وفيما كان الجمهور المرتعد يشاهد اللهب الأزرق الباهت في انفعال شديد، انحنى البروفيسور فجأة ونفخ فيه فأطفأه. فانتصب في وقفته مرة أخرى وقال: «ينبغي لي أن أعتذر إليكم؛ لأنني نسيت أمر بقعة الشحم الصغيرة. لو أن النار وصلت إلى بقعة النتروجلسرين لانفجرت المادة، كما تعلمون. إن المرء حين يركز تفكيره على أمر بعينه، فإنه يكون عرضة لنسيان أمر آخر. لن أجري مزيدا من التجارب على الديناميت.» ثم قال موجها حديثه إلى مرافقه المرتعش: «هاك يا جون. خذ هذا الصندوق بعيدا، وحركه بحرص شديد؛ لأنني أرى أن النتروجلسرين ينضح منه. وضعه بحرص بالغ في الغرفة المجاورة وكأنك تضع صندوقا من البيض.»
وعندما توارى الصندوق عن أعين الحضور، راح الجميع يتنفسون الصعداء في أنفاس شهيق عميقة تنم عن شعورهم بالارتياح.
ثم قال البروفيسور: «والآن أيها السادة، نأتي إلى المادة التي ستذهل أولي الألباب.» وعدل شعره براحة يده السليمة في حركة تنم عن شعوره بالرضا عن نفسه وراح يبتسم لمن حوله ابتسامات لطيفة. «إن المادة التي أنا على وشك أن أحدثكم عنها هي من اختراعي، وهي للديناميت كشرب حمض البروسيك في مقابل شرب الحليب الطازج.» ثم دس البروفيسور يده في جيب سترته وأخرج ما بدا وكأنه علبة من الحبوب. ثم أخذ حبة منها ووضعها على السندان وبينما تراجع إلى الخلف بضع خطوات على أطراف أصابعه راح يبتسم لها في حنو بالغ. «وقبل أن أبدأ بالحديث عن هذه المادة أريد أن أحذركم مرة أخرى من أنها ستنفجر وستحول لندن من هنا حتى تشارينج كروس إلى خراب وأطلال، وهذا إذا ما ضرب أي امرئ بقدمه على الأرض أو تحرك من مكانه، اللهم إلا إذا كان ذلك على أطراف قدميه. لقد قضيت عشرة أعوام من حياتي في إتمام هذا الاختراع. إن هذه الحبوب التي تساوي العلبة منها الملايين في مقدورها أن تشفي كل الآلام التي يعاني منها الإنسان.»
ثم قال وهو يلتفت نحو مرافقه: «أحضر لي يا جون حوضا من الماء!» ثم وضع حوض الماء أمامه على الطاولة في حذر شديد، وأفرغ البروفيسور كل الحبوب فيه ، ثم أخذ أيضا الحبة التي كانت على السندان ووضعها في الماء مع الأخريات.
ثم قال بعد أن تنهد تنهيدة عميقة: «والآن، يمكننا أن نلتقط أنفاسنا. يمكن أن يضع المرء إحدى هذه الحبوب في قنينة ماء صغيرة، ويضع القنينة في جيب سترته، ويذهب إلى ميدان ترافلغار ويخرج الحبة من القنينة، ويرمي بها في منتصف الميدان وستدمر كل شيء في نطاق دائرة نصف قطرها أربعة أميال، وسيحصل هو بنفسه على شرف الاستشهاد في سبيل القضية. وقد أخبرني الناس أن هذا هو أحد سلبيات اختراعي، لكنني أميل إلى الاختلاف معهم في الرأي. إن من يستخدم هذه الحبة لا بد أن يعقد عزمه على مشاركة من هم حوله في مصائرهم. ويمكنني القول إن هذا هو التتويج العظيم لاختراعي. فهذا الاختراع يضع اهتمامنا بقضيتنا العظيمة موضع اختبار لحظي. أحضر لي يا جون بحذر شديد الآلة ذات الوصلات الكهربائية من الغرفة المجاورة.»
