قال: «عندما تعود، لن تضطر أنت ورالف إلى البحث عن شيء تبدآن به حياتكما. سيكون لديكما ما يكفيكما. والآن، الأفضل أن تعود إلى المنزل من ناحية بيت دوسن العجوز، وتذهب لزيارة سوزي. اندهش الجميع هنا لما ذهب ليونارد إلى الحرب.» مشى مع كلود حتى الزاوية التي تلتقي فيها أرض دوسن مع أرضه. قال وهو يلتفت: «بالمناسبة، لا تنس أن تزور عائلة يودر يوما ما. جاس منزعج بشدة منذ أن أخذوه إلى المحكمة. سل عن أحوال الجدة العجوز. تعلم أنها لم تتعلم أي كلمة إنجليزية. والآن، أخبروها أن التحدث بالألمانية خطر عليها؛ ومن ثم فهي لا تتحدث مطلقا، وتختبئ عن أنظار الجميع. إذا ذهبت في الصباح الباكر وكانت تزيل الحشائش الضارة من الحديقة، فإنها تجري وتختبئ بين شجيرات عنب الثعلب حتى أختفي عن الأنظار.»
قرر كلود أن يزور عائلة يودر في ذلك اليوم، ثم يزور عائلة دوسن في اليوم التالي. لم يشأ أن تكون هناك أي ضغينة تجاهه في منزل قضى فيه الكثير جدا من الأوقات الجيدة، وكثيرا ما كان يلتجئ إليه عندما يضجر مما يحدث في بيته. كان أولاد يودر يمتلكون صندوقا موسيقيا قبل اختراع الفيكترولا بوقت طويل، وفانوسا سحريا، وكانت جدتهم العجوز تنشئ صور ظل رائعة على ملاءة، وكانت تحكي قصصا عنها. اعتادت أن تقلب خريطة أوروبا على طاولة المطبخ، وتوضح للأطفال كيف أنها تشبه الفتاة في تلك الوضعية؛ ثم تتلو قصيدة ألمانية طويلة تصف إسبانيا بأنها رأس الفتاة، وجبال البرانس بأنها طوق رقبتها المصنوع من الدانتيل، وألمانيا بأنها قلبها وصدرها، وإنجلترا وإيطاليا بأنهما ذراعاها، وروسيا، على الرغم من أنها كانت تبدو كبيرة للغاية، بأنها فقط تنورتها المطوقة. ربما تجري إدانة تلك القصيدة باعتبارها دعاية خطيرة في الوقت الراهن!
بينما كان كلود يمشي بمفرده، كان يفكر كيف أن بلدته هذه التي بدت صغيرة ومضجرة له في وقت من الأوقات كانت تبدو الآن كبيرة وغنية بالتنوع. في الشهور التي قضاها في المعسكر، كان قد انشغل بالكلية في عمله الجديد وصداقاته الجديدة، والآن كان ينظر إلى منطقته بالشوق نفسه الذي ينظر به للأشياء التي نسيت منذ مدة طويلة؛ لقد تجمعت أمام عينيه كأنها كل متناغم. كان سيسافر للخارج، وسيحمل الريف بأكمله في عقله وهو له معان أكثر من ذي. كان نهير لافلي كريك ينساب هناك، حيث اعتاد أن يجلس هو وإرنست ويتحسران على انتهاء التاريخ؛ على أن العالم قد عاد إلى عصور الجشع السحيقة، وماتت كل المساعي النبيلة إلى الأبد. ولكنه كان مسافرا للخارج ...
قضى كلود عصر ذلك اليوم مع والدته. لقد كانت أول مرة تتفرد فيها به. رغب رالف بشدة في المكوث والاستماع إلى حديث أخيه، ولكنه عاد إلى حقل القمح لما أدرك شعور والدته. لم تر السيدة ويلر أي تفاصيل تافهة في حياة كلود بالمعسكر بحيث لا تريد سماعها. سألت عن قاعة الطعام والطهاة والغسيل كما سألت عن واجباته. جعلته يصف كيفية التدريب بالحراب، ويشرح طريقة عمل الرشاشات والبنادق الأوتوماتيكية.
