا. قال: «آه، أسيوط. أحسن ناس.» نزلنا إلى الأسفل مرة أخرى وعاينا الكنيسة الحجرية القديمة المجاورة. وسحب أحد القرويين الغطاء الخشبي عن بئر داخل باب الكنيسة وأنزل كوبا معدنيا بحبل في الماء بالأسفل. ودعاني للشرب. قال إنها بئر مقدسة؛ فعندما جاء يسوع إلى مصر وهو طفل، شربت منها أسرته. رفع الكأس لأعلى وارتشفت الماء البارد. •••
في اليوم التالي، جاء جورج معي عندما ذهبت لمقابلة مجموعة كاملة من الكهنة الأقباط، بإذن من الأب يوأنس الذي جاء أيضا. التقينا في قرية ليست بعيدة عن المنيا، في منزل ملحق بكنيسة القرية. كان مضيفنا رجلا ذا لحية سوداء يدعى الأب موسى، وجلس معنا أيضا صديق له يدعى يونس. قال يونس معلقا: «يعامل الجيل الأكبر المسيحيين مثل إخوتهم. فمعظم أصدقائي مسلمون. يأتون إلى أعيادنا ويصلون في الكنيسة. يوجد هنا كاهن يخرج الشياطين؛ وهو يحظى بشعبية كبيرة بين المسلمين وكذلك المسيحيين. ولكن بعد ذلك يأتي السلفيون من الجامعات. إن السلفيين والإخوان المسلمين هم من يسيئون معاملة المسيحيين. يقولون للمسلمين ألا يحيوا المسيحيين في الشارع. والجيل الجديد، أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين الثمانية عشرة والسبعة وعشرين عاما، هم جيل سيئ. كان لديهم معلمون سيئون للغاية. بدأ الأمر مع السادات.» وأضاف أنه ظهر تقليد جديد يقضي بأن يضرب الأولاد المسلمون المسيحيين في اليوم الأخير من الفصل الدراسي. قال يونس: «لا يبدو أن المعلمين يشجعون هذا الأمر، على حد علمنا. فقد اعتاد الجنود على الذهاب إلى المدرسة لمنع ذلك، ولكن لا يمكنهم الوجود في كل مكان. وبعد سقوط الحكومة، لم تعد توجد قواعد على الإطلاق. فهم لا يخافون الجنود، ولا يخافون الحراس، ولا يخافون الله.»
وافق موسى على أن التعليم هو المشكلة. فقد خدم في الجيش، منذ ثلاثة عقود أو نحو ذلك، جنبا إلى جنب مع رجل من شمال مصر. وغالبا ما يذهب المسلمون والمسيحيون إلى المدارس معا، في مدارس حكومية (توجد مدارس يديرها المسيحيون أنشأها مبشرون غربيون في القرن التاسع عشر، لكنها تفوق قدرة الأقباط الأفقر على تحمل تكاليفها؛ فهي تلبي احتياجات الأقباط والمسلمين من الطبقة فوق المتوسطة). ولأن المسيحيين على مر التاريخ كانوا في أغلب الأحوال يعيشون في الجنوب، فإن هذا الرجل الشمالي لم يكن قد التقى أحدا منهم من قبل. وعندما رأى الصليب الذي كان يرتديه موسى، ابتعد عنه في خوف. وسأل موسى: «ما هذا الصليب؟» وأضاف: «لقد تعلمت أنه رمز شيطاني.» وفي استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث بين عامي 2011 و2012، قال اثنان وعشرون بالمائة فقط من المسلمين المصريين إنهم يعرفون أي شيء عن المعتقدات أو الممارسات المسيحية - فالمناهج الدراسية لا تقدم فهما كافيا لأديان أخرى غير الإسلام - ويعتقد ستة وتسعون بالمائة أن المسيحيين سيذهبون إلى النار.
ورغم قصصهم، فإن هذه المجموعة من الأقباط ما زالت تتمتع بحب كبير تجاه بلدها. كانت ابنة موسى البالغة من العمر تسع سنوات جالسة في زاوية من الغرفة، تكتب على ورقة، وعندما نظرت إلى ما كتبته، وجدت أنها كتبت باللغة الإنجليزية، بأقلام مختلفة الألوان، ما يلي: «مصر هي أمي. مصر هي دمي. أحبك يا مصر.» قلت لجورج أثناء رحلة عودتنا إلى المنيا للمرة الأخيرة إنه، مع ذلك، كان الأقباط يرحلون عن مصر. قال جورج: «سيرحل الجميع إذا سنحت لهم الفرصة. والمسلمون أفضل حظا بقليل من المسيحيين لأنهم يستطيعون العمل في المملكة العربية السعودية. والأمن يمثل مشكلة خاصة للمسيحيين، لكنه سيئ على الجميع. فلدي مسكن جيد وعمل جيد، لكنني مستعد أن أتخلى عنهما غدا للذهاب إلى أمريكا والعمل في مطعم، إذا كان هذا سيوفر لابني مستقبلا جيدا آمنا.» الهجرة إلى الغرب هي السبيل المفضل للأقباط للخروج من مصر. يوجد في الولايات المتحدة أكثر من مائتي كنيسة قبطية وما يقدر بثلاثة أرباع مليون قبطي.
في اليوم التالي ركبت القطار البطيء عائدا إلى القاهرة. كان ثمة شيء آخر يجب أن أفعله قبل مغادرة مصر. ركبت مترو المدينة وعدت إلى كنيسة سانت تريزا، بعد أربعة عشر عاما من زيارتي الأخيرة. وصلت أثناء إقامة قداس. كان الأب بولس هناك يتلو القداس، وكان رجلان أعرفهما، أشرف ومجدي، يقومان بدور الشماسين؛ يضربان بالصنوج في أقدس اللحظات، تماما كما كان يفعل أسلافهما لآلاف السنين. لحقت بالثلاثة بعد القداس وهم يتجهون نحو بيت الكاهن. انحنى ظهر الأب بول انحناءة طفيفة، وكسا الشيب شعر أشرف، لكنهم تذكروني. سألت: أين سميح؟ قالوا إنه ذهب إلى أمريكا للدراسة، وانتهى به الأمر بالبقاء هناك. وماذا حدث لماجي؟ تزوجت رجلا فرنسيا وذهبت إلى باريس . وأين وائل؟ كان قد تبع حلمه في أن يصبح عارض أزياء في بيروت. قلت في نفسي إن الأقباط لم يكونوا هم من سيخسر من كل هذا التدفق للمواهب للخارج؛ وإنما كان الخاسر هو مصر.
عدت إلى الكنيسة. كان توجد امرأة ترتدي نقابا إسلاميا أسود، لا يظهر منه سوى عينيها فقط، وانتظرت انتهاء القداس قبل أن تتقدم من مقعدها في الخلف. وأشعلت إحدى الشموع الرفيعة التي كانت موضوعة في صينية من الرمل بجانب عمود، ثم نزلت ببطء على الدرجات التي كانت تؤدي إلى غرفة الدفن الموجودة تحت الأرض. تبعتها لأودع القديسة التي يرقد تمثالها هناك. وبينما كنا نقف أمامه، انحنت المرأة المسلمة ولمست جانب القديسة تريزا.
الفصل السابع
الكلاشا
في صيف عام 2007 كنت في رحلة بالطائرة من إسلام أباد إلى كابول، مما كان يعني الجلوس على حقائبي عدة ساعات في صالة السفر بمطار إسلام أباد. كان من السهل معرفة الأجانب المتجهين إلى كابول؛ فقد كانوا في الغالب أقوياء البنية، مفتولي العضلات، يحملون حقائب ظهر ماركة نورث فيس. لكنني كنت استثناء؛ دبلوماسي يفتقر إلى العضلات المفتولة، متجه لتولي مهمة إدارة الفريق السياسي في السفارة البريطانية لمدة عام. بدا المنظر الطبيعي الذي رأيته من نافذة الطائرة كما لو أنه لم يتغير منذ قرون. «جبال ذات لون بني مثل السعوط»، كما كان قد أطلق عليها رحالة بريطاني، و«تلال يبلغ ارتفاعها عشرة آلاف قدم يتخللها مسار شديد التعرج إلى مسافة ميل.» وبالنظر عن كثب، كان بإمكاني ملاحظة الخيوط الخضراء الرفيعة بين التلال، التي كانت هي الوديان. لم يكن بوسعي رؤية أي مظاهر لوجود بشر على الإطلاق.
وبالتحديق جهة الشرق، رأيت قمما عالية ترتفع عموديا فوق الوديان الخضراء والجبال البنية، حتى ارتفاع يصل إلى أربعة وعشرين ألف قدم. كانت هذه هي سلسلة جبال هندوكوش، وهي سلسلة جبال كبيرة تمتد على طول الحدود الشرقية لطاجيكستان، وأفغانستان، وباكستان، وتفصل تلك البلدان عن الصين. إنها في الحقيقة جزء من جبال الهيمالايا. وعلى الرغم من اسم «سقف العالم» الذي يطلق عليها، فإنه من الأنسب التفكير بها على أنها جدار أو متراس؛ فعلى مدى عصور عديدة، كانت أبعد نقطة شرقا وصل إليها أي شخص. وتمثل هذه الجبال للثقافات البشرية ما تمثله الشعاب المرجانية للحياة البحرية؛ فهي غنية ومتنوعة. ففي القسم الأفغاني من هندوكوش، على سبيل المثال، في منطقة بحجم ولاية نيو جيرسي توجد عشرون لغة أصلية وغير مفهومة بعضها لبعض.
وصل الإسكندر الأكبر إلى هذه الجبال لكنه لم يبذل أي جهد لعبورها؛ ربما معتقدا أنها كانت تشكل حافة العالم في أقصى الشرق. سخر منه سكانها، ولم يخافوا من حقيقة أنه كان قاهر بلاد فارس وحاكم أعظم إمبراطورية شهدها العالم حتى الآن، وقالوا إنه للاستيلاء على ملاجئهم التي يتعذر الوصول إليها، سيحتاج إلى «جنود بأجنحة». في إحدى هذه المعارك، أصيب الإسكندر بسهم في كتفه. لم يكن القائد العظيم قد خسر معركة مطلقا في الثماني سنوات التي تلت مغادرته لوطنه في شمال اليونان. لكن هؤلاء الخصوم، كما سجل أحد مؤرخي الإسكندر، كانوا أقوى مقاتلين واجههم في حملته الهندية بأكملها. أعجب بهم الإسكندر بشدة لدرجة أنه تزوج من فتاة محلية تدعى روكسان (كانت «أجمل امرأة رأوها في آسيا»، كما اعتقد جنوده، فقط باستثناء الإمبراطورة الفارسية).
لم يكن الإسكندر الغازي الوحيد الذي صمد أمامه سكان هندوكوش. ويبدو أن الجيوش العربية التي أتت بالإسلام إلى أفغانستان وشمال الهند منذ القرن السابع وما بعده قد اكتفت بحكم مدن السهول الغنية، وتركت سكان الجبال وشأنهم. وفي القرن الرابع عشر، أوشك الغازي الوحشي من آسيا الوسطى تيمورلنك أن يغزوهم؛ حيث شق طريقه بالقتال حتى وصل إلى أعلى قلعة في الجبال. ومع ذلك، لم يستطع الحفاظ على سيطرته، ولم يعتنق السكان المحليون الإسلام أبدا. وبعد مدة طويلة من تيمورلنك، كان الناس في هذا المكان لا يزالون يقدمون القرابين لآلهتهم إمرا وجيش، ويشربون الخمر، ويرقصون - النساء والرجال معا - على منصات خشبية قاموا بتجهيزها بشكل مؤقت في قرى تتشبث بالجبال الشديدة الانحدار مثلما يتشبث البطلينوس بصخرته. وأطلق عليهم جيرانهم المسلمون الخائفون وصف «الكفار»، وهي تسمية يبدو أنهم قبلوها باستمتاع في ذلك الوقت. وسميت المنطقة التي كانوا يعيشون فيها كافرستان.
لم يهتم ماركو بولو بهم عندما مر بهم في القرن الثالث عشر. وكتب: «إنهم وثنيون وهمج لأبعد الحدود، ويعيشون بالكامل على مطاردة الحيوانات ويرتدون جلودها. وهم سيئون بكل ما تحمله الكلمة من معنى.» لم يكن ذلك غير دقيق تماما - فالكفار كانوا بالفعل يلبسون جلود الحيوانات، ولم يمارسوا الزراعة - لكن من المشكوك فيه أن بولو اقترب منهم. فقد مر وقت طويل بعد زيارة الإسكندر قبل أن يفكر أي غربي في هندوكوش مرة أخرى. •••
يعتقد أن مبشرين كاثوليكيين قد دخلا كافرستان في نهاية القرن الثامن عشر (بناء على قصص رواها سكانها للزوار فيما بعد). قتل الكفار أحدهما بعدما ظنوا أنه روح شريرة؛ ولم يترك أي منهما أي تسجيل لما رأى. في عشرينيات القرن التاسع عشر، سافر موحد اسمه ألكسندر جاردنر من ولاية إلينوي، لديه أصول إسبانية ويتحدث بلهجة أيرلندية، وتلقى تعليمه على يد أقباط كاثوليك، إلى آسيا الوسطى بحثا عن وظيفة تتسم بالمغامرة (حيث سيصبح، بعض الوقت، قاطع طريق). وعلى حد تعبير كاتب سيرته الذاتية المعجب به، اتسمت المدة التي قضاها في المنطقة «بالكمائن، والأعمال الانتقامية الشرسة، وعمليات هروب بشق الأنفس، وأحداث مليئة بالوحشية والقسوة لا يمكن تصورها في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تكون مليئة بالأعمال الخيرية النابعة من القلب والإخلاص حتى الموت». وأطلق عليه الاسم المحلي جوردانا خان.
زعم جاردنر أنه دخل كافرستان مرتين، لكن سجله الأصلي للزيارة ضاع عندما قتل السير ألكسندر بيرنز، المبعوث البريطاني إلى كابول، الذي كان يملك النسخة الوحيدة، على يد مجموعة من الغوغاء في بداية الحرب الأفغانية (قال البعض في ذلك الوقت إن من دفع الغوغاء إلى قتله هم الرجال الأفغان الذين خانتهم زوجاتهم مع بيرنز المتأنق). كان بيرنز، ابن عم الشاعر الأسكتلندي روبي بيرنز، يتحدث اللغة الفارسية بطلاقة وقد ترك سجلا من الشهادات التي تلقاها من الكفار في كابول، وهي شهادات تكشف ممارساتهم المتمثلة في دفن موتاهم في توابيت في الهواء الطلق، وبيع بناتهم بسعر يحدده حجمهن، وإنهاء الخلافات الدموية بين الرجال عن طريق مص بعضهم حلمات بعض.
بعد وفاة بيرنز، مرت سنوات عديدة لم يزر فيها أحد كافرستان. وأصبح يطلق عليها اسم «البقعة المظلمة على خريطة آسيا»؛ فهي مكان لم يتمكن من اختراقه حتى الحكومة الإمبراطورية البريطانية في الهند، التي أرسلت جواسيس لوضع خطة مفصلة لأكثر الأماكن المحظورة التي يتعذر الوصول إليها على حدودها. وفي نهاية القرن التاسع عشر، خطط البريطانيون لكتابة معجم جغرافي عن كافرستان، كما فعلوا لكل منطقة أخرى لها حدود مع الهند، لكنهم في هذه الحالة - بشكل استثنائي - تخلوا عن الفكرة.
ومع ذلك، كان لدى السلطات البريطانية اهتمام كبير بمعرفة المزيد عن أماكن مثل كافرستان، التي كانت ملاصقة للحافة الشمالية لممتلكاتهم البريطانية؛ حيث كان التهديد الخارجي الأكبر لإمبراطوريتهم في الهند في أواخر القرن التاسع عشر هو روسيا، التي كانت تبتلع آسيا الوسطى وتتقدم جنوبا بوتيرة سريعة. وأصبح استكشاف مناطق مثل كافرستان الواقعة بين البريطانيين والروس، بهدف إما ضمها بوصفها حليفا أو الاستيلاء على ممتلكاتها، مسعى استمر عقودا من الزمن وعرف باسم «اللعبة الكبرى». هكذا وجد ملازم يدعى ماكنير، وهو من قدامى المحاربين في الحرب الإنجليزية الأفغانية الثانية، نفسه على حدود كافرستان في عام 1883 أثناء إجازته الرسمية، حيث دهن بشرته بعصارة الجوز ليجعل لونها أغمق ووضع أدوات قياس في حقيبة طبية زائفة. كان يحول نفسه إلى «صاحب جول ماكنير حسين شاه» ويأمل أن يدخل كافرستان بصحبة صديقين من قبيلة بشتونية محلية. لا بد أن ماكنير فكر مليا قبل أن ينزل من على مسار يصطف على جانبيه ركام من الأحجار الصخرية التي كانت تغطي بشكل غير مثالي جثث الرحالة السابقين الذين قتلوا على يد الكفار الذين كانوا يحمون عزلتهم بوحشية. كتب ماكنير: «من بين جميع الأفعال البارزة كان ذبح [مسلم] يحتل المقام الأول بين الكفار». وكان رأس الضحية يوضع على شجرة طويلة. ولحسن الحظ، كان الرجلان اللذان كانا مع ماكنير ينتميان إلى قبيلة كان الكفار يتعاملون معها بفزع ناجم عن الخرافات، ومن ثم كان يسمح لأفرادها عموما بالمرور دون التعرض لأذى.
كانت زيارة ماكنير للكفار قصيرة للغاية ولم يكتشف سوى القليل. قدر عددهم بمائتي ألف. وأضاف أن: «أصنامهم عديدة، ففي كل واد وجدول توجد مجموعة منها غير معروفة إلا لهذه المنطقة فقط، ومن المفترض أن هذه الأصنام تجسد الأبطال الذين عاشوا بينهم في الأيام الغابرة والذين أصبحوا الآن أرواحا تشفع لهم لدى الإله إمرا.» اعتبر أن خمرهم كانت ضعيفة الأثر، وقد اندهشوا من الويسكي الذي كان، بعد تمعن وتفكر قد أحضره معه. والأهم من ذلك أنه أشار إلى أنهم «كانوا على استعداد تام لمساعدة البريطانيين ... ولن يترددوا في وضع خدماتهم تحت تصرفنا، إذا تطلب الأمر ذلك.» سجل كل هذا في كتيب مختوم بكلمة «سري» قدمه إلى قسم الاستخبارات في وزارة الحربية البريطانية. وكتب قائمة مفردات، كملحق له، توضح ما كان يرى أن الزائر قد يحتاج في المستقبل إلى قوله، مثل «إنه شديد الانحدار وقد أسقط» و«سأقدم عنزة قربانا إلى إمرا».
كانت رؤى ماكنير ضحلة، وظلت كافرستان لغزا حتى وصول جورج سكوت روبرتسون. كان روبرتسون في الأصل طبيبا بالجيش، وكان من جزر أوركني البرية النائية. وربما وجد صدى لموطنه في «بلد الجن الحقيقي» الذي رآه من قمة جبل عندما كان يعمل مسئولا في أقصى الحدود الشمالية الغربية للهند البريطانية. ووصف إطلالة كافرستان بأنها «تمتد بعيدا إلى ما وراء العدم». ومنذ تلك اللحظة، كما يخبرنا في كتاب كتبه لاحقا عن رحلته الاستكشافية، أصبح متعلقا بها. وأثناء إقامته بصفته ضابطا سياسيا بريطانيا في جلجت المجاورة، راقب أي كافر قد يجده هناك، وفي النهاية زار البعض منهم المنطقة وقدموا إليه. في البداية، وجد مظهرهم مثيرا للاشمئزاز، لكنه رأى بعد ذلك أن «الرداء البني القذر، الذي يتخطى الكعبين ويصل إلى الأرض، يخفي أجسادا نشيطة رياضية، وأن الوجوه اللطيفة المتملقة ذكية وجذابة، ويمكن أن تنظر في بعض الأحيان نظرة محدقة ثابتة جريئة، أو نظرة خاطفة متوحشة مثل نظرة الصقر ؛ وأن الرجال الذين يلعبون دور المتسولين الأذلاء ... قادرون في أي لحظة على التخلص من قناع التواضع وإظهار صفاتهم الأصلية.» وقد اكتشف مدى صحة ذلك عندما تمكن من الحصول على إذن ليس فقط لزيارة الكفار وإنما للعيش بينهم لمدة وصلت إلى عام كامل.
واكتشف أن من يسمون بالكفار كانوا ينقسمون إلى العديد من القبائل، التي اختلفت لغاتها وممارساتها. علاوة على ذلك، كانت ديانة الكفار يوما ما مشتركة بين الشعوب المجاورة الأخرى التي كانت تعيش حينئذ في ظل الحكم الإسلامي. أحد هذه الشعوب كان يسمى الكلاشا. وعلى عكس أولئك الكفار في الجبال العالية الذين ظلوا أحرارا، فقد غزا «مهاتير» (أي أمراء) شيترال الأراضي المنخفضة التابعة لشعب الكلاشا، واضطروا إلى دفع الجزية في شكل عمل قسري. لم يكن شعب الكلاشا ذا فائدة لروبرتسون، الذي أراد أن يجد رجالا مقاتلين؛ فقد كانوا كما قال مستنكرا: «عرقا ذليلا ومنحطا تماما.» وعلى النقيض من ذلك، كانت القبيلة التي اختار العيش معها، وهي الكام، أكثر القبائل حروبا بين جميع الكفار. وعندما حاول يوما ما أن يصف لقبيلة الكام ما يبدو عليه الرجل السمين، واجه صعوبة في جعلهم يفهمون. فقليلون منهم من رأوا مثل هذا من قبل. ولم يحالفه النجاح إلا عندما تحدث إلى الكاهن المحلي، الذي «شعر بالحيرة مدة طويلة. واتضح له المعنى الذي أقصده عندما هتف فجأة: «أتذكر قتل رجل بالقرب من [مدينة] أسمر كان تماما كما تصف؛ الكلمة هي «سكيور»».»
لم يكن الكاهن وحده من تلطخت يده بالدماء. فالخلافات الدموية لم تكن مجرد حادث عرضي بين شعب قبيلة الكام؛ بل كانت أسلوب حياة. كانت أقرب القرى المسلمة أهدافا للإغارات القاتلة، وغالبا ما كانت تشن من أجل الغنائم (ففي مثل هذا المجتمع المحلي الفقير، قد يقتل رجل لمجرد الحصول على ملابسه) أو للانتقام من التعدي المستمر للقبائل المسلمة على أرض الكام. قدم روبرتسون قائمة بالصفات التي أعجب بها شعب الكام، وفي مقدمتها القدرة على القتل؛ يليها «رجل الجبل الجيد، الذي يكون على استعداد دائم للشجار، ويتمتع بنزعة شهوانية.» غالبا ما كان لدى الكام ثأر لبعضهم ضد بعض، لكن عادة لطيفة مكنتهم من تفادي الثأر إذا رغبوا في ذلك؛ إذ لم يكن يلزم الرجل إلا التظاهر بالاختباء من قاتله المحتمل، الذي كان تظاهر بدوره بعدم رؤيته.
وأفراد القبيلة الذين فشلوا في قتل ألد أعداء القبيلة قد يقذفهم قومهم بالرماد. وقد يصبحون موضوعا للنكات والسخرية، وفي المآدب العامة كانت زوجاتهم يشحن وجوههن عنهم عند تقديم الطعام لهم. فقد كان «الجال»، أي العار، دافعا قويا بين أفراد قبيلة الكام. وكذلك كان النظام الطبقي. فأولئك الذين انزلقوا لقاع السلم الاجتماعي قد ينتهي بهم الأمر بين أبناء الطبقة الدنيا «البروجان» الذين كانوا عرضة للشراء والبيع مثل عبيد العصور الوسطى. ومن ناحية أخرى، سمح لشاب قتل خمس ضحايا بارتداء وشاح أزرق مصنوع من ملابسهم، ورأى روبرتسون القليل جدا من هذه الأحداث خلال زيارته. كما التقى توراج ميراك، الرجل الذي يبدو أنه خرج مباشرة من رواية مغامرات من العصر الفيكتوري. جاء ميراك، «أغنى رجل في كافرستان»، لرؤية روبرتسون مرتديا رداء أحمر لامعا وكان يحمل درعا برونزيا. «كان لديه ملامح سامية قوية، وانسدلت على كتفيه المزركشتين خصلات شعره الطويلة، المضفرة مع ذيول الفئران، وبين الفينة والأخرى كان يلقي نظرة فخر ليرى ما إذا كان الغريب يقدر عظمته.»
زعم ميراك أنه قتل أكثر من مائة شخص، كثير منهم من النساء والأطفال، وللاحتفال بهذه الحقيقة، ربط جرسا صغيرا بنهاية عصاه. كتب روبرتسون: «في عينيه القاتمتين، كان ثمة عالم من الشفقة. إنهما تكذبانه تماما. ففي صميم قلبه يوجد همجي يعوي، بينما في سكونه تعكس ملامحه رجلا أحزنه التحديق في صور معاناة عالم مضطرب.» ولحسن حظ روبرتسون أن كونه مسيحيا كان يعني اعتباره رفيقا غير مسلم ونوعا من الكفار الفخريين. وكان البريطانيون يتمتعون بالفعل بسمعة طيبة بين شعب الكام، على الرغم من كونها من نوع غريب إلى حد ما؛ فقد أخبروا روبرتسون أن جيش، إله الحرب لديهم، قد ذهب للعيش في لندن.
بأي حال، كان من الصعب تجاهل الموت بين أفراد قبيلة الكام. فقد دفن جميع الكفار موتاهم في الهواء الطلق، ربما لمجرد أنه كان من الصعب عادة الحفر في الأرض المتجمدة. وعلق روبرتسون أن رائحة الجثث المتعفنة كانت تنتشر في القرية عندما تهب الرياح في الاتجاه الخاطئ. وتتميز جنازاتهم بأداء رقصة؛ مع وضع الجثة على كرسي وسط الراقصين.
لم يثن عليهم روبرتسون في وصفه مثلما فعل ماركو بولو قبل قرون. فقد كتب أن أفراد شعب الكام لم يكونوا يغتسلون أبدا، وأنهم كانوا يسرقون منه باستمرار، وأن «الكذب لديهم كان بسهولة التنفس». ولكن عند روبرتسون، الذي كان غارقا في التقاليد العسكرية للإمبراطورية البريطانية، كان الأثر السلبي لهذه الصفات يتلاشى أمام «شجاعتهم الرائعة، وعواطفهم الداخلية، وحبهم الشديد للحرية». ومن نواح أخرى، كما يقول، أصبحوا كذلك بسبب الظروف. «فبالنسبة إليهم، لم يصبح العالم ألطف مع مرور السنين ... ولو كانوا مختلفين، لكانوا مستعبدين منذ آونة طويلة.»
وعلى الرغم من إعجابه بحبهم للحرية، كان هو نفسه، عن غير قصد منه، نذيرا باستعبادهم. فقد كان لرحلته غرض خفي؛ حيث كانت السلطات البريطانية تحاول أن تقرر ما إذا كانت قبائل الكفار تستحق الاندماج في إمبراطوريتها. وكانت مهمة روبرتسون، التي كشف عنها في الأوراق السرية لمكتب الهند، هي «دراسة تنظيمهم القبلي واكتشاف قيمتهم باعتبارهم حلفاء ودودين مستعدين للمساعدة ولكن محايدين، أو مناضلين نشطين في الحرب». وكان قراره أنه ينبغي تركهم وشأنهم. وكتب إلى رؤسائه أن الكفار لم تكن لهم «أي أهمية استراتيجية أو سياسية على الإطلاق ... ولا ينبغي التدخل في شئونهم بأي شكل من الأشكال.» ربما كانت هذه سياسة حكيمة، مقترحة لدوافع جيدة، لكنها كانت إيذانا بنهاية كافرستان.
في ذلك الوقت كان يحكم أفغانستان، التي كان يجاور الكفار أراضيها، عبد الرحمن خان، الذي أطلق عليه البريطانيون «الأمير الحديدي». في مذكراته، زعم الأمير المسن أنه كان يريد الكفار في جيشه لأنهم «كانوا عرقا شجاعا من الناس لدرجة أنني اعتقدت أنهم بمرور الوقت سيصبحون جنودا مفيدين للغاية تحت حكمي». (كان محقا؛ فبعد قليل أصبحوا من النخبة في الجيش الأفغاني.) كما أراد التفوق على تيمورلنك بغزو كافرستان. وعلى الرغم من أنه لم يكن متعصبا دينيا - فقد استعان، على سبيل المثال، بسكرتير هندوسي - أراد أن ينال مجد الجهاد ضد غير المؤمنين. وفي عام 1895، تقدمت ثلاث وحدات عسكرية موالية لعبد الرحمن باتجاه كافرستان مستخدمة تكتيك الكماشة لتطويق الكفار. هجمت في ذروة الشتاء، عندما كان الكفار يجدون صعوبة في الهروب. وبالنظر إلى أن أعداءه، مهما كانوا شجعانا ووحشيين، لم يكونوا قد أتقنوا بعد استخدام البندقية، وكانوا في الغالب يقاتلون بالأقواس والسهام، فقد كان فوز عبد الرحمن مضمونا. وخير الكفار بين اعتناق الإسلام أو الموت؛ وفي خمسينيات القرن الماضي، عرض على كاتب الرحلات البريطاني إريك نيوباي حجر أحمر اللون مخضب بدماء أولئك الذين اختاروا الإعدام. وفاز عبد الرحمن بلقب ضياء الملة والدين. وأعيد في النهاية تسمية المنطقة التي احتلها عبد الرحمن إلى نورستان، «أي أرض النور»، احتفالا بتحولها القسري إلى الإسلام. •••
قد تكون نورستان مسلمة الآن، لكنها شرسة ولا يمكن ترويضها كما كانت قبل مجيء عبد الرحمن. في فجر الثالث عشر من يوليو 2008، استيقظ تسعة وأربعون جنديا أمريكيا في معسكر مؤقت في وانات، مقاطعة نورستان، على مشهد كارثي؛ حيث رأوا أشخاصا في الضوء الخافت فوق التلال البعيدة. وكشفت المراقبة عن كثب أن الأشخاص كانوا تابعين لحركة طالبان ويحملون قاذفات صواريخ. ظهر المزيد والمزيد من الصور الظلية لأجساد غير واضحة، حتى كان هناك ما يقرب من مائتين منهم. وفجأة أطلقوا النار، مما أجبر المعسكر الأمريكي على إخراج الأسلحة الثقيلة في الدقائق القليلة الأولى. وكانت الساعات القليلة التالية عبارة عن فوضى من الدماء والضجيج. وفي مرحلة ما، اخترق المهاجمون دفاعات المعسكر، وعندما انسحبوا أخيرا بعد بضع ساعات من الهجوم المتواصل، خلفوا تسعة قتلى أمريكيين وسبعة وعشرين جريحا. كانت معركة وانات، كما عرفت فيما بعد، هي أكثر الاشتباكات الأمريكية كلفة في أفغانستان منذ عام 2001. وسلطت تقارير عن المعركة في الصحافة الأمريكية الضوء على سمعة نورستان باعتبارها «المكان الأكثر دموية على وجه الأرض» و«مركز القاعدة وطالبان». هناك ثلاثة أشياء جعلتها جذابة بشكل خاص للمسلحين الإسلاميين: تضاريسها القاسية (فالجبال التي تتكون منها المقاطعة يصل ارتفاعها إلى 19500 قدم)، وحقيقة أنها تقع بجانب الحدود مع باكستان، والحماسة الدينية لشعبها وشجاعتهم في المعارك (حيث كانت أول مقاطعة تعلن الجهاد ضد السوفييت عام 1979). وكما هو الحال في زمن الإسكندر، أثبتوا هم وجيرانهم في مقاطعة كونار، الواقعة إلى الجنوب قليلا، أنهم المقاتلون الأشرس في المنطقة.
