إهداء الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
ناپیژندل شوی مخ
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
نصيحة ختامية
تقريظ الرواية
ناپیژندل شوی مخ
إهداء الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
ناپیژندل شوی مخ
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
نصيحة ختامية
تقريظ الرواية
ناپیژندل شوی مخ
الوحش الضاري
الوحش الضاري
تعريب
توفيق عزوز
سعادة الفاضل سليم باشا حموي الأفخم صاحب جريدة الفلاح الغراء.
إهداء الرواية
إلى صاحب السعادة المفضال، الكاتب النحرير، والصحافي الشهير سليم باشا حموي الأفخم صاحب جريدة الفلاح الغراء.
سيدي الفاضل
هذه - حفظك الله وأبقاك - رواية أدبية تهذيبية تنتقل بالقارئ في مدارج الآداب؛ فتمثل أشرف العواطف الإنسانية والأميال النبيلة، وتحث على التحلي بها وتشخص أشنع الرذائل والمساوئ القبيحة في صورتها الحقيقية، وتحرض على اجتنابها والإقلاع عنها، وقد استصوبت أن أزفها إلى سعادتكم وأقدمها هدية بين يديكم؛ لأني أعلم علم اليقين أنكم من أقدم الصحافيين بمصر، وأكبر نصراء الآداب في هذا العصر، وناهيك أن بيننا من دالة الصداقة القديمة وجامعة المهنة الشريفة ما يحدو بي إلى ذلك، وأني لا أعتبر هديتي هذه إلا اعترافا مني بسابق فضلكم وكريم شيمكم، ومكارم أخلاقكم، ولي الأمل الوطيد بأنها تصادف لديكم ما أرجوه لها من الإقبال والقبول؛ لأن هذا منتهى القصد وغاية المأمول.
توفيق عزوز
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الأول
روي أنه حدث في البحيرة التي تفصل ناحية سان مالو عن سان سيرفان بفرنسا فيضان عظيم منذ بضع سنين؛ فغمرت الطريق الموصل بين هاتين الناحيتين حتى اضطر الأهالي إلى استعمال الصنادل والمراكب الصغيرة للمرور بها في الطرق العمومية عوضا عن العربات والعجلات.
ففي مساء أحد الأيام، بينما كان الطقس معتدلا والنسيم معتلا، وقد اختالت الطبيعة في مطارف البهاء والجمال، خرج الناس زرافات ووحدانا لترويح النفس من عناء الأشغال.
وكان في جملة هؤلاء المتنزهين رجل يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، كان يمشي الهوينا قاصدا تلك البقعة الملأى بالصنادل والمراكب حتى إذا دنا منها ركب صندلا صغيرا، وطلب من صاحبه أن يسرع الخطى إلى ناحية سان سيرفان؛ فلم يمض بضع دقائق حتى وصل إلى ذلك المكان، فهم بالنزول بعد أن أنقد المراكبي أجرته وسار توا قاصدا تلك البقعة الجبلية الملأى بالصخور والرمال، وقبل أن يتقدم بضع خطوات لاحت منه التفاتة فرأى في أحد جوانب هذا الخلاء الفسيح امرأة متكئة على إحدى الصخور في هذا المكان المقفر، وسمات الكآبة والحزن تلوح على وجهها.
فسأل السائح المراكبي قائلا: من تكون هذه المرأة؟
أجاب الرجل: يقال يا سيدي: إن هذه امرأة اعتراها داء الجنون وهي تهيم على وجهها في هذه الفيافي والقفار. قال: ولماذا تركوها وشأنها هكذا بلا معالجة؟ وهل تعرف اسمها؟ - تدعى مادلين يا سيدي، وهي تجلس كل مساء في هذا المحل بعينه تتسول الصدقة، ولا تظهر في غير ذلك الوقت؛ لأنها كثيرة الحياء على ما يقال، فلا تستعطي إلا تحت جنح الظلام.
وعند ذلك انقطع الحديث وترك السائح صاحب المركب، ثم سار متقدما إلى الأمام، فدنت منه تلك المرأة المسكينة، ومدت إليه يدها تطلب الصدقة حسب عادتها، فأمعن فيها نظره وأخذته الشفقة عليها، وحدثته نفسه بأن يقف على سبب جنونها واختيارها لهذه العزلة والانفراد.
فدنت منه تلك المرأة المسكينة.
فحينذاك قبض على يدها النحيفة بلطف، وأوعز إليها أن تتبعه إلى أحد جوانب هذه البقعة، فلم تظهر أدنى معارضة في ذلك واقتفت أثره بلا ممانعة، حتى وصلا إلى صخرة عالية في وسط هذا الخلاء فجلسا عليها، ومن ثم نظر السائح إلى تلك المرأة الغريبة الزي ليستطلع أخبارها فرآها تنظر حولها يمنة ويسرة، ثم تحدق بأمواج البحر التي كانت تزداد تلاطما واصطداما، فتهيج فيها عوامل الحزن وتزداد قلقا واضطرابا، كأن هذه المناظر الطبيعية كانت تثير في قلبها تلك العوامل الخفية، وتذكرها بحوادث فظيعة جرت لها في سالف أيامها، فيظهر على وجهها ذلك التهيج والانقباض، فاقترب منها السائح وسألها عن سبب حزنها واكتئابها، فنظرت إليه محملقة وأجابته قائلة: تسألني ماذا اعتراني؟! كأنك لا تعرف حقيقة حالي؛ فانظر إلى هذا البحر المتلاطم بالأمواج؛ فهو ينبئك بما جرى لي؛ فهنا ماتا، بل هنا قتلتهما تلك اليد الظالمة.
أجاب السائح: ومن هذان اللذان تقولين أنهما قتلا هنا؟ - عجبا، وهل تجهل ما جرى لولدي العزيزين في هذه الصحراء المقفرة أمام هذه الأمواج المتلاطمة؟ فهنا، هنا قد جرت تلك المذبحة الهائلة والفظائع الوحشية المنكرة، فأواه يا سيدي، لماذا أتيت بي إلى هذا المكان؟ حتى تثير في قلبي هذا التذكار المؤلم! فهلا كفاني ما أقاسيه من الشقاء والعذاب حتى جئت تزيدني هما وحزنا! فماذا فعلت يا مولاي حتى أستحق كل هذا العقاب؟ ولماذا تناصبني العداء كأنك من ألد أعدائي؟ فوا عجبا! كيف يريد العالم كله أن يكون ضد امرأة مسكينة عاكسها الدهر وخانتها صروف الأيام؟! فقد كنت أظن أن لي عدوا واحدا، وهو ذلك الظالم القاسي القلب الذي هد عزائمي، وأوهن قواي، وغادرني أتقلب على مضض التعاسة والشقاء، ولكن أين هو ذلك العدو الآن، فلا أخاله يستطيع الرجوع إلي بعد أن تخلصت من مظالمه الفظيعة وأعماله الوحشية، وقتلته بيدي شر قتلة.
ناپیژندل شوی مخ
قالت ذلك، ثم استسلمت لعوامل اليأس والقنوط، وعلى إثر ذلك ساد الهدوء والسكون في هذا المكان، ولم يعد يسمع الإنسان غير خرير الماء وحفيف الأشجار، فأحدق السائح نظره بهذه المرأة ليتبين هيأتها، فإذا هي لم تزل في شرخ الشباب وريعان الصبا، ولو أن ما قاسته من تباريح الوجد والحزن كان قد أثر في ملامحها تأثيرا ظاهرا وأفقدها ما جادت به عليها الطبيعة من آثار الحسن والجمال.
وبعد أن مضت على هذه الحال برهة من الزمان رفعت المرأة رأسها ونظرت إلى السائح نظرة العجب والاندهاش، ونادت بصوت خافت ورشاقة غريبة: ولكن من تكون أنت يا سيدي، وماذا تريد مني الآن؟ أجاب الرجل: تقولين من أنا يا مادلين؟ - إذن أنت تعرف اسمي؟ - نعم؛ فأنت مادلين دي راعول على ما أظن. - لا يا سيدي، فأنا أدعى مادلين فقط، فلا تذكرني بذلك اللقب اللعين، ولا تذكر لي اسم «راعول» لئلا ترتعد فرائصي ويقشعر بدني؛ فإن هذا الاسم ليس هو إلا عنوان الشقاء ورمز التعاسة والبلاء، فلا يذكر إلا مردفا بعبارات الشتائم واللعنات؛ فأنا أدعى مادلين، نعم أدعى مادلين فقط؛ لأن هذا هو الاسم المحبوب الذي دعاني به جدي، وكان يدعوني به أيضا جميع سكان قريتي، وهو الذي كان يدعوني به أيضا رفيق حياتي وحبيب قلبي «موريس»، فآه يا حبيبي موريس، أين أنت الآن لترى ما تقاسيه أختك مادلين من أنواع الذل والعذاب، ولكن من أين لك أن تعرفها الآن، وقد غير الحزن هيأتها وأذهبت يد الزمان ملامح جمالها.
