فقيل له: وبعد؟ فقال: أين أمويو الأندلس؟ فرفع إليه غلام، فقال له: إيه عبد الرحمن الداخل، ذهبت تخرق خرقا في الإسلام، وتنشئ خلافة جديدة وسلطنة كبيرة لم تحسن أنت وقومك الدفاع عنها. اذهبوا به إلى النار. ثم قال: أين الفاطميون؟ فرفع إليه غلام فقال: لقد ألهتم أمراءكم، وأضعفتم الإسلام بشقه شطرين. خذوهم. فقيل له: وبعد؟ فقال: بعد ماذا؟ فقيل: آل عثمان. فالتفت يمنة ويسرة ومد لسانه وحك رأسه وهم بالكلام، فصاح به صائح: باب السجن مفتوح. فضحك المعتوه وقال: أما بنو عثمان فإننا نؤجل الحكم عليهم. فضحك الجميع وانصرفوا.
فقال سليم: حقا إن هذا الرجل غريب؛ فإنه مع جنونه يصف كل أمير الوصف الذي ينطبق عليه كأنه من أبصر الناس بالتاريخ، أما صاحبنا مخلوف، فإنني أرى من القسوة أن نتركه في هذه الحالة؛ ولذلك عزمت على معالجته لعلي أرد عليه صوابه.
الفصل الرابع
الحدث
أحد أغنياء أميركا العظام فيها
وطوى الفارسان بالحديث المسافة بين عين السنديانة والحدث، ولما وصلا إلى هذه القرية دخلا إليها منقبضي الصدر؛ لأنهما كان يعللان النفس بأن يشاهدا في أعالي الجبل مناظر أبهى وأجمل، وهذا شأن كل من يتصور شيئا جميلا قبل معرفته؛ فإنه قلما تكون صورته الحقيقية مساوية لصورته الخيالية، خصوصا إذا كان المتصور شديد الخيال، وأشد الناس خيالا وأرقاهم تصورا، وأسلمهم ذوقا من لا يرى في صور الموجودات - مهما كانت عظيمة نفيسة - صورة تفوق أو تساوي صورتها التي ارتسمت في خياله قبل أن يراها.
وفي الحقيقة إن جمال الحدث لا يظهر للداخل إليها لأول مرة، بل تجب الإقامة فيها يومين أو ثلاثة لإدراك محاسنها؛ فهي قرية صغيرة قائمة على أكمة في جبة بشري، مطلقة للهواء والنور من جهاتها الأربع؛ فيظهر أن الذين بنوها لم يرهبوا الزوابع والرياح والثلوج في تلك الأعالي؛ ولذلك لم يخفوا قريتهم في ظل أكمة مرتفعة كقرية (قنات) القريبة منها إلى الجنوب الغربي، ولا بنوها في سفح جبل كأهدن التي تقابلها في الشمال، ولا في قلب واد كحصرون في الشرق، بل هم قصدوا بها - على ما يظهر - مصادمة تلك العناصر الطبيعية في تلك الأعالي التي يعممها الثلج، ويغطيها الضباب نصف سنة تقريبا، وهذا ما جعل هواءها أجود الأهوية وأجفها، واجتذب إليها المرضى للاستشفاء فصاروا يفضلونها على سواها.
ولما دخل سليم وكليم إلى القرية كان أهلها في هياج واضطراب، وبعضهم يتراكضون إلى منزل قائم فوق حرش صغير بجانب القرية إلى الجنوب الغربي. فقال كليم: يا جرجس، استخبر لنا الخبر. فسأل جرجس أحد الأهالي، فأخبره أن بعض الأميركان يرومون استئجار بيت في القرية، ولكن في الأهالي فريقا لا يريد تأجيرهم؛ لأنهم بروتستنت يحثون الناس على ترك مذهبهم إلى المذهب البروتستنتي.
فضحك سليم لما علم بسب هذا الاضطراب، وقال لرفيقه: إن هذه الاختلافات في المذاهب والأديان تتبعنا حتى أقاصي البلدان، ثم سأل سليم جرجس: ما رأيك يا جرجس في هذا؟ هل يجوز لهم ذلك أم لا يجوز؟ فأجاب جرجس: الحق أقول لك يا معلمي، إن الأهالي لا يريدون تغيير مذهبهم الذي ربي عليه آباؤهم وأجدادهم، وهم يفدونه بدمائهم، سواء كانوا في الكورة بناحيتنا أو في الجبة بهذه الجهات. فأجاب سليم مازحا: ولكن لماذا لا تصنعون أنتم في نواحي الكورة ما يصنعه أهالي الجبة من طرد الأميركان؟ فإنكم قبلتموهم وقد فتحوا عندكم بضع مدارس. فاحتار جرجس في الجواب، فضحك سليم وكليم؛ لأنهما أدركا معنى سكوت جرجس، وقال: أنا سليم ماروني يا جرجس، وكن على ثقة أنني أكره الإساءة حتى للمجوس، ولكنك قد جهلت السبب الحقيقي، فاعلم أن لذلك أربعة أسباب: الأول: أن أهل الجبة أحرص من أهل الكورة على استقلالهم، وأرسخ منهم قدما في الدفاع عن حريتهم، وما برح أهل الجبال أشد استمساكا بحريتهم المطلقة من أهل السهول، وهم يعتبرون مذهبهم الديني من جملة عواملهم وحاجاتهم الوطنية. والثاني: أن لرجال الدين عليهم سلطة عظمى، خلافا لرجال الدين في الكورة، وذلك لما للهيئة البطريركية الدينية من النفوذ الخصوصي في سياسة الجبل. والثالث: أن فرنسا التي تحمي هذه السلطة الدينية يطيب لها أن تبعد - ما أمكنها - كل أجنبي يروم مخالطة الأهالي واستمالتهم، وعلى الخصوص البعثات الدينية الغير الفرنسوية. والرابع: أن الكورة تابعة لأسقفية طرابلس دينيا، والروم والأميركان في طرابلس على شيء من الاتفاق؛ فكيف يستطيع أهل الكورة أن يعاندوا الأميركان ما دامت هيئتهم الدينية في طرابلس مسالمة لهم؟!
فقال كليم حينئذ - وقد ضجر من هذا الكلام: لله ما أصبرك على البحث في هذه الهنات!
ناپیژندل شوی مخ