ومع ذلك، أثناء المعركة، وعلى بعد أميال قليلة منها بأقصر الطرق، نام مدرس يوناني هانئا خلال كل ذلك. فقد عاش أثناسيوس ليرونيس في قرية تسمى بومبوريت وارتدى زي السكان المحليين، وزين بالزهور قبعة صوفية بنية مسطحة. وعلى الرغم من أنه كان غريبا، فقد سمح له بالانضمام إلى احتفالات الانقلاب الشمسي المحلية: التضحية بالماعز لآلهتهم وإلاهاتهم العديدة، وشرب النبيذ المحلي الصنع والبراندي القوي، والرقص طوال الليل الذي ترى فيه النساء بأزيائهن المشرقة باللون الأحمر والأصفر وأغطية الرأس المصنوعة من الصدف، يشكلن دوائر حول الرجال ويتمايلن بلطف على صوت الإنشاد. وكان يعيش بين آخر الوثنيين في باكستان، متمركزا تقريبا في قلب المنطقة الخاصة بالإسلاميين المسلحين.
كان هؤلاء الناس هم شعب الكلاشا. لقد نجوا من التحول القسري إلى الإسلام الذي وقع على أبناء عمومتهم الكفار في الجبال العالية؛ حيث كان «مهاتير» شيترال يخضعون للحماية البريطانية ولم يتمكن عبد الرحمن من دخول أراضيهم. ولهذا السبب أيضا، يقع واديهم في باكستان، التي استولت على شيترال في عام 1969. يقول الكلاشا إنه في وقت ما كان كل أبناء شيترال يتبعون دينهم؛ لكن الآن جميعهم مسلمون باستثناء أربعة آلاف فرد. يعيش جميع أفراد قبيلة الكلاشا المتبقين البالغ عددهم أربعة آلاف في ثلاثة وديان في شيترال بجوار الحدود مع نورستان. لم يترك لهم العيش في الجبال أي خيار سوى ممارسة زراعة الكفاف - زراعة القمح للخبز والعنب للنبيذ، ورعي الماعز والأغنام النحيلة والأبقار الهزيلة - وفي الشتاء تتجمد أراضيهم وتصبح مغطاة بالثلوج. ومع ذلك ، فقد وفرت لهم الجبال أيضا الحماية من جميع الغزاة تقريبا، ويمكن أن تظل وديانهم تنعم بالسلام حتى عندما تكون ثمة فوضى وعنف على بعد أميال قليلة.
في عام 1839، قال الأفغان لأول وكيل سياسي بريطاني في أفغانستان، السير ويليام ماكنجتن: «ها هم أقرباؤك قادمون!» كانوا يقصدون وفدا من كافرستان. كانت الفكرة القائلة بأن أعضاء هذا الوفد كانوا «أبناء عمومة فقراء للأوروبيين»، كما كانوا يوصفون أحيانا، ناتجة عن لون بشرتهم الفاتح وعاداتهم المختلفة التي كانت تعتبر أوروبية على نحو مميز؛ مثل الجلوس على الكراسي والمصافحة بدلا من الجلوس على الأرض ومسك الكتفين مثلما يفعل معظم الأفغان. وفي مرحلة ما، أضيف مزيد من التفاصيل إلى نظرية الأصول الأوروبية لشعب هندوكوش. وقيل إنهم من نسل الإسكندر الأكبر وجنوده. وانتشرت القصة، في أثينا وسالونيك وما بعدهما، أن قبيلة الكلاشا على وجه التحديد كانت قبيلة إغريقية مفقودة. وتدفقت التبرعات. وفي مرحلة ما، ذهب السياح اليونانيون إلى القرى الباكستانية حاملين صورا للإسكندر ليقارنوا ملامحه بملامح الكلاشا، الذين يتمتع بعضهم بشعر أشقر وعيون زرقاء. انتشرت الفكرة أيضا بين أفراد قبيلة الكلاشا: حيث غير صبي محلي اسمه إلى ألكسندروس عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره. وفي غضون ذلك، استخدم ليرونيس التبرعات لإنشاء إمدادات مياه نظيفة، ومراحيض، ومدارس، ومتحف يحتفي بتراث الكلاشا ودينهم ويحافظ عليهما.
قد يوجد أكثر من تفسير للملامح التي تبدو أوروبية لهذه القبائل المعزولة في هندوكوش. فأثناء مدة إقامتي في أفغانستان من عام 2007 إلى عام 2009 لأتعلم لغاتها، كثيرا ما كنت أصادف كلمات تبدو إنجليزية. ففي اللغة الدارية، وهي إحدى اللغتين الرئيسيتين في أفغانستان، تستخدم الكلمات
lip (أي شفة)، و
bad (أي سيئ)، و
am (أي أنا)، وتحمل المعاني ذاتها التي تحملها في اللغة الإنجليزية. ويكاد يتطابق تماما نطق الكلمات التي تعني أما، وأخا، وابنة والتي تنطق «مادر، وبرادر، ودختر» مع مرادفاتها الإنجليزية:
mother ، و
brother ، و
daughter . وكلمة «تو»، المرادفة لكلمة «أنت»، قريبة من كلمة
thou
في الإنجليزية القديمة. وتكاد تتطابق جمل كاملة مع نظيرتها الإنجليزية. فجملة «برادر إتو أم» تعني «أنا أخوك». وكلما سمعت هذه العبارات في بيئة كابول التي تبدو غريبة في كثير من الأحيان ، وسط جبالها الثلجية، من رجال يرتدون معاطف «شابان» متعددة الألوان وقبعات «باكول» صوفية مسطحة وعانوا من الفوضى والقتل أكثر مما كنت أتخيل، كنت أشعر كما لو أن «يدا امتدت، وأخذت بيدك» - مستعيرا عبارة من آلان بينيت عن شعور العثور على شخصيات متعاطفة في التاريخ.
يعود سبب ذلك إلى ثلاثة أو أربعة آلاف عام، قبل حقبة طويلة من ظهور الإمبراطورية البريطانية، أو حتى الإمبراطوريات الأفغانية السابقة، عندما كان كل من أوروبا وأفغانستان مستعمرتين من قبل الأشخاص ذاتهم: الرعاة الرحل من القوقاز الذين نشروا لغتهم الهندو-أوروبية عبر مساحة شاسعة من الأرض. ففي صحراء تاكلاماكان، شرقي هندوكوش، اكتشفت جثة محنطة لأحد هؤلاء المستوطنين في عام 1980. ويعود تاريخ المومياء إلى ما يقرب من 3800 عام، ويطلق عليها اسم «جميلة لولان». كانت ذات شعر بني مائل إلى الحمرة، وعظام وجنتين بارزتين، وأنف مرتفع. يظهر وجودها فيما يعرف الآن بغرب الصين إلى أي مدى وصل المستوطنون الهندو-أوروبيون. ولا عجب أن الإسكندر، عندما وصل إلى هندوكوش، تذكر وطنه وبحث عن الأماكن التي ظهرت في أساطير شعبه. وكان يأمل أن يعثر في هندوكوش على الجبل الذي قيد فيه بروميثيوس بالسلاسل، عقابا من الآلهة لأنه علم الإنسان سر النار؛ وبينما كان يسير جنوبا نحو الهند، اقتنع بأنه يسير على خطى الإله ديونيسيوس، الذي تصور أنه تعرف على طقوسه بين العادات المحلية. ربما كان اعتقد أنه قد وصل إلى نهاية العالم - المكان الذي صارت فيه الأساطير حقيقة - وكان يفرط في تفسير الصدف. أو ربما كان يرى أوجه تشابه ثقافي تعود إلى ذلك الاستيطان المبكر.
لذا فإن الشعر الأشقر والعيون الزرقاء اللذين يميزان أفراد قبيلة الكلاشا لا يثبتان أنهم من نسل جنود الإسكندر، ولكن لم تكن تلك الفكرة مستحيلة على الإطلاق. بعد وفاة الإسكندر، حكم ملوك إغريق جنوب أفغانستان وجزءا كبيرا من باكستان أكثر من قرنين. واشتهرت «إمبراطوريتهم المكونة من ألف مدينة» بالثراء وأقاموا علاقات تجارية مع الصين وأقاموا علاقات دبلوماسية مع ملوك الهند. ولا يزال اسم سكندر (الإسكندر) شائعا في كشمير، ولا تزال مدينة قندهار الأفغانية تحمل اسم الملك اليوناني المميز. واستمر الحكام المسلمون في بدخشان، وهي مقاطعة في شمال كافرستان، في الادعاء بأنهم ينحدرون من نسل الإسكندر نفسه حتى أواخر القرن الخامس عشر. ولم تكن مقدونيا المجاورة لليونان، التي كانت أيضا تدعي أحقيتها في إرث الإسكندر، على استعداد ليتغلب عليها اليونانيون بعلاقتهم بالكلاشا. فدعت أمير هونزا لزيارة خاصة في عام 2008، لأن هذا الأمير، الذي يعيش في منطقة تقع شمال شيترال مباشرة، يدعي أيضا أنه من نسل الإسكندر. ولدى الكلاشا تراث شفاهي يرجع أصلهم إلى «شلق شاه»، في إشارة محتملة إلى سلوقس، قائد جيش الإسكندر. وبالفعل، يبدو أن دراسة للحمض النووي لسكان الكلاشا أجريت في عام 2014 تؤكد أسطورتهم. إذ أظهرت أنه في وقت ما بين عام 990 و206 قبل الميلاد، دخلت جينات أجنبية، ربما أوروبية، في تجمع جينات الكلاشا. •••
علمت بنورستان بعد مدة وجيزة من وصولي إلى كابول. في ذلك الوقت، لم أر الجبال ذات القمم الثلجية التي تحلق فوق العاصمة الأفغانية على جانبها الشرقي - الذي يعتبر جزءا من هندوكوش - بسبب ضباب الصيف الناتج عن الأبخرة والدخان الذي كان يخيم على المدينة، ولكن عندما سقطت قذائف الهاون على المدينة، قيل لي إنها أطلقت من تلك الجبال. ومنذ ذلك الحين، اعتبرتها أماكن تجمع بين الرعب والجمال. ففي نهاية الأمر، الاسم «كوش» يبدو إلى حد كبير مثل الكلمة الأفغانية «كشتن» التي تعني القتل. ومع ذلك، فقد أثار اهتمامي أنه لا تزال توجد في تلك الجبال أماكن لن أستطيع الوصول إليها؛ لذا قرأت بشغف كتب الأشخاص الذين زاروا نورستان، بمن في ذلك روبرتسون وأيضا إريك نيوباي، وهو كاتب رحلات بريطاني بلغ المقاطعة في عام 1956. واقتربت في بعض الأحيان من المكان، ورأيت صورا لقرى جبلية مذهلة، محفوفة بالمخاطر، لكن في الواقع لم تطأ قدماي أرض نورستان.
وبدلا من ذلك، قررت في عام 2008 المغامرة بدخول منطقة هندوكوش من الجانب الآخر. وسافرت من بكين بالقطار والسيارة غربا عبر مقاطعة شينجيانج المضطربة في الصين إلى مقاطعة هونزا شمال باكستان. وقد زار روبرتسون هذا المكان وكتب بعد ذلك كيف وجد نفسه مضطرا إلى تسلق شجرة بزيه الشعائري الكامل، والسيف، والخوذة النحاسية؛ إذ كان الحاكم المحلي يعيش على فروعها لتجنب الاغتيال. كانت المنطقة في كثير من النواحي شبيهة جدا بأفغانستان، لكنها خالية من الخطر. فقد كان بإمكاني ركوب الحافلات المحلية الصغيرة، والذهاب للتسوق في الأسواق، والتحدث بحرية مع الناس (بالقليل من اللغة الدارية، وعموما كانت الإنجليزية منتشرة لأن المنطقة ليس بها لغة مشتركة واحدة). لقد كان شعورا مبهجا. وحيث إننا كنا في فصل الشتاء، كانت ملاعب البولو فارغة، وتخيلت أنها في الصيف لا بد أن تكون ممتلئة بالأعيان المحليين على ظهور الخيل وهم يتدافعون، ويصرخون، ويلاحقون كرة بيضاء. كانت الماشية الهزيلة ترعى في المروج غير المستخدمة التابعة للفنادق المحلية، التي كانت تستضيف السياح في المواسم الصيفية السابقة. لعبت الكريكيت مع صبي في الجبال وقال إنه يريد اللعب لمنتخب إنجلترا، رغم أن اسمه كان صدام حسين. وجلست الفتيات في فناء مدرسة يطل على الطريق الرئيسي وأخذن يضايقن الأولاد عندما كانوا يمرون أمامهن. مررت دون أن يضايقنني؛ فكل إهاناتهن كانت ستذهب سدى. وبدلا من ذلك، استدعينني للمشاركة في مسابقة غنائية، كل منا بلغته.
كنت أقيم في منزل رجل اسمه حسين، ودعاني لزيارة الكاهنة المحلية، أو الشامان كما دعاها. مشينا إلى منزلها في ممرات القرية الصغيرة. قال: «إنها تعيش بجوار سفح الجبل. مثلما يفعل كل الشامانات.» وفي منزلها - التقليدي المبني من الحجر، ونار الموقد المشتعلة تحت وعاء به خبز شبه جاهز للأكل - كانت تنحني فوق صينية كانت قد نثرت عليها مجموعة من الدبابيس. حصل حسين، وهو شخصية محلية قوية من عائلة ثرية، على مجموعة ثاقبة من التنبؤات: «سيبغضك بعض الناس في القرية ... فهم يشعرون أنك متغيب أكثر من اللازم، وأنك لا تولي مجتمعك سوى القليل من الاهتمام.» فيما يخصني، صلت بالعربية وأعلنت حسن الحظ: «ستنتهي من كتابك.» الغريب في الأمر أنني لم أكن قد أخبرت أحدا أنني كنت أكتب كتابا.
وبينما كنا نغادر ، سألت حسين كيف أصبح شخص يعيش في منزل يقع تحت الجبال العظيمة شامانا. قال إن الأمر يتعلق بقضاء بضعة أشهر في القمم العالية، حيث تعيش الوعول، لا يأكل إلا الخبز ولا يشرب إلا الشاي. وعندما تنجب الوعلة صغارها، كان على الشامان المحتمل أن يشرب من حليبها، ثم ينزل إلى الوادي لاختبار قوى التنبؤ بالمستقبل المكتشفة حديثا. ويعود هذا التقليد جزئيا إلى الاعتقاد بأن الجنيات (يطلق عليها «بري» في اللغة المحلية) تسكن الجبال العالية. ويعتقد أن قضاء وقت بين الجنيات يمنح الشخص قوى خارقة للطبيعة (وتعتبر كلمة «بري جهره»، أي تملك وجها يشبه الجنيات، مجاملة محلية). يوما ما كانت مثل هذه التقاليد والمعتقدات واسعة الانتشار في تلك المنطقة، حتى بين المسلمين، لدرجة أن أحد الكتب اقترح أن منطقة هندوكوش بأكملها، هونزا، وواخان ونورستان، وشيترال، يمكن أن يطلق عليها اسم «بريستان»، أي أرض الجنيات. أخبرني حسين أنه توجد قبيلة تسمى الكلاشا لم تعتنق الإسلام بعد، وعرض علي فرصة الذهاب إليهم لرؤيتهم. كانت الرحلة ستستغرق بضعة أيام بسيارة جيب عبر طرق جبلية غير ممهدة من هونزا إلى شيترال. لم يكن لدي وقت لتلك الرحلة وقتذاك، لكنني وعدت نفسي بأنني سأعود. •••
مرت أربع سنوات قبل أن أحاول العودة، وهذه المرة أصبح الحصول على تأشيرة باكستانية أصعب. واستدعتني المفوضية العليا للبلاد في لندن، بعد عدة أشهر من تقديم الطلب. قدمت نفسي إلى الموظف عند الشباك. قال رجل صغير مفعم بالحيوية وله لحية طويلة: «آه نعم، سيد راسل. أنت غني عن التعريف!» أخبرني أنهم كانوا يعملون عليها منذ أسابيع. ربما كان هذا هو السبب في أن الملف الخاص بي كان قد أصبح ضخما جدا. رأيته عندما طلب مني الاتصال بمسئول مهذب ولكنه ضجر في مكتب ضخم كان أنيقا في يوم من الأيام. فقد كان الملف مفتوحا على المكتب أمامه. وقال: «شخص ما في باكستان يشكك في سمعتك. ما السبب في ذلك؟»
عندما قلت إنني كنت أعمل في كابول، ومضت نظرة فهم في عينيه مدة وجيزة، وتوقف عن طرح أي أسئلة أخرى. كنت أعرف أن أفغانستان وباكستان تنظر إحداهما إلى الأخرى بقدر كبير من الشك المتبادل: من الواضح أن مجرد العيش في إحداهما كان عائقا أمام زيارة الأخرى. ومع ذلك حصلت على التأشيرة في النهاية، وبعد بضعة أسابيع كنت في مطار إسلام أباد، عاصمة باكستان الحديثة، الفوضوي إلى حد ما. لكن ما زال أمامي تحد آخر قبل أن أتمكن من الوصول إلى وجهتي. فشيترال تقع على بعد 150 ميلا شمال إسلام أباد، على الحدود الأفغانية. وهذه المنطقة محاطة بالجبال، ولا يوجد سوى طريق واحد على ارتفاع منخفض لدخولها أو الخروج منها، وهو (بسبب الحدود التي رسمها البريطانيون، كما أوضح لي السكان المحليون) يمر عبر أفغانستان وكان مغلقا حاليا. لذلك كان سيتعين علي أن أستقل طائرة للوصول إلى هناك، ومع أن شيترال كانت منتجعا سياحيا مشهورا ومشمسا في الصيف، فإن التأخير في الحصول على التأشيرة كان يعني أننا الآن في منتصف الشتاء، حيث تكون الثلوج والرياح العاتية أمرا شائعا. ما خفف من سوء الموقف أنني إن وصلت إلى وادي الكلاشا في الوقت المحدد، ربما أتمكن من حضور الاحتفال بانقلاب الشمس الشتوي، حيث يقيمون عيدا يسمى «تشوموس» مدة أسبوع.
جاهدت رحلتي الأولى بالطائرة للوصول إلى مطار شيترال، ولكن بسبب الطقس، انتهى بي المطاف بالطيران في دوائر واسعة حول الوادي التالي، مما أتاح لي الاستمتاع بإطلالة رائعة على هندوكوش. استطعت أن أفهم كيف تخيل الإسكندر الأكبر أن الجبال تشكل حافة العالم؛ فحتى من الطائرة، لم يكن ثمة شيء مرئي سوى القمم والجروف المتتالية، على مد البصر من خلال السحب الساطعة والضباب الذي كان يغطيها. وبالأسفل، وفوق شيترال، كانت السحب أكثر قتامة وكثيفة للغاية؛ حيث حاولت الطائرة بتردد الاتجاه إلى أسفل عبر الطبقات العليا من السحب، ولكنها سرعان ما استسلمت وعادت. كان الأمر سيستغرق المزيد من الأيام والرحلات للوصول إلى المطار قبل أن أتمكن من الوصول إلى الوادي الواقع تحت تلك السحب.
في كل مرة كنت آتي فيها إلى المطار، كنت أرى لافتة تقول وداعا. كان مكتوبا عليها «الله حافظ»؛ تذكيرا بالتنازع الذي يحدث الآن على الإرث اللغوي للمستوطنين الهندو-أوروبيين القدامى في المنطقة. فقد كانت «خدا حافظ» هي العبارة القديمة لكلمة «الوداع» في باكستان، كما هي الآن في أفغانستان وإيران. ومع ذلك، يعتقد بعض المسلمين أن كلمة «خدا» المرادفة لكلمة الله في اللغة القديمة، والتي تشبه نطق مرادفتها الإنجليزية
God ، مع استخدام الخاء بدلا من الجيم، هي كلمة ليست إسلامية مقارنة بالكلمة العربية «الله». لقد رأيت في إيران كيف شدد الشعر الفارسي على الاختلاف بين الفارسية والعربية من خلال إحياء لغة ما قبل الإسلام القديمة. كانت باكستان تسير في الاتجاه المعاكس؛ متأثرة جزئيا بروابطها التجارية والسياسية مع العالم العربي، الذي يعمل به عشرات الآلاف من الباكستانيين، والذي ينظر عادة إلى إيران وكل شيء فارسي ببعض الريبة.
تعود حملة إحلال الكلمات العربية محل الكلمات الفارسية إلى زمن ضياء الحق، الديكتاتور العسكري الذي أطاح بالرئيس الباكستاني الاشتراكي الديمقراطي، ذو الفقار علي بوتو، في عام 1978. وعلى الرغم من سياسة بوتو، كان قد وضع باكستان بالفعل على طريق النهج الإسلامي المحافظ من خلال تمرير قانون ضد ازدراء الأديان، كان الكثير من ضحاياه من الأقليات الدينية. واتخذ ضياء إجراءات أكثر جدية، حيث فرض الجلد العلني عقوبة لشرب الخمر والرجم حتى الموت عقوبة للزنى. ودعمت باكستان أكثر الجماعات المتمردة وحشية في أفغانستان المجاورة في مواجهة السوفييت. وأتاح تعزيز القضايا الإسلامية هدفا موحدا أكثر وضوحا لباكستان، تلك الدولة التي تكونت في عام 1948 من تجمع مجموعة من المقاطعات معا - بما في ذلك شيترال - لا تشترك في شيء سوى الدين. وساعد أيضا التوتر المستمر مع الهند، جارة باكستان من جهة الشرق ذات الأغلبية الهندوسية، في خلق شعور بأنه كلما زادت درجة إسلاميتك، زادت وطنيتك. وخلق الفساد المتفشي شعورا بأنه لا يمكن الوثوق إلا بالمتدينين لإدارة الأمور بأمانة. ولم يتراجع خلفاء ضياء أبدا عن التغييرات التي أجراها.
عندما وصلت الطائرة التي كنت على متنها في نهاية المطاف إلى شيترال، رأيت أن أرضية الوادي كانت مسطحة وخضراء، تنتشر في أرجائها المباني عشوائيا؛ ويجري نهر عريض في اتجاه حافتها الجنوبية، وترتفع على كلا الجانبين سفوح جبال جرداء شديدة الانحدار. وفي مرحلة ما، عبرنا المنحدر الحاد الذي جاء منه ماكنير، مارا بجثث المسافرين المتوفين. وخيم ضباب خفيف على الوادي، وهو الأثر الوحيد المتبقي من سحب العاصفة الكثيفة. وقد كان هذا الوادي ولاية أميرية مستقلة، يحكمها المهاتير، عندما مر بها ماكنير وروبرتسون. توجهت إلى فندق كان يخص ابن عم المهتار الحالي. وكان جده الأكبر قد حكم الوادي في زمن روبرتسون، وفعل كل ما في وسعه لمنع روبرتسون من الوصول إلى كفار قبيلة الكام - وصل الأمر إلى رشوة أفراد قبيلة الكام لقتله - خوفا من أن يأمل البريطانيون في الاستيلاء عليها بالإضافة إلى كافرستان وشيترال. (في الواقع، ظلت شيترال ولاية أميرية، تسيطر على شئونها الداخلية، حتى استولت عليها باكستان عام 1969.)
على النقيض من ذلك، كان حفيده، شهزاده سراج الملك، متعاونا للغاية. فقد كان يعمل طيارا في الماضي، وكانت زوجته، غزالة، حاصلة على شهادة في توريد الأطعمة. وعندما لم يكونا يستضيفان الدبلوماسيين في صالونهما الأنيق في إسلام أباد، كانا يعتنيان بالصيادين، والرحالة، والكتاب في الفندق الذي كانا يديرانه معا. وبينما كنت جالسا بالقرب من مدفأة مفتوحة في قاعة الطعام، أعطاني سراج كتابا مهترئا عمره ثمانون عاما، من تأليف الكولونيل ريجينالد شومبيرج. كان شومبيرج يتحدث ست لغات، وحائزا العديد من الميداليات العسكرية، وأحد أعضاء الجمعية الجغرافية الملكية، وقد زار شيترال خلال العشرين عاما التي قضاها في استكشاف آسيا الوسطى. (في نهاية حياته كان يريد الانضمام إلى الكهنوت الكاثوليكي.) كتب هذا الكتاب «الكفار والأنهار الجليدية» أثناء أسفاره. وأظهرت الملاحظات المكتوبة بسخط على هوامش الكتاب اعتراض والد سراج مرة على ملاحظات الكتاب الفظة عن أهل شيترال. وكان شومبيرج قد توقع توقعا متشائما عن الكلاشا، القبيلة الوحيدة غير المسلمة في شيترال، على وجه الخصوص. وكتب: «عما قريب، سيقنعون - بلطف شديد، ووداعة مفرطة، ولكن بحزم - باتباع محمد وسيصبحون مسلمين سيئين بدلا من وثنيين صالحين .»
سرعان ما أتيحت لي فرصة التوصل إلى استنتاجي الخاص بشأن هذا الموضوع؛ لأنني انطلقت في اليوم التالي لرؤية أقرب واد لقبيلة الكلاشا بصحبة سراج ذاته، وسائق، ومصور باكستاني يدعى ذا الفقار كان يقيم أيضا في الفندق وكان يتوق إلى رؤية أهل الكلاشا. ونظرا إلى وجود ثلاثمائة ألف شيترالي إجمالا، منهم أربعة آلاف فقط من الكلاشا، لم أفاجأ من أن الطريق التي سلكناها كانت تصطف فيها لافتات عليها أسماء الله الحسنى: الرحيم، المجيد، المعز، المذل. وبعد نصف ساعة عبرنا نهر شيترال، الذي كنت قد رأيته يجري على الجانب الجنوبي من الوادي الرئيسي، واتجهنا نحو ممر ضيق بدت جوانبه الطينية اليابسة، المليئة بأخاديد معقدة، مثل شلال متجمد. وعلى عمق ثلاثين قدما أو نحو ذلك تحتنا، هبط أحد روافد نهر شيترال، وهو نهر الكلاشا، في قاع الممر الضيق محدثا صوتا مدويا. وكان الطريق يتجه إلى أعلى، نحو أعالي الجبال.
تأوهت نوابض سيارتنا عندما اصطدمت بسطح الطريق الصخري، وكان الممر الضيق في بعض الأماكن لا يكاد يتسع لمرور السيارة وكان على السائق التركيز للتأكد من اختيار الزاوية الدقيقة التي لن تخدش أبواب السيارة في الجرف عن يسارنا ولن توجه عجلاتها نحو حافة الهاوية عن يميننا. لقد ذهلت عندما علمت أن حافلة صغيرة كانت تقوم بهذه الرحلة بانتظام. وعلى طول الطريق، امتدت الأسلاك الكهربائية أميالا وأميالا؛ مما يدل على أنه حتى لو كانت الدولة الباكستانية ضعيفة وهشة، فإنها لا تزال قادرة على تقديم بعض الخدمات لشعبها.
تتمتع قرية جروم الواقعة في وادي رامبور الخاص بقبيلة الكلاشا بالكهرباء، لكن لا يزال يتعين عليها مواجهة البرد والثلج في معظم شهور السنة. لقد أدى فقر الكلاشا وموقعهم القصي إلى حمايتهم من الضغط لاعتناق الإسلام. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
بعد مدة زاد اتساع الممر الضيق ليصبح واديا. ومررنا من حين لآخر بمنازل على جانب الطريق: في البداية كانت تلك المملوكة لعائلات مسلمة، كما استطعت أن أرى من حقيقة أن الفتيات الواقفات بالخارج كن محجبات. وبعد أن قدنا السيارة مدة ساعة أخرى أو نحو ذلك، رأيت ملابس زاهية أكثر بكثير تتدلى لتجف على أغصان الأشجار على جانب الطريق، ثم رأيت امرأة ترتدي ثوبا أسود مطرزا تطريزا معقدا بالأحمر، والأبيض، والأصفر وغطاء رأس مصنوعا من صوف متعدد الألوان، وأصداف بيضاء، وكرة خيط حمراء، بالإضافة إلى أقراط تصلصل. كنا بين أفراد قبيلة الكلاشا في وادي رامبور، أحد المواقع الثلاثة التي لا يزال من الممكن العثور عليهم فيها. كانوا في خضم الاحتفال بعيد انقلاب الشمس الشتوي. توقفت سيارتنا في قرية صغيرة تسمى جروم. كان الوادي، الذي يبلغ عرضه هنا نحو مائتي ياردة، ذا جوانب شديدة الانحدار مغطاة بالثلج وتتناثر فيه أشجار التنوب، بينما كانت حقوله بنية بلون الطين. كانت الساعة نحو الثانية بعد الظهر، لكن سرعان ما كانت الشمس ستغيب وراء قمة التل. توجهنا إلى منزل مبني على طراز الأكواخ السويسرية بصخور الأردواز وعوارض خشبية. وخرج رجل من الكلاشا يدعى عظيم بيك - وبيك هو لقب شرفي وليس اسم عائلة؛ لأن الكلاشا لا يستخدمون أسماء العائلة عموما - واستقبل سراج بتعليق العديد من أكاليل الورود زاهية الألوان حول رقبته. (كان الكثير من أفراد قبيلة الكلاشا يرتدونها للاحتفال بالعيد.) ودعانا إلى حظيرة خشبية لا تزال قيد الإنشاء، حيث وقفنا نرتجف بضع لحظات عندما هبت ريح باردة من خلال إطارات النوافذ الخالية من النوافذ. بدا أن عظيم بيك لم يلاحظ برودة الطقس. انضم إلينا طفلاه الصغيران، صبي وفتاة، وأحضرا مزيدا من أكاليل الزهور بألوان مختلفة، وقلائد من اللوز. قالا: «إيشباتا» وتعني «مرحبا» بلغة الكلاشا.