قال السائح: يظهر أنك تجشمت أهوالا كثيرة يا مادلين؟ - حياة الإنسان كلها يا سيدي مصائب وأتعاب، ولكني لا أظن أن إنسانا خانه الزمان ولعبت به صروف الأيام وجرعته كئوس الرزايا والأحزان؛ فذاق منها صنوفا وألوانا بقدر ما ذقت أنا الشقية المسكينة التي تراها أمامك الآن. - ربما كنت يا مادلين أكثر من غيرك ميلا إلى الشر؛ فأراد الله أن يعاقبك على سوء تصرفك.
ربما صح هذا الفكر يا مولاي، ولكن كم من الخطاة يمرحون في بحبوحة العز والهناء، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الفصل الثاني
جرى كل هذا الحديث بين ذلك السائح المجهول وتلك المرأة المتسولة عند غروب الشمس؛ فلما انتهى بهما الكلام إلى هذا الحد كان الليل وقتئذ قد أرخى سدوله، وازدادت الطبيعة هدوءا وسكونا؛ فتقدمت المرأة إلى السائح واقتربت منه بلطف، واستأنفت الكلام ثانيا فقالت: اسمع يا سيدي ما أقصه عليك الآن؛ لتعلم كيف أنه يوجد في العالم من الغرائب والعبر ما يفوق حد التصور، ثم احكم بعد ذلك إما لي وإما علي؛ لأني توسمت فيك الصدق والنزاهة؛ فأنا - التعيسة الشقية - لم أحرم في أول حياتي من لذة العيش والهناء، وإذا صح ما يقوله الحكماء من أن تذكر أيام السعادة ينسي المرء ما يصادفه من التعاسة ومتاعب الحياة؛ فأنا أريد أن أذكر شيئا من سابق أيامي وماضي حياتي؛ لأني أرى في ذلك بعض التعزية والسلوى؛ فلقد ولدت يا سيدي في قرية فوجير، وكان أبي يتاجر في الأصواف، وهو رجل نشيط شديد العزم، ولكنه أصيب بزواج امرأة كان لا يحبها ولا يميل إليها، وقد فعل ذلك مضطرا لا مختارا؛ لأنه كانت توجد هناك روابط عائلية، وأسباب مالية حدت به إلى التزوج بهذه المرأة القاسية المستبدة التي نغصت عيشه وحرمته لذة الراحة والهناء، فلم يلبث أن شعر بخطئه؛ لأنه لم يذعن إلى نداء إحساساته وعواطفه، فألقى بنفسه بين يدي امرأة تخالفه في المبدأ والمشرب على خط مستقيم، ولعل هذه أعظم بلية يصادفها الإنسان في حياته، فمادلين التعيسة الشقية يا سيدي كانت ثمرة هذا الزواج الإجباري والارتباط المشئوم.
فلما ولدت وترعرعت كنت أرى من والدي الحب والحنان، ومن والدتي الضغط والإرهاب؛ فرأيت نفسي مضطرة إلى مجاراة هذين التيارين المتعاكسين؛ فإذا زجرتني والدتي بادرت مسرعة إلى والدي؛ فألقيت بنفسي بين ذراعيه فيقبلني قبلة الحنو والشفقة؛ فعند ذلك أنسى معاملة والدتي وصعوبة مراسها وشدة استبدادها، وبعد مضي خمسة سنوات من تاريخ ولادتي توفي أحد العمال المشتغلين مع والدي في تجارته، وكان رجلا غيورا على مصلحته ومتهالكا في خدمته، وأمينا في كل أعماله وتصرفاته، وترك المتوفى بعده ابنا لا يزيد سنه عني غير سنة واحدة، وهو شاب جميل الصورة حسن الخلق، ورث من والده كل صفاته ومكارم أخلاقه؛ فرأى والدي أن من الواجب عليه إعالة هذا الابن المسكين والاعتناء بأمره، ولا سيما لأن والدته كانت قد انتقلت أيضا من عالم الأحياء؛ فأصبح وحيدا فريدا، وهذا الابن المسكين يدعى «موريس»، وهو وإن كان حديث السن، إلا أنه كان كثير الشعور والإحساس، أبي النفس عفيفا، وعلى جانب عظيم من اللطف والوداعة؛ فكان بعد وفاة والده لا يهنأ له حال ولا يهدأ بال، بل يقضي أغلب ساعات النهار في البكاء والنحيب؛ فكنت أنا ووالدي نبذل كل ما في وسعنا لتسكين روعه وتسلية خاطره؛ لأنه أصبح من أعضاء عائلتنا وأهل بيتنا فيشق علينا أن نراه في هذه الحالة التعيسة.
أما والدتي القاسية القلب؛ فكانت تظهر التململ والتذمر من وجود هذا الطفل الحزين بيننا، وتقول: إنه جاء ليكون حملا ثقيلا على كاهلنا، فكان والدي يحاول إقناعها بحقيقة خطئها، ويظهر لها أن ما فعلناه مع هذا الطفل اليتيم إن هو إلا أول واجب تقضي به علينا قواعد الإنسانية والمروءة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
على أن هذا الحال لم يلبث أن تغير بعد مضي مدة من الزمان؛ فإن هذا الطفل لما أظهرناه له من دلائل الشفقة والحنان نسي جميع أحزانه ورأى في وجوده معنا كل التعزية والسلوى.
ومن ثم ابتدأت عوامل المحبة والألفة تتولد في قلبينا؛ فكنت أنا أشعر بميل شديد وانعطاف زائد إلى أخي «موريس»، وهو يظهر لي هذا الميل عينه، وكلما شببنا شب هذا الحب معنا حتى أصبح ميلا غريزيا وطبعا فطريا فينا، وكنت أرى أن هذا الاتحاد الطبيعي موضوع سعادتنا ومصدر سرورنا وتعزيتنا، وأقسم لك يا سيدي أني لم أر في أيام حياتي كلها أسعد من هذا الوقت الذي توفرت فيه لدينا جميع معدات السرور والصفاء، وأطلق لنا العنان لنمرح في بحبوحة العز والهناء.
ناپیژندل شوی مخ
وأية سعادة أفضل من أن يرى الإنسان نفسه في مقتبل العمر وريعان الشباب، وبجانبه شخص هو موضوع حبه وانعطافه، وقد امتلأت رأسه بالآمال والأحلام اللذيذة.
فهذا كان حالي يا سيدي مع حبيبي موريس، ذلك الحبيب المخلص الذي أبى الدهر إلا أن يفصلني عنه ظلما وعدوانا، ويجرعني بعد فراقه من الذل والعذاب صنوفا وألوانا.
وماذا عساني أصف لك يا مولاي عن حقيقة هذا الحب الطاهر والهوى العذري، وأنت تعلم أن فيه لذة يشعر بها القلب، ويعجز عن وصفها اللسان.
ففي أيام الربيع الجميلة كنت أضع يدي تحت ذراع حبيبي موريس ونخرج كل مساء لترويح النفس واغتنام فرصة اللهو والسرور، فتسير بنا الأقدام ونحن لا نشعر ولا ندري، حتى إذا انتهينا وجدنا أنفسنا في وسط الخلا الفسيح والرياض الغنا، ولا نرى حولنا من الأمام والوراء إلا الخضرة والماء، وهناك ينطلق اللسان فيبث لواعج الحب، ويعبر عن عواطف القلب، وقصارى القول: إني يا سيدي كنت أشعر في ذلك الحين بلذة السعادة الحقيقية والعيشة الهنية، وأذوق طعم الحب الخالص، الحب الذي تشعر به فتاة قد ناهزت السابعة عشر من عمرها، وما أحلى هذا العمر، وما أطيبه؛ فإنه زهرة الحياة ونضارتها، ومحط رحال الصفاء والهناء؛ إذ فيه تتوفر شروط الصحة والعافية، وتمتلئ الرءوس من الآمال والأحلام، فآه يا سيدي، إني كلما تذكرت هذه الأمور ضاقت في وجهي سعة الفضاء، وتعجبت كيف أني إلى الآن لم أزل في عالم الأحياء!
