198

وحي بغداد

وحي بغداد

ژانرونه

وقفت أنظر كيف خدمنا بني آدم وكيف أتعبنا أجسادنا وأفقرنا جيوبنا لنسهل وسائل النفع ولنصل بين المشرقين والمغربين، ثم لا نجد من يتفضل بكلمة ثناء.

وسار القطار قبيل الصبح فبخلت على عيني بالهجود لأرى أطراف مصر من ناحية المشرق ولأنظر بساتين فلسطين.

ولم يكفني ما رأيت من فلسطين في الذهاب فقررت المرور عليها في الإياب لأتمتع باختراقها مرتين ولأقتنع بأنها بلاد جميلة جذابة تستحق ما ثار حولها من النضال.

ولم أبت في فلسطين إلا ليلة واحدة عند الرجوع، وكانت ليلة متعبة، فقد كان محرما على أهل حيفا أن يتجولوا بالليل، وكان من الحزم أن أقضي سهرتي في رحاب الفندق، وإن حرمني ذلك شهود المجتمع الفلسطيني في تلك المدينة البيضاء.

وأعود فأقول إني امتطيت سيارة في ذهابي من حيفا إلى بيروت وفي بيروت قضيت ليلة واحدة كانت أبقى أثرا من الليالي الطوال، مضيت أتنقل في بيروت من مكان إلى مكان بعد أن ألقيت أمتعتي في الفندق، ثم اتفق أن عرفني بعض الأدباء هناك فساقني ذلك إلى زيارة أكثر الجرائد واندفعت فجاذبت أهل بيروت أطراف الأحاديث، وعرفت ألوانا من عتابهم على مصر والمصريين، وقد تعقبوني بعد أن وصلت إلى العراق فكان بيني وبينهم مناوشات ستعرفون أخبارها حين أنشر كتاب «وحي بغداد».

ومن بيروت رحلت إلى دمشق مخترقا جبال لبنان، فرأيت من جمالها الأعاجيب، ولا أزال مفتونا بما شهدت في الموضع المعروف بسهل البقاع.

وفي دمشق رأيت الأستاذ محمد كرد علي والأستاذ عبد القادر المغربي وزرت بعض الزعماء وقضيت لحظات في مناجاة نهر بردي الذي خلده حسان.

ثم أسلمت نفسي إلى سيارة «نيرن» لأقطع الصحراء بين الشام والعراق ولأرى بنفسي كيف شقى أسلافنا بمخاطر البيداء.

كنت أعرف أني سأقضي أكثر من خمس وعشرين ساعة في ذلك السجن المتحرك، وكان ذلك يغرق نفسي في بحر من الانقباض، ولكن كان يعزيني ما عرفت من أننا سنستريح في كل مدينة تصادفنا في الطريق، ولم يكن في الطريق مدائن وإنما هناك محطتان هما الرطبة والرمادي.

وبعد ساعات من عبور الصحراء نظرت فرأيتنا مقبلين على مدينة فيحاء، مدينة تقع على نهر واسع تجري فيه سفائن بخارية وشراعية، فانشرح صدري، وقلت: سنستريح لحظات، ثم عجبت من جهلي بالجانب الجغرافي من ذلك الطريق، فما كنت أعرف أن هناك مدينة تقع على نهر عجاج، وترحمت على أستاذي إسماعيل بك رأفت الذي أسقطني في امتحانات الجامعة المصرية مرتين لقلة ما كنت أعرف من دقائق علم الجغرافيا وعلم وصف الشعوب.

ناپیژندل شوی مخ