أحضر رجل كبير السن وعاء به جمرات مشتعلة لتدفئتنا وقدم لنا الشاي والنبيذ. وقال: «أضيف النبيذ إلى الشاي؛ فهو يحسن النكهة.» في القرن السابع عشر قبل أن يصل الغربيون إلى مملكتهم الجبلية، وصل نبيذ الكفار بطريقة ما إلى اليسوعي البرتغالي بينتو دي جوز ونال استحسانه. وجدته جيدا بشكل مدهش أيضا، ودعوت عظيم بيك لتجربة بعضه. مد يده للحصول عليه لكنه تراجع. وقال: «لقد نسيت أننا في منتصف العيد، وهذا البيت نجس. لا يجوز لي أن آكل أو أشرب في بيت نجس.»
تبين أن هذه القاعدة أساسية في حياة الكلاشا. كان الكفار، كما وصفهم روبرتسون، عبارة عن مجموعة من القبائل التي تباينت عاداتها (على سبيل المثال، كان الكام مولعين بالحرب أكثر من الكلاشا) ولكنها كانت تشترك بشكل أساسي في الدين ذاته. إذ كان لكل الكفار، على سبيل المثال، مجموعة كاملة من المبادئ المتعارضة التي تحكم حياتهم. كانت اليد اليمنى، والذكور، والجبال العالية، والطهارة، والأعداد الفردية، والحياة كلها مرتبطة بعضها ببعض؛ وكانت تتعارض معها اليد اليسرى، والإناث، والأودية المنخفضة، والنجاسة، والأعداد الزوجية، والموت. لذا كان الرجال يجلسون على الجانب الأيمن من بيوتهم والنساء على الجانب الأيسر. وبالمثل، كان الرجال هم من يرعون الماعز، والنساء يزرعن المحاصيل، والرجال يذهبون إلى الجبال، والنساء إلى الوديان، وكذلك كن عرضة لجميع أنواع النجاسة.
لا تزال قبيلة الكلاشا تحتفظ بالكثير من هذه القواعد. على وجه التحديد، تخصص الأماكن المرتفعة في الجبال للرجال فقط خلال الأشهر التي تلي تشوموس. والبيت النظيف للعيد هو البيت الذي طهر بأغصان العرعر ولا يوجد بيت نجس أعلى منه على سفح الجبل. بعد مدة وجيزة من إقامتنا في الحظيرة، تعرضت للتوبيخ لأنني لمست منزلا في القرية عندما مررت به؛ لأن هذا جعله نجسا، مما يعني أنه يجب حرق المزيد من أغصان العرعر لاستعادة طهارته.
ومع ذلك، فإن الكلاشا متسامحون عندما يتعلق الأمر بمسائل الطهارة. وبينما كنا نقف في الحظيرة، أحنى سائق سراج الملك المسلم الطويل اللحية رأسه بخنوع لتلقي إكليل العيد من صبي صغير من أهل الكلاشا. ولم يفاجأ أهل الكلاشا عندما وقف السائق، بعد بضع دقائق، على منضدة تستند إلى حاملين - سطح أنظف من الأرضية - وسجد مؤديا الصلاة الإسلامية. فقد اعتادوا العيش جنبا إلى جنب مع المسلمين؛ لأن بعض الكلاشا في القرية اعتنقوا الإسلام. والنساء اللاتي اعتنقن الإسلام يبدون واضحات بسبب فساتينهن المحتشمة ذات الألوان الهادئة وحجابهن. لم يختلف زي رجال الكلاشا عن المسلمين المحليين. وكان شيئا غريبا إلى حد ما أن أرى، أثناء سيري في قرية الكلاشا، رجلا يشبه تماما البشتون المسلمين المتشددين، مرتديا القميص والسروال المعروفين باسم «شالوار كاميز»، ويعلوهما بطانية لصد البرد، وقبعة شيترال مسطحة على رأسه، ويحدق في بنظرة ثابتة، والشيء الوحيد الذي أثبت أنه لم يكن مسلما هو إكليل الزهور ذو الألوان الزاهية حول رقبته والريشة في قبعته؛ فقد كان مجرد واحد من أهل قبيلة الكلاشا في طريقه للاحتفال لتكريم واحد من آلهته.
عاد سراج إلى الفندق، بينما اتجهنا أنا وذو الفقار - إذ كنا سنمضي الليلة هناك - نحو وسط القرية، حيث سيرقص القرويون لاحقا للاحتفال بانقلاب الشمس الشتوي. في الطريق مررنا ب «البشالي»، وهو منزل في وسط القرية يجب على النساء البقاء فيه خلال أوقات حيضهن. في ثلاثينيات القرن الماضي، جعله شومبيرج يبدو كأنه مكان فظيع، حيث لا يمكن حتى للقابلة الدخول إلا بعد تجريدها من ملابسها، ولا يمكن لأي رجل الاقتراب منه. يبدو أن سبعين عاما قد غيرت هذه العادة إلى حد ما إلى الأفضل. فالبشالي الآن هو مبنى خشبي مشيد مؤخرا بأموال جمعها البروفيسور ليرونيس، وكانت النساء الثلاث المقيمات هناك يقفن عند المدخل ويتحدثن بمرح إلى المارة.
يجب على نساء الكلاشا أن يذهبن إلى «البشالي» أثناء وقت حيضهن، لكي يعشن منفصلات. ومع ذلك، لا تطبق القاعدة بقسوة، حيث خرجت هؤلاء النساء الثلاث للاختلاط مع المارة. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
عبرنا جسرا خشبيا فوق نهر الكلاشا، ممسكين بالدرابزين بإحكام لتجنب الانزلاق على سطح الجسر الجليدي. على الجانب الآخر، كانت توجد براميل خشبية ضخمة على حافة النهر. لاحظت أنه لم تكن ثمة حاجة إلى أن توصد، فقد تركت مفتوحة، وخزنت كل أسرة مخزونها الخاص من النبيذ والمكسرات بداخلها. رأيت هنا مثالا على الطريقة التي تتعايش بها ديانتان، حيث رأيت راعيا يقود الماعز من أجل قربان تشوموس مارا بمدرسة اسمها «صوت القرآن». ورافق استعدادات الاحتفال أذان الصلاة، الذي كانت تبثه مكبرات الصوت من المسجد وتردد صداه في سفوح التلال الثلجية.
عندما ذهبت أنا ورفيقي الضيف ذو الفقار إلى مكان الرقص، أخذونا إلى مكان بعيد قليلا عن الراقصين. ووقف بهدوء أمامنا صف من الفتيات المسلمات الفضوليات، اللائي كن يعدن ضبط حجابهن باحتشام من وقت لآخر، ويراقبن أبناء عمومتهن الأكثر صخبا. فيما يخص ديانة الكلاشا، يعتبر المسلمون غير طاهرين في وقت الاحتفال لأنهم لا يخضعون لطقوس التطهير التي يبدأ بها الاحتفال (والتي من أجلها يجب أن يضحي الرجال بماعز وتتعطر النساء برائحة خشب العرعر المحترق). وإذا أقاموا في بيت أو لمسوا صحن طعام، فإنهم يجعلونه نجسا، ولا يجوز لهم الاشتراك في الاحتفالات الدينية، ولكن يمكنهم مشاهدتها عن بعد. سجل شومبيرج مثالا مشابها للتمييز العنصري أثناء حضور عيد الربيع للكلاشا في عام 1935. وذكر قائلا: «احتشدت بعيدا على أحد الأسطح مجموعة من [معتنقي الإسلام] يبدو عليهم الحزن الشديد ويشاهدون بأعين مليئة بالشوق فرحة إخوانهم السابقين في الدين.»
أكيكو، امرأة يابانية، انضمت إلى مجتمع الكلاشا عندما تزوجت رجلا من قبيلة الكلاشا منذ عشرين عاما. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
جاء عظيم إلينا أنا وذو الفقار. وقال: «أعتذر عن عدم قدرتكما على الانضمام إلينا. فلا يمكن مشاركة إلا أولئك الموجودين هنا في الوادي منذ بداية الاحتفال. لو كنتما هنا منذ البداية، لما كانت هذه مشكلة: فلا يسمح للمسلمين بالانضمام للاحتفال، لكن يسمح للأجانب بذلك.» وفي الواقع، كان بإمكاني رؤية رجل ألماني، يضع الكاميرا حول رقبته، وزوجته يدوران حول نفسهما ويلوحان بذراعيهما برشاقة مثل أهل الكلاشا. ومن المفترض أنه كان هناك من أجل التضحية بالماعز. كانت هناك أيضا سيدة ترتدي الزي الكامل لأهل الكلاشا، بالإضافة إلى الأصداف؛ ولكن، على عكس أي امرأة أخرى بين نساء الكلاشا، كانت ترتدي أيضا نظارة. وكانت ملامحها بالتأكيد لا تشبه أفراد قبيلة الكلاشا. كانت يابانية. في وقت لاحق أتيحت لي فرصة التحدث معها مدة وجيزة. قالت إن اسمها أكيكو وكانت تعيش في الوادي منذ خمسة وعشرين عاما. وقد جاءت لتصوير المنطقة ووقعت في حب رجل محلي. وقالت إنها هناك شعرت بأنها جزء من العائلة، لكن عندما ذهبت لزيارة اليابان، بدت وكأنها مكان غريب يتسم بنزعة فردية.
قبل ذو الفقار، وهو رجل مسلم، استبعاده بخلق طيب، حتى إنه اعتذر لعظيم لأنه صافحه (حيث لا بد أن ذلك تسبب في جعله نجسا). وقال لي معلقا: «من المفيد لهم أن تكون لديهم هذه القاعدة. فهي تمنع قدوم عدد كبير من الزوار.» لم تكن هذه مشكلة محتملة في الشتاء، لكن قيل لي إن الاحتفال الصيفي يجتذب العديد من السياح الباكستانيين الذين كانوا مفتونين بالمنطقة بقدر أولئك القادمين من اليونان أو البلدان الأبعد من ذلك. وكان العديد من الزائرين ودودين، لكن جاء البعض يحملون معهم فكرة خاطئة؛ توقعوا أنه لأن نساء قبيلة الكلاشا لم يرتدين الحجاب ولم يكن مسلمات، فإنهن سيصبحن متاحات لممارسة الجنس. ساعدت في نشر هذه الفكرة حكايات صادمة عن تقليد يسمى «بودالوك» - عندما يقع الاختيار على رجل من الكلاشا مرة واحدة في السنة، ويكرس نفسه ليصبح كاهنا بقضاء بعض الوقت في الجبال العالية، ثم يجامع أكبر عدد ممكن من النساء. في الواقع، يتحفظ أهل الكلاشا تحفظا شديدا فيما يتعلق بالجنس، وخلال وقت الاحتفال بتشوموس يحظر تماما ممارسة الجنس حتى بين المتزوجين. لكن هذا لا يمنع البغايا من القدوم من أجزاء أخرى من باكستان لاستغلال الأسطورة من خلال ارتداء ملابس تشبه ملابس نساء الكلاشا، مستغلات هذه الرغبة في ممارسة الأمور الغريبة.
على أي حال، على الرغم من أننا أنا وذا الفقار لم نشارك بالفعل في رقصة ما بعد الظهر، فقد كان لدينا موقع مميز وحصلنا على مشاهدة جيدة. بدأ الأمر بتحرك نساء الكلاشا في اتجاهات مختلفة - مشكلات قوس قزح كاملا بأقمشة فساتينهن الاصطناعية ذات الألوان البرتقالية، والوردية، والصفراء بالإضافة إلى اللون الأحمر والأسود التقليديين - والرجال الذين ارتدوا ملابس أقل بهرجة مثل الشالوار كاميز وقبعة شيترال. ارتدى صبية قبيلة الكلاشا الملابس الغربية وقبعات البيسبول. في وسط الحشد استطعت أن ألاحظ بعض الأفراد الشجعان يرقصون وهم محاطون بدائرة من المشاهدين يهللون ويهتفون. وتدريجيا، شكل الرجال والنساء سلاسل بشرية وبدءوا في الرقص بإخلاص.
لم يكن الرجال والنساء يرقصون كشركاء بل في مجموعات منفصلة وكانوا يغنون وهم يرقصون. سألت عظيم بيك عما تعنيه الكلمات. فأجاب: «الأمر يتعلق بعودة الإله ومجيئه للانضمام إلينا مرة أخرى. ويقولون إن أبناء أعمامنا وبنات خالاتنا جاءوا للاحتفال معنا.» وذكر أن الترانيم تتغير كل عشرين دقيقة. وعلى مدار الاحتفالات، شكلت الترانيم المختلفة أنشودة مطولة لبليمان، إله العيد، الذي يأتي من بعيد على حصان مجنح لجمع التماسات أهل الكلاشا. اندفع الأطفال بين الراقصين الكبار، ولعبوا ألعاب المطاردة. لم يوبخهم أحد على الإطلاق تقريبا. في بعض الأحيان كان الصبية يشكلون مجموعات صغيرة، ويشبكون أذرعهم ويغنون للفتيات. وتبين أن هذا خطأ استراتيجي. وأدركت إحدى الفتيات أن الصبيان، بعد أن شبكوا أذرعهم، سيجدون صعوبة في انفصال بعضهم عن البعض في الوقت المناسب لمطاردتها. لذا ركلت الصبي الأوسط بين رجليه وابتعدت بسرعة ضاحكة بمرح.
بعد مدة، بدأ الرقص النهاري يهدأ، وتوجه أهل الكلاشا إلى منازلهم للاستعداد لرقصة أخرى تقام في الليل. ذهبت إلى دار الضيافة حيث قضينا الليلة السابقة، تلك الدار التي كانت تديرها قريبة عظيم، زارماس جول وزوجها. (مرة أخرى، «جول» ليس اسم العائلة بل اسم تحبب - يعني «زهرة» - يضاف إلى نهاية اسمها الأول.) شاهدت زارماس جول جالسة أمام موقد حطب تصنع خبزا بلحم الضأن، كان يشبه فطيرة الكورنيش، لكنه كان أفضل بكثير لأنه كان مصنوعا من لحم طازج. كان جهاز كمبيوتر قديم يصدر موسيقى هندية بالتناوب مع موسيقى البوب الأمريكية، وأثناء انتظار ارتفاع درجة حرارة الموقد، تمايلت بلطف مضيفتنا من أهل الكلاشا، بثوبها المطرز بإتقان، على إيقاع أغنية لريانا. وجلست ابنتها على مقربة، مرتدية سترة رياضية بدلا من الفستان التقليدي المطرز (أخبرني عظيم بيك لاحقا أنها: «تحب التشبه بالصبيان، لكنها توافق على ارتداء فستان الكلاشا عند الذهاب إلى المدرسة»)، وكانت في بعض الأحيان تستحوذ على الكمبيوتر لتلعب عليه.
زارماس جول تعد خبز الشباتي التقليدي باللحم من أجل عيد تشوموس، انقلاب الشمس الشتوي، عندما تطول ساعات النهار وتقصر ساعات الليل. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
وعلى الرغم من هذه التدخلات للحصول على أسلوب حياة أكثر حداثة - أتاحته، بالطبع، خطوط الكهرباء التي رأيتها تمتد على طول الممر الضيق - فإن روتين أهل الكلاشا اليومي، بخلاف ذلك، يظل غير مدعوم بوسائل الراحة الحديثة. فحتى أصغر وجبة في القرية تحتاج إلى تحضير - فيجب تقطيع الخشب، وجمعه، وتخزينه، وإبقاؤه جافا، وحتى لقلي بيضة، كان لا بد من إشعال النار. فكرت في مدى صعوبة غسل الملابس في هذا الشتاء القارس. كان العزاء الوحيد هو أن الموقد سرعان ما جعل الغرفة دافئة للغاية وزاد شعورنا جميعا بهذا الدفء لأننا كنا نعرف مدى برودة الجو في الخارج.
لا بد أن الظروف كانت أصعب بشكل لا يمكن تصوره على الكام في زمن روبرتسون - في مكان أعلى في الجبال، ودون كهرباء أو دخل من السياحة. ومع ذلك، قال روبرتسون إنهم «لم يشعروا بالحزن أبدا» - ربما لأنهم كانوا اجتماعيين بلا كلل. فهم لم يفهموا أبدا، على سبيل المثال، أنه في بعض الأحيان كان يريد أن يكون بمفرده. وأشار بإحباط في ملاحظاته أنه عندما كان ينسحب إلى غرفته على أمل الكتابة بسلام، كانوا يفترضون أن ثمة ما يضايقه ويأتون خصوصا إلى غرفته لمحاولة إسعاده. (لم يكن بإمكانه التخلص منهم إلا من خلال أن يطلب منهم تعليمه لغتهم؛ فتعليمه كان يضجرهم لدرجة أنهم كانوا دائما يخرجون على الفور.) بدت قبيلة الكلاشا راضية أيضا في واديها. واختار قلة من أفرادها، حتى من بين أولئك الذين اعتنقوا الإسلام، المغادرة للعمل في المدن. من وجهة نظري الغربية، بدا أن كل يوم يمثل صراعا لهم، لكنني قلت في نفسي، متأملا، إنهم لم يضطروا أبدا للتعامل مع المشكلات التي يواجهها سكان المدن المعاصرة: مثل الوجود وسط حشد من الغرباء، وأن تكون مختلفا عن الآخرين، ووحيدا.
في ذلك المساء، بدأت الجولة الثانية من الرقص بعد حلول الظلام. ومن دار الضيافة التي كنا نمكث بها، كان بإمكاني أنا وذو الفقار أن نرى مشاعل متوهجة تظهر من بعيد أسفل الوادي، ونسمع صوت الغناء الآتي من بعيد. ثم ظهرت ببطء من الظلام مجموعة من الشبان والشابات واتجهت نحو حقل قريب. تبعناهم، محافظين على مسافة بيننا وبينهم. وفي الحقل رأينا نقاطا مضيئة تظهر في جميع أنحاء التلال، وتبين أنها مشاعل حطب يحملها أهل الكلاشا النازلون من قراهم الجبلية. حدثت جلبة عندما تبادل الناس التحية، ففي بعض الأحيان لا يتقابلون شهورا. استمر الرقص طوال الليل، على ضوء ألسنة لهب نار هائلة. وعلى الرغم من تساقط الثلوج دون توقف، بدا أن أهل الكلاشا لم يلاحظوا ذلك. فقد كان الدفء والنور والحيوية البشرية يبعدون الظلام والبرد، مما يبشر بالصيف القادم. عندما استيقظت في صباح اليوم التالي، كان عظيم بيك لا يزال مستيقظا؛ حيث كان قد ذهب في الصباح الباكر، بعد الرقص، لتهنئة عدد من الأزواج الذين تزوجوا في اليوم السابق.
كان والد عظيم أحد شيوخ الكلاشا، لكنهم كانوا عادة شعبا ديمقراطيا يؤمن بالمساواة دون أن يكون لديهم قادة دائمون. ووجد روبرتسون أنه عندما كان على قادة الكام اتخاذ قرارات مهمة، كانوا دائما ينتظرون أعضاء القبيلة الآخرين للتعبير عن رأيهم ثم يوافقون على ما قالته الأغلبية. وفي الحالات التي كان فيها انقسام كبير ولا توجد بها أغلبية واضحة، كان سياسيو الكام يلجئون إلى تكتيك نادرا ما يستخدمه السياسيون في الديمقراطيات الغربية؛ كانوا حرفيا يختبئون حتى يتمكنوا من تجنب اتخاذ قرار مسبب للشقاق. ومن بين أهل الكلاشا، يوجد شيوخ يدعون «جاديراكان» يتفقدون الأمر للتأكد من أن المجتمع يؤدي طقوسه بشكل صحيح؛ وهم متطوعون بلا أجر، وليسوا كهنة بالمعنى التقليدي. •••
في تلك الليلة، نمت في أحد بيوت الكلاشا، حيث كان الجمر المتوهج في الموقد يحافظ على دفء الغرفة. وفي الصباح، بعد أن قللت الشمس المشرقة من حدة برودة الليل في الوادي، أتيحت لي فرصة رؤية أسلوب مختلف من الرقص. كانت تجري احتفالات بانقلاب الشمس من نوع مختلف إلى حد ما في واد آخر من وديان الكلاشا يدعى بيرير - أبعد واد عن رامبور، على بعد رحلة تستغرق عدة ساعات بالسيارة. وكانت زارماس جول من الوادي وأخبرتنا عن الاحتفال، على الرغم من أن رفقائي من أهل الكلاشا لم يبد عليهم أنهم على معرفة به؛ بدا أن الأخبار لم تكن تنتقل كثيرا بين بيرير ورامبور، ربما لأن قلة من الكلاشا لديهم سيارات أو يعتقدون أن رؤية مجتمعات الكلاشا الأخرى ليس سببا قويا لترك وديانهم والقيام برحلة شاقة سيرا على الأقدام. جاء معي عظيم ووزير، وهو من أهل الكلاشا الذين اعتنقوا الإسلام.
يستقبل وادي بيرير عددا قليلا من السياح وظروفه أفقر من رامبور، حيث يعيش العديد من أهل قبيلة الكلاشا في بيرير في مبنى خشبي كبير على جانب التل. وكان المبنى على الطراز القديم؛ فهو مبني من عدة مستويات وتربط السلالم بين الشرفات المشتركة، ولكل أسرة غرفة به. وتسبب الانحدار الحاد لسفح التل في تدرج الشرفات بعضها فوق بعض. وبالرغم من تميز المبنى بروعة تفوق المباني الأحدث في رامبور (ناهيك عن تلك الموجودة في الوادي الأوسط، بمبوريت، التي حدثت بدرجة كبيرة)، فقد كان أيضا أضيق بكثير.
كانت توجد أيضا مجموعة من المنازل على أرض الوادي، ومررنا عبرها، وسرنا بعدها مسافة طويلة إلى أعلى الوادي، ثم صعدنا طريقا قصيرا على سفح التل، إلى موقع مميز حيث كان يوجد معبد يسمى «جيستاك هان»؛ مكرس لعبادة جيستاك، إلهة الأسرة. كان هذا هو المكان الذي يقام فيه الاحتفال. وتعين أن يطلع أحد حراس الشرطة خارج الباب على جواز سفري قبل أن يسمح لي بالدخول إلى المعبد؛ الذي كان مكونا من غرفة واحدة، تصطف على جانبيها أعمدة، وكل ذلك مصنوع من الخشب. وعلى الرغم من أن المعبد قد بني حديثا، كان يتمتع بطابع العصور القديمة. ربما كان هذا بسبب الأعمدة الداخلية التي بدت كأنها نسخة غريبة من الأعمدة الأيونية؛ وربما كان السبب خيوط العنكبوت على تلك الأعمدة، التي حجبت الرموز المنحوتة في الخشب. وكان معظم الغرفة مظلما، باستثناء جدار المعبد الذي أضاءه شعاعان رفيعان من أشعة الشمس تسللا من خلال فتحة مربعة في السقف، ونافذة كانت تطل على السفح الجليدي للجبل. وكان يحدق بنا من خلال الفتحة حشد من الفتيان والفتيات، الذين كانوا يجلسون على السطح؛ خمنت أنهم ربما كانوا مسلمين ممنوعين من الدخول.
كان يوجد ما قد يصل إلى ثمانين أو حتى مائة فرد من الكلاشا في الغرفة. جلس بعضهم على مقعد طويل في الخلف، لكن معظمهم كان واقفا؛ واصطفت النساء بفساتينهن متعددة الألوان في الظلام. كان الأصدقاء يتبادلون التحية ويقفون يتحدثون بعض الوقت. ووقف آخرون بهدوء يستمعون إلى ثلاثة رجال يرتدون شالوار كاميز وقبعات شيترال: كان أحدهم يرتدي عباءة براقة من الألياف الاصطناعية باللونين الأحمر والذهبي. وأنشد هؤلاء الثلاثة ترنيمة بسيطة على سلم موسيقي صغير، تتكون فقط من نغمتين موسيقيتين توحيان بالحزن. وفي زاوية معبد «الجيستاك هان»، قرع رجلان مع الترنيمة طبولا مختلفة الحجم. وحول حافات الغرفة شكلت أربعون أو خمسون امرأة صفا طويلا بأذرع متشابكة ورددن الترانيم وراء المغنين، ولم يلتزمن بالتوقيت بدقة، وامتلأت الغرفة بنغمات نشاز حزينة. وبينما كنت واقفا بين الرجال في وسط الدائرة، حظيت بتجربة مختلفة تماما عن تلك التي كانت في رامبور. فقد كان الاحتفال في رامبور فوضويا، في حين أن هذا بعث شعورا بالوقار والروحانية. فالطبول كانت تدق ببطء، والنساء يتحركن عكس اتجاه عقارب الساعة حول حافات الغرفة، والرجال ينشدون. كان رجال الكلاشا يقصدون المنشدين من وقت لآخر ويضعون الروبيات المكرمشة في قبعاتهم، وهي طريقة تقليدية لمكافأة الإنشاد الجيد.
أخبرني عظيم وهو يفسر الأغنية أن أحد المنشدين حلم بهذه الترنيمة، وأنها تدور حول مكان في الوادي كان يرقص فيه الكلاشا في الماضي للاحتفال بالعيد. وترجم قائلا: «الإله يتساءل لماذا لا نستخدم الوادي كله للاحتفال بتشوموس؟» تقلص نطاق الاحتفال على مدى عقود حيث تضاءل حجم الطائفة. وأصبح المسلمون يمتلكون الآن الأماكن التي كانت تقام فيها الاحتفالات من قبل لذا تعتبر غير طاهرة. تساءلت عن عدد الأشخاص الذين لا بد أنهم قد حافظوا على هذا الرثاء على مر السنين مع وصول الإسلام، أو المسيحية، أو الديانات التبشيرية الأخرى إلى أوطانهم ؟
منشد من أهل الكلاشا كوفئ على إنشاده في عيد التشوموس بعباءة براقة. وها هو يرتديها بفخر، خارج المعبد حيث يحتفل بالعيد بالرقص. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
تغير الإيقاع. وتسارعت الطبول. وانقسمت النساء إلى مجموعات مكونة من أربع وانضم إليهن بعض الرجال، ورقصوا في الأنحاء عشوائيا، وأحيانا كانوا يدورون حول أنفسهم هنا وهناك. أصبح صوت قرع الطبول عاليا وسريعا، وانضممت أنا ووزير وأصدقاؤه في الرقصة الجديدة. كانت مجموعات من أربعة، الرجال والنساء على حدة، تسرع حول ساحة الرقص - عكس اتجاه عقارب الساعة كما كان من قبل - وكلما التقوا بالمجموعة التي أمامهم، كانوا يصطدمون بها. وكان على كلتا المجموعتين بعد ذلك أن تتواجها وتضحكا بصوت عال. أو بدلا من ذلك، يمكن للمجموعة أن تدور لمواجهة المجموعة التي تقف خلفها وتفعل الشيء ذاته. عندما جلست دون المشاركة في إحدى الجولات، رأيت أن دوي الطبول المستمر، والضحك المتقطع الصاخب بعض الشيء، ومشهد الناس وهم يندفعون في جميع أنحاء الغرفة؛ خلق جوا جنونيا رائعا. بعد ذلك هدأت الطبول واستؤنف الرقص الأكثر وقارا.
في يناير 2013، كانت نساء الكلاشا يحتفلن بتشوموس، انقلاب الشمس الشتوي، بالرقص في معبد يسمى «جيستاك هان». لدى الكلاشا آلهة كثيرة: جيستاك هي إلهة الأسرة. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
عندما انتهى الرقص أخيرا وغادرنا معبد «جيستاك هان»، سمعنا المزيد من الضحك والغناء في الوادي، بالقرب من المنزل الخشبي القديم الذي كنت قد رأيته عندما وصلنا. قال لي عظيم بيك: «هؤلاء هم الأولاد الطاهرون»: كان يقصد الأولاد البكر، وهم مجموعة كانت تعتبر طاهرة على نحو خاص من حيث الطقوس. في الاحتفال بالعيد، كان يعتقد أنهم يمثلون أسلاف المجتمع المتوفين، وكانوا ينتقلون من منزل إلى آخر، لجلب الحظ السعيد والحصول على ملابس جديدة في المقابل. كان الأولاد لا يزالون يغنون أثناء عودتنا سيرا إلى أسفل الوادي من «جيستاك هان»، ومررنا في طريقنا بممر مغطى حيث كان بعض معتنقي الإسلام في الوادي يعدون لأنفسهم الكباب.
أوضح لي عظيم في رحلة العودة إلى منزله في وادي رامبور: «قلوبنا مفتوحة؛ لذلك نصلي في العراء.» في الواقع، كان يوجد عدد من المعابد الحجرية في رامبور، لكنها كانت صغيرة ولم تكن محور العبادة الجماعية. وأطلق على مكان العبادة في الهواء الطلق اسم «ساجيجور» (وهو أيضا اسم الإله الذي كان يعبد هناك)، وكان يقع في بستان من الأشجار وراء الحافة الشمالية للقرية، التي كان محظورا علي دخولها أثناء الاحتفال. لكن عندما عدنا إلى رامبور، كان الاحتفال قد انتهى ووافق وزير على مرافقتي إلى هناك. كان ذلك يعني الخروج من القرية من الناحية الشمالية العليا (حيث كانت توجد تلال على جانبي الوادي، لكن أرض الوادي أيضا كان بها انحدار ملحوظ في هذه المنطقة)، والتوجه على طول طريق زلق يغطيه الجليد إلى جسر عبر النهر، يقع على الجانب الآخر منه البستان في حقل واسع. أخبرنا الشباب الذين التقيناهم على طول الطريق أنه يمكننا أن نلقي نظرة على «الساجيجور» بشرط ألا نلمس شيئا. لذلك وقفنا على حافة البستان ونظرنا من خلال الأشجار إلى خمسة تماثيل خشبية، وكنا حريصين على عدم لمسها. قال وزير، محاولا بجهد الدفاع عن أقاربه ضد تهم عبادة الأصنام، إن هذه التماثيل لم يكن المقصود منها تمثيل الآلهة. فهي في الواقع تماثيل لرجال مهمين في الطائفة لقوا نحبهم، وتتذكرهم عائلاتهم بعد عام من وفاتهم. وأظهرت بقعة ملطخة على الأرض بالقرب منهم المكان الذي ضحي فيه بمئات الماعز في الأيام السابقة. وكانت تقام مراسم للأولاد الذين بلغوا سن ارتداء السراويل عند كومة أحجار مكدس عليها أغصان - حيث يلقي كل واحد منهم غصنا على الكومة كجزء من الطقوس.