الفصل الثالث
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
يا أيها الناس من كان الزمان له
ناپیژندل شوی مخ
مسالما فليكن من دأبه الحذر
بعد أن أتمت مادلين هذا الكلام ظهرت على وجهها علامات الانقباض واليأس؛ فوضعت رأسها بين يديها وغرقت في بحار التخيلات والأوهام، ولم تنتبه إلى استئناف حديثها واستطراد قصتها، ودام الصمت أكثر من عشرة دقائق، والسائح ينظر إليها بعين الشفقة والحنان، وقد أخذ منه الحزن كل مأخذ؛ لأنه رأى في حالة هذه المرأة المسكينة ما يثير الأشجان ويهيج العواطف.
وبعد برهة قصيرة رفعت الأرملة رأسها وعادت إلى إتمام قصتها بلهجتها المعهودة فقالت: وبينما كنت يا مولاي أتمتع بلذة هذا العيش الهنيء، وأذوق طعم الراحة والحب، ما أشعر إلا وقد هبت عواصف الانقلاب، فأبادت كل ما بنيته من الآمال والأحلام، وهدمت دعائم الهناء والسعادة التي كنت أعلل بها النفس في مستقبل الأيام، ذلك أنه بينما كنت أنا وموريس ووالدي جالسين ذات ليلة في حديقة القصر بعد تناول العشاء تحت ظل شجرة كثيفة الأغصان، وقد ساد السكون والهدوء، وهبت نسيم الشمال تملأ النفوس انتعاشا، وتفعم القلوب فرحا وابتهاجا، وحبيبي موريس قد قبض بيديه على يدي وطفق يداعبني بلطفه المعهود، وأنا أنظر تارة إليه وطورا أرفع رأسي إلى السماء، فأرى الجو صافيا والنجوم تتلألأ في القبة الزرقاء، والطيور تملأ بغنائها الفضاء، فلم أشعر إلا وقد أقبلت علينا والدتي مهرولة وعلى وجهها سمات الحيرة والاندهاش؛ فنظر إليها والدي على بعد نظرة الحزن والانقباض، ونهض حبيبي موريس على قدميه لاستقبالها، فتبعته أنا وسرت مسرعة نحوها، وبعد أن استقر بوالدتي المقام التفتت إلى والدي فقالت: ألعلك أخبرت مادلين وموريس بما اتفقنا عليه اليوم؟ - إني لم أفاتحهما في هذا الأمر بعد؛ لأني لم أشأ أن أكدر صفاءهما في هذه الفرصة السعيدة.
إذن؛ فالواجب علي أنا أن أخبرهما بحقيقة الحال؛ لأنه لا فائدة في الصمت والانتظار.
قالت ذلك ثم التفتت إلينا ووجهت لنا الحديث قائلة: اسمعي يا مادلين ما أقصه عليك الآن؛ لأن كلامي لا يخلو من الخطارة والأهمية كما تعلمين فأنتما قد بلغتما سن الرشد، وعرفتما حلو العيش ومره؛ فيجب عليكما أن لا تضيعا الزمن سدى، وتقتلا الوقت فيما لا يفيد ولا يجدي؛ لأن من كان مثلكما عليه أن يوجه نظره دائما إلى مستقبله ويبذل جهده في تدبير شئونه وأحواله؛ ليضمن لنفسه الراحة والسعادة في المستقبل، وإني أعذركما على إغفال هذه الواجبات إلى الآن؛ لأنكما تعتمدان على والديكما وتكفيان نفسكما مئونة هذا التعب والاشتغال؛ ولذا كان من الواجب علينا نحن أن نذكركم بهذه الأمور، ونسعى فيما يعود عليكم بالنفع والفائدة.
فلما انتهت والدتي في كلامها إلى هذا الحد خفق فؤادي واصفر وجه موريس؛ لأن قلبنا كان يحدثنا بوقوع خطر قريب.
واستمرت والدتي في الحديث؛ فقالت: والنتيجة أني يا مادلين قد دبرت لكما ما يضمن راحتكما وسعادتكما في المستقبل، وذلك أننا عولنا على إرسال موريس إلى جهة «دي جانيريو» بوظيفة كاتب أول في إحدى المحلات التجارية الشهيرة، وإني أؤمل أنه سوف يصل بجده واجتهاده وحسن تصرفه إلى درجة عظيمة من التقدم إن شاء الآن كل شيء من هذا القبيل؛ فلما سمعنا هذا الكلام انقضت على رأسنا صواعق الدهشة والانزعاج، وصرخت أنا بحزن مستغيثة بوالدي.
أما موريس فتقدم إلى والدتي فجثا أمامها على ركبتيه وناداها بلطف: رحماك يا أماه ؛ فأنا أحب ابنتك مادلين، ولا أستطيع فراقها، وعند ذلك تشددت قواي وانتعشت في روح الأمل؛ فاندفعت أمام والدتي وناديتها بصوت جهير: وأنا أحب موريس يا أماه؛ فارحمينا يرحمك الله.
فلم تهتز والدتي لكل هذه الاستغاثة، مع أن والدي الشفوق تأثر من هذا المنظر المريع، وسالت من عينه العبرات رغما عن كثرة محاولته في إخفائها، فالتفتت إلينا تلك الأم القاسية وصرخت في وجهنا بصوت مخيف، ثم التفتت إلى موريس فقالت له بوجه عبوس: ما هذا الحال يا موريس، إني أعلم أنكما تحبان بعضكما، ولكن ما الفائدة من هذا الحب الموهوم، وأنت تعلم أن لا فائدة لك من ذلك ما دمت لا تنتظر التزوج بها؛ فإنك في حالة من الفاقة والفقر لا يرجى معها إتمام هذا الزواج، وابنتي ليست غنية بهذا المقدار حتى يسوغ لك أن تطمع في الحصول عليها؟
أجاب موريس: إني يا سيدتي سأتجشم المصاعب وأشق عباب المخاطر والأهوال، وأركب البحار، وأشتغل آناء الليل وأطراف النهار، وأدك الجبال إذا لزم الحال حتى أصبح في حالة من السعة واليسار تخول لي حق الاقتران بحبيبتي مادلين. - إن الغنى يا موريس لا يأتي دفعة واحدة، ولا بد من الصبر الطويل حتى تنال ما تريد، ولا يصح أن تبقي ابنتي رهينة إشارتك طول هذه المدة على غير جدوى.
ناپیژندل شوی مخ
فأجبت والدتي بكل جسارة وحماسة: إني يا أماه لا رغبة لي في الزواج على الإطلاق، وحينئذ تقدم والدي وأراد أن يتداخل في الأمر ويحسم هذه النازلة بالتي هي أحسن، ولكن والدتي القاسية انتهرته، وقالت لنا: هذا ما عولت عليه، ولا بد من تنفيذه طوعا أو كرها، وعليك يا موريس بأن تستعد للسفر من الغد.
الفصل الرابع
وفي اليوم الثاني أخذتني والدتي إلى بيت إحدى صديقاتها على بعد بضعة أميال من قرية فوجير، وبعد أن لبثت هناك يومين كنت في خلالهما لا أذوق طعاما ولا ترى أجفاني لذة الكرى عدت مع والدتي إلى دارنا؛ فوجدت أن حبيبي موريس قد غادر تلك الديار وسلم والدي جوابا كان قد تركه لي قبل سفره؛ فلما فتحته ووقع نظري على اسمه اشتعلت في قلبي نيران الوجد والحزن، وكانت هذه أول مرة شعرت فيها بمرارة العيش وحلول الشقاء.
وقد كتب إلي موريس في هذه الرسالة يقول:
أستودعك الله يا حبيبتي مادلين؛ فقد قضت إرادة والدتك بأن أبارح الدار التي عشنا تحت سقفها وتمتعنا فيها بلذة الحب الخالص والهوى العذري، ولعلني لا أراك مرة أخرى بعد الآن.
فهل يرضى الله يا ترى أن تعيشي سعيدة قريرة العين، وإن كنت أنا أشعر منذ الآن بأني فقدت لذة الحياة ولم يعد لي مطمع في البقاء؛ فإذا من الله عليك بهذه السعادة بعد ذلك الشقاء فاذكري أن لك في العالم حبيبا يفديك بالنفس والنفيس، وقد ملأ حبك قلبه وسرى في كل أعضائه ومفاصله، وقد أحبك وسيحبك إلى آخر نسمة من حياته، فناشدتك هذا الحب الطاهر أن لا تنسي هذا المحب التعيس.