قالت متأملة: «لا أتخيل كيف يمكننا تحمل القلق عندما تبدأ سفننا الحربية في الإبحار. إذا تمكنت من نقلكم جميعا سالمين إلى ساحات القتال فلن أخاف؛ إذ أعتقد أن جنودنا جيدون مثل أي جنود في العالم. ولكن مع وجود الغواصات التي يبلغ عن وجودها قبالة سواحلنا، أتساءل كيف ستتمكن الحكومة من نقل رجالنا بأمان. التفكير في تلك السفن وهي تنقل آلاف الشباب على متنها شيء مرعب للغاية ...» ثم وضعت يديها على عينيها بسرعة.
تساءل كلود، لما كان جالسا أمام والدته، ما الذي كان يجعل يدي والدته مختلفتين للغاية عن يدي أي أحد آخر رآهما. كان دائما يرى أنهما مختلفتان، ولكن لا بد أن ينظر إليهما من كثب الآن ويعرف السبب. كانتا نحيفتين، وبيضاوين دوما، حتى عندما تتسخ أظفارها في وقت حفظ الفاكهة. تقوست الأصابع من عند المفاصل كأنها كانت تتقلص بسبب التلامس. وكانت دائمة الحركة، وعندما تتحدث فكثيرا ما تتحرك عبر شعرها أو تلمس فستانها برفق. عندما تبتهج، تضع يدها على حلقها أحيانا، أو تتحسس رقبة ردائها كأنها تبحث عن دبوس زينة نسيته. يداها حساستان، ولكن بدا أنهما لم تكن لهما أي علاقة بحاسة اللمس؛ فقد كانت أصابعهما أشبه بالأصابع المتلمسة لإحدى الأرواح. «ما شعوركم أيها الفتيان حيالها؟»
رد كلود: «شعورنا حيال ماذا يا أمي؟ أوه، تقصدين عملية النقل! لسنا قلقين من ذلك. إنها مهمة الحكومة أن تنقلنا إلى المكان المراد. يجب ألا يقلق الجندي بشأن أي شيء إلا ما هو مسئول عنه مباشرة. إذا أغرق الألمان بعض سفن نقل الجنود، فسيكون الأمر مؤسفا بالتأكيد، ولكنه لن يغير شيئا على المدى البعيد. البريطانيون يعكفون على ابتكار سفينة هوائية ضخمة مصممة لنقل العسكريين. إن غرقت سفننا، فهذا لا يعني سوى بعض التأخير. ففي خلال مدة قصيرة، سيطير الأمريكيون إلى ساحات القتال. إنهم لا يستطيعون إيقافنا.»
مالت السيدة ويلر بجسدها إلى الأمام. وقالت: «لا بد أن هذا هو حديث الفتيان يا كلود. أنت بالتأكيد لا تعتقد أن شيئا كهذا يمكن أن يكون عمليا، أليس كذلك؟» «بلى، على الإطلاق. يعتمد البريطانيون على مصممي الطائرات لديهم لإنجاز تلك المهمة، إن فشلت كل الطرق الأخرى. بالطبع لا أحد يعلم حتى الآن مدى فاعلية استخدام الغواصات في حالتنا.»
غطت السيدة ويلر عينيها بيدها مرة أخرى. «لما كنت صغيرة في فيرمونت، طالما تمنيت لو عشت في العصور القديمة لما كان العالم يتقدم بسرعة شديدة. والآن، أشعر كأن بصري لا يستطيع أن يتحمل البهاء الذي يقع عليه. يبدو الأمر كأننا ينبغي أن نولد بملكات جديدة كي نفهم ما يجري في الجو وتحت الماء.»
12
ناپیژندل شوی مخ