نظرت مرة أخرى إلى التماثيل الخشبية، مما جعلني أفكر في واقعة حدثت في رواية روديارد كيبلينج «الرجل الذي سيصبح ملكا». ففي الرواية، قرر جنديان سابقان سيئا السمعة تنصيب نفسيهما ملكين وثنيين. ويقول أحدهما للآخر: «يطلقون عليها اسم كافرستان. إنها تقع، حسب اعتقادي، في الزاوية اليمنى العليا من أفغانستان، ولا تبعد أكثر من ثلاثمائة ميل عن بيشاور. لديهم اثنان وثلاثون صنما وثنيا هناك، وسنمثل نحن الصنم الثالث والثلاثين.» وبفضل معرفتهم بالرموز الماسونية، التي تبين في قصة كيبلينج أنها جاءت إلى الكفار من جدهم الإسكندر الأكبر الذي مات منذ زمن طويل، يفلت الاثنان بحيلتهما بعض الوقت قبل أن ينقلب عليهما الكفار؛ حيث يقتل أحدهما ويصاب الآخر بالجنون. ذكرتني هذه التماثيل الخشبية بقصة كيبلينج وبالهوس بكافرستان الذي اجتاح المجتمع البريطاني الفيكتوري عندما كتبت هذه القصة. •••
جعلني بعض من أثر ذلك الهوس أرغب في السير شمالا أعلى الوادي بالقرب من الحدود مع نورستان. وقال لي وزير إن قرية النورستانيين تقع بين قرية الكلاشا والحدود الأفغانية. وهؤلاء لم يكونوا من نسل قبيلة الكلاشا بل من قبيلة الكام التي عرفها روبرتسون؛ فخلال غزو عبد الرحمن، هرب أسلافهم من اعتناق الإسلام قسرا بالفرار عبر الحدود واللجوء إلى رامبور. وفي جيل لاحق، اتبعت طائفتهم الإسلام على أي حال، حيث وجدوا أنه من المستحيل الحفاظ على قواعد النجاسة عندما أصبح جميع أبناء عمومتهم في نورستان من المسلمين. في زمن شومبيرج، أطلق عليهم اسم الكفار الحمر وألقى أهل الكلاشا باللوم عليهم في جميع أنواع الأذى الذي تعرضوا له. سألت وزير إن كان بإمكانه اصطحابي إلى قريتهم، فقال إنه يعرفهم ويمكنه تقديمي إليهم. لذلك واصلنا المشي شمالا من «ساجيجور»، وعبرنا النهر مرة أخرى بالانزلاق على جذع شجرة متجمد غير مستقر، والتسلق بجهد للعودة إلى المسار الرئيسي. في هذه البقعة فوق المسار على سفح التل، كانت توجد بعض منازل أهل الكلاشا الصيفية، التي كانت محرمة على النساء بعد تشوموس. نزل صبي صغير من أحدها حاملا عنزة، وواضعا قدميه بحذر في الثلج المكدس الملتصق بجانب التل الشديد الانحدار. صفقنا له عندما نزل بسلام، وركض بخجل مبتعدا مع العنزة نحو القرية. واصلنا السير وتحدثت مع وزير عن الدين.
كان وزير من الكلاشا الذين اعتنقوا الإسلام؛ مما يعني أنه يمكن أن يعطيني نظرة ثاقبة عن التحديات التي واجهت الطائفة أثناء محاولتها التمسك بأعضائها القلائل المتبقين. أخبرني وزير أنه كان الفتى الوحيد من قبيلة الكلاشا في فصله في المدرسة الثانوية. وقال لي : «سأل المعلم إذا كان يوجد أي تلاميذ من الكلاشا، فرفعت يدي. كنت التلميذ الوحيد . وكنت أتعرض لكثير من السخرية.» وعندما كانوا يسألونه حول معتقداته، لم يكن لديه إجابات ليعطيها لهم. وكما أخبرني: «إذا سألت أهل الكلاشا: لماذا نفعل هذا الشيء؟ أو لماذا نتبع هذا التقليد؟ سيقولون فقط: «هكذا فعل أجدادنا.» لكنهم لا يعرفون المغزى من وراء ذلك.» وبصفته صبيا مفكرا، وبسبب عدم وجود أي إجابة لديه يقدمها للأولاد والمدرسين الآخرين عندما كانوا يتحدونه؛ وافق في النهاية على أن يصبح مسلما، وهي خطوة لا تتطلب سوى قول جملة واحدة («أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله») وهو أمر لا رجوع فيه فعليا. وإذا لم يستمر وزير بعد اعتناق الإسلام في ممارسة شعائره، فإنه سيعرض طائفته كلها للخطر. فمع أن هجر الإسلام عمليا ليس مخالفا للقانون في باكستان، فإنه في استطلاع رأي أجري عام 2010، قال ستة وسبعون بالمائة من الباكستانيين إنه يستحق عقوبة الإعدام. وحتى مجرد إشاعة أن شخصا ما قد ترك الإسلام يمكن أن تثير عنف الغوغاء.
وبسبب هذا النوع من المعاناة، اختار العديد من عائلات الكلاشا عدم إرسال أطفالهم إلى المدرسة على الإطلاق. لكن أنصار الطائفة من اليونانيين بنوا مدارس ابتدائية في الوديان الثلاثة، بالإضافة إلى مدرسة ثانوية في بومبوريت متاحة للكلاشا وللمسلمين. وفي هذه المدارس، كان على الأقل بعض المدرسين من الكلاشا، وكان بإمكان الفتيات ارتداء ملابسهن التقليدية. وبدأت الطائفة أيضا في الاحتفال بتراثها الخاص؛ ففي «جيستاك هان» في بيرير، كنت قد رأيت رجالا من الكلاشا يحملون جهاز تسجيل كبيرا قديم الطراز بينما سجل آخرون مقاطع فيديو للرقص على هواتفهم المحمولة. وبدأ متحف في بومبوريت في تجميع التراث الشفاهي للطائفة. وربما بسبب هذا الاعتزاز المتجدد بهويتهم، لم يعد الكلاشا المتعلمون (كما أخبرني وزير) يعتنقون الإسلام. ومع ذلك، ظل صحيحا أن عددا قليلا جدا من الكلاشا لديهم الكثير ليقولوه عن معتقداتهم، على عكس معظم الفرق الإسلامية، حيث غالبا ما يكون للإسلام مدافع مفوه واحد على الأقل. وبالمناسبة صادف روبرتسون مشكلة وزير نفسها حيث كتب: «إذا طلب الغريب الحائر شرح الممارسات والأعراف ، فسيكون الرد دائما ... هذه هي عادتنا.»
تاريخيا، شجعت عوامل أخرى أيضا الكلاشا على اعتناق الإسلام؛ وهي عوامل تظهر مرارا وتكرارا في تاريخ الأديان. كان لدى الكلاشا، مثل غيرهم من الكفار، عبيد يطلق عليهم اسم «البيراس»، وكان الكلاشا يشترونهم ويبيعونهم وكانوا يمنعون من الزواج من الكلاشا الأعلى مقاما. ولا غرابة في أن هؤلاء التعساء كانوا أول من اعتنقوا الإسلام، كما لاحظ شومبيرج عندما زار رامبور في ثلاثينيات القرن الماضي (بعد أربعين عاما فقط من تطبيق اعتناق الإسلام قسرا في كافرستان). رأى شومبيرج فرقا كبيرا بين قبور «البيراس» قبل اعتناق الإسلام، التي قارنها بكومة من صناديق التعبئة، وقبورهم بعد الإسلام، مما كشف عن قفزة في المكانة واحترام الذات. (وبالمثل، كان فيما مضى بعض المسيحيين الباكستانيين البالغ عددهم ثلاثة ملايين تقريبا من الطبقات الدنيا من الهندوس. وبدا في إيران أيضا أن الطبقة الكهنوتية للزرادشتيين كانت هي التي تمسكت بدينها أطول مدة.)
ويمكن أن يوفر اعتناق الإسلام المال للأسرة أيضا. فخلال كل عيد، يتعين على الأسر في قبيلة الكلاشا أن تقدم ثلاث عنزات أو أربعا للتضحية. ويمكن أن تكون الجنازات باهظة الثمن بدرجة تعجيزية؛ فهي تدوم ثلاثة أيام، ويمكن أن تشمل التضحية بأكثر من ثمانين عنزة وأربع بقرات. أما الإسلام فهو يتضمن نفقات شخصية أقل بكثير. وملابس نساء الكلاشا هي تكلفة أخرى لم يعد يجب على معتنقي الإسلام أن يأخذوها في الحسبان، حيث تميل النساء المسلمات إلى ارتداء أقمشة بسيطة وأرخص ثمنا. ويمكن أن يتيح تغيير الدين أيضا فرصا جديدة، خاصة للنساء اللواتي، كما قال لي وزير، يشكلن غالبية من يغيرون دينهم مؤخرا. فاجأني ذلك لأنه كان يعني التخلي عن حرياتهن. لكنني علمت أن بعض النساء قد وقعن في حب مسئولين أو رجال شرطة قادمين من شيترال، وأن الزواج من أحد هؤلاء الرجال يعني لهن حياة أكثر راحة.
على النقيض من ذلك، في حالة وزير، لم يكن لتغيير الدين فائدة تذكر. في الواقع، لقد أدى ذلك إلى تعقيد حياته بشكل كبير؛ لأنه كان المسلم الوحيد في قريته وكان يواجه صعوبة في العثور على زوجة. تساءلت عما إذا كان قد ندم على اختياره. تحدث عن فضائل الكلاشا بحزن شديد. وقال: إن الناس يثقون بعضهم في بعض. ويمكن ترك الماعز دون حراسة لأنه لن يسرقها أحد. وكان يعاقب على السرقة بأقسى عقوبة فرضها الكلاشا، وهي طرد الجاني من الطائفة. ولم تكن توجد عقوبة لممارسة الجنس قبل الزواج، وإذا أرادت المرأة أن تترك زوجها وتتزوج شخصا آخر، فلا يحق لزوجها منع ذلك (رغم أنه كان له الحق في أن يتقاضى ضعف المهر الأصلي للعروس). أما في الإسلام فتواجه الزوجات صعوبة أكبر في طلب الطلاق. وأضاف وزير: «عندما أزور أحد بيوت الكلاشا، يمكنني الجلوس مع جميع أفراد الأسرة في غرفهم. لكن عندما أزور صديقا مسلما، يجب أن أجلس في غرفة منفصلة»؛ لأنه في المنازل الإسلامية الصارمة، لا ينبغي أن يرى المرأة رجال غير أقاربها.
في تسعينيات القرن التاسع عشر، لاحظ روبرتسون السلوك المتهاون الذي ساد بين الكفار وصدم مما أسماه ب «العلاقات الغرامية». ووجد أنهم يعتبرون الزنى، في معظم الأحيان، مسألة مرح عام. فعندما كان يمسك برجل وامرأة متزوجة وهما يمارسان الجنس، تأتي القبيلة لمشاهدة الأمر وتضحك؛ ولا يجد الرجل الذي قام بهذه الواقعة ذلك ممتعا، حيث كان عليه أن يدفع للزوج الذي خانته زوجته معه غرامة كبيرة (ولم يكن على المرأة دفع غرامة). وزينت المقاعد «النورستانية» الخشبية، التي يمكن التعرف عليها من خلال الأنماط الدائرية المنحوتة على ظهورها والحلي ذات القرون الطويلة التي تبرز منها، صالونات المثقفين والمغتربين في كابول؛ ويعرف قلة من مالكيها أن الدوائر كانت تمثل في الأصل فروج النساء، وأن الحلي الناتئة كانت يوما ما أزواجا يمارسون الجماع، وأن الكراسي (التي يستخدمها الرجال فقط) كانت رموزا للخصوبة. على النقيض، يتمتع أهل الكلاشا بسلوكيات أكثر تحفظا من الكفار، لكنهم - كما أشار وزير - أكثر ليبرالية من المسلمين في نواح معينة.
تقع قرية النورستانيين هذه على قمة وادي رامبور التابع لقبيلة الكلاشا. وقد أسسها لاجئون هربوا من الإكراه على تغيير الدين الذي تعرض له سكان المنطقة التي تسمى الآن نورستان. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
بينما كنت أنا ووزير نتسلق جانب الجبل في طريقنا إلى الحدود مع نورستان، التقينا مجموعة من أصدقائه المسلمين. قال وزير وهو يقدمني لهم: «إليك مزيجا من الجميع هنا: شيترالي، وكلاشا اعتنق الإسلام مثلي، وجوجار، ونورستاني.» كان الرجل قبل الأخير الذي ذكره من مجموعة بدوية ذات بشرة داكنة بشكل خاص، وكان الرجل الأخير لديه شعر بني وبشرة فاتحة بشكل ملحوظ. وكان رجل الكلاشا الذي اعتنق الإسلام يحمل بصلابة صندوقا كبيرا كان قد ربطه حول كتفيه، وكان يخطط لتسليمه إلى متجر في القرية النورستانية. وبينما كنا نسير، انفتح الصندوق وسقطت منه ستة أكياس من الخبز الحلو. قدم كل منا له يد المساعدة بحمل كيس. كثيرا ما كنت أتخيل زيارة إحدى قرى النورستانيين، لكنني لم أتخيل أبدا أنني سأسلمهم إمدادهم اليومي من البريوش في برية تكتسحها الثلوج بالقرب من حدود أفغانستان. كما أنني لم أتوقع أنهم يلعبون الجولف - «الجولف النورستاني»، كما أسماه وزير. كانت مجموعة من الشباب النورستاني تقف على حافة المجرى الذي احتفره نهر الكلاشا - الذي يبدو هنا أشبه ما يكون بالجدول - في الوادي الضيق، ويضرب أفرادها كرات خشبية عبره بقطع طويلة من الخشب على شكل عصي الهوكي بينما كان أطفال صغار يركضون لاستعادتها. وكان الفائز ببساطة هو الشخص الذي يضرب الكرات إلى أبعد مسافة. كان وزير لاعبا محترفا.
كانت القرية ذاتها تتألف من مبنى واحد مصنوع من الخشب، مثل المبنى الذي كنت قد رأيته في بيرير. وكان لكل عائلة غرفة، وكانت الغرف متصلا بعضها ببعض بشرفات وسلالم خشبية خارجية. وبمجرد دخولي، وجدت أن الممرات تفوح منها رائحة البول. وكان هناك رجل مسن يرقد على سرير، يبدو ضعيفا ويسعل، وكان الموقد في وسط الغرفة، واصطفت الأسرة الأخرى بجانب الحوائط، وعرضت مجموعة من الأواني المعدنية اللامعة على مجموعة من الرفوف. (ذكر روبرتسون أن عرض الأواني الفضية يرمز للمكانة بين الكفار.) أعدت زوجة الرجل المسن الشاي لي ولوزير بينما جلس صبيان صغيران، من الواضح أنهما كانا حفيديها، يحدقان في كل ما أفعله. طلب أحدهما الحصول على واحد من أكاليل الكلاشا الخاصة بي. أعطيته إياه، وبعد ذلك لم يتركني الآخر وشأني، وأخذ يجذب أحد أكاليلي المتبقية على أمل أن أتركه يأخذها. طلبت التقاط صورة لفتاة صغيرة كانت تراقبنا من الخارج، لكن يبدو أن الطلب أثار استياء الجدة؛ فقد كان التقاط صور للأولاد مسموحا به، ولكن ليس للفتيات. ومع ذلك، لم تكن الأسرة صارمة مثل البعض، فقد سمحوا لنا بدخول غرفتهم. كانت الغرف بحكم الضرورة مشتركة بين النساء والرجال؛ لذلك ما كان بعض المسلمين سيسمحون لنا بالدخول. عندما نهضت للذهاب، تحركت كومة من أغطية الأسرة على جانب الغرفة، وتحدثت امرأة من تحتها.
بعد تناول الشاي، نزلنا أنا ووزير إلى الطابق الأسفل، وطرق باب منزل آخر لإلقاء التحية. عند الإشارة إلى وجود أجنبي في الخارج، أخرجت فتاتان صغيرتان وجهيهما من الباب ثانية واحدة فقط ثم اختفتا ولم يكن من الممكن إقناعهما بالخروج مرة أخرى. ومع ذلك، كان رجال القرية سعداء جدا بالتقاط صور لهم، ويلفتون انتباهي إلى ملامحهم المميزة وشعرهم الفاتح، ويومئون بفخر إلى مسجد قريتهم، المبنى الوحيد لديهم القائم بذاته إلى جانب منزل قريتهم. •••
عندما حان الوقت لمغادرة الوادي، قاد عظيم بيك السيارة بنا إلى شيترال، وسألني إذا كان من الممكن أن نتوقف عند منزل عند سفح وادي الكلاشا، حيث جميع السكان مسلمون (في الواقع، كان يقع في البلدة نفسها التي بها مدرسة وزير). كان يقدم التعازي للأسرة التي تعيش هناك ودعاني للانضمام إليه. لقد لاحظت كم كان سفيرا جيدا مع أهله، وأن جزءا من هذا تمثل في تقليله من أهمية هويته بوصفه فردا من الكلاشا. فيمكن اعتبار اسمه اسما مسلما (قال لي أحدهم إنه منذ عشرين عاما لم يسم أي طفل باسم قديم الطراز من أسماء قبيلة الكلاشا). وقد دعا مع الأسرة بالطريقة المسلمة ، حيث رفع يديه ومسح بهما على وجهه رمزيا. قد يكون كسب احترام المسلمين بهذه الطرق مفيدا جدا عند الحاجة. ففي مرة أخذ بعض أفراد الكلاشا رهائن أثناء نزاع على الأرض، وساعد عظيم هذه الأسرة في إطلاق سراحهم.
تشتهر قبيلة الكلاشا بالنبيذ والبراندي المحلي الصنع، اللذين لا يحظرهما دينهم. يظهر هنا وزير علي (على اليسار)، وعظيم بيك (الثالث من اليسار)، والمؤلف (بينهما) يتذوقون النبيذ خلال عيد تشوموس في يناير 2013.
احتاج الكلاشا إلى الدبلوماسية لأنهم كانوا مستضعفين. وقد أظهر كتاب لمسلم باكستاني متحمس مدافع عن الكلاشا في عام 1982 صورة قاتمة للعلاقات بين الكلاشا والمسلمين؛ بدءا من تخريب الأماكن المقدسة الخاصة بالكلاشا، إلى عرض المال على أفراد الكلاشا الذين يعتنقون الإسلام، و«النشاط التبشيري لمعلمي المدارس وتشهيرهم المستمر بثقافة الكلاشا.» يعتقد الكاتب، على حد تعبيره، أن «الغرباء الذين يعانون من الشعور بالثقافة المتفوقة» يدمرون التقاليد القديمة. وكان يظهر جزئيا الجهود التي بذلت في خمسينيات القرن الماضي، بعد الاستقلال بوقت قصير، ليغير أفراد الكلاشا قسرا دينهم إلى الإسلام.
قال عظيم بيك ووزير إن الأمور قد تحسنت على مدى العقود القليلة الماضية. وكانت الشرطة الباكستانية تتحكم في إمكانية الدخول إلى الوادي ولا تسمح بدخول بعض من المبشرين الأكثر عدوانية. قالا لي إن أعدادهم كانت في تزايد. ومن الواضح أن السياحة - على الرغم من انخفاضها - قد أفادت قراهم التي لديها الآن عدد من المنازل الجديدة المشيدة جيدا. ومع ذلك، فقد أخبرني رجل من الكلاشا أن الزوار المسلمين يزعجونه دائما بسؤالهم: «لماذا لم تغير دينك بعد؟»
كنت أخشى أن يكون في انتظارهم ما هو أسوأ بكثير. فقد كانت باكستان دولة متناقضة. أسسها مسلم شيعي ليبرالي، ولكن في السنوات العشرين الماضية، قتل أربعة آلاف شيعي هناك، ونشر قانون ازدراء الأديان بشكل قمعي ضد الأقليات في البلاد، واقتطع المتطرفون الدينيون مناطق تكاد تكون ذاتية الحكم في مناطق البشتون بالقرب من شيترال، حيث لا يعترضهم إلا الطائرات الأمريكية بدون طيار المميتة والمثيرة للجدل. يمكن للسياسيين الباكستانيين الذين يرون مجموعة كاملة من الدوائر الانتخابية الصعبة التي يجب عليهم شراؤها أن يتدبروا أمر واحدة رخيصة؛ فالأصوليون المتدينون سوف يقدمون دعمهم مجانا إذا منحوا نفوذا على التعليم وأخلاق الناس. كل ما هو مطلوب هو المقامرة بالمستقبل.
ومع ذلك، لا يزال من الممكن العثور على قدر قليل من التسامح في باكستان حيثما أبعد الأصوليون، وكانت شيترال معزولة إلى حد كبير عن بقية باكستان بتضاريسها والحدود التي رسمتها بريطانيا، والتي وضعت جزءا من الوادي في أفغانستان. وفي فصل الشتاء، كان الطريق البري الوحيد لمدة طويلة شاقا للغاية؛ حيث كان يتضمن إما صعود ممر لواري (على ارتفاع عشرة آلاف قدم) أو القيام برحلة عبر الأراضي الأفغانية. ولكن في وقت زيارتي، كان نفق يحفر أسفل الممر، وعند فتحه بالكامل سيوفر طريقا سهلا بين شيترال وبقية باكستان. وسيعزز الاقتصاد المحلي ولكنه قد يجلب أيضا تغييرات أخرى غير مرغوب فيها. قال لي المصور الباكستاني ذو الفقار بحزن: «عندما يفتح هذا النفق، أتساءل إلى متى ستستمر قبيلة الكلاشا.»
الخاتمة
ديترويت
في متجر كبير في مدينة ديترويت الكبرى، وهي منطقة حضرية تضم نصف مليون شخص تعود جذورهم إلى الشرق الأوسط، سمعت امرأة ترتدي ثوبا خارجيا فضفاضا لونه أبيض تأخذ استراحة من رص البضائع على الأرفف لمخاطبة أحد العملاء بلغة تكاد تكون مألوفة لي؛ كانت مثل العبرية والعربية، لكنها مختلفة، وكلماتها غير معروفة لي، تتدفق بسلاسة ولكنها مليئة بالحروف الساكنة الصعبة. كانت اللغة الآرامية. ها أنا أسمع لغة المسيح، وسط موسيقى الخلفية ومشروبات الفاكهة الاصطناعية في متجر أمريكي في الضواحي.
كانت الآرامية يوما ما اللغة المشتركة في الشرق الأوسط في مرحلة ما قبل الإسلام. وكانت جميع لهجاتها المختلفة تشبه إلى حد كبير كلا من اللغة العبرية والعربية، وتعتبر الآرامية بالنسبة إليهما في الأساس ذات قرابة لغوية. (على سبيل المثال، كلمة «السلام عليكم» بالعربية يقابلها في العبرية «شالوم أليخم»، وفي الآرامية العراقية «شلاما لوخم».) ولا تزال هي اللغة التي يستخدمها الحاخامات التقليديون في القدس عندما يلعنون أحدا. وتحمل واحدة من أشهر الطقوس اليهودية ، صلاة الكاديش، اسما آراميا وليس عبريا. (فكاديش كلمة آرامية تعني «مقدس».) في الشرق الأوسط ، حلت اللغة العربية محل اللغة الآرامية حاليا، ولكنها لا تزال شائعة في القرى الشمالية البعيدة حيث عانى مسيحيو العراق على مر القرون. فعندما شاهد أهل تلك القرى فيلم ميل جيبسون «آلام المسيح» عام 2004، الذي كان باللغة التي كانت تستخدم في زمن يسوع، تمكنوا من فهمه دون ترجمة.
في الأصل كان أسلاف هؤلاء القرويين ينتمون إلى كنيسة المشرق المسيحية ومقرها بغداد. وبالرغم من أنها لم تكن معروفة في أوروبا، كانت يوما ما واحدة من أعظم الكنائس في العالم؛ وتعهد لها بالولاء خلال العصور الوسطى عشرة بالمائة من جميع المسيحيين في العالم، وكان لبطريركها، المقيم في بغداد، أساقفة وأديرة في مختلف بقاع العالم أكثر من البابا في روما. وجلب مبشروها المسيحية إلى الصين في عام 635 بعد الميلاد، وهي حقيقة مسجلة على ما يسمى باللوح التذكاري النسطوري في شيان. وفي القرن الثالث عشر، كانت الكنيسة المسيحية الوحيدة التي كان يرأسها رجل من أصل شرق آسيوي (كان اسمه ياهبلاها، وكان على الأرجح منغوليا؛ وجاء من بكين إلى بغداد في رحلة حج استثنائية بلغت أربعة آلاف ميل). ولكل من منغوليا والتبت أبجدية تستند إلى الكتابة السريانية التي أدخلها المبشرون المسيحيون العراقيون منذ أكثر من ألف عام.
تطورت كنيسة المشرق بين المسيحيين الذين يعيشون في ظل الإمبراطورية الفارسية، الذين وجدوا أن خلافاتهم الأيديولوجية مع المسيحيين الغربيين تحميهم بشكل مفيد من الشك في أنهم قد يكونون متحالفين سرا مع منافسيهم من البيزنطيين. وكان يطلق على أعضائها أحيانا اسم النسطوريين، وهو الاسم الذي ينسبهم إلى نسطوريوس، الذي رفض فكرة أن يقول المسيحي في يوم الجمعة العظيمة إن «الرب قد مات». وأراد أن يميز بين يسوع الإله ويسوع الإنسان. لم تتبن كنيسة المشرق تعاليم نسطوريوس أبدا، لكنها رفضت استخدام الأيقونات وقللت من أهمية دور مريم العذراء. وأطلق عليهم المبشرون البريطانيون اسم «بروتستانت الشرق الأوسط»، واختاروا تجاهل عبادة القديسين غير البروتستانتية وممارسة الرهبنة.
واليوم، هذه الكنيسة أضعف بكثير مما كانت عليه من قبل. يرجع هذا إلى حد كبير إلى تيمورلنك ، الذي نهب بغداد عام 1401 وترك تسعين ألف جمجمة على أنقاضها. فقد كان معاديا للمسيحيين بشكل خاص، وعلى ما يبدو أنه من زمنه فصاعدا، تشبثت كنيسة المشرق بالبقاء بجبال شمال العراق، وشمال شرق سوريا، وجنوب تركيا. وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر، واجه أعضاؤها تهديدا مشابها عندما قتلت ميليشيا مرسلة من زعيم كردي قريب، ربما بناء على طلب من الحكومة العثمانية في إسطنبول، عشرين ألفا من الرجال، والنساء، والأطفال المسيحيين. وتعرضت كنيسة المشرق - التي يطلق عليها أحيانا اسم الكنيسة الآشورية - لعدد من الانقسامات على مر القرون، ثار بعضها بسبب الخلافات حول قيادة الكنيسة التي غالبا ما كانت تنتقل تاريخيا من الأب إلى الابن، مما كان يتسبب في خيبة أمل المطالبين المحتملين الآخرين بالقيادة. وغالبا ما تتعهد المجموعة المنشقة بالولاء للبابا في روما، الذي أنشأ في النهاية الكنيسة «الكلدانية» البابوية لهم التي اعترفت بها روما لكنها حافظت على طقوسها وعاداتها المميزة. ونتيجة لذلك، يوجد اليوم مسيحيون «آشوريون» و«كلدانيون»، بالإضافة إلى عدد قليل من المسيحيين من طوائف أخرى.
بعد المتجر الكبير، ذهبت إلى كنيسة قريبة؛ مبنى مسبق الصنع يقع بعيدا عن الطريق، وتحيط به السيارات الواقفة. بالخارج، كانت تحيط بها إحدى ضواحي أمريكا (منطقة ليس بها أي أثر للانحلال الحضري الذي أفسد مدينة ديترويت؛ فالمنطقة الحضرية في ديترويت أكبر بكثير من المدينة وأكثر ازدهارا). لكن بمجرد دخولي، شعرت كأنني عدت إلى العراق. كانت توجد ملصقات باللغة العربية على صناديق التبرعات. وكان صوت ذكوري عميق يردد باللغة الآرامية القداس الكلداني الذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس الميلادي وهو أقدم صلاة مسيحية لا تزال شائعة. تلا الكاهن: «كاديشا، كاديشا، كاديشا»؛ أي مقدس، مقدس، مقدس. كانت كتب الطبخ الكلدانية معروضة للبيع في مكتبة صغيرة في الخلف، وزين المذبح المبني على الطراز الكاثوليكي برقائق الذهب وباقات الفاكهة الاصطناعية. يظهر ملصق باللونين الأبيض والأسود بجانب باب الكنيسة صورة لمار أداي شير، الذي سميت الكنيسة على اسمه. و«مار» تعني بالآرامية الرجل المقدس، وكان أداي شير أسقفا كلدانيا أعدمه الجنود الأتراك في عام 1915. إلى جانب وفاة أكثر من مليون من الأرمن في تلك السنة الرهيبة، قتل أيضا مئات الآلاف من الكلدانيين والآشوريين، وهرب عدد أكبر إلى العراق. وفي ماردين، التي أصبحت الآن منتجعا رائعا لقضاء العطلات بالقرب من الحدود الجنوبية لتركيا، توجد منازل تحمل أسماء أصحابها السابقين الذين قتلوا أو طردوا، منحوتة فوق الباب.
بعد عام 2003 جاء دور مسيحيي العراق في الفرار، هذه المرة إلى الغرب. وحتى أواخر التسعينيات كان لا يزال يعيش 1,4 مليون مسيحي في العراق. والآن البلد غير مستقر بما يسمح بإجراء مسح استقصائي، ولكن ربما لم يتبق سوى ثلث هذا العدد، أو حتى أقل. وهذه الموجة الهائلة من الهجرة ليست فقط بسبب الأخطار التي يواجهها المسيحيون هناك، ولكن أيضا بسبب إمكانيات بناء حياة أفضل في مكان آخر؛ وربما الأهم من ذلك كله، على حد تعبير أحد المسيحيين العراقيين، هو الشعور بأنه لم يعد مرغوبا فيك في العراق.