موريس
ولا تسألني يا سيدي عما أذرفته من العبرات وأصعدته من الزفرات على إثر قراءة هذه الرسالة، حتى أصابني مرض عضال فلازمت الفراش، وكنت أتمنى أن ينقضي أجلي فأتخلص من هذا الشقاء والعذاب، ولكن التعساء لسوء الحظ لا يموتون.
وقد كنت صممت على رفض الزواج قطعيا مهما كانت الحالة، ولكن إرادة والدتي تغلبت علي وظهرت في عوامل الضعف النسائي بعد مضي مدة من الزمان، فتزوجت رغما عني بذلك الشقي الذي انتخبته لي والدتي، وهو المسيو راعول الذي كان من زمرة الأغنياء، ولكنه اشتهر بفساد السيرة والسريرة، وكنت أسمع الناس يقولون: إنه ملأ الأرض بفسقه وفجوره ومفاسده وشروره، ولكن والدتي عميت عن كل هذه المساوئ؛ لأنها قالت: «إنه رجل غني والسلام»، ولم ألبث أن بارحت قرية «فوجير» مسقط رأسي ومنبت شعبتي، وفارقت بيت والدي المسكين الذي كان يزرف الدموع السخينة لانفصالي عنه؛ لأني كنت موضوع تعزيته وسلوانه.
أما عن حالة معيشتي مع هذا الزوج الجديد فحدث عنها ولا حرج؛ لأن مثل هذا الزواج الإجباري ليس وراءه في الغالب إلا المصائب والأخطار، إن زوجي راعول لم يكن يظهر في مبدأ الأمر إلا الحب والإخلاص، ولكني لم أكن أجد في نفسي أقل ميل إليه، فاحتمل مني هذا الجفاء أولا وثانيا، ولكنه أخيرا نزع هو أيضا إلى العداء، ومن ثم أصبحت معيشتنا مهددة بالخطر، وغدونا أشبه شيء بعدوين يطلبان أخذ الثأر، لا زوجين يتعاونان على مصاعب العيش ومتاعب الحياة.
ناپیژندل شوی مخ
وكانت عداوة زوجي راعول ممزوجة بالدناءة وحب الانتقام، وأما أنا فلم أكن أطلب له الأذى، ولكني كنت لا أحبه فقط؛ لأن مبادئنا ومشاربنا لم تتفق.
وهناك جلست على صخرة عالية.
وكان راعول يتذكر في ذلك الوقت أنه طلب التزوج بي أكثر من مرة فقابلت طلبه بالرفض والإباء؛ لأني كنت أحب موريس، ولا أرضى بغيره لي خليلا؛ فحينذاك يزداد غضبه وتشتعل في قلبه نيران الحنق وحب الانتقام.
أما أنا فكنت لا أرى طريقة لإزالة غصتي وتفريج كربتي غير الخروج إلى الخلاء واستنشاق هواء الصحراء، وملازمة العزلة والانفراد.
فخرجت ذات يوم إلى الخلاء (وهناك جلست على صخرة عالية)، وكنت أرى أمامي أمواج البحر تتلاطم بشدة؛ فيدوي صدى صوتها في الآفاق، وهناك أطلقت لذاكرتي العنان لتجول في عالم التخيلات والتأملات؛ فتذكرت تلك الأيام السعيدة التي قضيتها مع حبيبي موريس، وكيف أن الدهر أبى إلا حرماننا من التمتع بها، وألوم نفسي من الجهة الأخرى؛ لأنني نكثت عهد محبته ورضيت الاقتران بهذا الزوج اللئيم، وفي ذلك الوقت كان يتمثل أمامي حبيبي موريس جالسا مثلي على صخرة أخرى يبكي على فراقي ويندب سوء حظه؛ لأنه لم يحظ بقربي، ويلومني على هذه الخيانة الفظيعة، فعند ذلك ارتعدت فرائصي واقشعر بدني؛ لأني شعرت بجسامة ذنبي وعظيم خطئي.
الفصل الخامس
وبينما أنا على هذا الحال ما أشعر إلا ويد قوية هزت كتفي وناداني صوت مملوء من الغضب والحنق: يظهر أنك لا تطلبين النزهة يا سيدتي إلا في واسع الخلاء.
فهذا الذي كان يكلمني هو زوجي راعول، وقد جاء يفتش علي ويقتفي أثري.
أما أنا فنهضت واقفة على قدمي ولم أفه ببنت شفة، فاندفع راعول في تيار غضبه وطفق يوسعني لوما وتوبيخا، وأنا لا أزداد إلا صمتا ورضوخا، ثم التفت إليه وقلت له بلطف: هيا بنا نرجع إلى الدار يا راعول.
فنظر إلي شزرا وأجابني بلهجة العدو الماقت: إنك يا مادلين تتظاهرين أمامي كل يوم بالعداء والجفاء، وقد عيل صبري وضاق صدري من سوء معاملتك؛ فالأفضل لك أن تجاهري بكراهتك لي حتى أصبح على بصيرة من حقيقة مستقبلنا، فأجبته بجأش قوي وجنان ثابت: إني لا أحبك يا راعول، ولكني لا أبغضك أيضا. - حسنا تقولين، ولكن هل تظنين أني أصدق أنه يوجد في العالم كله امرأة واحدة يخلو قلبها من الحب؛ فمن تحبين إذن يا مادلين؟
ناپیژندل شوی مخ
ومن هو ذلك الشقي الذي أخذ حبه بمجامع قلبك وجاء يزاحمني على حبك؟ - إن من كانت زوجة مثلي ليس لها الحق أن تحب أو تذوق لذة العشق. - دعينا من هذه المراوغة يا مادلين واعترفي بالحق؛ لأن دموعك وعزلتك يشهدان عليك؛ فمن العبث أن تكتمي عني حقيقة حبك وغرامك، ألم تهبي قلبك لذلك الشريد الطريد الذي كان يئويه والدك في داره ويعيش من فضلات صدقتكم. - إن كنت تعني بهذا الكلام أخي «موريس» فهو أجل من أن يوجه إليه هذا الهجاء؛ لأنه رجل شريف أبي النفس، وقلبه مملوء من العواطف الشريفة والإحساسات الحرة، وهذا القلب هو أفضل من كنوز العالم كلها.
فلما سمع راعول مني هذا الكلام صعد الدم في رأسه ولاحت على وجهه علامات التهيج والاضطراب، وصرخ في وجهي بغضب شديد قائلا: كفى يا مادلين؛ فأنا لا أريد أن أحتمل منك أكثر من ذلك، ولا يمكنني أن أعيش مع امرأة لا هم لها إلا سكب العبرات وإصعاد الزفرات، وتذكر أيام اللهو والصبا. - وأنا لا أستطيع أن أعيش إلا كذلك يا سيدي.
فعند ذلك ازداد تهيجه وغضبه، ودنا مني رافعا يده ليضربني فناديته بأعلى صوتي: عار عليك يا راعول أن تهين فتاة مسكينة مثلي وتتطاول عليها بالضرب؛ فلم يصغ راعول لكلامي ولم أشعر إلا وقد انقض علي وطفق يوسعني لكما وضربا، ولما أردت أن أتناول حجرا من الأرض لأدافع به عن نفسي قبض على يدي وناداني بصوت منخفض: إياك أن تقولي كلمة أو تبدي حركة، وإلا قتلتك خنقا، وأرحت نفسي من شر أعمالك. وفي ذلك الوقت خارت قواي وضعفت عزائمي؛ فنظرت إليه نظرة المستغيث؛ فإذا به قد تقطب وجهه وانقلبت سحنته، وتطاير الشرر من عينيه، وأصبح منظره هائلا ومخيفا؛ فارتعدت حينذاك فرائصي، وسقطت على الأرض مغشيا علي.
الفصل السادس
ولما أفقت من غشيتي وجدت نفسي على فراشي في غرفتي، وبجانبي الطبيب يمرضني، وأمامي خادمتي «دانيز» ترمقني بعين الخداع والرياء؛ فجمعت حواسي، وتذكرت ما حل بي قبل هذا الإغماء، وابتدأت أفكر في كيفية التخلص من هذا «الزوج القاسي أو الوحش الضاري»؛ لأنه أكد لي أن حياتي معه أصبحت مهددة بالخطر، ولا شك فخطر على بالي أن أهجر هذه الدار التي استحكمت فيها حلقات الشر وأرجع إلى بيت والدي؛ فأقضي به ما بقي من أيام حياتي، ولو أني أعلم أن نير والدتي ثقيل، وضغطها شديد، ولكن الحكمة تقضي على العاقل بأنه إذا وقع بين شرين يجب عليه أن يختار أخفهما ضررا، ومن ثم عزمت على تنفيذ هذا الفكر وشرعت في التأهب والاستعداد.
