الفصل الثالث عشر
دروس الأدب في المعاهد العالية
المعروف أن المعاهد العالية للتخصص: فهذا معهد يخرج الأطباء، وذاك معهد يخرج الرياضيين والمهندسين، وذلك معهد يخرج رجال الأدب أو رجال التشريع.
والتخصص من مزايا هذا الزمان، ومن آفات هذا الزمان. هو من المزايا لأنه يقصر طوائف من الناس على طوائف من العلوم، فنعرف إلى من نتوجه ومع من نتحدث فيذهب من يشكو الرمد إلى طبيب العيون، ويمضي مهيض الساق إلى الجراح، ويتوجه الممعود إلى الطبيب المختص بالأمراض الباطنية، وكذلك يفعل من تحرجه معضلة هندسية، أو مشكلة قانونية.
وهو من الآفات لأنه يورث الناس ضيق الذهن، وفقر العقل وخمود الإحساس، فالمهندس لا يرى من واجبه أبدا أن يفكر في تهذيب ذوقه بالنظر في بعض المؤلفات الأدبية أو الفنية، والمشرع لا يرى من واجبه أبدا أن يحرص على تثقيف عقله بالنظر في بعض المصنفات الرياضية أو الطبية، والأديب يرى أنه لم يخلق إلا لدرس آثار الشعراء والكتاب والوقوف على ألوان الأساليب.
وقد انتهز المتخصصون فرصة الغفلة الفاشية في هذا العهد فأعفوا أنفسهم من كل ما يعود بالنفع على الذهن والعقل والذوق، فصار الأديب يجالس الطبيب فلا يحس أنه يخاطب رجلا من أهل هذه الأرض، وإنما يخاطب مخلوقا من سكان المريخ، وصار أستاذ الأدب ينكر على طلابه أن يوجهوا إليه سؤالا في مشكلة نحوية أو صرفية، لأنه فيما يزعم غير مسئول عن علوم المبرد والكسائي وسيبويه، وإنما هو رجل تخصص في درس آثار الكتاب والشعراء والخطباء، وصار المحامي أو القاضي لا يسوءه أن يجهل الأوليات من المسائل الأدبية أو العلمية. •••
ذلك تصوير لمزايا التخصص ومساويه، وتصوير لأحوال المتخصصين في هذا الزمان.
وأقول بصراحة إني ثائر على التخصص الذي يصل بأصحابه إلى ذلك الحد من ضيق العقل، وقد حملت على هذا الضرب من التخصص أعنف الحرب، وكلفت نفسي ما تطيق وفوق ما تطيق في الطواف بعلوم كثيرة كان لها أثر ظاهر فيما أخرجت من المؤلفات الأدبية والفلسفية، وأحب أن يكون طلاب العلم والأدب في هذا الزمن من الثائرين على الإسراف في فهم التخصص ومن المقبلين على المشاركة في جميع الفنون، وإليهم يساق البيان:
كان أقطاب العلماء في الزمن القديم يجهلون التخصص، أعني أنهم لهم يكونوا يقصدون إليه قصدا، وإنما كانوا ينتهون إليه وفقا لوحي الفطرة والطبع، فالعلماء الخالدون من أمثال أرسطاطاليس وأفلاطون وابن سينا والفارابي وابن رشد والجاحظ وابن خلدون والقلقشندي ومحمد عبده وعبد العزيز جاويش، هؤلاء العلماء في التاريخ القديم والمتوسط والحديث لم يكونوا يعرفون التخصص، وإنما كانوا يفهمون أن من واجبهم أن يطلعوا على ما يمكن الإطلاع عليه من المعارف الإنسانية.
ولا يجهل أحد أن أمثال أولئك العلماء كانوا على جانب عظيم من التفوق والبصر بحقائق الحياة.
ناپیژندل شوی مخ