وضعت الآلة على الطاولة، وقال البروفيسور وهو يمسك بشيء خفي بين طرفي إصبعيه السبابة والإبهام: «هذه هي أدق إبرة مصنوعة من خامة الكامبريك، وسأضع على طرفها جزءا ضئيلا من المادة التي تحدثت عنها.» وهنا انتقى بحذر شديد حبة من الحبوب الموجودة في حوض الماء، وبنفس درجة الحذر وضع الحبة على الطاولة حيث أخذ منها ذرة متناهية الصغر ووضعها على طرف الإبرة وقال: «هذا الجزء ضئيل للغاية بحيث لا يمكن رؤيته إلا باستخدام المجهر. والآن سأضع الإبرة وما عليها في الآلة وسأمرر إليها تيارا كهربيا.» وبينما كانت يده تتجه نحو زر التشغيل تعالت صيحات الجمهور قائلين: «توقف! توقف!» لكنه حط بإصبعه على الزر فوقع انفجار هائل في الحال. شعر الحضور أن البناية اهتزت من أساسها، وتكونت سحابة كثيفة من الدخان في سماء القاعة فوق رءوسهم. وحين تمكن البروفيسور من الرؤية مرة أخرى من خلال الدخان المنقشع، نظر حوله باحثا عن جمهوره. كان الجميع تحت المقاعد، وجاءت تأوهاتهم من جميع أرجاء القاعة. فقال البروفيسور بنبرة تنم عن القلق: «آمل أن أحدا لم يتأذ. أخشى أنني أخذت الكثير من المادة على طرف الإبرة، لكن هذا يجعل في مقدوركم تخيل التأثير الذي تحدثه كمية أكبر منها. من فضلكم اجلسوا في مقاعدكم مرة أخرى. هذه هي تجربتي الأخيرة.»
جلس الجمهور كل في مكانه مرة أخرى، فأطلق الجميع تنهيدة ارتياح أخرى. سحب البروفيسور كرسي رئيس المجلس نحوه وجلس فيه وهو يمسح جبهته.
وفي الحال نهض رجل وقال: «أود أن نشكر جميعا البروفيسور سليفرز على تلك التجارب الشيقة.»
رفع البروفيسور يده وقال: «لحظة واحدة، لم أنته بعد. لدي اقتراح أقدمه لكم. أترون سحابة الدخان التي تحلق فوق رءوسنا؟ في غضون عشرين دقيقة سيترشح هذا الدخان ويختلط بجو القاعة. أنا لم أخبركم إلا بنصف مزايا هذا الانفجار الهائل. حين يختلط هذا الدخان بجو القاعة سيصبح سما قاتلا. يمكننا جميعا أن نظل على قيد الحياة في أمان تام على مدى التسع عشرة دقيقة القادمة، ولكننا سنموت جميعا مع أول نفس نستنشقه بعد ذلك. إنها لميتة مريحة. لن يكون هناك ألم، ولن تكون هناك معاناة أثناء الموت، غير أنهم سوف يعثرون علينا في الصباح متصلبين وجامدين في مقاعدنا. إنني أقترح أيها السادة أن نعلم لندن الدرس المهم الذي تحتاج إليه بشدة. لا توجد قضية بلا شهداء يبذلون أرواحهم في سبيلها. لنكن نحن شهداء قضية اللاسلطوية العظيمة. لقد تركت في حجرتي أوراقا توضح كيف متنا وأسباب ذلك. وستوزع هذه الأوراق بحلول منتصف الليل على كل الصحف في لندن، وغدا ستذاع أسماؤنا النبيلة في كل أرجاء العالم. والآن سأطرح هذا الاقتراح إلى التصويت. فليرفع كل من يؤيده يده اليمنى كالمعتاد.»
وكانت يد البروفيسور اليمنى هي اليد الوحيدة المرفوعة.
ناپیژندل شوی مخ