ولكن الدهر إذا أخنى على أحد وأبى إلا معاكسته لم يترك أمامه بابا للفرج والخلاص؛ فإني بينما كنت أفكر في هذا الأمر ورد إلي نبأ مفجع ينعي لي وفاة والدي ووالدتي اللذين ذهبا فريسة النار على إثر حريقة هائلة التهمت دارنا فصيرتها رمادا ولم تبق فيها حجرا على حجر.
وقد هالني هذا الخبر المفجع والخطب الجلل؛ فأذرفت الدمع السخين، وبكيت بكاء الخنساء، ولكن ماذا ينفع هذا العويل والنحيب، وقد نفذ القضاء، وسبق السيف العذل.
ولا حاجة لي الآن يا سيدي أن أنبئك بما وصلت إليه حالتي من الشقاء والتعاسة بعد حلول هذا المصاب العظيم؛ فقد أصبحت تتنازعني عوامل الحيرة واليأس، وعدمت كل ساعد ونصير، ولكني كنت كلما شعرت بهذه المصائب علمت أني أستحقها أنا التي جنيت على نفسي، وسلمت لإرادة والدتي، ورضيت بهذا الزواج المشئوم؛ فيلزمني أن أتحمل تبعة خطئي وأكفر عن ذنبي.
وعلى ذلك رضيت البقاء تحت هذا النير القاسي، وحمدت الله على هذه الدرجة التي وصلت إليها، ثم أخذت أعتني بتربية ولدي اللذين رزقت بهما بعد مضي ثماني سنوات من تزوجي راعول، وهكذا تركت الأمور تجري في أعنتها، على أني رأيت بعد ذلك في سلوك راعول تغيرا عظيما، وانقلابا كليا؛ فبعد أن كان يلازم الدار ولا يغيب عني طرفة عين أخذ يتغيب كثيرا، ويقضي أوقاته خارجا عنها، وربما مضت عليه الأيام والليالي الطوال، وأنا لا أرى وجهه ولا أنكر عليك يا سيدي، إن هذا ما كنت أتمناه لأنفرد بنفسي، وألازم عزلتي، وأقتل الوقت بتذكر أيام النعيم والهناء التي مرت علي كأضغاث الأحلام؛ لأن هذا كان منتهى سلوتي وعزائي.
الفصل السابع
ناپیژندل شوی مخ
قلت لك يا سيدي: إني رزقت من زوجي بولدين؛ فسميت أحدهما روبير، والآخر جيلبير، وكان أولهما رقيق الطباع، جميل الخلق والخلق، كثير الفطنة والذكاء، وثانيهما عنيدا مستبدا حاد الطباع، شديد العارضة، صعب المراس.
وكان راعول يبغض الأول رغما عن كل هذه المبادئ والمزايا؛ لأنه على زعمه كان يشبه حبيبي موريس في هيئته وصفاته، ويخص الثاني بحبه وانعطافه، وهذه طبيعة غريبة لا أخالها موجودة في كل الآباء.
ففي إحدى الليالي احتفل راعول بإقامة ليلة ساهرة في القصر، ولما حان وقت الاجتماع أوعزت إلى خادمتي دانيز في أن تأخذ الأولاد إلى غرفة النوم ليستريحوا؛ فما كان من راعول إلا أنه وجه الكلام إلى روبير وقال له: اذهب أنت يا روبير إلى غرفة النوم؛ فما كان مني إلا أن قلت لأخيه الثاني: واذهب أنت أيضا يا جيلبير مع أخيك.
فاعترضني زوجي على ذلك وأمرني بأن أترك جيلبير ليكون معنا وحده في تلك الحفلة، زاعما أن وجوده يسرنا ويسلينا.
فعندئذ نهضت على قدمي وحملت روبير بين ذراعي وقبلته قبلة المحبة والحنان، وأخذته إلى غرفة النوم، ولكن هذا الطفل كان على جانب عظيم من الأنفة وعزة النفس؛ فتأثر من هذه المعاملة القاسية التي أظهرها له والده واستلم لعوامل البكاء والنحيب ؛ فطفقت ألاطفه وأسكن روعه، ولكن على غير جدوى.
ثم انسحبت من الغرفة بعد أن وعدته بأني سأحضر له هدية نفيسة.
ولما عدت إلى قاعة الاجتماع لم أر راعول بين الحاضرين، فسألت جيلبير عنه فأجابني: أنه تذمر من سماع بكاء أخيه روبير وبادر إلى غرفته لإسكاته، وطلب إلي جيلبير أن أدخله إلى سريره؛ لأنه يريد هو أيضا أن ينام، أما أنا فحدثتني نفسي بوقوع مصاب قريب؛ فهرولت مسرعة إلى غرفة النوم، فاندهشت لما رأيت ابني روبير يخبط في دمائه، وقد وضع أبوه يده على فمه لكي لا يسمع أحد نداءه، وقد كاد يموت الطفل المسكين مخنوقا، فتحركت في قلبي عوامل الغيظ ودواعي الشفقة؛ فتقدمت إلى راعول ولطمته وناديت بأعلى صوتي: يا لك من وحش قاس، ونذل لئيم، كيف سولت لك نفسك الشريرة أن ترتكب هذا الإثم الفظيع، وكانت هذه أول مرة تظاهرت فيها أمام زوجي بالتمرد والعصيان؛ فما كان من ذلك القاسي القلب إلا أنه قبض على شعري ودفعني بقدمه إلى الأمام، فوقعت مغشيا علي. وحينذاك هرع الحاضرون إلي وخلصوني منه، وعادوا كلهم يندبون سوء حظي لوجودي مع رجل هو من جنس الوحوش الضارية والحيوانات المفترسة، وليس فيه شيء من صفات الآدميين.
ووردت إلي على إثر هذه الحادثة الرسائل والمكاتيب تترى من كثير من المعارف والأصدقاء يطلبون بها مني أن أقيم الحجة أمام مواقف القضاء على ما أتاه زوجي من المنكر، وهم مستعدون لتقديم أنفسهم للشهادة، ولكني كظمت غيظي، وصبرت على بلواي، ولم أذعن لهذه النصائح والإرشادات، ومن ثم أخذ زوجي يزداد اندفاعا وتهورا، ويرتكب أعظم الجرائم وأكبر الآثام جهرا، ويمتطي صهوة الشرور والمفاسد بلا خجل ولا حياء؛ فلم يترك بابا من أبواب الفسق والفجور إلا ولجه، ولم يغادر بيتا من بيوت المقامرة إلا ودخله، ولم يكن يكدرني من سلوكه بنوع خاص غير تبديده لثروة أولاده المساكين التي صارت على وشك الزوال.
الفصل الثامن
ويا ليت مفاسد زوجي وشروره وصلت إلى هذا الحد، بل إنه قد فعل ما هو أعجب وأغرب من ذلك كله؛ فاسمع يا سيدي ما أقصه عليك، وتعجب كيف تصل الدناءة والسفالة ببعض الناس إلى درجة تفوق حد التصور.
ناپیژندل شوی مخ
دخل علي زوجي ذات يوم وهو يتبسم تبسم الدهاء والمكر، وقال لي: اسمعي يا مادلين ما أقوله لك؛ فأنا قد عزمت على الذهاب الآن، وربما لا أعود قبل الغد، ولكني وعدت صديقي «فوستر» بأن يتناول عندي الغداء في هذا النهار؛ فعليك أن تقابليه بكل لطف وبشاشة، وتقومي بكل ما يلزم له من مظاهر الاحتفاء والإكرام، وإني أؤمل أنك تجدين فيه من اللطف والدعة ما يحبب إليك مجالسته؛ لأنه حلو الشمائل، جذاب الملامح، وقد أوقع كثيرات من النساء الجميلات في أشراك حبه.
