كانت سهراتنا أول الأمر في منزله بشارع خلف، ثم صارت في منزله بشارع قصر العيني، ثم صارت بمنزله في عمارة الليسيه، وكنت أنا قطب الدائرة في تلك السهرات، ولا أدري كيف اتفق ذلك، فما أعرف أبدا أن المسيو دي كومنين أحب إنسانا في مصر كما أحبني، ولا أعرف أبدا أن المسيو دي كومنين اشتاق إلى صديق حين يغيب كما كان يشتاق إلي حين أغيب.
وفي تلك السهرات كان يتوافد إلى المنزل عشرات من أقطاب الرجال فيسمرون كيف شاءوا ثم يخرجون، وأبقى أنا، أبقى إلى أن يفوتني المترو، فينزل معي المسيو دي كومنين ويصحبني بسيارته الأمينة إلى منزلي بمصر الجديدة.
وقد طالت صحبتنا وطالت، وعرف المسيو دي كومنين ما ظهر وما خفى من شؤوني فكان يصادق من أصادق ويعادي من أعادي، وقد مرت بي ظروف حرجة جدا لم أجد فيها من يواسيني غير ذلك الصديق العظيم. •••
وفي أحد الأمسية كنت في مجلس أنس مع جماعة من الأصدقاء في صيف سنة 1931، ولكن المجلس تكدر علي بلا سبب أعرفه فقضيت السهرة وأنا حزين، وفي الصباح عرفت السبب فقد ذهبت إلى المسيو دي كومنين فوجدته في صورة أخطر وأفتك من صورة الأسد الغضبان، ورأيته قد كتب إلي خطابا سوده وبيضه نحو عشر مرات، وعند العتاب عرفت أن جماعة من الزملاء زاروه في المساء وترجموا له كلمة نشرتها في جريدة البلاغ وفيها أن الفرنسي متحول متقلب لأن جو فرنسا متحول متقلب، وأنه كما يجب عليك في يوم الصحو أن تحمل مطريتك لئلا تمطر السماء على غير موعد فكذلك يجب أن تحترس من الفرنسي البسام لئلا يثور على غير موعد.
فقلت: وما الذي يزعجك من هذا التصوير الطريف يا مسيو دي كومنين؟
فقال: التصوير لم يزعجني وهو يدل على ذكاء، ولكن الذي أزعجني ألا تحب فرنسا من أجل صديقك المسيو دي كومنين كما أحب مصر من أجل صديقي زكي مبارك.
وكان أعظم درس تلقيته في حياتي فصرت لا أرى البلاد إلا في صورة من أعرف فيها من الأصدقاء. •••
وبعد سنين من هذه المودة الغالية دخلت منزلي فعلمت أن المسيو دي كومنين طلبني بالتليفون أكثر من عشرين مرة فمضيت إليه مسرعا فقابلني باسما، وهو يقول: تعال، تعال عندي خبر مهم جدا جدا، عندي خبر يشرح صدرك.
فقلت: هات ما عندك.
فقال: يجب أن تعرف أن لمصر ملكا عظيما.
ناپیژندل شوی مخ