كانت مدرستي للغة العربية في بغداد، التي كان اسمها نادية، مسيحية كانت لغتها الأولى هي الآرامية. أخبرتني في عام 2006 أنها كانت تخاف في كل مرة تخرج من منزلها. لم تعرف أبدا ما إذا كان من المحتمل أن يراها الخاطفون هدفا مهما، أو ما إذا كانت الأسرة التي تعيش في الجانب الآخر من الشارع والتي بدا أنها تقف في نافذتها طوال اليوم تراقب تحركات الناس ربما تنقل المعلومات إلى الإرهابيين. (وقالت إن جيران الأسرة المسلمين كانوا، على العكس، ودودين وداعمين لهم.) وكان ثمة دوما خطر التواجد بالقرب من انفجار قنبلة معدة للآخرين. وكان الذهاب إلى الكنيسة خطرا بشكل خاص. فعندما كانت تعود إلى المنزل في المساء، على حد قولها، لم يكن لديها ولا والديها الطاقة لتبادل أي حديث. وكانوا يأكلون في صمت ويذهبون إلى الفراش خائفين من اليوم التالي. غادرت نادية البلاد عام 2007. وظل والداها هناك عاما آخر ثم انتقلا شمالا إلى كردستان. لم يكونا يعرفان اللغة الكردية واضطرا إلى قبول رواتب ومستويات معيشة أقل، لكن على الأقل كانا آمنين هناك. وكانت تجربة نادية، التي وصلت إلى ديترويت، أفضل. قابلت رافي في الكنيسة التي كانت قد بدأت في ارتيادها. كان كل منهما يعرف الآخر عندما كانا طفلين في العراق، ولكنهما لم يكونا قد التقيا منذ سنوات؛ لأن رافي كان قد هاجر قبل الحرب. وفي حفل زفافهما، كان الكاهن هو نفسه الذي كان يترأس القداس في كنيستهم المحلية في بغداد. فقد انتقل هو الآخر إلى ديترويت. كان الأمر كما لو أن مجتمعا بأكمله قد انتقل وزرع في النصف الآخر من العالم.
يعيش البطريرك مار دنخا الرابع، رئيس المسيحيين الآشوريين، في شيكاغو. ويفوق عدد المتحدثين باللغة الآرامية في ديترويت الكبرى عددهم في بغداد؛ حيث يعيش أكثر من مائة ألف من الكلدانيين العراقيين في المدينة والمناطق المحيطة، وقد أنشئوا تسع كنائس، ومطاعم، وصحيفة تسمى «كالدين نيوز»، ومحطة إذاعة، ومهرجانا سنويا، وناديا بملايين الدولارات (للأغنياء منهم، وهو ما يعني عموما الذين استقروا منذ مدة طويلة). لكن للأسف، لم يجلبوا معهم الجمال العراقي، والمنازل الجميلة، وأضرحة القرى الواقعة على التلال التي كان الكلدانيون يعيشون فيها عادة. عندما سافرت بالحافلة في أنحاء شمال العراق في عام 2012، بدا أن كل قرية كان بها دير أو قبر قديس، أو قلعة مدمرة مرتبطة بطريقة ما بالتاريخ الطويل للطائفة. وهذا شيء لا يستطيع المهاجرون إعادة إنشائه في بلدهم الجديد. ففي مدينة ديترويت الكبرى، لا يوجد إلا القليل مما يميز المنازل بعضها عن بعض في صفوف منازل الضواحي المعاصرة، المصممة بالكامل على الطراز الأمريكي. لكن الأقباط المصريين، والكلدانيين العراقيين، والشيعة اللبنانيين، والسنة السوريين الذين يعيشون هنا وفي البلدات المجاورة يحافظون على ثقافاتهم الوطنية بصرامة داخل بيوتهم.
يتفق شرق أوسطيون آخرون على أن الكلدانيين هم من أكثر المهاجرين تحفظا. فنسبة الحضور إلى الكنيسة مرتفعة ورسم كاهنان جديدان مؤخرا. ومن المؤكد أن جريدة الطائفة، «كالدين نيوز»، لا تشير كثيرا إلى حركات الشباب المتمرد. واعتقدت أنها قد تفعل ذلك عندما بدأت قراءة مراجعة مسرحية تعرض في مركز ثقافي مجتمعي؛ وهي مسرحية بطلها رجل يحاول مقاومة ضغط والديه للزواج. وربما تعتقد أنها كانت مراجعة حادة للقيم المتغيرة ولطائفة تتعامل بمهارة مع العلمانية والحداثة. ولكن على النقيض، كانت نهاية المسرحية سعيدة، حسبما ذكرت الصحيفة؛ حيث يجد البطل امرأة كلدانية لطيفة ويتزوجها.
كانت المسرحية تعكس واقع الحياة. ففي أمريكا كلها، وفقا لكتاب صدر عام 2013 من تأليف ناعومي شايفر رايلي، يبلغ معدل الزواج بين أشخاص من أديان مختلفة اثنين وأربعين بالمائة، ويهتم الآباء بالآراء السياسية لأصهارهم وكنائنهم المحتملين أكثر مما يهتمون بهويتهم الدينية. لا ينطبق ذلك على الطوائف المنتمية إلى الشرق الأوسط، حيث لا تزال الزيجات من خارج الديانة نادرة للغاية. ويزعم الآشوريون في شيكاغو أن عشرة بالمائة فقط من طائفتهم يتزوجون من خارج الطائفة. وتتمادى بعض العائلات في التحكم في خيارات زيجات أبنائها؛ حيث قابلت امرأة مسيحية عراقية في حفل عشاء في آن أربور، بالقرب من ديترويت، أخبرتني أنها هربت من البيت، حيث لم يكن لديها حرية مقابلة الرجال. سألتها: «هل كنت في سن المراهقة؟» قالت لي: «لا، كنت في السادسة والعشرين.»
وعلى الرغم من أن الكلدانيين والآشوريين لا يعتبرون أنفسهم عربا، فإن تاريخهم شديد الشبه بتاريخ طوائف الشرق الأوسط الأخرى، المسلمة والمسيحية على حد سواء. وبدأت الهجرة الواسعة النطاق من الشرق الأوسط في أواخر القرن التاسع عشر، بدافع الفقر المتزايد ونقص الأراضي في لبنان وفلسطين، فضلا عن القمع والصراع العثماني. كان معظم المهاجرين من المسيحيين، وكانت أمريكا اللاتينية وجهتهم المفضلة؛ لأنها كانت تشجع الهجرة وتوفر الكثير من الفرص الاقتصادية. ونتيجة لذلك، اجتذبت نصيب الأسد من المهاجرين العرب المسيحيين، محققة بعض النتائج المذهلة؛ فاليوم، على سبيل المثال، خمسة بالمائة من سكان أمريكا اللاتينية من أصول عربية، وعدد المسيحيين من أصل فلسطيني في تشيلي أكثر من عددهم في فلسطين، وينحدر ثمانية رؤساء لدول أمريكا الجنوبية والوسطى من أصول شرق أوسطية؛ وأغنى رجل في العالم (كارلوس سليم الحلو، رجل أعمال)، وواحدة من أشهر مطربيها (شاكيرا )، والممثلة سلمى حايك، جميعهم لهم أصول لبنانية. تنافس في الانتخابات الرئاسية لعام 2004 في السلفادور سياسيان، أحدهما من اليسار المتطرف والآخر من اليمين؛ وكانت عائلة كليهما فلسطينية مسيحية من البلدة الصغيرة ذاتها بالقرب من بيت لحم.
وفي الولايات المتحدة، تضم ميشيغان أعلى نسبة للعرب الأمريكيين مقارنة بأي ولاية أخرى. ويشرح تاريخهم المتحف العربي الأمريكي في ديربورن، وهي مدينة يشكل العرب عشرين بالمائة من سكانها. عندما وصلت إلى المتحف، وجدت مجموعة صغيرة من الناس بالخارج. كانوا يحدقون في رجل يقف على الجانب الآخر من الطريق، على سلالم مجلس مدينة ديربورن. كان قد نصب منصة مكتوبا عليها «كافر! ملحد!» على خلفية من القماش الأسود. ونجح الرجل الذي يقف على المنصة في توصيل صوته عبر صخب أصوات المؤيدين والمعارضين. وصاح مطالبا: «أوقفوا هجرة المسلمين! لا مسلمين في المناصب الحكومية العليا!» وكان استفزاز أهل ديربورن هو هدف القس تيري جونز، مؤلف كتاب «الإسلام من الشيطان»، الذي تسببت خططه، ذات التغطية الإعلامية الواسعة لحرق نسخة من القرآن، في أعمال شغب في أفغانستان.
لاحظت أن العديد من العرب الذين كان يلقي خطبته فيهم كانوا يرتدون صلبانا. فغالبية العرب الأمريكيين مسيحيون، على الرغم من أن التركيبة السكانية تتغير بسرعة بفضل تدفقات الهجرة الجديدة من الشرق الأوسط. وقد عكست لافتة في ردهة المتحف المزينة ببلاط الفسيفساء الأزرق هذا التغيير، معلنة أنه كان «مؤسسة تجعل الجيل الرابع من العرب الأمريكيين المسيحيين الذين جاء أجداد أجدادهم من سوريا والمهاجرين المسلمين الذين وصلوا حديثا من العراق يشعرون أن المتحف يروي قصتيهما.» وحتى وقت قريب، غالبا ما كان العرب الذين يأتون إلى أمريكا لا يملكون سوى القليل ولا يحققون النجاح إلا من خلال العمل الجاد والحظ. كانوا باعة جائلين في خمسينيات القرن التاسع عشر، وعمالا يدويين بخمسة دولارات في اليوم في مصنع فورد في عشرينيات القرن الماضي، وأصحاب متاجر في الستينيات. وكان مصنع سيارات هنري فورد في ديربورن بولاية ميشيغان، الذي اكتمل عام 1928، عامل جذب خاصا للمهاجرين من الشرق الأوسط (الذين كان معظمهم في تلك المرحلة من المسيحيين العراقيين واللبنانيين)؛ لأنه وفر فرص عمل لأشخاص لم يكونوا يتقنون الإنجليزية. وقد شكلوا النواة التي جذبت لاحقا الآخرين، مسلمين ومسيحيين على حد سواء، الذين تمكنوا من رؤية فرص أفضل لأنفسهم في مكان كانت ثقافتهم ومجتمعاتهم قائمة فيه بالفعل. ووفقا للمعهد العربي الأمريكي، يوجد الآن ما يقرب من 3,5 مليون أمريكي من أصول عربية. وعرضت جميع قصص النجاح الباهر في المتحف: سياسيون مثل دونا شلالا، ورجال أعمال مثل مؤسس شركة كينكوز، بول أورفيلا، وشعراء مثل خليل جبران.
كنت أتجول في متجر المتحف عندما ظهر يوسف. كان صديقا لأحد أصدقائي، وكان من المقرر أن يكون مرشدي إلى المعالم العربية المحلية. وصل مرتديا قبعة صوفية، وحذاء رعاة البقر، وسترة مزينة بشارات مناهضة للحرب، كان مكتوبا على إحداها: «أنا من الآن مناهض للحرب القادمة». ذهبنا إلى متجر أحذية حتى يتمكن من البحث عن حذاء جديد. كان فلسطينيا من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ومع ذلك فقد تمكن بطريقة ما من الاندماج أيضا في فئة أمريكية خاصة؛ هي: الهيبيز المتمردين. ومع أنه كان في السبعينيات من عمره، كان في حالة صحية أفضل مني، بسبب روتين السباحة في بحيرة جليدية كل يوم.
يوسف بركات يشرح لأحد الأفراد الصغار من الجالية العربية الأمريكية كيفية أداء رقصة عربية تقليدية، الدبكة، في ديربورن، ميشيجان، في صيف عام 2012. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف.
كانت تلك الليلة هي الليلة الأولى لمهرجان عربي أمريكي في ديربورن، وكان المهرجان محطتنا التالية. عندما وصلنا، كانت فرقة مصرية تعزف بأعلى درجة صوت، وازدحم قسم مغلق من الشارع بالناس، ووقف كثير منهم مشكلين نصف دائرة ليشاهدوا ما يحدث. ورقصت مجموعة صغيرة في وسط الدائرة الدبكة، وهي رقصة عربية تتضمن أشخاصا يمسك أحدهم بيد الآخر ويخطون بسرعة وبتناغم من جانب إلى آخر. أدهشني أن يوسف قفز مباشرة إلى ساحة الرقص، أما أنا فتسللت إلى أحد الجوانب؛ لافتقاري إلى الإيقاع، والتوازن، وثقة عدم الاهتمام بأي منهما. بدأ شابان، يبدوان يمنيين، في تلقي التعليمات من يوسف في أدق النقاط المتعلقة بالدبكة. وحركت امرأة عجوز ترتدي الحجاب قدميها على اللحن عندما مررنا بها.
عندما أخذ يوسف كفايته من الرقص، عرض أن يأخذني في جولة في جميع أنحاء المنطقة. وأراني الكنيسة الأرثوذكسية حيث كان خادم المذبح وكان على وشك أن يصبح كاهنا، ومصنع فورد، حيث عمل، مثل العديد من المهاجرين الآخرين، لإعالة أسرته. وبالقرب من المصنع كان يوجد مركز ثقافي عربي كان قد ساعد في إنشائه. وكذلك أراني مدرسة مرتكبي الجرائم الصغار في السن التي تقاعد منها مؤخرا بوصفه متطوعا. وكان يعيش في المناطق الريفية الخضراء حول المدرسة الكثير من أصدقائه، وكان العديد منهم نشطاء من دعاة السلام اليهود.
جاء يوسف إلى أمريكا لاجئا، محروما من حق العودة إلى منزل عائلته فيما كان يسمى فلسطين. ظل غاضبا بمرارة من إسرائيل. ومع ذلك، بدت حياته الخاصة في أمريكا، مثل حياة العديد من الأمريكيين الشرق أوسطيين الذين قابلتهم، مرتبطة بالجالية اليهودية. وبعد وقت قصير من وصوله إلى أمريكا، رزق بطفلين من امرأة يهودية، وإذ شعر بأنه أصغر من أن يتزوج، قرر مع والدتهما التخلي عنهما للتبني؛ أحدهما لجمعية خيرية يهودية والآخر لجمعية خيرية كاثوليكية. وبعد مرور عقود من الزمن، عندما وصل إلى منتصف عمره، أراد أن يبحث عن أطفاله ونجح في العثور على ابنته التي نشئت على أنها يهودية أرثوذكسية. ولا يزال يبحث عن ابنه. •••
كانت علاقة يوسف بصديقته غير عادية؛ ليس لأنها كانت يهودية - فقد قال العديد من المهاجرين الذين التقيت بهم في بريطانيا وأمريكا، من الأقليات الدينية، إنهم وجدوا انجذابا فوريا إلى اليهود الأمريكيين - ولكن لأن مجتمعات الأقليات هذه تميل إلى الانطوائية، وبالتأكيد لا تشجع على إقامة علاقات جنسية بين الأديان المختلفة. قال لي أحد الكلدانيين: «ستيرلينج هايتس هي المكان الذي نعيش فيه. ويعيش المسلمون في ديربورن.» وكانت ضاحية تروي أفضل مكان للعثور على الأقباط المصريين. وللعثور على الموارنة، نصحت بالتوجه إلى جروس بوينت.
استفادت كنائس المهاجرين من الهوية المجتمعية وكذلك ساعدت في ترسيخها. وباعتزاز أخذني الأب شلهوب ، كاهن بازيليك ليفونيا الأرثوذكسية الرائعة، في جولة. ويطلق على جاليته - المسيحيون الفلسطينيون والسوريون الناطقون بالعربية الذين يتبعون التقاليد والتعاليم ذاتها الخاصة بالأرثوذكس اليونانيين والروس - اسم أرثوذكس أنطاكية ولديهم خمسمائة كنيسة في الولايات المتحدة. بدا أن كنيسة الأب شلهوب قد تكون واحدة من أفضل الكنائس الخمسمائة. وقال: «هذا الرخام من سوريا»، مشيرا إلى الأيقونات الجميلة التي رسمت بعناية في سوريا وشحنت إلى الكنيسة. صممت الكنيسة بأكملها على غرار كنيسة القديس سمعان العمودي بالقرب من أنطاكية.
لم تكن طوائفهم في أوطانهم، على عكس الكلدانيين، متدينة بشكل خاص. لكن ذلك تغير عندما أتوا إلى أمريكا. قال: «يبذل الناس جهدا أكبر للذهاب إلى الكنيسة هنا مقارنة بوطنهم الأصلي. إن ما يحافظ على المسيحيين الأرثوذكس هو الكنيسة. فهي تحافظ على ثقافتهم وتحافظ على هويتهم بوصفهم عربا. وأول شيء تفعله العائلات عندما تأتي إلى أمريكا هو البحث عني؛ إذ تصبح الكنيسة مثل الملاذ، ذكرى من ذكريات الوطن. فالحي في الوطن - أي الشرق الأوسط - كان يحمي الناس من التعرض لهجوم خارجي، وهنا تحل الكنيسة محل الحي. فالناس يأتون إلى هنا ويرون آخرين يشبهونهم، ويسمعون اللغة العربية. إنها رابطة ليست قائمة فقط على الدين، وإنما أيضا على العرق والثقافة.» كانت غرفة الكاهن مليئة بالكتب، والصور، والبطاقات من الشرق الأوسط. كتب طفل على إحداها: «في هذا الظرف خمسة دولارات من «مالي الخاص». من فضلك أعطها شخصا محتاجا.» كان يشعر بأن الأرثوذكس لن يندمجوا بأي طريقة بناءة. وعلى عكس الكلدانيين والموارنة، لا يمكن أن تغريهم الأبرشية الكاثوليكية المحلية؛ لأنهم لم يكونوا على صلة حميمة بروما. وهكذا، يبدو أن هذه الكنيسة الأرثوذكسية لن تحافظ على ديانة أهلها فحسب، بل ستحافظ على عروبتهم أيضا.
لاحقا، قالت واحدة من أعضاء هذه الجالية الأرثوذكسية شيئا مشابها. فبعد وصولها إلى الولايات المتحدة من لبنان في السبعينيات، كانت الكنيسة هي ما يربطها بالوطن. وساعدتها في الانتقال إلى الحياة الأمريكية. قالت: «إنها عائلة بعيدا عن عائلتي»، رغم أنها أضافت أن ابنها كان قد اتخذ وجهة نظر مختلفة ، حيث أراد أن يكون عربيا أولا ومسيحيا ثانيا، وابتعد عن الكنيسة نتيجة لذلك. وقالت إن الشيء الجيد في أن تكون متدينا في أمريكا هو أن التدين لم يكن مسيسا؛ فمن الواضح أن مصدر رزق المرء لا يعتمد على دينه. وكانت توضح التناقض بين هذا الوضع والوضع في بلدها الأم، لبنان، حيث نادرا ما يحصل المسيحيون الأرثوذكس على وظائف حكومية. ما كانت تفتقده هو الطريقة السهلة التي يختلط بها الناس في لبنان مع أولئك المنتمين إلى طوائف أخرى، مثل المسلمين والدروز. كانت تعتقد أن المسلمين في أمريكا كانوا أكثر تدينا من أولئك الموجودين في لبنان، وأن كل النساء المحجبات اللواتي رأتهن في ديربورن جعلنها تشعر وكأنها دخيلة بينهن. «الناس هنا يتجمعون حول الدين بدلا من الأمة. ويشعر الناس أنهم إذا تمسكوا بدينهم، فإن أطفالهم سيتزوجون من شخص من نفس دينهم.»
على بعد مائة ياردة فقط من كنيسة الروم الأرثوذكس الضخمة كان يوجد مسجد شيعي، بنفس حجمها تقريبا. أرشدتني موظفة استقبال ذات مظهر جاد وحجاب متشدد إلى لقاء غير مرتب مع إمامها العراقي، حسن القزويني. كان متفائلا للغاية بشأن آفاق طائفته في أمريكا. «إنه مجتمع تعددي، حيث يمكن للمسلمين الاندماج بشكل جيد للغاية. فهو يوفر حريات لا مثيل لها. ويمكننا الازدهار هنا ليس فقط بالمعنى الاقتصادي ولكن بالمعنى الديني.» وللتأكد من أنه حتى غير المتدينين يمكنهم البقاء على تواصل، فضل أن يطلق على المسجد اسم «المركز المجتمعي الإسلامي»، الذي يمكن أن يستضيف حفلات الزفاف، على سبيل المثال، بالإضافة إلى الاحتفالات الدينية. ورغم ذلك، كانت الغالبية متدينة. «في الجيلين الثاني والثالث، قل كثيرا الارتباط بالمنطقة. فالناس ليسوا متحمسين للذهاب إلى الشرق الأوسط؛ ويفضلون قضاء الصيف هنا. لكنهم يحافظون على تقاليدهم الغذائية والاجتماعية، والعديد منهم متدينون بشدة.» وكان لدى الشيعة العراقيين، الذين وصلوا لتوهم، الكثير من الوقت لحضور الشعائر الدينية. «فالدين عامل جذب، وكثيرا ما يثبت أنه أقوى من أي نوع آخر من الانتماء، حتى العرقي.» •••
كان جورج خوري استثناء لقاعدة أن الطوائف المنتمية إلى الشرق الأوسط في ديترويت كانت تميل إلى التجمع حول أماكن عبادتها. فقد كان فلسطينيا مسيحيا يعيش في حي معظم قاطنيه من اليهود. وكان قد تزوج امرأة غير عربية. لم يكن أي من هذا يعني أنه قد غير هويته، كما أمكنني القول بمجرد ترجلي من السيارة خارج منزله. كان الدليل هو لوحة أرقام سيارته:
(أي فلسطين للأبد). كانت غامضة بذكاء. قد لا يعني ذلك شيئا سوى أنه كان صديقا جيدا. لكنني كنت أعرف أن
ترمز إلى فلسطين التي كان أفراد عائلته قد تركوها بصفتهم لاجئين في عام 1948. أخبرني جورج أنه كان قد اختار العيش في حي يهودي من ناحية تحديا للانعزال الطوعي الذي مارسه معظم المهاجرين. وكان يفكر أيضا في أطفاله. بينما كنت جالسا في منزله أشرب فنجانا من القهوة التركية، وتذكرني رائحة الهيل المنبعثة منها بأكواب لا حصر لها احتسيتها في القدس، وبيت لحم، ويافا، قال: «يقترب تقرير معدل الجرائم هنا من الصفر. ويتخرج طلاب المدرسة الثانوية بنسبة مائة بالمائة، ونسبة من يذهبون إلى الكليات تزيد عن تسعين بالمائة، وذلك ما أريده لأولادي. فالأطفال يتأثرون بضغط الأقران. وقد أسعدني أنهم كان لديهم أصدقاء يهود؛ فهذا يعني أنه يمكننا التعايش معا.» كانت قد حدثت بعض المشاكل مع الأطفال الأكبر سنا في المدرسة، وفي مرة قال المعلم للفصل: «لا يوجد شيء اسمه فلسطين». عاد أطفال جورج وهم في حيرة من أمرهم ويتساءلون من يصدقون. لذلك كان يعطيهم دروسا خاصة يوم الأحد، يعلمهم فيها تاريخهم.
وعلى عكس الكلدانيين، كان يرى هويته من منظور سياسي. فالتاريخ الذي كان يدرسه لأطفاله كان تاريخ الظلم الغربي. في الواقع، لم يكن جورج يظن أن المسيحية العربية ستستمر طويلا في أمريكا. وأضاف قائلا: «إن نهاية المسجد ليست قريبة، لكني أظن أنها بداية النهاية للكنيسة.» والمواجهات مع الأمريكيين لم تكن مفيدة. «عندما نتحاور نحن المسيحيين العرب مع المسيحيين الأمريكيين، فإنهم يقولون إنهم معمدانيون أو موحدون. وليس لديهم قداس، ولا تناول، ولا صوم. لذا بدأ العرب في التساؤل، هل نحن الوحيدون الذين لا يزالون يفعلون هذه الأمور؟»
كان ثمة جانب رثائي لدى جورج . وعندما كان يروي لي قصة الشاعر الكبير والبطل الملحمي أبي زيد، توقف وتنهد. وقال: «أنا من آخر جيل سيفهم هذه القصص.» كان لهذا أهمية كبيرة له. «فالقصص تصوغ طريقة تفكيرك؛ فهي تعلمك أن تفكر في الجماعة أكثر من نفسك، وأن تكون كريما. أحاول نقل ذلك إلى أطفالي. لكن أبو زيد كان يقاتل بالسيف فقط. وفي أمريكا لديهم دبابات! ما كان ليحظى بفرصة في زمننا هذا.» لم يكن يفكر فقط في أبي زيد، ولكن في الثقافة التي كان يأمل في أن ينقلها إلى أطفاله. قال بحزن: «المجيء إلى هنا كان أسوأ قرار اتخذته على الإطلاق. ظننت أن الأمر سيكون مثل السلطة، كل مكون يأخذ من نكهة الآخر. لكن الأمر أشبه بالخلاط؛ في النهاية تصبح نكهة كل مكون غير واضحة.» ومع ذلك، لا يزال جيل جورج متمسكا بهويته في الوقت الحالي. قال جورج: «إنها حقبة من حياة المسيحيين العرب، يوشكون فيها أن يصبحوا أمريكيين تماما ومع ذلك لديهم ولاء لعروبتهم.» ومع ذلك، كان يعلم أن الأمريكيين الآخرين لن يفهموا أبدا من هم حقا المسيحيون العرب. «سئلت مرات كثيرة: «متى غيرت دينك؟» وسئل كاهننا المحلي السؤال ذاته.» •••
حاولت أن أفهم لماذا كان كل من يوسف وجورج أقل سعادة بالحياة الأمريكية من اللاجئين الآخرين الذين قابلتهم، وخاصة أولئك الذين هم من أصول عراقية. كان شعوري أن الأمر يتعلق بكونهما فلسطينيين؛ فتجربة المنفى قد أفسدتها معرفة أنها كانت قسرية. وقد مكثا في أمريكا وقتا أطول بكثير وكانا أكثر اندماجا، لدرجة أنهما كانا قد اقتربا من تحقيق الاندماج التام. تساءلت عما إذا كان القدوم إلى الغرب للجاليات المهاجرة يجب أن يكون دائما عقدا تدفع كلفته في النهاية؛ أي استفد من الرخاء الآن، وادفع ثمن فقدان الهوية لاحقا. أم أن الأمر متروك لهم لتشكيل هوية وهياكل مجتمعية بإمكانها أن تدوم. ناقشت هذا الأمر مع يوسف في متجر يديره مهاجر درزي من لبنان. ووافق يوسف على كلامي بقوله: «إننا ننصهر»، مستشهدا ببيت من الشعر الفلسطيني. «واللوم يقع علينا . فنحن لم نجد الغراء.»
كان المتجر يحتوي على مجموعة متنوعة من روائح الشرق الأوسط ونكهاته؛ أكياس من الزعتر البري وبذور اليانسون، وعلب من أوراق العنب والزيتون، وحلوى لبنانية مغطاة بالدقيق. جاء حليم، صاحب المتجر الدرزي، من خلف كومة من علب أكياس شاي الوزة وانضم إلى المحادثة بصوته اللطيف. قال: «عليك أن تتمسك بثقافتك، وإيمانك، وتراثك إذا كنت لا تريد أن تضيع هنا، وسط هذا المحيط الكبير. لكننا نحن الدروز ليس لدينا كنيسة. ليس لدينا مسجد. ليس لدينا معلم. فنحن نمارس ديننا بشكل فردي. ويوجد في لبنان شيوخ يبقوننا متحدين. لكن لا يوجد شيوخ في أمريكا؛ ربما لهذا السبب نحن ماديون للغاية هنا. وكثير من الناس يفتقرون إلى الإيمان بالعقل الكوني.» فمدارس جاليتهم تعلم الأطفال اللغة العربية، وليس الدين. كما أن قلة أعدادهم جعلت من الصعب على الأطفال العثور على أزواج وزوجات من الدروز.
كنت أعرف أن الدروز كانوا يواجهون صعوبة كبيرة في شرح عقيدتهم للثقافة الدينية المنفتحة في أمريكا. أخبرتني ميليا، وهي امرأة درزية نشأت في دالاس، تكساس، عن اليوم المحرج في المدرسة الذي اضطرت فيه هي وبقية التلاميذ في الفصل إلى الوقوف ووصف دينهم؛ ما يومه المقدس في الأسبوع؟ وما معتقداته؟ وما نوع الصلوات به؟ قالت: «أنا درزية. ليس لدينا يوم مقدس، ولا أعرف معتقداتنا، ولا يتوجب علي مطلقا أن أصلي.» قالت المعلمة: «أنت تختلقين هذا الأمر! سأخبر والدتك.» وبالطبع، عندما فعلت ذلك، تمكنت والدة ميليا من تأكيد أن كل هذا كان صحيحا. أخبرتني ليندا، وهي أكاديمية درزية تعيش في بلدة آن آربر الهادئة المثقفة: «إنه أمر غريب حقا على الآخرين الذين يلتزمون بطقوس أن يفهموا طبيعة ديننا. إنه مثل النظام الصيني؛ فلدينا تقاليد ولكن ليس لدينا قواعد.» وعلى الرغم من علامات الاختلاف هذه، لاحظت ليندا اهتماما متزايدا بالهوية الدينية بين الجيل الأصغر من الدروز الأمريكيين. قالت: «ابنتي الآن في الثلاثين من عمرها، وهي تطرح أسئلة حول الثقافة الدرزية. إنها مهتمة بذلك الأمر أكثر من الثقافة اللبنانية. يزداد تعريف أفراد جيل الشباب لأنفسهم على أنهم دروز. فهم أكثر تعصبا.» لم أستطع أن أتخيل كيف يمكن للمرء أن يكون متعصبا في اتباع دين ليس له قواعد أو طقوس. ومع ذلك، فإنه، على ما يبدو، حيثما تكون الجاليات الأمريكية من الدروز أكثر عددا، يزيد الحماس بشأن التقاليد. وقالت إنه حتى في كاليفورنيا كان يوجد شيخ درزي.
من ناحية أخرى، الحرية التي يتمتع بها الأطفال في أمريكا جعلت تربيتهم أصعب مما لو كانت العائلات لا تزال تعيش في موطن الدروز. اعترفت ليندا بأن: «تربية الأطفال كانت صعبة. ولم نتمكن من فرض مبادئنا الأخلاقية عليهم. ففي سن الثانية عشرة والثالثة عشرة رأوا أبناء عمومتهم يشربون الخمر ويتعاطون المخدرات؛ لذا كانوا يسألون: «لماذا لا نستطيع فعل ذلك؟»» وشكلت الزيجات بين الأديان المختلفة تحديا آخر. فقد أقام الدروز الأمريكيون فعاليات اجتماعية منتظمة للجمع بين العائلات الدرزية، دون أن يخفوا الدافع المتمثل في تشجيع الشباب الدرزي على الزواج من طائفتهم. وكان عليهم أيضا تبني نهج أكثر براجماتية تجاه الزواج من غير الدروز، والتوقف عن النبذ الكامل لأولئك الذين يتزوجون من خارج الطائفة. ففي مرة قدم شيخ درزي بعض العزاء لأم مغتربة قلقة تركت ابنتها الدين. وقال: «عندما تموت طفلتك، سوف تتناسخ روحها في لبنان كدرزية مرة أخرى.»