فتعجبت من كلام زوجي وقلت له: وماذا يهمني يا راعول من أمر هذا الرجل حتى تطنب لي في وصف أخلاقه ومحاسنه؛ فأنا - والحق يقال - لا أجد في نفسي ميلا إلى مقابلته ومحادثته. - هذا ما تقوله النساء دائما عن كل رجل يحبونه، وأنا أبشرك بأن فوستر هو أيضا عاشق متيم، ومحب ولهان. - إني أراه في سن الرشد والكمال؛ فكيف يكون هذا حاله؟ - إن الإنسان لا تنتهي مطامعه أو تقف شهواته عند حد، ولا يغيرها السن أو تؤثر فيها تقلبات الأيام. - ولكن ماذا يهمني أنا من كل ذلك؟ - إذا كان لا يهمك هذا الأمر؛ فأنا أرى أنه يهمني كثيرا. - إني لا أفهم معنى كلامك يا راعول. - وأنا أريد أن تفهمي كل شيء الآن، قلت لك: إن فوستر عاشق ولهان، والذي يحبه هو أنت يا مادلين! - يظهر أن هذا الرجل فاسد الأخلاق دنيء النفس؛ فأنا أبغضه وأحتقره منذ هذه الساعة. - ولكن سها عنك يا مادلين أن فوستير هو من أعز أصدقائي، وعلى كل حال؛ فأنا أطلب إليك أن تحسني مقابلته وتسعي جهدك في إرضائه؛ لأن لذلك أسبابا سوف تعلمينها.
قال ذلك: ثم خرج مهرولا وأقفل وراءه الباب بشدة، وبعد برهة اندفع الباب فدخل فوستر يميس هجبا ويتمايل طربا، وهو رجل يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، تلوح عليه سمات الفطنة والذكاء وحب اللذات والشهوات، وهو من أشهر تجار مدينتنا وأغناهم؛ فلما دنا مني حياني بكل لطف ودعة، ثم اقترب من المكان الذي كنت جالسة فيه، فجلس بجانبي والتصق بي، وأخذ يداعبني ويغازلني بألفاظ لا أتذكرها الآن فابتعدت عنه، ونظرت إليه نظرة الغضب والامتهان.
فتظاهر بأنه لم يفهم قصدي، وزاد اقترابه مني، ثم أراد أن يمسك بيدي فنزعتها منه بشدة وقلت له: ما هذا الحال يا سيدي، وماذا تريد مني؟
أجاب فوستر: بالله دعي عنك يا مادلين هذا الصد والدلال وارثي لحال حبيب مسكين يرجو رضاك وينتظر نوال السعادة على يدك. - وما معنى هذا الكلام يا سيدي؟ - يا لله من قلوب النساء؛ فما أشد قساوتها؛ فهل لم تدركي يا سيدتي مرادي ولم تعرفي في حقيقة قصدي إلى الآن، فها إني أنبئك بما تجهلين، فأنا فوستير التعيس الذي أضناه حبك وتأججت نيران الوجد والهيام بين أضلاعه، فجاء يطلب منك الشفاء ويرجو الرضاء، فعسى أن تشفقي عليه ولا ترديه خائبا. - يظهر يا سيدي إنك قد ضللت في الطريق فدخلت هذا البيت سهوا وأنت تظنه من بيوت الهوى، فأرجوك أن ترجع من حيث أتيت لأن ما فعلته يخالف ناموس الشرف والآداب.
وعلى إثر ذلك نهضت على قدمي بكل حماسة وفتحت أمامه الباب معتذرة إليه عن صدور هذه الجسارة مني؛ لأني فعلت ذلك رغما عن إرادتي.
أما فوستر فلم يعبأ بهذا التصريح الجارح وتظاهر بعدم الفهم، ثم بادر إلي فأمسك بيدي وأجابني بكل هدوء وسكينة.
لا تخشي يا سيدتي ولا تضطربي؛ فقد صدر الأمر بأن لا يدخل هذه الغرفة أحد سواي، وقد خلا لنا الجو ونامت عيون العواذل والرقباء.
قلت: ومن أصدر هذه الأوامر؟
قال: إن خادمتك دانيز أخبرتني أن زوجك هو الذي أمر بذلك.
ناپیژندل شوی مخ
قلت: ولماذا؟
قال: حتام تحاولين الكتمان وتتعمدين التجاهل، أليس هو زوجك الذي أخذ مني اليوم مبلغ 20 ألف فرنك، ووعدني بأن يستميلك إلي وينيلني منك سؤلي، وقد وعدته أنا أيضا بأضعاف هذا المبلغ إذا أدركت بغيتي وفزت بوطري.
فلما علمت ذلك سقط هذا الرجل من عيني، وتعجبت كيف أن الدناءة والسفالة تصل ببعض الناس إلى هذا الحد، ثم التفت إلى المسيو «فوستير» الذي كان في ذلك الوقت جاثيا على قدميه أمامي يسترضيني.
أما فوستر فلم يعبأ بهذا التصريح.
ويستعطفني، فقلت له: انهض يا مولاي ودعني أندب سوء حظي؛ لأني أصبحت مثل الأنعام التي تباع وتشرى بأبخس الأثمان، وإني أطلب يا سيدي أن لا تزيد في حزني وهمي، فاذهب إلى حيث تشاء، ولا تعد إلي بمثل هذا الموضوع والآن أستودعك الله؛ لأنه قد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى.
قلت ذلك ثم خرجت من أمامه غاضبة، ودخلت إلى غرفتي فانطرحت على سريري وطفقت أذرف الدموع السخينة على ما وصلت إليه حالتي من التعاسة والشقاء، وكنت في ذلك الوقت أناجي نفسي قائلة: يا لله ما هذا الحال؟ هل سمع أحد أن زوجا باع عرض زوجته بهذا الثمن البخس، فهل لم يكف راعول أنه بدد ثروة أولاده على بنات الهوى وربات الغنج والدلال، وأهان زوجته إلى هذا الحد حتى إنه باع عرضها لذلك التاجر الغني بمبلغ لا يزيد عن 20 ألف فرنك؛ فوا خجلاه ووا فضيحتاه.
وبينما أنا على هذا الحال أنوح وأبكي لم أشعر إلا وقد فتح الباب، ودخل جيلبير وروبير مهرولين فانطرحا بين ذراعي وسألاني عن سبب حزني وكدري، وسمعت صوت طارق على الباب الخارجي فكفكفت الدمع وقلت لهما: ليس بي شيء؛ فاذهبا لمقابلة أبيكما المحبوب؛ فإني أسمع وقع أقدامه الآن.
وعلى إثر ذلك دخل راعول إلى غرفتي فنظر إلي نظرة الغضب الممزوج بالحزن، ولكنه لم يبد حراكا، ولم يفه ببنت شفة؛ فعلمت أنه اطلع على كل ما جرى بيني وبين صديقه فوستير، وبعد مضي يومين أنبأني زوجي بأن لديه أشغالا ضرورية تضطره إلى مبارحة القرية والتوجه إلى مدينة «نانت»، ولكنه لا يعلم متى يرجع من سفره، وعلى ذلك أعد ما يلزمه لهذا السفر، وودع ولديه، ثم رمقني بعين الحنو والخداع، وسار قاصدا مدينة «نانت».
الفصل التاسع
لما سافر راعول إلى «نانت» بقيت أنا وحدي مع خادمتي «دانيز» وهي فتاة على جانب عظيم من الحسن والجمال استخدمها زوجي في خدمتنا على إثر زواجي ببضعة أشهر، ولكن هذه الخادمة مع ما كانت عليه من جمال الخلق اشتهرت بفساد الأخلاق وسوء النية ودناءة الطبع، وقد ظهرت لي منها أمور كثيرة تؤكد عندي هذا الظن، وكنت عزمت على فصلها من الخدمة وطردها، ولكن إرادة زوجي أبت إلا صدى من هذا العزم، واتضح لي أخيرا أن تلك الخادمة كانت عشيقة زوجي وخليلته؛ فكظمت حينذاك غيظي وصبرت على هذه المصيبة العظيمة، وكنت أتعجب كيف أن الاندفاع والتهور في الفساد يقود صاحبه إلى درجة الجنون والعمى، حتى يستحل وضع زوجته الشرعية وخليلته الفاسقة في بيت واحد وتحت سقف واحد!
ناپیژندل شوی مخ
ومع أن دانيز كانت تعلم أنها معتبرة بصفة خادمة حقيرة؛ لكنها كانت تتظاهر لي بالحسد وتناصبني العداء جهرا؛ لأنها علمت أني وإياها سواء في الحقوق والواجبات أمام هذا الزوج الخائن ...
ولم تكن هذه الفتاة تميل إلى زوجي أو تحبه حبا خالصا، غير أنها جرت وراءه حبا في ماله ورغبة في استنزاف ثروته، وهذا شأن كل امرأة أباحت عرضها وانتهجت سبيل الغواية والفساد.
