وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
ژانرونه
ذهب أفلاطون إلى أن «الواقع» الذي نحسب أننا نراه لا يعدو أن يكون ظلالا تلقيها على جدار كهفنا نيران مخيم خارجي (كان أفلاطون - شأنه شأن غيره من المفكرين الإغريق الكلاسيكيين - مهندسا في حقيقة الأمر)، فكل مثلث مرسوم في الرمل إن هو إلا ظل غير دقيق للماهية الحقيقية للمثل؛ ذلك أن خطوط المثلث الماهوي هي خطوط إقليدية لها طول وليس لها عرض، تعرف بأنها خطوط لا متناهية الضيق لا تلتقي أبدا إذا كانت متوازية، ومجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين لا يزيد نقيرا عن ذلك ولا يقل. وهذا شيء لا ينطبق بحال على مثلث مرسوم في الرمل، فمثلث الرمل عند أفلاطون هو مجرد ظل قلق للمثلث الماهوي المثالي.
وقد ابتليت البيولوجيا - كما يقول إرنست ماير - بصيغتها الخاصة من «الماهوية». تعامل الماهوية البيولوجية الجمال والأرانب والسلاحف كما لو كانت مثلثات أو معينات أو قطوعا مكافئة: فالأرانب التي نراها هي ظلال شاحبة للفكرة التامة للأرنب؛ الأرنب الأفلاطوني الماهوي المثالي، المعلق حيث هو في فضاء تصوري إلى جانب جميع الصور الهندسية التامة. إن الأرانب ذات اللحم والدم قد تتباين، ولكن تبايناتها هي دائما نشوز عن الماهية المثالية للأرنب.
تلك صورة لا تطورية بدرجة تدعو إلى القنوط؛ فالأفلاطوني يعتبر أي تغير في الأرانب انحرافا وزيغا عن الأرنب الماهوي، وستكون هناك مقاومة دائما للتغير؛ كما لو كانت الأرانب الحقيقية موثوقة بطول مرن غير مرئي بالأرنب الماهوي الكائن في السماء. أما النظرة التطورية فهي على تضاد جذري: إذ من الجائز أن يبتعد الأخلاف عن صورة حياة الأسلاف ابتعادا لا نهاية له، وكل ابتعاد يصبح سلفا لتنوعات مستقبلية. وليس من قبيل الصدفة أن يطلق رسل والاس
Russel Wallace ، المشارك لداروين في اكتشاف التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي بمعزل عنه، أن يطلق على دراسته: «في ميل التنوعات إلى الابتعاد اللانهائي عن النمط الأصلي».
إذا كان ثمة «أرنب قياسي»؛ فإن هذا اللقب لا يعني إلا مركز توزع جرسي الشكل لأرانب حقيقية متنوعة تقفز وتعدو. وهذا التوزع يتبدل مع الوقت، ومع تتالي الأجيال قد تأتي بالتدريج نقطة غير محددة بوضوح، عندها سيكون معيار ما نسميه أرانب قد ابتعد كثيرا بحيث يستحق اسما آخر.
ليس ثمة «أرنبية» دائمة؛ ماهية للأرانب معلقة في السماء، بل هناك فحسب «مجتمعات/سكان»
populations
من الأفراد الطويلة الآذان المكسوة بالفراء المرتعشة الشوارب التي تبدي توزعا إحصائيا من التباين في الحجم والشكل واللون والميول. فما دأب على أن يكون نهاية أطول أذنا للتوزع القديم قد يجد نفسه مركزا لتوزع جديد فيما بعد في الزمن الجيولوجي. ومع تتابع عدد كبير بما يكفي من الأجيال، فقد لا يكون ثمة تداخل بين توزعات الخلف والسلف؛ فقد يكون الأطول آذانا بين الأسلاف أقصر من الأقصر آذانا بين الأخلاف. كل شيء في سيولة. كما قال فيلسوف يوناني آخر هو هيراقليطس: لا شيء ثابت. وبعد انقضاء مائة مليون عام قد يكون من الصعب الاعتقاد بأن الحيوانات الأخلاف كان لها أرانب بين أسلافها؛ غير أنه ما من جيل أثناء العملية التطورية إلا ويشبه الجيل السابق عليه ولا يبتعد نمطه السائد كثيرا عن النمط السائد في الجيل السابق.
هذه الطريقة في التفكير هي ما يطلق عليه أرنست ماير «التفكير المجتمعي/السكاني »
population thinking . وهذا التفكير السكاني عند ماير هو نقيض الماهوية. ويرى ماير أن التأخر المزري في وصول داروين إلى مشهد (أواسط القرن 19) يعود إلى أننا جميعا - سواء تحت التأثير اليوناني أو لأي سبب آخر - كنا قد أشربنا الماهوية وأضمرناها في صميم جيناتنا العقلية.
ناپیژندل شوی مخ