المجتمعات الدرزية في أمريكا متماسكة بشكل ملحوظ. فهم يبحثون عن فرص عمل في البلدات ذاتها، حتى تتمكن ست أو سبع عائلات درزية على الأقل من العيش معا في أحد الأحياء بدلا من البقاء منفصلين. ومثل يوسف وجورج، وجدت عائلة ميليا أيضا قاسما مشتركا غير متوقع مع اليهود الأمريكيين. وقالت: «أينما ذهبنا انتهى بنا الأمر بمقابلة يهود والتواصل معهم دون أن نعرف. إذ يوجد تشابه في الثقافة.» ويجد كثيرون من مهاجري الشرق الأوسط من معتنقي هذه الديانات الصغيرة قاسما مشتركا مع اليهود؛ خاصة لأن اليهود يمارسون تقاليدهم وعاداتهم بمنأى عن الأنظار، ويحافظون على استمرارية هويتهم ومجتمعهم ولكنهم يندمجون ظاهريا في المجتمع العلماني.
ثمة تشابه واضح آخر بين اليهود والدروز. فاليهودية لا تسعى وراء اعتناق أشخاص جدد لها. ويتعدى الأمر مع الدروز إلى أبعد من ذلك «برفضهم» المعتنقين الجدد. ويريد بعض الدروز الأمريكيين تغيير ذلك، إلى جانب ثقافة السرية التي تمنعهم من التعرف على دينهم وشرحه بوضوح للآخرين. وفي بوسطن، حضرت ندوة لشبان من الدروز الأمريكيين ناقشوا خلالها عقيدتهم. وسألوا كبار السن الذين كانوا حاضرين عما يفعلون بشأن الاعتقاد التقليدي القائل بأن أرواح الموتى التي لم تتناسخ في لبنان تولد من جديد في الصين. •••
لم تشهد بوسطن، حيث عشت في عامي 2010 و2011، ندوات دينية درزية فحسب، بل شهدت أيضا حفل تعميد مندائي. في بداية كتابه الرائع «المندائيون: آخر الغنوصيين»، وصف الباحث إدموندو لوبيري الحفل: «يوم الأحد، الموافق الثالث عشر من يونيو، عام 1999. وقف في النهر رجل يلبس عباءة بيضاء طويلة، ولحيته الطويلة يخفيها ما يشبه وشاحا أبيض يغطي فمه، وشعره الطويل ملفوف بعمامة بيضاء، ممسكا في يده اليسرى بعصا خشبية طويلة.» كان النهر هو نهر تشارلز، ويصف الكتاب راكبي زوارق الكاياك وهم يجدفون مارين بالحفل دون إبداء أي اهتمام. ويتذكرهم وسام بريجي، صائغ الفضة والناشط المندائي الذي نظم الحفل. وأخبرني عندما التقينا في متجر الفضة الخاص به بالقرب من وسط بوسطن بأن ذلك ما كان يميز ماساتشوستس؛ فلم يكن أحد متضايقا.
لا بد أن الحفل جذب انتباه الآخرين؛ لأنه كان أول حفل تعميد مندائي في العالم الجديد. وكان ذلك الحفل مهما لأولئك الذين شاركوا فيه بقدر أهمية أول عيد شكر احتفل به البيوريتانيون والأمريكيون الأصليون. وجاء على إثره أوائل المهاجرين المندائيين. فقد كان وسام المندائي الوحيد في ماساتشوستس في ذلك الوقت. والآن، بعد اثني عشر عاما فقط، أخبرني أنه يوجد 650 مندائيا. وكان يعقد في متجره دروسا لتعليم المهارات المندائية التقليدية للوافدين الجدد. وكان يحاول تأسيس مركز اجتماعي لأعضاء دينه في ويستر، ناحية الغرب. وكان يرى يهود أمريكا نموذجا لطائفته. لكن النموذج المحدد الذي كان يدور في ذهنه كان الجالية اليهودية السورية في بروكلين، التي أصدرت مرسوما في عشرينيات القرن الماضي ضد قبول الزواج المختلط حتى من الذين غيروا دينهم إلى اليهودية. استحسن وسام هذا المرسوم؛ فهذه النوعية من الزيجات، حسب ظنه، ستضعف المندائيين لدرجة أنهم سيصبحون علمانيين تماما وستختفي الطائفة. لذلك لا ينبغي أبدا السماح بها.
وبينما كنا نتحدث، كانت المكالمات تأتي دون انقطاع على هاتف وسام الخلوي من عراقيين أرادوا أن يساعدهم في الوصول إلى الولايات المتحدة. فهو مولود في شمال أفريقيا، ونشأ مندائيا؛ قال: «لكنني، لم أعرف أبدا ما يعنيه ذلك.» وكما هو الحال مع العديد من المهاجرين الدروز، كانت سرية الدين تلازمه في المنفى على نحو مزعج؛ فبعد انفصال وسام عن المعابد والكهنة، وجد صعوبة في الحفاظ على إيمانه. لكنه ثابر، وعمل على جمع المندائيين في الولايات المتحدة معا وتعزيز هويتهم الجماعية. كان اللجوء ضروريا، لكنه ذو حدين؛ هما إنقاذ المندائيين من الخطر، وأيضا تسريع رحيلهم عن العراق، أو على حد قوله: «إنقاذ المندائيين، والقضاء على المندائية.» •••
إذن، فالسؤال هو ما الذي سيحدث لدين كان غير مفهوم في الغرب، وله قواعد زواج صارمة ومعقدة، ولا تزال تعاليمه سرية في معظمها؟ وصف الفصل الثاني حياة ميرزا إسماعيل، وهو ناشط مقيم في كندا يدير حملات تدافع عن حقوق الإيزيديين. وعندما راسلته في عام 2011، دعاني للانضمام إليه ذلك الصيف في رحلة إلى بافلو، بولاية نيويورك، عبر الحدود من كندا. كان هناك ليرى صديقه القديم أبا شهاب الذي كان قد هرب معه من العراق، وكان منزله في ضاحية هادئة. عندما طرق ميرزا الباب، فتح أحد أطفال أبي شهاب، وعلى الفور انحنى لتقبيل يد ميرزا. كانت هذه عادة احتفظت بها الأسرة منذ الأيام التي كانوا يعيشون فيها في العراق؛ لأن ميرزا كان «شقيق أبي شهاب في الحياة الأخرى». وقال إن ميرزا اعتبر نفسه أشبه بالأب الروحي لعائلة مسيحية، وهو شخص يقدم الإرشاد الروحي ويشرح بعض تعاليم الدين ل «عائلته الأخرى».
جلسنا في غرفة معيشة أبي شهاب، وبينما كنا نتحدث بدا أن كل بضع دقائق كان يظهر طفل آخر من أطفاله. ابتسم صبي ابتسامة عريضة ، كان شعره مصبوغا بلون برتقالي مذهل، ومعلقا حول رقبته صليب مزخرف (أحد مظاهر الأناقة، وليس الإيمان، على ما يبدو)، ثم ذهب إلى إحدى غرف النوم، حيث لعب لعبة كمبيوترية عالية الصوت. تحركت فتاة بصمت جيئة وذهابا في المطبخ دون النظر إلى غرفة المعيشة. في وقت لاحق، ظهر فرحان، واحد من الأبناء الكبار الذي كانت قد تقطعت به السبل في العراق مدة واحد وعشرين عاما. كان لأبي شهاب إجمالا أحد عشر طفلا. كان الأمر كما لو كان يهدف إلى إعادة توطين العالم بالإيزيديين للتعويض عن الكثيرين الذين قتلوا في حروب متتالية.
كان الابن الأكبر، شهاب، الذي انضم إلينا مع زوجته، قد حصل للتو على وظيفة جديدة مقابل تسعة دولارات في الساعة، وكان قد فقد وظيفته السابقة بعد رسوبه في اختبار اللغة الإنجليزية. بدت لي لغة شهاب الإنجليزية جيدة بما يكفي، لا سيما بالنظر إلى أنه يتحدث لغتين أخريين - العربية والكرمانجية - ولكن يبدو أنه كان قد أخفق في الأسئلة حول المرادفات. لم يكن لديه فرصة للذهاب إلى المدرسة في سوريا لأن مخيم اللاجئين الذي كان يعيش فيه لم يصدر له الشهادة اللازمة. على أي حال، كان بحاجة إلى العمل حتى لا تضطر زوجته إلى ذلك، لتتمكن من التركيز على دراستها والتأهل للعمل ممرضة. قالت بابتسامة: «حينها يمكنني العمل ويمكنه الحصول على قسط من الراحة.»
لم يكن أبو شهاب من المعجبين بالسياسة الخارجية لأمريكا وبريطانيا. فقد فشلوا، وفق رأيه، في حل مشاكل بلاده؛ خاصة تلك المتعلقة بمنطقته، سنجار، في شمال غرب العراق. لكنه أرادني أن أعرف مدى تقديره للمساعدة التي تلقاها من الولايات المتحدة منذ وصوله. قال: «لولا أمريكا، لكان ابني ميتا»، مشيرا إلى أحد أبنائه المراهقين، الذي اختفى عن الأنظار على الفور. كان هذا الابن وإحدى بنات أبي شهاب يعانيان من مشكلة صحية في الكلى تطلبت حقنا متكررة من نوع لا تستطيع الأسرة تحمل تكلفته. في سوريا ، ملاذه الأول بعد مغادرة العراق، لا تدفع الدولة مقابل هذا النوع من الرعاية الطبية، وكانت عائلة أبي شهاب فقيرة حتى وفقا لمعايير الشرق الأوسط. وفي سنجار، كانت فرصه في تأمين رعاية طبية مناسبة لطفليه المريضين أقل بكثير. أخبرني أنه لا يوجد سوى مستشفى واحد مكون من عشرة أسرة في المنطقة، التي يقطنها نصف مليون شخص. رفع أبو شهاب يده على شعره المصبوغ باللون الأسود. وقال: «إن هذا الدين على رأسي!»، بمعنى أنه كان يقر بالدين الذي يدين به لأمته المختارة. «لم نحارب أبدا ضد أي دولة أخرى من أجل أمريكا، ولسنا من هنا، لكننا نحصل على رعاية صحية مجانا بسبب إنسانية الناس. في العراق نحن أهل البلد ولا نحصل على شيء.»
بدت علاقاتهم مع جيرانهم، في هذه الضاحية التي يغلب عليها ذوو البشرة البيضاء من الطبقة العاملة، جيدة (حيث جاء أحد الجيران أثناء وجودي هناك، وأوضح لي أنه تمنى لو كان بمقدوره أن يفعل شيئا لمساعدة الإيزيديين في العراق؛ لأنه من خلال ما عرفه من أبي شهاب، بدت حياتهم فظيعة). كان الشيء الوحيد الذي أزعج الأسرة بشأن الثقافة الأمريكية هو الطريقة التي كان يصور بها دينهم. قال أبو شهاب إنه سمع مراسل شبكة سي إن إن يصف الإيزيديين بأنهم «أبشع ديانة في العالم». وبالرغم من أنني وجدت صعوبة في تصديق ذلك، لكنه كان متأكدا تماما مما سمع، وقال إنه يأمل أنني إذا كتبت كتابي، فعلى الأقل لن يقول أحد ذلك مرة أخرى. في الواقع، غادرت معجبا بكرم ضيافة العائلة، ونظافة بيتهم (وهي سمة معروفة لدى كل من البيوت المندائية والإيزيدية في العراق)، والتقارب بين الأجيال. وإذ كانت هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها بيتا إيزيديا؛ أدهشني أيضا مدى قلة الأدلة على دينهم. كانت توجد علامتان على دينهم: صورة للالش - لوحة فنية مرسومة وليست صورة فوتوغرافية - موضوعة على الخزانة، وبالطبع صورة الطاووس الإلزامية.
الصور الأخرى في غرفة المعيشة كانت كلها للعائلة؛ وخاصة أصغر أفرادها، ابنة أبي شهاب البالغة من العمر ثلاث سنوات، نالين. كانت تخفف من كآبة بعض محادثاتنا، عادة بالاستلقاء على الأريكة واضعة رأسها بالأسفل ورافعة ساقيها في الهواء، أو جعل يديها تبدوان مثل النظارة المعظمة والتحديق فينا من خلالها. أوضح ميرزا أنها كانت مغرمة بشكل خاص بأجدادها، وأنهم يعاملونها بقدر كبير من المودة. تساءلت كيف ستكون حياتها عندما تكبر؛ خاصة، عندما تصبح كبيرة بما يكفي للزواج. فقواعد الزواج الإيزيدية معقدة وصارمة للغاية. والأمر لا يقتصر على ضرورة زواج المرأة الإيزيدية من رجل إيزيدي فحسب، بل يجب أن يكون من الطبقة الصحيحة والعشيرة الصحيحة. ويتعين على بعض العائلات العراقية من الطبقة الأصغر (طبقة البير المتوسطة المقام) أن تجد أزواجا أو زوجات في بلدان أخرى. على سبيل المثال، قد يجد رجل عراقي زوجة في الجالية الإيزيدية في روسيا. وللتأكد من أن الزواج يتبع هذه القواعد، تجبر بعض العائلات أطفالها على الزواج عندما يبلغون من العمر خمسة عشر أو ستة عشر عاما فقط. كانت عائلة أبي شهاب من طبقة المريدين، وهي أدنى طبقة. وفي أمريكا، قد يكون هناك عدد قليل من الرجال المناسبين لنالين. وفي ديانة تطالب أتباعها بقليل من المطالب، كان هذا مطلبا لا يمكنهم عصيانه.
أرادت العائلة أن تريني المعالم السياحية المحلية؛ لذلك زرنا شلالات نياجرا، ووضعوا قرصا مضغوطا للموسيقى الإيزيدية في ستيريو السيارة. أخبرني أبو شهاب أن المطرب كان يسمى خضر فقير. وقد رزق بموهبته الموسيقية فجأة. فعندما كان شابا في حقول سنجار، ظهر له القديس الإيزيدي خضر إلياس في حلم. وعندما استيقظ، كان بإمكانه الغناء والعزف على العود (الباجلاما التي تشبه الجيتار) أفضل من أي إيزيدي على وجه الأرض. زادت قيمة خضر إلياس لدى أبي شهاب عندما رفض ارتداء الملابس الكردية أثناء العزف. قال أبو شهاب: «كان يرتدي فقط الملابس الإيزيدية.» وكان هو وميرزا حريصين على التأكيد على الهوية الإيزيدية باعتبارها شيئا منفصلا عن الهوية الكردية، وسخرا مني لقضائي بعض الوقت في العراق مع الإيزيديين الموالين للأكراد.
كانت هذه العائلة من الإيزيديين وحيدة تماما في بافالو، حيث عاش أقرب أبناء دينهم في لينكون، نبراسكا، على بعد آلاف الأميال. ويبدو أن رغبتهم في أن يكونوا على طبيعتهم، والتمسك بتقاليدهم، ظلت قوية. أخبرني أبو شهاب أن أفراد العائلة كانوا يرتادون كنيسة مسيحية عندما وصلوا إلى أمريكا. وقد ساعدهم الناس في الكنيسة عندما كانوا جددا هناك، وما زالوا يشعرون برباط الصداقة معهم. وأضاف مؤكدا: «لكننا لم نتخل عن معتقداتنا.» وسمحت خدمات الاتصال الهاتفي عبر الإنترنت، مثل سكايب، للإيزيديين المشتتين بالبقاء متصلين بعضهم ببعض. وقد ظهرت مجموعات افتراضية في جميع أنحاء العالم، وأتاحت سبلا جديدة للعثور على شركاء زواج محتملين لأطفالهم. ومع ذلك، يظل الإيزيديون في أمريكا يواجهون تحديا كبيرا: فكما هو الحال مع الدروز، قلة منهم يعرفون أصول دينهم. قال أبو شهاب إنه كانت ثمة خطة لإنشاء مركز اجتماعي في نبراسكا حيث يمكن للناس أن يجتمعوا للعب الورق وتعلم أساسيات الدين. «المشكلة هي أن الجيل الأكبر سنا، مثل والدي، ضيق الأفق. فهو يعرف أشياء عن الدين لكنه لن يخبرنا بها. وحده الشيخ ميرزا هو الذي سيخبرنا بهذه الأشياء.» قاطعته زوجته قائلة: «من المحتمل أنك تعرف عن ديننا أكثر مما نعرف.» فالإيزيديون سيشعرون بالحيرة عندما يضطرون إلى شرح معتقداتهم للآخرين أو المشاركة في جدال ديني.
وكذلك لا يوجد نظير لهم في المجتمع الأمريكي. فالمسيحيون الشرق أوسطيون لديهم رابطة فورية مع المسيحيين الأمريكيين، ويمكن للمهاجرين المسلمين العثور بسهولة الآن على مجتمعات من المسلمين الأمريكيين الذين سيقدمون لهم نوعا من المساعدة العملية ومكانا لممارسة العبادة. لكن الإيزيديين بمفردهم - باستثناء أمارو مارك بينكهام، كبير رهبان الجماعة الدولية لفرسان الهيكل الغنوصيين. فقد أخبرني كبير الرهبان أنه كان يتأمل في أمريكا الجنوبية، حيث كان يجرب طرقا جديدة لعيش الواقع، عندما وجد نفسه فجأة محاطا بمجموعة من الطواويس. وإذ شعر بالحيرة مما رآه، سأل فيما بعد أصدقاءه بشأنه، ووجهه أحدهم نحو الإيزيديين. وأضاف إلى سلسلته «أسرار فرسان المعبد» (سواء الكتب أو مقاطع الفيديو عبر الإنترنت) حلقة جديدة وأخيرة اسمها: «أسرار الملاك الطاووس». وعلى موقع الإنترنت، تصف جماعته نفسها بأنها «مكرسة لإحياء الحكمة الغنوصية وتقليد الإلهة لفرسان الهيكل الأصليين». وعندما تواصلت معه في عام 2013، كانت المنظمة تتألف من ثلاثين إلى أربعين عضوا؛ وتعود بداياتها وفقا لكبير الرهبان بينكهام (المصور على الموقع الإلكتروني مع زوجته، وكلاهما يرتديان تيجان الأسقف الطويلة جدا باللونين الأحمر والأبيض) إلى يوحنا المعمدان مرورا بمريم المجدلية وفرسان المعبد. لكنه كان يأمل في أن يؤدي تدريب «جيداي المعبد»، الذي قدم اعتبارا من عام 2014 فصاعدا، إلى زيادة أعدادهم.
كنت متشككا بشأن حقيقة اتصاله التاريخي بيوحنا المعمدان، لكن الإيزيديين رحبوا بمساعدته - رغم أنهم لم يستطيعوا أن يسمحوا لبينكهام نفسه بالانضمام إلى ديانتهم. كان هذا، على أي حال، ما قاله لي الإيزيديون في لينكون عندما زرتهم عام 2013. وبعد أن سمعت من أبي شهاب والشيخ ميرزا أنه توجد جماعة أكبر بكثير في نبراسكا، كنت حريصا على معرفة كيف نجت إحدى الأقليات الدينية العراقية في أمريكا الوسطى. وعندما وصلت إلى مطار لينكون الصغير، كان بانتظاري مجموعة مكونة من عشرين إيزيديا ليرحبوا بي؛ فحتى في ولاية كورنهوسكر [نبراسكا] يظهر كرم الضيافة العراقي. وكان كثيرون منهم وافدين حديثا وكانوا قد وصلوا إلى لينكون بفضل البرنامج الفيدرالي لإعادة توطين اللاجئين.
كان باسم، الذي كان يعيش هناك منذ عدة سنوات، مضيفي خلال الزيارة واتضح أنه أشبه بمنظم مجتمعي. ورتب لمقابلتي مع ستة إيزيديين في مقهى في وسط مدينة لينكون. كان أحدهم من طبقة البير، واستخدمه واحد من الآخرين في المجموعة مثالا على أنهم اضطروا إلى تغيير عاداتهم. «إنه من طبقة البير، وفي وطننا عادة نقبل يده عندما نلتقيه. لكننا لا نفعل ذلك هنا.» نظر إلى الأرضية الخشبية المكشوفة، والقسم الداخلي البسيط من المقهى، الذي كان جميع زبائنه الآخرين يضعون سماعات الرأس ويحدقون في أجهزة آي الباد الخاصة بهم. «سيظن الناس أنه تصرف غريب.» كان معظم هؤلاء الرجال قد وصلوا في السنوات الثلاث الماضية. وقد عانى أحدهم من صدمته الثقافية في وقت مبكر حيث قضى مدة أطول من ذلك في البلد والتحق بالمدرسة الثانوية في لينكون . وقال: «كان من الصعب علي قبول رؤية الأولاد والبنات يقبل بعضهم بعضا عند الخزائن. ولم أكن قد رأيت مدينة كبيرة من قبل.» وصدم آخر وصل حديثا من شيء آخر. قال، وهو يشهق: «البنادق التي يبيعونها علانية في المحلات التجارية هنا. في بغداد لن تجد أبدا أسلحة كهذه للبيع!»
كانوا قلقين من أن طائفتهم لن تحافظ على الديانة الإيزيدية مدة طويلة. قال باسم: «ليس لدينا أموال للاحتفال بأعيادنا. لذا فإن الرابع من يوليو يعتبر أهم من رأس السنة الإيزيدية؛ لأن الجميع يحتفلون به. فالإيزيديون يحتفلون بعيد الميلاد وليس جارشما سور «الأربعاء الأحمر».» وأضاف أن أحد الشيوخ ما زال يضيء 366 شمعة في البيت للاحتفالات الدينية، ونظم بسام نفسه من حين لآخر مسابقة حول الدين، يختبر فيها مدى معرفة الإيزيديين بالتقاليد الإيزيدية. لكنهم كانوا جميعا يعانون من عدم المعرفة الكافية. قال أحدهم متأسفا: «إذا سأل أطفالي عن ماهية الإيزيدي، فلن أستطيع إخبارهم.» وأخبرني الرجل المنتمي إلى طبقة البير أنه واجه تحديا صعبا بشكل خاص. فقد كان من المفترض أن يتزوج ضمن طبقته الفرعية المحددة، التي كادت الآن أن تنقرض. قال: «كان في مدينتي خمسة عشر ألف إيزيدية، لكنني لم أستطع الزواج من أي منهن.»
سألتهم إن كانت لديهم مشكلة في شرح دينهم للناس في أمريكا، لكن الرد كان أنه لم يكن يوجد لدى الناس اهتمام كبير بأن يسمعوا عنها. «فالناس لا يريدون طرح أسئلة غير محددة. يسألون فقط: «هل أنت مسلم؟» فقد حدثت بعض المشاكل بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ لأن الناس ظنوا أننا مسلمون.» وكما هو الحال مع أبي شهاب، كانوا يشعرون بالامتنان تجاه أمريكا، حيث كانت شكاواهم موجهة في الغالب إلى الحكومات في الشرق الأوسط. وتحدثوا عن مسئول جمارك أردني سخر من التراب المقدس من لالش الذي حاولت إحدى العائلات اصطحابه معها على متن الطائرة وتخلص منه. وتحدثوا عن تركيا، حيث لا يزال يتعين على الإيزيديين (حسبما قالوا) الإعلان عن أنفسهم بوصفهم مسلمين، وحيث لا يزال من الممكن رؤية الصخور التي قطعت عليها رءوس الإيزيديين الذين رفضوا تغيير دينهم خلال مذابح عام 1917. كانوا قلقين من الأخبار الواردة من كردستان، حيث كان مثيرو الشغب قبل بضعة أشهر قد أحرقوا متجرا لبيع المشروبات الكحولية مملوكا للإيزيديين (أروني مقطع الفيديو). لم يكن لديهم حنين للشرق الأوسط. قال الشاب الذي ذهب إلى المدرسة الثانوية في أمريكا: «هناك حقوق للسجناء هنا أكثر من حقوق الأحرار هناك. لا أظن أنه يوجد أي بلد يعامل المهاجرين بطريقة أفضل. كل ما علي فعله هو أن أوضح للوافدين الجدد أنه من الطبيعي ألا يحييكم الناس هنا.» غالبا ما يعتبر الناس في البلدات الأمريكية الصغيرة، خاصة في مناطق الغرب الأوسط، ودودين بشكل غير عادي، لكن من منظور هؤلاء القرويين الإيزيديين، بدوا باردين وفاترين من ناحية مشاعرهم.
يظهر باسم، وهو إيزيدي في لينكون، نبراسكا، تبجيله لملك طاووس من خلال تزيين غرفة معيشته بصورة طاووس وريشه. صورة مأخوذة بواسطة المؤلف. •••
بعد فرار هؤلاء المهاجرين من الانحدار والتضاؤل الذي تعاني منه طوائفهم في أوطانهم، كانوا في معظم الأحيان يزدهرون في الولايات المتحدة، حيث يبنون أماكن عبادة جديدة ويكتسبون مزيدا من الثقة. يعيش المسيحيون في سوريا في خوف في ظل ما حدث لإخوانهم في الدين في العراق. لكن في ديترويت، يضع الأب شلهوب اللمسات الأخيرة على مجموعة أخرى من الأيقونات الرائعة. فالكنائس في بغداد تخلو شيئا فشيئا من الناس، لكن في بوسطن أنشأت راهبة عراقية تعمل قسيسة في جامعة بوسطن رهبانية جديدة للنساء في تلك المدينة الأمريكية. وفي لندن، تعلم نادية قطان، المتزوجة من بريطاني، أطفالها تراثهم العراقي، وتعد شاهين الماء الذي يمكن للأطفال الزرادشتيين رشه بعضهم على بعض للاحتفال بانقلاب الشمس الصيفي، تماما كما كان يفعل أسلافهم الفارسيون في عيد تيرجان كل عام. •••
بدأت هذا الكتاب ببعض الملاحظات حول سبب مغادرة الأقليات للشرق الأوسط. وبعد أن أمضيت أربع سنوات في مقابلتهم وقراءة تاريخهم، صرت أهتم بهم أكثر من أي وقت مضى. إذن ما الذي يمكن فعله؟ إنها شعوب الشرق الأوسط هي التي يجب عليها، أكثر من أي شخص آخر، أن ترمم مجتمعاتها المحلية المفككة. وقد يمنحهم الفهم الأفضل للتاريخ شيئا يمكن للجميع، بغض النظر عن الدين، أن يتشاركوا الشعور بالفخر تجاهه. أذهلني شيء قالته لي صديقة مسلمة متدينة من العراق بعد أن زارت المتحف البريطاني: «كان من المدهش اكتشاف أن تاريخ بابل كان أعظم حتى من تاريخ مصر، وأنها كانت مهد الحضارات؛ لم أكن أفهم أبدا ما يعنيه ذلك. إن سماع قصة ملحمة جلجامش، وإدراك أن جزءا هائلا من تراثي كان في المتحف البريطاني منحني ما هو أكثر من صدام لأتعلق به.» وأفضل ما في الأمر، أن معرفة التاريخ يمكن أن تساعدنا جميعا - أينما كنا - لنرى أن أي حضارة، سواء كانت رومانية، أو عربية، أو بريطانية، أو أمريكية؛ تكون في أنجح حالاتها عندما تكون أكثر انفتاحا على الآخرين وأفكارهم.
لكن ماذا يمكن للناس خارج الشرق الأوسط أن يفعلوا للمساعدة؟ أي شيء يريد الغرباء فعله لمساعدة الأقليات يجب أن يستند إلى سياسة نوايا حسنة تجاه جميع السكان. فالمدارس المسيحية، على سبيل المثال، أفادت المسيحيين في العراق، وفلسطين، ولبنان أكثر من أي شيء آخر؛ لأنها كانت مفتوحة للأطفال المسلمين، وبذلك حققت هدفا ثلاثيا تمثل في جعل المسيحيين أكثر قدرة على الحصول على لقمة العيش، وكسب النوايا الحسنة من المسلمين، وتوفير التعليم الإنساني للجميع. (ومما كان له أهمية بالغة، أنهم لم يحاولوا تغيير دين تلاميذهم المسلمين.) وعلى النقيض من ذلك، أدت التدخلات العسكرية الغربية بشكل عام إلى انتكاسة في قضية الأقليات، وليس إلى إحراز تقدم فيها. فأفراد أي أقلية يحتاجون إلى الحماية من مواطنيهم، وليس من الأجانب الذين يقيمون مدة وجيزة ثم يغادرون. عادة ما يقلق عدم الاستقرار الأقليات التي تشعر أنها مستضعفة بشكل خاص (وتكون كذلك بالفعل). وفي الآونة الأخيرة، عجل غزو العراق بهجرة ضخمة للمسيحيين والمندائيين من البلاد حيث تصاعدت الأمور إلى حرب أهلية.
في الوقت ذاته، تشارك حكومات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، ودول أخرى في الشرق الأوسط بعدة طرق أخرى. فهي تمنح تمويلا من أجل التنمية. وتقدم الدعم العسكري. كما أنها، من خلال العمل مع الناس والمنظمات، تمنحهم كامل الدعم والتقدير. وعندما تفعل ذلك، يمكنها ويجب عليها اتخاذ موقف حازم في مواجهة أولئك الذين يحرضون على الكراهية الدينية، بغض النظر عن دينهم (تذكر في الفصل السادس كيف انتقد كاهن قبطي الدعاية المعادية للمسلمين التي يبثها أحد الكهنة من قبرص). إن عدم التركيز على التطرف إلا عندما يصبح عنيفا يتجاهل حقيقة أن العنف يكون نهاية عملية طويلة من التطرف، تبدأ بتشجيع الغضب والكراهية. وينبغي على الحكومات الغربية أن تأخذ المعتقد الديني على محمل الجد، وأن تفهمه جيدا بما يكفي لتمييز الفرق بين المؤمن المتحمس والداعي إلى الكراهية.
أخيرا، حق اللجوء متاح في دول مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا للأقليات الدينية، وهذا في ذاته يغريهم بمغادرة بلدانهم الأصلية. ويحمي اللجوء المسيحيين، والإيزيديين، والمندائيين العراقيين من خطر مباشر، ووجدت أنهم ممتنون للغاية ويشعرون بولاء قوي لأوطانهم الجديدة، لكن اللجوء أيضا يؤدي إلى تلاشي مجتمعاتهم المحلية في أوطانهم الأصلية. يوجد حل جزئي لهذه المشكلة، وهو مساعدة أفراد هذه المجموعات على التمسك بتقاليدهم وبناء مجتمعات لهم في أوطانهم الجديدة. وأتمنى أن يشجعهم هذا الكتاب على فعل ذلك، من خلال الاحتفال بتقاليدهم وتاريخهم.
مصادر وقراءات إضافية
أود أن أشكر أولا الأشخاص الذين يمثلون موضوع هذا الكتاب. فلم يكن من الممكن كتابته دون مساعدة نادية قطان، وميرزا إسماعيل، وأبي شهاب، وشاهين بخرادنيا، وسامي مكارم، وبيني تسيداكا، والأب يوأنس، وأصدقائي في كنيسة سانت تريزا، وعظيم بيك، ووزير علي، وأصدقائي الإيزيديين في نبراسكا، وأولئك الذين قابلوني في ديترويت، بما في ذلك جورج ويوسف.