قلت لك يا سيدي: إن زوجي سافر إلى «نانت» لقضاء مهمة كنت أجهلها؛ فبقيت وحدي مع هذه الخادمة أو الخليلة ...!
وكان في جملة الذين تعودوا زيارتنا وتفقد أحوالنا من أقارب زوجي راعول شاب لين العريكة، حلو المعاشرة، يدعى «إميل» وهو من عائلة عريقة في الحسب والنسب، قد أحرز مالا طائلا وثروة عظيمة، إلا أن ذلك كله لم يكن ليجعل «إميل» سعيدا؛ لأن السعادة الحقيقية ليست في كثرة المال وإحراز الغنى، ورب صعلوك حقير أسعد من غني كبير.
ليس السعيد الذي دنياه تسعده
إن السعيد الذي يخلو من الهم
لقد كان إميل مع ما هو عليه من السعة واليسار لا يميل إلى البطالة والكسل، ولا يحب الراحة والخمول، فتعلم فن التصوير وبرع فيه كثيرا؛ فكان يقضي أغلب أوقاته في مزاولة هذا الفن الجميل، وقليلون هم الذين يحذون هذا الحذو من أبناء الأغنياء وأصحاب الثروة والجاه.
ولكن دوام الحال من المحال، ولا بد لكل امرئ أن يذوق في هذه الحياة الدنيا مرارة العيش ولو مرة واحدة مهما كانت درجته، وكيفما كان حاله، وقد قيل:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
ناپیژندل شوی مخ
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
فبينما كان إميل يمرح في بحبوحة العز والرخاء، رزئ فجأة بوفاة والديه، وهو في عنفوان الصبا وريعان الشباب؛ فاحتمل هذا المصاب الأليم بجأش قوي، وجنان ثابت، ولكن الدهر لم يقنع بتجريعه هذه الكأس المرة، بل ابتدره بعد ذلك بفاجعة ثانية كانت على قلبه أعظم وقعا وأشد وطأة من الأولى.
ذلك بأن إميل كان يحب فتاة تبادل وإياها عبارات الإخلاص والولاء؛ فخانت وعده ونكثت عهد محبته، وتزوجت بشاب آخر من أرباب الخلاعة والمجون؛ فشق عليه هذا الأمر، ومن ثم انقطع عن العمل وهجر الشغل؛ لأنه وجد في نفسه انقباضا عظيما واضطرابا زائدا، والرأس - في الغالب - إذا امتلأت بالهموم والأكدار لا تستطيع العمل أو التفكير على الإطلاق.
وعليه أخذ إميل يجول في طول البلاد وعرضها؛ طلبا للنزهة والرياضة حتى يزيل غصته ويفرج كربته، وكان يرى في زيارتنا من وقت إلى آخر بعض التعزية والسلوى.
أما أنا فلم يكن ميلي إلى مجالسته ومحادثته بأقل من ميله إلى زيارتنا؛ لأني كنت أرى في مبادئنا ومشاربنا توافقا تاما وائتلافا عجيبا ولا غرو في ذلك؛ فقد كابد كل منا من مصاعب الحياة ومتاعب العيش ما من شأنه أن يقرب القلوب ويستميل الأفئدة ويجتذب العواطف والأميال، فكنت إذا اختليت بإميل يقص علي تاريخ حياته الماضية وحوادثه السالفة؛ فأجدها كلها مفعمة بالحكم والعبر، وأرى في نفسي عند سماعها راحة عظمى، ولذة لا توصف.
وكلما كثر تردد إميل علينا قويت محبتنا وازدادت ألفتنا، حتى أصبح يشق علي فراقه، وأود لو أن يكون قريبا مني وجالسا بجانبي طول العمر؛ لأن أعظم ما تجده فتاة حزينة مسكينة مثلي من أنواع التعزية والسلوان هو أن ترى بجانبها شابا جميلا لطيف المعاشرة مثل إميل يقاسمها الهموم ويشاطرها في مصائبها وأحزانها.
ولكني لم أكن أعلم ما خبأته لنا يد الأقدار، من النوائب والأكدار، إذ بينما كنت أنا وإميل نذوق لذة العزاء، ونتمتع بهذه المعاشرة الخالية من شوائب الغش والخداع، كانت خادمتي «دانيز» تدبر لنا المكائد والدسائس ونحن لا نشعر ولا ندري؛ لأنها هي أيضا كانت تحب «إميل» وتميل إليه كل الميل، وقد حسدتني على حبه لي وانعطافه إلي، وظنت أن وراء هذا الحب الخالص شيئا من المآرب الدنيئة أو الشهوات البهيمية، وإني أريد مزاحمتها في حب هذا الشاب الجميل فاحتدمت غيظا واستشاطت غضبا، ولا سيما لأنها وجدت من إميل كل النفور والهجر، فأخذت تثير عوامل الغيرة في قلب زوجي وتوغر صدره على إميل، حتى أوقعت في نفسه الشك والارتياب من جهتنا فأصدر أمره حالا بطرد إميل من دارنا وحرمانه من زيارتنا، وقد تم ذلك فعلا بلا معارضة ولا نزاع، وجرت هذه الحوادث كلها على إثر زيارة الموسيو فوستير المعهودة ببضعة أسابيع، وبعد ذلك عزم زوجي على السفر وغادر القرية متوجها إلى مدينة نانت كما مر الكلام.
ناپیژندل شوی مخ
الفصل العاشر
وبعد مضي يومين على سفر زوجي راعول كنت جالسة في غرفتي نحو الساعة السادسة مساء أمام إحدى النوافذ التي تطل على حديقة بيت يجاور دارنا، وكانت الشمس وقتئذ على وشك الغروب، فتركت آثارها الذهبية على رءوس الزهور والأشجار، وقد هب نسيم المساء العليل يحمل إلى النفوس عوامل الانتعاش والسرور، أما أنا فلم تكن هذه المناظر الجميلة إلا لتزيدني حزنا وانقباضا؛ لأنها كانت تذكرني بأيام الصبا، وأويقات البشر والهناء؛ فوضعت رأسي بين يدي وغرقت في بحار التخيلات والأوهام، وقد أزرفت عيني الدموع رغما عن إرادتي لما تذكرت ما حل بي مع حبيبي موريس وصديقي إميل، وقلت: يا لله، كيف يعيش العاشقون إذا كان هذا حالهم، وكيف ترضى الطبيعة لهم بهذا الذل والشقاء وتجود على غيرهم بالسرور والهناء، وبينما أنا على هذا الحال لم أشعر إلا وقد سمعت وقع أقدام تحت النافذة التي كنت جالسة بجانبها، فانتبهت من أحلامي وانتصبت واقفة على قدمي، وإذا بي أرى أمامي رجلا قد تسلق على جدران الدار وصعد إليها على سلم حتى وصل إلى نافذة غرفتي.
فعند ذلك تقهقرت إلى الوراء وناديته بصوت جهير قائلة: من تكون أنت يا هذا؟
فأجابني صوت مملوء من الحنو واللطف قائلا: لا تخافي يا مادلين فأنا هو «إميل» جئت إليك متنكرا تحت جنح الظلام.
قال ذلك ثم دنا من النافذة؛ فدخل إلى الغرفة وترك وراءه السلم معلقا على شجرة عالية، أما أنا فدهشت من هذه الجسارة الغريبة، ونظرت إلى إميل نظرة الحنق والذهول وقلت له بلهجة شديدة: ما هذا الحال يا إميل، وكيف سولت لك نفسك الإقدام على هذا العمل الفظيع، وقد عهدتك أكثر ذكاء وتبصرا؟ قال: عفوا يا سيدتي، فإنما فعلت ذلك رغما عن إرادتي؛ لأني كنت مدفوعا بعامل لم أستطع مقاومته، والحر يعفو إذا قدر، ثم انطرح على قدمي وطفق يبكي بحرقة شديدة ولهفة زايدة.
فهاجت في قلبي حينذاك بواعث الشفقة والحنان، غير أني تمالكت إحساساتي وتغلبت على عواطفي، وقلت له بهيئة الغضب: ولكن ما معنى هذا التسلق والدخول إلى البيوت من غير أبوابها تحت جنح هذا الظلام؟
قال: آه يا سيدتي لو تعلمين كم أنا تعيس ومسكين، فناشدتك المروءة والحنان أن لا تجعلي جزاء أسير حبك وهواك الطرد والإبعاد، ودعيني أمتع النظر وأشرح الفؤاد برؤية محياك الجميل ولو دقيقة واحدة؛ فإن هذا هو منتهى سعادتي وهنائي.