بالإضافة إلى تكرمه بكتابة تمهيد هذا الكتاب، كان روري ستيوارت مديرا لمركز كار التابع لكلية كينيدي بجامعة هارفارد خلال جزء من مدة زمالتي البحثية هناك، التي استمرت ثمانية عشر شهرا، والتي منحتني الفرصة (ضمن أشياء أخرى) لبدء البحث لكتابة هذا الكتاب. أود أيضا أن أشكر صندوق تمويل مؤسسة جيروود لمنحي في عام 2011 جائزة ساعدت في تغطية تكاليف بعض الرحلات التي تطلبها هذا الكتاب؛ فبين عامي 2010 و2013 زرت مصر ولبنان مرتين لكل منهما، وكردستان العراق، وباكستان ، وإسرائيل، والضفة الغربية.
أرشدني كل من لارا هايمرت ودان جيرستل من دار نشر بيسك بوكس، ومايك جونز من سايمون آند شوستر، وجورج لوكاس من إنكويل برودكشنز، خلال مرحلة تحرير هذا الكتاب من خلال تعليقاتهم الصبورة الجادة. وكذلك ساعدني كل من جاك فيرويذر، ودكتورة لانا عصفور، والسير جون جنكينز، والدكتورة بريجيد راسل، والبروفيسور فيليب كرينبروك، والدكتورة يورن باكلي، ووين ماجي، وفيليسيتي ديفونشاير، ودكتور نديم شحادة، وأليس براج، ودكتورة باربرا جيفريس، وجور هيرشبرج، ودكتور كورنيليس هولسمان، ودكتور أمين مكرم عبيد من خلال قراءة مسودات هذا الكتاب أو الفصول الفردية؛ ومع ذلك فهم لا يتحملون أي مسئولية عن الآراء الواردة في الكتاب، ولا أي أخطاء واردة فيه.
كما استفدت من محاضرات ونصائح البروفيسور علي أساني، والبروفيسور أوكتور شارفو، والدكتور تشارلز ستانج من جامعة هارفارد.
إن اختيار أي كتاب لتسليط الضوء عليه باعتباره مدخلا إلى الإسلام، والمسيحية، واليهودية، بخلاف نصوصهم المقدسة، هو عمل شنيع. ومع ذلك فقد تعلمت الكثير من سلسلة هانز كونج حول هذه الأديان، بما في ذلك كتاب «المسيحية» (دار نشر كونتينوم، 1996)، و«اليهودية» (دار نشر بلومزبري، 1995)، و«الإسلام» (دار نشر ون وورلد بابليكيشنز، 2008). وكذلك أضاف لي كتاب ألبرت حوراني «تاريخ الشعوب العربية» (دار نشر فابر آند فابر، 1991) وكتاب يوجين روجان «تاريخ العرب» (دار نشر بيسك بوكس، 2011) على نحو أكثر علمانية. وكانت «الموسوعة الإيرانية»، و«تاريخ أكسفورد للإسلام»، الذي حرره جون إل إسبوزيتو (دار نشر جامعة أكسفورد، 1999)، و«موجز دائرة المعارف الإسلامية»، الذي حرره إتش إيه آر جيب وجيه إتش كريمرز (بريل، 1953)، كلها وثائق مرجعية مفيدة في كل مراحل كتابة هذا الكتاب.
وفيما يتعلق بموضوع اعتناق الإسلام، قرأت كتاب «اعتناق الإسلام» لريتشارد بوليت (دار نشر جامعة هارفارد، 1979)؛ وكتاب «نهضة الإسلام على الحدود البنغالية»، لريتشارد إيتون (دار نشر جامعة كاليفورنيا، 1996)؛ وكتاب «نشأة الإسلام»، لجوناثان بيركي (دار نشر جامعة كامبريدج، 2002)؛ و«عصر تغيير الدين: إعادة تقييم» لمايكل موروني في «اعتناق الأديان والاستمرارية»، الذي حرره إم جيرفيرز وجيه بكازي (المعهد البابوي لدراسات القرون الوسطى، 1990).
أشير إلى ثلاثة كتب أخرى في فصول متعددة هي كتاب مايكل موروني «العراق بعد الفتح الإسلامي» (دار نشر جامعة برينستون، 1984)، وكتاب باتريشيا كرون «أنبياء معاداة المهاجرين في المراحل المبكرة للإسلام في إيران» (دار نشر جامعة كامبريدج، 2012)، وكتاب كريستوف باومر «كنيسة المشرق: التاريخ المصور للمسيحية الآشورية» (دار نشر آي بي توريس، 2006).
النصوص المقتبسة من الكتاب المقدس مأخوذة من نسخة الملك جيمس المعتمدة ما لم يذكر خلاف ذلك فيما يلي. والنصوص المقتبسة من القرآن الكريم مأخوذة من نسخة صحيح إنترناشونال. والنصوص المقتبسة عن هيرودوت مأخوذة من ترجمة أوبري دي سيلينكور لكتاب «تاريخ هيرودوت» (بينجوين، 1954).
مقدمة
كتاب «عن الهوية» لأمين معلوف متاح باللغة الإنجليزية في نسخة من ترجمة باربرا براي (دار نشر هارفارد، 2004).
ذكر جدل الغزالي في مواجهة الفلسفة اليونانية في كتاب يسمى «تهافت الفلاسفة».
ملاحظة القيصر مأخوذة من كتاب كمال صليبي «بحمدون: صورة تاريخية لقرية في جبل لبنان» (مركز الدراسات اللبنانية، 1997).
يمكن قراءة تقييم السفير مورجنثاو للإبادة الجماعية للأرمن على الموقع الإلكتروني للمعهد الوطني الأرمني، على
www.armenian-genocide.org/statement_morgenthau.html .
تأتي ملاحظة سها رسام من كتابها «المسيحية في العراق» (جريسوينج، 2010)، الصفحة 196.
يمكن رؤية مذكرة آرثر بلفور بتاريخ الحادي عشر من أغسطس 1919 في كتاب وودورد وباتر «وثائق عن السياسة الخارجية البريطانية، 1919-1939» (إتش إم إس أوه، 1952).
الفصل الأول: المندائيون
التقيت برئيس الكهنة عندما كنت رئيس القسم السياسي في السفارة البريطانية في بغداد في المدة بين عامي 2005 و2006. فيما بعد التقيت بمندائيين في أربيل، شمال العراق، في عامي 2010 و2013، في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا. لقراءة المزيد عنهم، بالإضافة إلى الكتب المدرجة هنا، أوصي بزيارة الموقع الإلكتروني لاتحاد الجمعيات المندائية،
www.mandaeanunion.org .
من الذين ساعدوني في هذا الفصل، نادية حمدان قطان وخالتها، والشيخ ستار، ووسيم بريجي، الذين تكرموا جميعا بمنحي وقتهم وثقتهم. بصبر أجاب عن أسئلتي العديدة البروفيسور يورون باكلي من جامعة مين، مؤلف دراسة تعليمية وإنسانية بعنوان «المندائيون: نصوص قديمة وشعب حديث» (دار نشر جامعة أكسفورد ، 2000). وسمح لي طاقم مكتبة بودلي برؤية مجموعة دراور؛ وبالمثل سمحت لي المكتبة الوطنية الفرنسية بالاطلاع على مجموعتها من المخطوطات والكتب السريانية والمندائية.
للحصول على مقدمة عامة عن المندائيين، لا يمكن أن يوجد ما هو أفضل من كتب إي إس دراور، ولا سيما كتاب «المندائيون في العراق وإيران» (دار نشر جورجياس، 2002)، وكتاب «آدم السري» (دار نشر جامعة أكسفورد، 1960). وكان كتاب «المندائيون: آخر الغنوصيين» لإدموندو لوبيري (إيردمنس، 2001) مصدرا لقصصي عن لقاءات المبشرين الغربيين مع المندائيين، بما في ذلك الاقتباس الخاص بعيسى ويحيى، وأيضا للطلاسم السحرية المندائية التي تظهر لاحقا في الفصل. ويوجد باحث رئيسي آخر فيما يخص المندائيين هو إدوين ياموتشي، مؤلف كتاب «الأخلاق الغنوصية والأصول المندائية» (دار نشر جامعة هارفارد، 1970).
تأتي ملاحظة وولي على الطوفان من كتاب «عمليات التنقيب في أور» لليونارد وولي (إي بين، 1954). واستخدمت رائعة أندرو جورج «ملحمة جلجامش: ترجمة جديدة» (بينجوين، 2003) لاقتباس مقتطفات من الملحمة في هذا الفصل، بما في ذلك لعنة العاهرة. ويأتي الاقتباس: «لذلك دعي اسمها «بابل» ...» من سفر التكوين 11: 9.
وللحصول على خلفية عن بابل، قرأت كتاب «السومريون» لصموئيل نوح كرامر (دار نشر جامعة شيكاغو، 1964)، وكتاب «الحياة اليومية في بابل وآشور»، لجورج كونتينو (دبليو دبليو نورتون، 1966). ويحتوي كتاب «بابل: بلاد ما بين النهرين ومهد الحضارة»، لبول كريوازك (أتلانتيك، 2012) على وصف لما تبقى من إرث بابل في يومنا هذا. ومصدر روايتي عن إعادة إعمار صدام لبابل هو الفيلم الوثائقي الصادر عن جورنيمان بيكتشرز في سبتمبر 1997 بعنوان «بابل الجديدة».
تحية البطاركة «من صومعتي ...» مقتبسة من كتاب باومر «كنيسة المشرق». ويمكن العثور على رؤى متعمقة عن إراقة الدماء الطائفية التي عصفت بالعراق بعد عام 2003 في كتاب فنار حداد «الطائفية في العراق» (هيرست، 2011)، وكتاب «أفول أهل السنة: التهجير الطائفي وميليشيات الموت وحياة المنفى بعد الغزو الأمريكي للعراق»، لديبورا آموس (بابليك أفيرز، 2010). الكتيب الإرشادي لمدينة بغداد المشار إليه في هذا الفصل كان دليلا سياحيا من دار نشر برادت لكارين دابروفسكا، نشر في عام 2002.
وكان كتاب جاكو هامين-أنتيلا «آخر الوثنيين في العراق» (بريل، 2006) مصدري لكتاب «الزراعة النبطية»، حيث كان يحتوي على ترجمة مضاف إليها تعليقات (أود أن أعرب عن امتناني لفيليب وود على هذه النصيحة).
يمكن القراءة عن المسعودي في «التأريخ الإسلامي: تاريخ المسعودي» لطريف الخالدي (دار نشر جامعة نيويورك الحكومية، 1975).
ذكر بكاء الخليفة عمر على اعتناق الآراميين للإسلام في كتاب كرون «أنبياء معاداة المهاجرين»، الصفحة 10.
ملاحظات البيروني على المندائيين موجودة في كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، الذي كتبه سنة 1000 ميلادية وهو في السابعة والعشرين من عمره. وكان هذا كتابه الثامن. لمعرفة المزيد عن البيروني، يمكن الاطلاع على «الموسوعة الإيرانية» (المتوفرة على
www.iranicaonline.org ). ذكرت ملاحظة سارتون في كتابه «مقدمة في تاريخ العلم» (ويليامز آند ويلكينز، 1927). واقتباس ابن قتيبة مأخوذ من كتاب ديمتري جوتاس «الفكر اليوناني والثقافة العربية» (روتليدج، 1998).
استخدمت نسختي العربية من كتاب كنزا ربا، وتوجد نسخة مترجمة إلى الإنجليزية متاحة الآن. وقرأت كتاب ويلفريد ثيسيجر «عرب الأهوار» بطبعة لونجمان لعام 1964. وترجم جزء من «إدراشا إد يهيا» (كتاب يوحنا) في كتاب «يوحنا المعمدان الغنوصي» لجي آر إس ميد، الذي أعاد نشره يورجن بيك (ألتنمونستر، 2012).
وصفت البيئة الدينية في أواخر الإمبراطورية الرومانية في كتاب «عالم مليء بالآلهة: الوثنيون، واليهود، والمسيحيون في الإمبراطورية الرومانية»، لكيث هوبكنز (ويدنفيلد آند نيكلسون، 1999). ووردت إحصاءات السكان اليهود في العراق قبل مجيء الإسلام في كتاب موروني «العراق بعد الفتح الإسلامي»، الصفحة 308؛ وكان هذا الكتاب أيضا مصدرا حول موضوع بقاء الوثنية في العراق. أثار اهتمامي بالحركات المرقيونية وما شابهها في الأصل كتاب «الكنيسة الأولى» لهنري تشادويك (بينجوين، 1993).
جاءت المعلومات عن المانوية من كتاب ابن النديم «الفهرست» الذي ترجمه بايارد دودج (دار نشر جامعة كولومبيا، 1970)؛ وكتاب صموئيل إن سي ليو «المانوية في الإمبراطورية الرومانية اللاحقة والصين في العصور الوسطى» (دار نشر جامعة مانشستر، 1985)؛ وأطروحة بيتر براون «انتشار المانوية في الإمبراطورية الرومانية» المنشورة في مجلة «جورنال أوف رومان ستديز»، 1967. وأخذت الاقتباسات من كتاب «الاعترافات» لأغسطينوس من ترجمة باين كوفين (بينجوين، 1961). يمكن الاطلاع على صلاة الجنازة المندائية بالكامل على
http://gnosis.org/library/tsod.htm .
ترجم كرامر القصيدة السومرية «أيام الدراسة» في الأصل عام 1949؛ وقد استخدمت هنا ترجمة إيه آر جورج، 2005. وصلاة «الأومانو» مأخوذة من كتاب «تاريخ علم التنجيم»، لبيتر ويتفيلد (المكتبة البريطانية، 2001). ورد الاقتباس الخاص ببرج أرستقراطس في كتاب «تاريخ علم التنجيم» لديريك وجوليا باركر (لندن، دويتش، 1983). وملاحظة هيرودوت على عادات الاغتسال البابلية موجودة في كتابه «تاريخ هيرودوت»، الكتاب الأول: 198. ويأتي اقتباس دراور من هرمز عن «الملكي» في الصفحة 282 من كتاب «المندائيون في العراق وإيران».
تحدثت دراور عن غضب الكهنة في الصفحة العاشرة من كتاب «آدم السري» ووصفت كرون في الصفحة 270 من كتاب «المندائيون في العراق وإيران». وصف دنانوخت هو ترجمة من كتاب كنزا ربا، التي أعاد صياغتها إليوت واينبرجر من أجل كتابه «شيء أولي» (نيو دايركشنز، 2007). وذكرت دراور علاج دمل بغداد في كتاب «على ضفاف دجلة والفرات» (هيرست آند بلاكيت، 1923)، الصفحة 228. وتعويذة ليبات موجودة في كتاب «المندائيون في العراق وإيران»، الصفحة 26. ذكرت تميمة بيل ونابو في مقالة دراور «كتاب مندائي عن السحر الأسود،» المنشورة في مجلة «جورنال أوف رويال أسياتيك سوسايتي»، المجلد 75 (أكتوبر 1943). ويمكن رؤية تميمة العقرب وبوابة بابل التي أعيد بناؤها في متحف بيرجامون في برلين.
يمكن الاطلاع على تقرير جماعة حقوق الإنسان المندائية لعام 2011 على
www.mandaeanunion.com/images/MAU/MHRG/MHRG_Docs/MHRG
20
20Report
202011.pdf .
الفصل الثاني: الإيزيديون
زرت لالش في يوليو 2011، والتقيت بإيزيديين في الولايات المتحدة في عام 2012 ثم مرة أخرى في عام 2013. أنا ممتن لأولئك الذين تحدثوا معي، الذين ذكرت أسماؤهم في الكتاب؛ والأهم من ذلك، أود أن أخص بالذكر ميرزا إسماعيل، الذي تكرم علي بوقته، وأبا شهاب، الذي تفضلت أسرته بالاهتمام بي في بوفالو، نيويورك. وفي نبراسكا، قدم لي باسم مقدمة رائعة عن مجتمعه. ولم يبخل أعضاء المجلس الروحاني للإيزيديين علي بوقتهم، وكذلك فعل خيري بوزاني، وعياد، ودخيل. وقد تفضل البروفيسور فيليب كرينبروك بتصحيح بعض أخطائي الأولى، وهو غير مسئول بالطبع عن أي أخطاء ربما تكون قد بقيت.
لمزيد من المعلومات حول الإيزيديين، توجد بعض المواد المفيدة على
www.lalish.de . وللكتب العامة عن الإيزيديين، أقترح كتاب «الإيزيديين: دراسة في البقاء» لجون إس جيست (روتليدج، 1987)، وكتاب إي إس دراور «الملاك الطاووس» (جون موراي، 1941)، وكتاب فيليب كرينبروك «الإيزيدية: خلفيتها، وشعائرها، والتراث المكتوب» (دار نشر إدوين مولين، 1995).
وللحصول على تفاصيل حول سنجار، أدين بالفضل للأطروحة الإلكترونية لنيليدا فوكارو بجامعة دورهام عام 1994 بعنوان «جوانب من التاريخ الاجتماعي والسياسي لمقاطعة الإيزيديين في جبل سنجار (العراق) في ظل الانتداب البريطاني، 1919-1932». والتفاصيل الخاصة بتاريخ الرها وحران مأخوذة في الغالب من كتاب «الرها: المدينة المباركة» لجيه بي سيجال (دار نشر كلارندون، 1970). ويمكن قراءة كتاب «رحلات إجيريا» في نسخة من ترجمة جون ويلكنسون (أريس آند فيليبس، 1999).
جاءت عبارة «فليعن الرب الروم» من كتاب والتر إميل كايجي «هرقل، إمبراطور بيزنطة» (دار نشر جامعة كامبريدج، 2003). وسورة الروم هي السورة الثلاثون في القرآن. واستخدمت ترجمة بول ألان بوليو لنقش نابونيد، المتوفرة على الإنترنت على
www.livius.org . وملاحظة الشهرستاني عن الصابئة تأتي من كتابه «الملل والنحل». وروى ابن النديم قصة الحرانيين في كتابه «الفهرست» المجلد الثاني: 14-17. واقتباس ثابت بن قرة مأخوذ من كتاب «نشأة الإسلام» لبيركي.
يعتبر كتاب يارون فريدمان «النصيرية-العلوية» (بريل، 2009) دراسة شاملة لما يعرف عن العلويين من مصادر العصور الوسطى. ووصفت تجارب القس صموئيل لايد في كتابه «نصيرية بلاد الشام: اللغز الآسيوي المتجلي في تاريخ نصيرية بلاد الشام ودينهم ووضعهم الحالي» (لونجمانز، جرين، 1860). ورد على الإنترنت أن كتاب «ما بعد القمر» هو أحد منشورات دار الشمال في بيروت، لكنني لم أستطع العثور على نسخة منه. ولذلك اعتمدت على مراجعة له أعدتها ندرة اليازجي ونشرت في المجلة الإلكترونية «المعابر» في نوفمبر 2003 (متوفرة باللغة العربية على
http://maaber.50megs.com/issue_november03/books4.htm ). وورد اقتباس جاكوب دي فيترياكو في كتاب لايد «نصيرية بلاد الشام».
وتأتي إشارة ماركو بولو إلى الأكراد في ترجمة رونالد لاثام لكتاب «رحلات ماركو بولو» (بينجوين، 1958). ويصف كتاب «النساطرة وطقوسهم» لجي بي بادجر (جوزيف ماسترز، 1852)، ما لاقاه بادجر في شمال العراق، بما في ذلك الطقوس الإيزيدية، والسنجق، وصلاة الشيخ عدي المذكورة في هذا الفصل. ويعتبر كتاب ماتي موسى «الشيعة المتطرفون: طوائف الغولات» (دار نشر جامعة سيراكيوز، 1987) مصدري عن الشبك. وكان كتاب «نينوى وبقاياها» لعالم الآثار إيه إتش لايارد (جون موراي، 1849) مصدر الملاحظات المنسوبة هنا إلى لايارد.
درس لويس ماسينيون حياة الحلاج بعمق وتعاطف في كتابه «آلام الحلاج»، المتاح باللغة الإنجليزية في نسخة من ترجمة هربرت ميسون (دار نشر جامعة برينستون، 1982). وكتب هربرت ماسون سيرته الذاتية القصيرة والمفيدة في كتابه «الحلاج» (كارسون، 1995).
اقتباس مونتانوس مأخوذ من كتاب كرون «أنبياء معاداة المهاجرين». واقتباسات يوسف بوسنايا وإسحاق النينوي مأخوذة من كتاب كريستوف باومر «كنيسة المشرق»، الصفحتين 134-5. كما أنني استعنت بكتاب «رابعة وزميلاتها المتصوفات في الإسلام» لمارجريت سميث (دار نشر جامعة كامبريدج، 1928).
ويتوفر وصف بلوتارخ لقرابين الهووما في الكهوف في كتابه «إيزيس وأوزوريس»، الفصل 46. وكلمات يوحنا ابن الفنكي مقتبسة من كتاب «نشأة الإسلام» لبيركي.
الفصل الثالث: الزرادشتيون
زرت إيران في صيف عام 2006. وزرت مدينة بلخ في ربيع عام 2008. إنني ممتن جدا للمنظمة الزرادشتية العالمية ورئيسها السابق شاهين بخرادنيا، وكذلك للصناديق الاستئمانية الزرادشتية في أوروبا، على تعاونهم الطيب. لقد تلقيت كرم الضيافة والترحيب الحار عدة مرات في معبد النار الزرادشتي في راينرز لين، لندن.
تعتبر ماري بويس خبيرة من خارج الطائفة في أمور الزرادشتيين لدرجة أنني رأيت صورتها معلقة في معبد النار في لندن. وقد استفدت كثيرا من كتبها عند كتابة هذا الفصل: على وجه الخصوص كتابها «الزرادشتيون: معتقداتهم وممارساتهم الدينية» (روتليدج آند كيجان بول، 1979) وكتابها «معقل فارسي للزرادشتية» (دار نشر كلارندون، 1977). يوجد كتاب أقدم عن الديانة الزرادشتية ولكنه مهم ومحفز للتفكير هو كتاب آر سي زينر «الزرادشتية: الفجر - الغروب» (ويدنفيلد آند نيكلسون، 1961). ويتتبع كتاب بول كريوازك «بحثا عن زرادشت» (كنوبف، 2003) التأثير الأوسع نطاقا للدين حتى يومنا هذا.
إن مفهوم الزرادشتيين عن دينهم يختلف إلى حد ما من مؤمن إلى آخر، لذلك لا يوجد كتاب واحد يشرح ذلك. ومن ضمن التفسيرات الزرادشتية لإيمانهم كتاب «دين زرادشت» لآي جيه إس تارابوروالا (سازمان فارافاهار، 1980) بالإضافة إلى كتاب «دين البارسيين»، الذي يضم حديث داداباي ناوروجي في عام 1861 إلى جمعية ليفربول الأدبية والفلسفية.
ومن أجل فهم أشمل لإيران، توجد مجموعة هائلة من الخيارات. وقد استمتعت بشكل خاص بكتاب روي متحدة «بردة النبي: الدين والسياسة في إيران» (ون وورلد ، 2008). وأوصي أيضا بكتاب سعيد أمير أرجمند: «العمامة أمام التاج: الثورة الإسلامية في إيران» (دار نشر جامعة أكسفورد، 2009).
استشهد ريتشارد فولتز بانتقادات شابور للمسيحية في كتاب «أديان طريق الحرير» (بالجريف ماكميلان، 2010). ووردت ملاحظات هيرودوت عن التعليم الفارسي في كتابه «تاريخ هيرودوت»، المجلد الأول: 136. المقتطفات من الأفستا مأخوذة من النسخة التي ترجمها دي جيه إيراني على
www.zarathushtra.com . والنص المقتبس من سفر دانيال (12: 2) مأخوذ من الترجمة الإنجليزية الحديثة للكتاب المقدس، المتاحة على الإنترنت على
netbible.com . ملاحظات نيتشه حول الأخلاق مأخوذة من مقدمة كتابه «هكذا تكلم زرادشت»، الذي ترجمه توماس كومون وصدر كتابا إلكترونيا تابعا لمشروع جوتنبرج في عام 2008. ووردت لقاءات إدوارد براون مع الزرادشتيين والبهائيين في إيران في أواخر القرن التاسع عشر في كتابه «عام بين الفرس» (آدم آند تشارلز بلاك، 1893)، الذي كان أيضا مصدرا للقصيدة المنقوشة في برسيبوليس. واقتبست كلمات ديودور الصقلي من ترجمة بيتر جرين لكتاب «تاريخ هيرودوت» (دار نشر جامعة تكساس، 2006).
تأتي تفاصيل مأدبة الشاه من مقال لسبنسر بيرك لمجلة «هارفارد أدفوكات»، عدد شتاء 2012. ونشر راندوم هاوس في عام 2006 نسختي من كتاب «خالي العزيز نابليون» لإيرج بزشك زاده. وردت ملاحظة الشاه في كتاب وزير التربية والتعليم آنذاك، منوتشهر كانجي، «تحدي الثورة الإيرانية» (بريجر، 2002). وصدر إعلان آية الله بأن وصايا الفقيه الحاكم مثل وصايا الله في عام 1988 وسجله أرجمند في كتابه «العمامة أمام التاج»، الصفحة 34.
يكتب هيرودوت عن التضحيات الفارسية في كتابه «تاريخ هيرودوت»، الصفحة 96. ووردت الاقتباسات المأخوذة من «الشاهنامه» في ترجمة ديك ديفيس (فايكنج، 2006). وكان كتاب كرون «أنبياء معاداة المهاجرين» هو مصدر الأسطر التي اقتبستها عن الشاعر العربي الجعدي. وتأتي عبارة «فإن دينهم أن يقتل العرب» من قصيدة للقائد الأموي نصر بن السيار، في إشارة إلى أتباع أبي مسلم الإيرانيين. وأرشدني كتاب بويس «الزرادشتيون» إلى الكاتب النرشخي، الذي هو مصدر رواية أعمال الفاتحين العرب في بخارى.
ترد تجربة كسروي في كتاب متحدة «بردة النبي ». وجاء رأي الخميني بأن أفلاطون «رزين وحكيم» في كتابه «كشف الأسرار»، حيث وصف أرسطو أيضا بأنه «رجل عظيم »؛ يمكنك الاطلاع على
www.irdc.ir/en/content/19569/print.aspx .
وصف كتاب براون «عام بين الفرس» لقاءاته مع الزرادشتيين والبابيين. وأخذت قصائد «ديوان حافظ» من ترجمة جيرترود بيل (دابليو هاينمان، 1897).
اقتبست كلمات هاتريا من تقريره لعام 1854 لجمعية تحسين ظروف الزرادشتيين في بلاد فارس (الذي يمكن قراءته، على سبيل المثال، في محاضرة الدكتور داريوش جهانيان «تاريخ الزرادشتيين بعد الغزو العربي» على موقع الويب الخاص بمركز الدراسات الإيرانية على
www.cais-soas.com/CAIS/History/Post- Sasanian/zoroastrians_after_arab_invasion.htm ). واقتباس «آخر تحويل قسري جماعي للزرادشتيين»، وإحصاء انخفاض عدد الكهنة في يزد، وخطاب حاملي النعش كلها مأخوذة من كتاب بويس «معقل فارسي للزرادشتية». يكتب هيرودوت عن الشعائر الجنائزية في كتابه «تاريخ هيرودوت»، الصفحة 99. ونقلت شبكة سي إن إن كلمات خامنئي على عيد التشهارشنبه-سوري في السادس عشر من مارس 2010:
http://edition.cnn.com/2010/WORLD/meast/03/15/iran.new.year.crackdown .
ساعدني موقع تاريخ البرلمان الإلكتروني (المتوفر على
www.historyofparliamentonline.org ) في بعض التفاصيل حول حياة داداباي ناوروجي، التي جمعتها أيضا جزئيا من تقارير الصحف ومن كتاب «داداباي ناوروجي: سيد الهند المسن العظيم»، للسير رستم بيستونجي ماساني (ألين آند أنوين، 1939).
وأخذت بعض الإحصائيات والملاحظات المقتبسة عن النادي الزرادشتي للكريكيت من كتاب جون هينيلز «تشتت الزرادشتيين: الدين والهجرة» (دار نشر جامعة أكسفورد، 2005).
الفصل الرابع: الدروز
لقد زرت لبنان عدة مرات بين عام 2000 وحتى يومنا هذا، لكن معظم اللقاءات في هذا الفصل كانت خلال رحلة مخصصة للقاء الدروز في عام 2011. وكانت هذه الزيارة مثمرة بشكل كبير بفضل دعم ومساعدة السفيرة البريطانية، فرانسيس جاي، وصديقنا المشترك، ربيعة قيس. وقد صحح نديم شحادة من المعهد الملكي للشئون الدولية في لندن بعضا من معلوماتي المغلوطة عن تاريخ لبنان الحديث، وانضم إلي في البحث عن كتاب «ما بعد القمر».
أشعر بالامتنان الشديد لأولئك الذين التقوا بي في لبنان، ولا سيما وليد جنبلاط، والأمير طلال أرسلان، والدكتور سامي مكارم من الجامعة الأمريكية في بيروت، والشيخ علي زين الدين. وكذلك أود أن أشكر الراحل أبا محمد جواد، هذا الرجل الورع الذي حزن الدروز كثيرا عندما توفي عام 2012. قدم لي إياد أبو شقرة بعض الأفكار المفيدة حول وجهة نظر الطائفة بشأن تناسخ الأرواح. وأهداني عباس الحلبي كتابه المذكور لاحقا. عندما عدت إلى لبنان عام 2012 لمناقشة الديانة العلوية، تكرم بمقابلتي كل من رفعت عيد، وبدر ونوس، والشيخ أحمد العاصي.
يوجد ما يكفي من الكتب عن الدروز لإثبات قائمة مصادر، على سبيل المثال: كتاب «الدروز: قائمة مصادر مزودة بحواشي»، لسامي سويد (آي إس إي إس، 1998). وتشمل الكتب العامة عن الديانة الدرزية كتاب «الدروز» لروبرت برينتون بيتس (دار نشر جامعة ييل، 1988)، وكتاب «العقيدة الدرزية» لسامي مكارم (كارنارفون بوكس، 1974)، وكتاب «تاريخ الدروز» لقيس فيرو (بريل، 1992)، وكتاب «الدروز: حقائق ومفاهيم»، الذي حرره كمال صليبي (مؤسسة التراث الدرزي، 2006)، وكتاب «أصول الدروز وديانتهم» لفيليب خوري حتي (دار نشر جامعة كولومبيا، 1928). وقد انتقد الدروز الذين التقيت بهم هذا الكتاب الأخير؛ لعدم إعجابهم ببعض الاستنتاجات الواردة فيه. ومع ذلك، فهو يكرمهم بإعلان أن اللغز الدرزي «واحد من أكثر الألغاز المحيرة في تاريخ الفكر الديني».
أعطاني شيخ العقل دليلا رسميا موجزا للديانة الدرزية: كتاب «مسلك التوحيد»، الصادر سنة 1431 هجرية/2010 ميلادية عن ديوان مشيخة الدروز. ويشكل كتاب «الدروز: العيش مع المستقبل»، لعباس الحلبي (دار النهار، 2006)، جزءا من توجه سائد بين المثقفين الدروز للتساؤل حول كيفية إبقاء دينهم السري على قيد الحياة في عالم تسوده العولمة.
كلمات ماثيو أرنولد مأخوذة من قصيدته «شاطئ دوفر».
بين عامي 2009 و2011 اكتشفت مؤسسة جالوب أن ستة وسبعين بالمائة من البالغين اللبنانيين لن يعترضوا على انتقال شخص من ديانة مختلفة للعيش بجوارهم؛ وهي نسبة تزيد عن النسبة المسجلة في المملكة المتحدة التي تبلغ سبعة وخمسين بالمائة، وفي إسرائيل التي تبلغ ثلاثة وعشرين بالمائة.
كتاب «حديقة النبي» لجبران متاح باللغة الإنجليزية على نطاق واسع، على سبيل المثال، من يو بي إس ببليشنرز (1996)، لكنني أضفت بعض التعديلات إلى الترجمة لتعكس النص العربي بشكل أفضل.
عبارة «مثل نمل أو ضفادع حول بركة» هي ملاحظة أدلى بها سقراط في كتاب أفلاطون «محاورة فيدون». وفيما يتعلق بفيثاغورس وإرثه ، أوصي بكتاب «المعارف التقليدية والعلوم في الفيثاغورية القديمة» لوالتر بوركرت (دار نشر جامعة هارفارد، 1972)، وكتاب «فيثاغورس والفيثاغوريون الأوائل» لليونيد زمود (جامعة أكسفورد، 2012)، وكتاب «المطرقة الخامسة»، لدانيال هيلر-روازن (زون، 2011)، الذي يتناول بشكل خاص اهتمام فيثاغورس بالموسيقى، وكتاب «قياس السماء» لكريستيان جوست-غوجير (دار نشر جامعة كورنيل، 2006)، الذي يناقش الاهتمام الأوروبي (أي المسيحي) في العصور الوسطى بفيثاغورس.
الكتاب العربي «فيثاغورس» الذي قرأته في بيروت كان من تأليف هوبرت هوسون (1947) وترجمه شوقي داود تمراز. ونشر مقال فيثاغورس في عدد خريف 2013 من مجلة «الضحى» ببيروت. واقتبس مرسوم جستينيان من كتاب «وقائع» جون مالالاس، 18: 46، وترجمته إليزابيث جيفريز، ومايكل جيفريز، وروجر سكوت (الرابطة الأسترالية للدراسات البيزنطية، 1986)، وهو أيضا ما يخبرنا بباقي الأحداث. «ما علاقة أثينا بأورشليم؟» كان سؤالا بلاغيا طرحه المجادل المسيحي ترتليان في كتابه «علاج الهراطقة»، الفصل السابع.
يقدم كتاب «إخوان الصفا» لجودفرويد دي كالاتي (ون وورلد، 2005) مزيدا من التفاصيل عن جماعة إخوان الصفا وخلان الوفا الغامضة. ونشرت دار نشر جامعة أكسفورد طبعة كاملة من «رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا» في عام 2008، التي حررها نادر البزري. وفتوى ابن تيمية هي الفتوى رقم خمسة وثلاثين في كتاب «مجموع الفتاوى» لابن تيمية، الذي حققه ابن قاسم وابنه محمد (مطابع الرياض، 1961-1967) ويمكن الاطلاع عليها على موقع
http://archive.org/stream/mfsiaitmmfsiaitm/mfsiaitm35#page/n159/mode/2up . كتاب نجلاء أبو عز الدين المشار إليه في هذا الفصل هو «الدروز» (أبريل 1984).
لفهم الأفلاطونية المحدثة، يمكن الحصول على أفضل رؤية من كتاب «التاسوعات» لأفلوطين، المتوفر باللغة الإنجليزية في نسخة من ترجمة ستيفن ماكينا (جون ديلون، 1991). ومن الكتب التي تدرس الطرق التي اعتمد بها المسلمون الأوائل الأفلاطونية المحدثة وكيفوها، كتاب «رفيق كامبريدج للفلسفة العربية» (دار نشر جامعة كامبريدج، 2005)، وكتاب «الأفلاطونيون الجدد المسلمون» لإيان ريتشارد نيتون (جورج ألين آند أنوين، 1982)، والكتاب المفيد بشكل خاص «الفكر اليوناني، الثقافة العربية» لجوتاس. ويشرح كتاب «تاريخ قصير للإسماعيليين» لفرهاد دفتري (دار نشر جامعة إدنبرة، 1998) المزيد عن السياق الإسلامي الإسماعيلي الذي انبثق منه الدروز. ويعتبر كتاب «خليفة القاهرة» لبول إي ووكر (دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2010) سيرة ذاتية للحاكم بأمر الله.
يمكن الاطلاع على البرقية الأمريكية التي نشرت على ويكيليكس على
https://www.wikileaks.org/plusd/cables/09BEIRUT972_a.html .
يحتوي كتاب «ذكريات دروز لبنان » لإيرل كارنارفون (جون موراي، 1860) على روايته لزيارته بلدة المختارة وتكهناته حول الديانة الدرزية. ويمكن قراءة مقالة هاسكيت سميث «دروز سوريا وعلاقتهم بالماسونية» المنشورة في دورية «أرس كواتور كوروناتورم» طبعة عام 1891. وحصلت على مزيد من المعلومات عن تاريخ الماسونية من كتاب «الحركة الماسونية: احتفال بالصنعة»، الذي حرره جون هاميل وآر إيه جيلبرت (كتب أنجوس، 1993). وترد ملاحظة حتي في كتابه «أصول الشعب الدرزي».
نشر خبر هجوم يوليو 2013 في صحيفة «ذا ديلي ستار» اللبنانية في الثالث والعشرين من يوليو 2013. ونشرت تعليقات صفاء علم الدين في مجلة «ذا ويكلي ستاندرد» في التاسع عشر من مايو 2014.
جاءت تفاصيل مصادرة الأراضي الإسرائيلية من مقالة موردخاي نيسان «الدروز في إسرائيل: أسئلة حول الهوية، والمواطنة، والوطنية» المنشورة في مجلة «ميدل إيست جورنال» المجلد 64، العدد 4 (خريف 2010). ويمكن قراءة الفصل العاشر من كتاب «عن حب الرب» للقديس برنارد من كليرفو على الموقع الإلكتروني للمكتبة الأثيرية للكلاسيكيات المسيحية،
www.ccel.org .
الفصل الخامس: السامريون
عشت في القدس مدة ثلاث سنوات بصفتي دبلوماسيا بريطانيا بين عامي 1998 و2001 وزرت السامريين مرتين خلال تلك الآونة، لكن قربان عيد الفصح الموصوف في هذا الفصل حدث في عام 2012. أود أن أشكر مجتمع السامريين وبيني تسيداكا على وجه الخصوص لتعاونهم ومساعدتهم، وكذلك ممثلتهم في لندن، فيليسيتي ديفونشاير.
تشمل الكتب العامة عن السامريين كتاب «تاريخ السامريين» لناثان شور (بيتر لانج، 1989) وكتاب «الحراس: مقدمة لتاريخ السامريين وثقافتهم» لروبرت تي أندرسون وتيري جايلز (هندريكسون، 2002). ومن الأعمال المرجعية الجيدة كتاب «الرفيق في الدراسات السامرية» لآلان ديفيد كراون، وراينهارد بومر، وأبراهام تال (موهر سيبيك، 1993).
ذكر لقاء يسوع عند بئر يعقوب في إنجيل يوحنا 4: 9. وقدم كتاب تيودور بارفيت «أسباط إسرائيل المفقودة» الكثير من المعلومات حول أسطورة الأسباط العشرة، التي يبدأ بها الفصل، وتأثيرها على الأوروبيين في العصور الوسطى. يأتي اقتباس سفر الملوك من الآية 17: 24. واقتباس التلمود البابلي مأخوذ من نسخة مترجمة للبروفيسور ماهلون إتش سميث متوفرة على
http://virtualreligion.net/iho/samaria.html .
تقدير عدد السكان السامريين في زمن يسوع مأخوذ من كتاب «السامريون» (موهر، 1989) لآلان ديفيد كراون، الذي قدر أعدادهم في الحقبة الهلينستية الرومانية في الصفحة 201. وتعاليم يسوع بتجنب المدن السامرية موجودة في إنجيل متى 10: 5، وزيارته الأولى هناك في إنجيل لوقا 9: 51؛ والاتهام بأنه كان سامريا مذكور في إنجيل يوحنا 8: 48؛ والسامريون الذين غيروا دينهم مذكورون في سفر أعمال الرسل 8: 14.
ملاحظات أنطونينوس من بياتشينزا مأخوذة من كتاب «الحجاج إلى أورشليم قبل الحروب الصليبية» لجون ويلكنسون (أريس آند فيليبس، 2002). ومصدر ملاحظة الحكيم عن الإسلام هو كتاب «موسى بن ميمون» لجويل كرامر (دوبلداي، 2010). ويرد تقييم شور للآثار الأولية للغزو العربي في الصفحة 93 من كتابه «تاريخ السامريين».
رسائل جوزيف اسكاليجيه مقتبسة من كتاب «قصة السامريين في رسالة إلى السيد جيه ... إم ...، المحترم» (آر ويلكين، نحو 1714). ويوجد اقتباس آخر في نهاية الفصل مأخوذ من هذا الكتاب.
في عام 2012، أعادت دار نشر جامعة كامبريدج نشر كتاب «رحلات ومغامرات القس جوزيف ولف». وفي عام 1828، نشرت دار كروكر آند بروستر «مذكرات القس بليني فيسك» لألفان بوند. وفي عام 1864، نشرت دار جون موراي كتاب «ثلاثة أشهر في نابلس» لجون ميلز.
واقتبس تعليق رئيس كهنة السامريين على تأسيس إسرائيل على يد دوجلاس في داف، وكان شرطيا بريطانيا في فلسطين خلال حقبة الثلاثينيات وألف الكثير من الأعمال وسجل تجاربه في كتاب «صورة فلسطين» (هودر آند ستوتن، 1936). وتأتي ملاحظة إتش في مورتون في كتابه «على خطى يسوع» (ريتش آند كوان، 1934). وملاحظة شور «ربما تكون المجموعة الأصغر» موجودة في الصفحة 11 من كتابه «تاريخ السامريين».
أجريت دراسة علم الوراثة لعام 2010 على يد جيل أتزمون، ولي هاو، وآخرون ونشرت في مجلة «أمريكان جورنال أوف هيومان جينيتيكس»، المجلد 86 (الحادي عشر من يونيو 2010). وأعد بيدونج شين وتال لافي، وآخرون بحثا عام 2004 الذي نشر في مجلة «هيومان ميوتاشن» المجلد 24 (2004) ويمكن قراءته على
http://evolutsioon.ut.ee/publications/Shen2004.pdf .
ووصفت أعمال التنقيب التي قام بها إسحاق ماجن في المعبد السامري في مقال بعنوان «معبد إسرائيل الآخر»، في دورية «دير شبيجل إنترناتسونال»، أبريل 2012.
الفيلمان الوثائقيان الإسرائيليان اللذان أنتجا عن السامريين هما «السامريون الجدد» (نيو ساماريتنز) (جورنيمان بيكتشرز، 2007) و«السامري الوحيد» (لون ساماريتن) (هايمان بروذرز فيلمز، 2010).
ورد وصف حياة يعقوب الشلبي في «إشعارات السامريين المعاصرين»، لإي تي روجرز (سامبسون لو آند صن، 1855).
واقتبس التقييم الإيجابي لمبعوث اللورد روتشيلد للعلاقات السامرية المسلمة في كتاب شور «تاريخ السامريين»، الصفحة 194.
أغنية البحر من سفر الخروج 15: 1-18.
الفصل السادس: الأقباط
عشت في مصر مدة عام من 1997 إلى 1998، وعدت مرتين لكتابة هذا الفصل: مرة في أبريل 2011، ومرة في مايو 2012. خلال هذه الزيارة الأخيرة أمضيت أسبوعا في المنيا.
أشعر بالامتنان الشديد للدكتور كورنيليس هولسمان ومجلته «تقارير العرب والغرب» على مقدماتها ومعلوماتها. فهذه المؤسسة الخيرية تحاول إنتاج تحليل موضوعي للعنف بين المسلمين والمسيحيين في مصر، ويمكن زيارة موقعها الإلكتروني على
www.arabwestreport.info . كما أنني ممتن لمن ورد ذكرهم في النص: طارق العوضي، وجورج إسحاق، ويوسف سيدهم. وكذلك أود أن أشكر الأب يوأنس من قرية قفادة الذي تفضل بأخذي في جولة ليريني رعيته في عدة أيام متتالية. لم تذكر أسماء آخرين في النص، ولكن ذلك ليس لعدم تقدير لكرمهم في منحي وقتهم وأفكارهم.
من الكتب المفيدة بشأن الأقباط بشكل عام، كتاب «المسيحية في أرض الفراعنة» لجيل كامل (روتليدج، 2002)، وكتاب «المسيحية القبطية في ألفي عام» لأوتو ميناردوس (دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 1999). وعن العلاقات بين الأقباط والمسلمين، قرأت كتاب «المسيحيون في مواجهة المسلمين في مصر الحديثة» لسناء حسن (دار نشر جامعة أكسفورد، 2003)، وهو كتاب يتعارض محتواه إلى حد ما مع عنوانه القاتم، حيث ألفته مصرية مسلمة ويتعاطف بشدة مع الأقباط وإن لم يخل من الانتقاد؛ ووثيقة «أقباط مصر» الصادرة عن المنظمة الدولية لحقوق الأقليات، التي كتبها سعد الدين إبراهيم وآخرون، ونشرت عام 1996، وكتاب «الأقباط والمسلمون»، لقرياقص ميخائيل (سميث، إلدر، 1911)، وكتاب «الوطن المفقود»، لصموئيل تادروس (دار نشر معهد هوفر، 2013).
أيضا تناول كاتب الرحلات أنتوني ساتين بقاء العادات القديمة في مصر، دون إيلاء الكثير من التركيز على الأقباط، في كتاب «ظل الفرعون» (إيلاند، 2012). ويحتوي كتاب ماكس رودينبيك «القاهرة: المدينة المنتصرة» (فينتاج، 2000) على تاريخ المدينة الممتاز منذ تأسيسها في العصور الوسطى للإسلام. وأوصاني الأوزوريتس بكتاب «فجر الضمير» للكاتب جيمس برستيد (ماكميلان، 1976) للأدلة على الرقي الروحي للمصريين الأوائل. وأوصاني أكثر من مصري بكتاب «الناس في صعيد مصر»، لوينيفريد بلاكمان (هاراب، 1927)، كدليل للعادات القديمة التي لا تزال تمارس.
إن عدد الأقباط في مصر مسألة مثيرة للجدل. فوفقا لتعداد السكان المصري الرسمي، مثل الأقباط 8,34 بالمائة من السكان عام 1923، و5,87 بالمائة عام 1986، ونحو 5,50 بالمائة عام 2000. وفي مجلة «معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان بالقاهرة» المجلد 29 (2012)، يدافع كورنيليس هولسمان عن نتائج تعداد السكان في مواجهة الشكوك التي عبر عنها العديد من الأقباط، الذين يقدرون أعدادهم بنسبة تصل إلى عشرين بالمائة من السكان.
ذكر مصريو صحراء أولاه في ابتهال الراهب أنجوس، الذي يعود إلى سنة 799. وناقش محرر مجلة «ميدل إيست جورنال» هذا الأمر في مدونة من عام 2009:
http://mideasti.blogspot.co.uk/2009/03/saint-patricks-day-special- patrick-and.html . ويصف ديميتريوس الفالرومي ترتيل الحروف المتحركة السبعة في كتابه «عن الأسلوب»، الفصل الحادي والسبعين. ووفقا لوكالة الروم الكاثوليك جمعية رعاية الشرق الأدنى الكاثوليكية، بلغ عدد الأقباط الكاثوليك 162 ألفا في تقدير فبراير 2013. وتعليق هيرودوت على التدين المصري موجود في الصفحة 143 من ترجمة دي سيلينكور لكتاب «تاريخ هيرودوت». وبعد عشر سنوات من استطلاعات الرأي في مصر، خلص شبلي تلحمي في ورقة بحثية لمؤسسة بروكينجز بعنوان «أزمة الهوية في مصر»، بتاريخ السادس عشر من أغسطس 2013، إلى أن «المصريين يرون أنفسهم أكثر الشعوب تدينا في العالم».
اقتباس جلجامش مأخوذ من ترجمة جورج (راجع ملاحظات الفصل الأول). ونقش القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد مأخوذ من ترجمة صموئيل مرسير في عام 1952 لكتاب «متون الأهرام».
كان المؤرخ اليوناني بلوتارخ، في الفصل الثالث والأربعين من كتابه «إيزيس وأوزوريس»، هو من أخبرنا أنه في وقته أطلق المصريون على الاعتدال الربيعي اسم «قدوم أوزوريس إلى القمر» (ترجمة بابيت؛ مكتبة لوب الكلاسيكية، 1936). وترنيمة أخناتون مأخوذة من كتاب سيريل ألدريد «أخناتون، ملك مصر» (تيمز آند هدسون، 1991). وكتب الدكتور أمين مكرم عبيد عدة كتب عن الدين والثقافة في مصر بما في ذلك «مصر على مفترق طرق» (الحضارة، 2010). وهو الذي روى لي قصة القبطيات اللائي غنين ألحانا حزينة لمريضة أثناء إجراء عملية جراحية لها.
تسرد أطروحة «انتشار ختان الإناث بين الفتيات المصريات»، لتاج الدين وآخرين، في مجلة «نشرة منظمة الصحة العالمية» لشهر أبريل 2008 (
www.who.int/bulletin/volumes/86/4/07-042093/en ) بعض الاستطلاعات التي أجرتها الأمم المتحدة وغيرها التي تظهر الانتشار المرتفع بشكل ملحوظ لختان الإناث في مصر. ودعا مرجان الجوهري إلى تدمير أبي الهول والأهرامات في العاشر من نوفمبر 2012، خلال مقابلة على قناة دريم تي في المصرية.
فيما يخص دين ما قبل المسيحية في مصر، قرأت كتاب ماكس فرانكفورتر «الدين في مصر الرومانية»، الذي ورد فيه رثاء نقابة نحاتي الكتابة الهيروغليفية في مدينة أوكسيرينخوس على احتضار مهنتهم.
يرد سرد رحلات جيه إم فانسليب (المعروف أيضا باسم فانسليبين) في كتابه «علاقات جديدة لرحلة في مصر» (إليبرون كلاسيكس، نسخة طبق الأصل من إستيان ميتشالي باريس 1677). يروي المقريزي قصة كيف فقد أبو الهول أنفه في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»؛ وكان هذا الكتاب أيضا مصدر ملاحظاته على دير أبو فانا. ويمكن القراءة عن ويليام براون في كتاب «المسافر المعاصر» (كوثورن، 1800).
وفيما يتعلق بالهوس بالحضارة المصرية وتأثيره على القومية المصرية، فأنا مدين بالكثير لكتاب «فراعنة من؟ علم الآثار، والمتاحف، والهوية القومية المصرية من حملة نابليون إلى الحرب العالمية الأولى» لدونالد مالكولم ريد (دار نشر جامعة كاليفورنيا، 2002)، بما في ذلك اقتباسات طهطاوي والخديوي إسماعيل. ترد تعيينات إسماعيل في كتاب إيريس حبيب المصري «قصة الكنيسة القبطية» (دير القديس أنطونيوس القبطي، 1982). وفيما يخص أحداث 1919، بما في ذلك خطبة الأب سيرجيوس، فأنا مدين لكتاب «الوطن المفقود» لتادروس.
وصفت سناء حسن في الفصل الثالث من كتابها «المسيحيون مقابل المسلمين» أنشطة جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب الإسلامية الأخرى، وكذلك فعلت كاري روزفسكي ويكهام في كتابها «جماعة الإخوان المسلمين» (دار نشر جامعة برينستون، 2013). «آخر العرب» هو كتاب لسعيد أبو الريش (دكوورث، 2005). وجاء رقم خمسة وسبعين بالمائة الذي يمثل نسبة خسائر الأقباط جراء تأميم عبد الناصر من وثيقة «أقباط مصر» لإبراهيم وآخرين. ويخبرنا كتاب «الخروج من مصر» لأندريه أكيمان (فارار ستراوس جيرو، 1994) بطريقة مؤثرة كيف تشتتت الجالية المصرية المتنوعة التي نشأ فيها أكيمان اليهودي.
ووردت ذكريات كمال مغيث في مقال ياسمين فتحي بعنوان «ميم ... مسجد» على موقع «الأهرام أونلاين» في الرابع من مايو 2013. ونشرت صحيفة «روز اليوسف» مقابلة مهدي عاكف التي قال فيها «طز» في التاسع من أبريل 2006 (كما أفادت مجموعة الأزمات الدولية في مقال «الإخوان المسلمون بمصر»، في الثامن عشر من يونيو 2008). وتأتي الإشارة بنسبة الاثنين والتسعين بالمائة من استطلاع للرأي أجرته مؤسسة جالوب في مارس وأبريل 2011:
www.gallup.com/poll/157046/egypt-tahrir-transition.aspx#1 .
الأضرار الناجمة عن أعمال الشغب في المنيا تسردها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (التي أعطتني اسمي الرجلين اللذين ماتا) على موقعها الإلكتروني
www.eipr.org/en/content/2013/08/25/1796 . وورد التقدير بأن خمسة وستين بالمائة من أعمال العنف تحدث في المنيا في مقال لسليمان شفيق في جريدة «وطني» بتاريخ الخامس عشر من فبراير 2014، متوفر على الإنترنت على
http://wataninet.com/watani_Article_Details.aspx?A=51783 . يمكن الاطلاع على إحصاءات الفقر والبطالة في المنيا في مقال بعنوان «محافظة المنيا في مصر: نقطة اشتعال العنف بين المسلمين والمسيحيين»، منشور على موقع «المونيتور»،
www.al-monitor.com/pulse/originals/2014/04/egypt-sectarian-violence- minya-province.html# . وإحصائيات استطلاع مركز بيو للأبحاث لعامي 2011-12 مأخوذة من التقرير الاستقضائي «مسلمو العالم: الدين، والسياسة، والمجتمع» المتوفر على
www.pewforum.org/2013/04/30/the-worlds-muslims-religion-politics- society-interfaith-relations .
لمزيد من التفاصيل حول المناهج الدراسية المصرية، بما في ذلك الإصلاحات الأخيرة، راجع «نهج جديدة في تصوير المسيحية في الكتب المدرسية المصرية»، لدكتور ولفرام ريس، القاهرة، نوفمبر 2006.
الفصل السابع: الكلاشا
زرت وديان الكلاشا في ديسمبر 2012. جاء ذلك بعدما كنت قد أمضيت سنتين في أفغانستان بين عامي 2007 و2009 وزرت المناطق الشمالية من باكستان في عام 2008. «هيندوكوش هايتس» هو اسم الفندق الممتاز الذي أقمت فيه في شيترال، المملوك لسراج الملك. وأنا ممتن جدا له ولزوجته غزالة، وبشكل أخص لشعب الكلاشا، الذي استقبلني بلطف شديد. ويستحق عظيم بيك ووزير علي شاه إشادة خاصة. وتفضلت حميرة نوريستاني بمنحي رؤى ثاقبة لما يعنيه أن تكون أمريكيا أفغانيا معاصرا من أصل نورستاني، وساعدت في تصحيح التصور المأخوذ عن شعبها بأنه فقير ومتعصب.
الاقتباس في الفقرة الأولى مأخوذ من كتاب بيتر ماين «الابتسامة المحدودة» (موراي، 1955). والإشارات إلى رحلات الإسكندر الأكبر في الفقرة الثالثة تأتي من ترجمة مارتن هاموند لكتاب «أنباسة الإسكندر» لآريانوس (دار نشر جامعة أكسفورد، 2013). وردت ملاحظات ماركو بولو في ترجمة لاثام لكتاب «رحلات ماركو بولو» (بينجوين، 1958).
للقراءة عن سياق أحداث «اللعبة الكبرى»، وتفاصيل عن وفاة ألكسندر بيرنز، وقراءة ممتعة؛ أوصي بكتاب بيتر هوبكيرك «اللعبة الكبرى: عن الخدمة السرية في آسيا العليا» (جون موراي، 2006). لم تصل أخبار وفاة بيرنز إلى بريطانيا إلا في فبراير 1842، وهو التوقيت الذي نشرت فيه عدة نسخ من نعيه. وحرر الرائد هيو بيرس كتاب «مذكرات ألكسندر جاردنر» ونشرته دار نشر ويليام بلاكوود آند صنز في عام 1898.
في عام 1873، كتب مبشر بريطاني يدعى إي داونز «كافرستان: وصف للبلد، واللغة، والدين، وعادات كفار سياه بوش: اعتبار كافرستان على وجه الخصوص مكانا مناسبا للعمل التبشيري» (دبليو إي بول، 1873)، حيث لمح إلى وجود مخزون رائع من الذهب وإمكانية العثور هناك على نبات مثير للشهوة الجنسية، وربما يعود ذلك إلى شعوره بالحاجة إلى استرعاء اهتمام أقل روحانية بالمكان.
أسفرت زيارة ماكنير إلى كافرستان عن منشورين؛ أحدهما للجمهور العام، «زيارة إلى كافرستان» لدبليو دبليو ماكنير (ويليام كلوز آند صنز، 1884)، والآخر للحكومة الهندية، «تقرير عن الاستكشافات في جزء من شرق أفغانستان وكافرستان عام 1883» (دهرا دون، 1885). ومات بعد ذلك بوقت قصير، وكتب جيه إي هوارد سيرته الذاتية، «مذكرات دبليو دبليو ماكنير، أول مستكشف أوروبي لكافرستان» (كيمر، 1889). تعرض كتاب «داردستان وكافرستان: في ثلاثة أجزاء» (سوبرإنتيندينت جوفرنمنت برينتينج، الهند، 1885) لمحاولة بريطانية لفهرسة جزأين فقط، دون الجزء الخاص بكافرستان.
نشر كتاب جي إس روبرتسون «كفار هندوكوش» أول مرة في عام 1896، وأعاد الناشر اللاهوري سانج إي ميل طبعه في عام 2001. ويمكن رؤية تقريره السري للحكومة البريطانية في المكتبة البريطانية تحت عنوان «تقرير عن رحلة كافرستان» (إتش إم إس أوه، 1894). وسيرته الذاتية، «البطل غير المتوقع» لدوروثي أندرسون (سبيلماونت، 2008)، تدافع عنه أمام الاتهامات بأنه كان ينبغي عليه فعل المزيد لحماية الكفار. نشر جون موراي مذكرات عبد الرحمن خان، «حياة عبد الرحمن، أمير أفغانستان»، في عام 1900.
يأتي اقتباس ماكنجتن «ها هم أقرباؤك قادمون!» من حديث ألقاه ماكنير أمام الجمعية الجغرافية الملكية في يناير 1884، ومقتبس في كتاب هوارد «مذكرات دبليو دبليو ماكنير». واقتباس آلان بينيت مأخوذ من مسرحيته «تلاميذ صف التاريخ» (1995). نشر استطلاع الحمض النووي لعام 2014 بعنوان «أطلس جيني لتاريخ الاختلاط بين البشر»، لجاريت هيلينثال، وجورج بي جيه بزبي، وآخرين في مجلة «ساينس» في الرابع عشر من فبراير 2014، ويمكن الاطلاع على خريطة تفاعلية لبياناته على
http://admixturemap.paintmychromosomes.com .
ومن بين الكتب التي تتحدث عن أهل نورستان في مرحلة ما بعد تغيير ديانتهم، كتاب ماكس كليمبورج «كفار هندوكوش: الأعمال الفنية ومجتمع كفار وايجال وأشكون» (فرانز شتاينر فيرلاج، 1999). وأولى إريك نيوباي لنورستان بعض الاهتمام في مذكرات أسفاره «نزهة قصيرة في هندوكوش» (هاربر، 2010)، وزار ثلاثة دبلوماسيين مقيمين في كابول، هم نيكولاس بارينجتون، وجوزيف تي كيندريك، وراينهارد شلاجينتويت، المنطقة، وكتبوا انطباعاتهم عنها في كتاب «رحلة إلى نورستان: استكشاف المناطق النائية الأفغانية الغامضة» (آي بي توريس، 2005).
وكتب الأخوان ألبرتو وأوجستو كاكوباردو كتابا بعنوان «بوابات بريستان» (المعهد الإيطالي لأفريقيا والشرق، 2001) يتناول عادات كافرستان، والكلاشا، وسكان جلجت وهونزا المجاورتين. وترد ملاحظات آر سي إف شومبيرج على الكلاشا في كتاب «الكفار والأنهار الجليدية: رحلات في شيترال» (لندن، 1938)، الذي لم يعد متوفرا الآن. ورواية «الرجل الذي سيصبح ملكا»، لروديارد كيبلينج، متاحة من خلال دار نشر وردزورث إيديشنز في طبعة ثانية صدرت عام 1994.
كتب كتاب إم إس دوراني عن الكلاشا «كفار الكلاشا - الحاجة الملحة إلى إنقاذ شعب متلاش» عام 1982 ولكنه لم ينشر، لكنني وجدت نسخة في مكتبة إس أو إيه إس بجامعة لندن.
الخاتمة: ديترويت
أود أن أشكر الدكتورة إيلين رمان، ويوسف بركات، وجورج خوري، والإمام القزويني، ووسام بريجي، وميرزا إسماعيل، وأبا شهاب، والمجتمع الإيزيدي في نبراسكا.
المعلومات عن مسيحيي العراق مأخوذة من كتاب الدكتورة سها رسام «المسيحية في العراق» (جريسوينج، 2005) وكذلك من كتاب دكتور كريستوف بومر «كنيسة المشرق». وتطرق إلى قصة ماركوس في كتاب «رحالة من زانادو»، لموريس روسابي (كودانشا إنترناشونال، 1992). ونشر كتاب «قصتنا: المتحف العربي الأمريكي القومي» عام 2007. واستشهد بكتاب لوبيري في ملاحظات الفصل الأول.
ناپیژندل شوی مخ