نظرتك يا سيدتي فأحببتك وحاولت أن أكتم هذا الحب فلم أستطع إلى ذلك سبيلا، واجتهدت أن أنساك وأسلو هواك، ولكن عواطفي أبت إلا مقاومتي، فظلك يتبعني أينما ذهبت وحيثما توجهت، وقد طفت البلاد وجلت في مشارق الأرض ومغاربها أرجو النسيان أو السلوان؛ فذهبت أتعابي كلها أدراج الرياح، إذ كانت صورتك الجميلة تتمثل دائما أمام عيني في أقصى أرجاء المسكونة، ولم تكن هذه السياحة لتحجب شخصك الجميل عن نظري أو تزيل تأثير صوتك الرخيم ورشاقتك العجيبة عن قلبي؛ فأنت معي في كل حين وفي كل مكان، فكيف أسلوك أو أنسى حبك! وكيف تسأليني بعد ذلك: لماذا أتسلق الجدران وأدخل البيوت من غير أبوابها! فرحماك يا مولاتي رحماك؛ فأنا عبدك وأسير هواك؛ فإما أن تجودي علي بنظرة الرضا، أو تدعيني أموت تحت قدميك؛ فلست أول من مات شهيد الحب، وذهب ضحية الإخلاص والوفاء.
قال ذلك، ثم قبض على يدي؛ فأخذ يقبلها بحرقة وحرارة، وقد بللها بدموعه السخينة؛ فزاد انعطافي إليه ولم أستطع أن أملك عواطفي أو أتغلب على إحساسي أكثر من ذلك، فقلت له والدمع ملء جفوني: إني أسامحك يا إميل على ما صدر منك، بشرط أن لا تعود إلي بعد الآن، لئلا توقع علي وعليك الشبهة؛ فحذار من الوقوع في هذا الخطأ مرة أخرى.
قال: إنك يا سيدتي تريدين إذن أن أموت شهيد الحب والوجد؟
ناپیژندل شوی مخ
قلت: وما عساني أن أفعل يا إميل، وأنا كما تعلم زوجة ذات بعل ولي أولاد صغار، فهل يمكنني أن أسمع غير نداء الواجب والضمير؟!
قال: وأي واجب يقضي عليك يا مادلين أن تعيشي تحت هذا النير الثقيل، وتخضعي لهذا الزوج القاسي الذي نغص عيشك وقصر أيام صباك، وأنهك قواك، فهل لا يوجد في العالم من يرثي لحالك، ويدافع عنك وينتقم لك من ذلك الوحش الضاري.
أليس لك أقارب أو أصدقاء يشفقون عليك ويطلبون لك الراحة والسعادة؟ فلماذا إذن ترضين بهذا الذل والشقاء؟ أجل؛ فأنا أفديك يا مادلين بالنفس والنفيس وأدافع عنك وآخذ بثأرك، فهيا اتركي هذه الدار التي استحكمت فيها حلقات الشر والعذاب، وتعالي نرحل من تلك البلاد ونعيش حيث لا يرانا أحد ولا تصل إلينا يد إنسان.
قلت: قد مضى هذا الوقت يا إميل، وليس هذا زمان الصبا حتى يسوغ لي أن أفعل ما أريد وأقدم على الهرب والفرار، فأنا قد ارتبطت برباط لا يمكنني حله الآن، فدعني أتجرع كأس الذل والعذاب إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فلما سمع إميل هذا الكلام نهض على قدميه وكفكف الدمع، ثم ناجى نفسه بصوت منخفض فقال: يا لله، ما هذا الجنون! كيف ألقي بنفسي بين يدي امرأة لا تميل إلي ولا تحبني.
ثم تقدم إلى النافذة، فأراد أن ينزل منها إلى الحديقة كما دخل الغرفة وهو يدمدم قائلا: الوداع يا مادلين الوداع.
أما أنا فانزعجت من حالة هذا الشاب المسكين ودنوت منه فقبضت على ذراعه بلطف وناديته قائلة: إلى أين تريد الذهاب يا إميل؟
قال: سأذهب إلى حيث لا ترينني بعد ذلك يا مادلين، سأذهب من حيث أتيت؛ فلا عدت ترين وجهي بعد الآن.
قلت: ولكن هذه النافذة تعلو عشرة أقدام عن الأرض، فكيف تستطيع النزول منها إلى الحديقة؟
قال: لا تخافي يا مادلين؛ فأنا لا أموت تحت نوافذ غرفتك، بل سأخرج من دارك حيا كما دخلت إليها، ولكن بعد ذلك سألاقي الموت الأحمر بعيدا عن تلك الديار؛ فالوداع يا مادلين الوداع.
ناپیژندل شوی مخ
قلت: ما هذا الكلام يا إميل؛ فقد جرحت فؤادي وهيجت عواطفي، ولماذا تريد أن تتعمد لنفسك الأذى؟
قال: لا بد لي يا سيدتي من الخروج بواسطة هذه النافذة لئلا تراني خادمتك «دانيز» التي جعلها زوجك راعول رقيبة علينا.
قلت: ولكن هل لا تظن أن السكان الذين أمامنا لا يرونك وأنت تتسلق الجدران فيظنونك لصا أو يوقعون علي الشبهة؟
قال: لا تخشي يا سيدتي من هذه الجهة؛ فقد دبرت كل شيء قبل أن آتي إليك متنكرا؛ لأن الدار التي تجاوركم ليس بها أحد من السكان، وهي مهجورة منذ زمن طويل، وصاحبها من أصدقائي المخلصين، وقد أخذت منه مفتاحها، بدعوى أني أريد التفرج عليها ونزلت منها إلى الحديقة، حيث صعدت بعد ذلك إلى غرفتك فلم يشعر بي أحد على الإطلاق.
قلت: حسنا فعلت يا إميل، وأنا أشكرك على هذه العواطف الأبية والإحساسات الشريفة، وأرجو أن لا يبرح ذكري من بالك؛ لأني أسر إذا علمت أن لي في العالم صديقا يحبني ويغار على مصلحتي وقد عهدتك يا إميل هو ذلك الصديق المخلص.
وفي خلال هذا الحديث طرقت خادمتي دانيز الباب فانتبهنا من حلمنا، وسألت: من الطارق؟ فأجابت «دانيز»، هل تحتاج مولاتي إلى شيء من الخدمة؟ قلت: لا يا دانيز؛ فأنا قد دخلت إلى سريري، وحينذاك عادت الخادمة إلى غرفتها وبقيت أنا وإميل وحدنا كما كنا.
ومن ثم أراد إميل الخروج فمنعته؛ لأن دانيز كانت لم تزل مستيقظة، وربما نظرته عند خروجه، وهناك يكون البلاء الأكبر، فانتظر إميل حتى تنام الخادمة، ولما حانت الساعة الثانية بعد نصف الليل ساد السكون وهدأت الطبيعة، فهم إميل بالخروج وحينذاك نظر إلي نظرة العاشق الولهان، وقال: هل لا تسمح سيدتي بالرجوع إليها مرة أخرى؟
فعندئذ تفرست في وجهه؛ فإذا به قد علاه الاصفرار، ولاحت عليه سمات الكآبة والانقباض، ولكن ملامح الجمال والرقة كانت لم تزل ظاهرة بين عينيه البراقتين وجبينه الوضاح، وقد ألقى القمر أشعته الجميلة على محياه اللطيف فتمثل أمام عيني أجمل مما كنت أظن، فلم أستطع أن أتغلب على عواطفي وأجبت إميل قائلة: نعم، يمكنك أن تراني مرة أخرى يا حبيبي إميل، وعلى إثر ذلك صعد إلى النافذة وانحدر منها إلى الحديقة، ثم توارى عن الأبصار، فاضطجعت على الكرسي الذي كنت جالسة عليه، ولم أذق في تلك الليلة لذة الكرى إلى أن أشرق صباح اليوم الثاني.
الفصل الحادي عشر
ومن ثم أخذ إميل يأتي في مثل هذا الوقت من كل يوم فنقضي بضع ساعات على هذه الحال بين مداعبة ومحادثة وبث لواعج، إلى أن مضى على ذلك نحو تسعة أيام ولم يقف لنا أحد على أثر، ولم يعلم عنا خبر.
ناپیژندل شوی مخ