اعتاد كلود أن يستلقي هناك ويشاهد السحب ويقول لنفسه: «هذه نهاية كل شيء بالنسبة إلي.» لا بد أن هناك آخرين غيره تعرضوا للإحباط، وكان يتساءل إلى أي مدى تحملوا ذلك في حياتهم. كان كلود فتى حسن التصرف لأنه مثالي؛ كان يتطلع إلى أن يكون سعيدا بشدة في الحب، وإلى أن يستحق تلك السعادة. لم يتصور قط أن يكون الأمر غير ذلك.
في بعض الأحيان الآن، عندما كان يخرج إلى الحقول في صباح أحد أيام الصيف المشرقة، كان يبدو له أن الطبيعة لا تبتسم له ساخرة فحسب، بل إنها كانت تضحك عليه بملء فيها. لقد جرح في كبريائه، بل حتى في مثله العليا وفي مفهومه الغامض لمعنى الجمال. كان بإمكان إنيد أن تحول حياته إلى جحيم من دون حتى أن تعرف. في تلك الأوقات، كان يكره نفسه لأنه يتقبل معاملتها الطيبة معه التي يبدو أنها مكرهة عليها. كان يرى أن هناك شيئا خطأ فيه.
كانت لا تزال هيئة إنيد جذابة بالنسبة إليه. كان يتساءل لماذا لا تتوافق مشاعرها مع جمالها الطبيعي وخفة حركتها، مع الوضعيات الجسدية الناعمة شبه المتلهفة التي يجدها عليها أحيانا عندما يفاجئها. عندما كان يدخل عائدا من العمل ويجدها جالسة في الشرفة، مسندة ظهرها إلى عمود، ومشبكة يديها حول ركبتيها، وخافضة رأسها قليلا؛ يكاد لا يصدق جفاف التعامل الذي يصادفه من جانبها طوال الوقت. هل كان بداخله شيء ينفرها منه؟ هل الأمر خطؤه في النهاية؟
لاحظ أن إنيد مندمجة مع والده أكثر من أي شخص آخر. كان السيد ويلر يأتي لزيارتها على نحو شبه يومي، حتى إنه كان يأخذها معه في جولة بعربته. كان بايليس يأتي من المدينة كي يقضي المساء في منزل كلود في بعض الأحيان. كان يحب عشاء إنيد النباتي؛ ولما كانت تعمل معه في حملة حظر الكحوليات، كانت تنعقد دائما بينهما مناقشات عمل. كان يرى بايليس أن الكحوليات لها أضرار اجتماعية إلى جانب أضرارها الصحية، وكان يكرهها بسبب المتعة التي تعطيها أكثر من أضرارها الصحية. كان كلود يرفض باستمرار المشاركة في الأنشطة التي تعقدها جمعية حظر الحانات، أو توزيع ما يسميه بايليس وإنيد «مطبوعاتنا».
في البلدان الريفية، لا يطلق مصطلح «المطبوعات» إلا على أنواع معينة من المواد المطبوعة، مثل مطبوعات «حظر الكحوليات»، ومطبوعات الصحة الجنسية، ومطبوعات علاج الحوافر والفم، في وقت تفشي وباء بين الماشية. لم ينزعج كلود من هذا الاستخدام المحدد للمصطلح، ولكن انزعجت والدته منه نظرا إلى أنها كانت معلمة تقليدية.
لم تفهم إنيد سبب عدم مبالاة زوجها بشأن قضية ملحة كالتي تدافع عنها، ولم يسعها إلا أن تنسب رد فعله إلى تأثير إرنست هافل عليه. في بعض الأحيان، طلبت من كلود أن يذهب معها إلى أحد اجتماعات الجمعية. لما كان يعقد الاجتماع في يوم الأحد، كان يتعذر بتعبه والرغبة في قراءة الجرائد. أما إذا عقد في أحد أيام العمل، فكان يتعذر بالعمل في الحظيرة أو أرض الغابة المملوكة لوالده. لقد أزال بالفعل بعض الغصون الميتة، وقطع شجرة ذبلت بسبب البرق . في غير هذه الحالات، ما كان ليسمح لأحد بقطع أشجار من هذه الأرض؛ إذ كان سيستميت في الدفاع عنها.
لقد كان يتخذ من هذه الأرض ملجأ له. في البقاع العشبية المفتوحة والمحاطة بأجمات من أشجار الدردار الآخذة في الاصفرار، كان يشعر بأنه غير متزوج وحر؛ كان له هناك مطلق الحرية في التدخين كيفما يشاء، وفي القراءة والحلم. لو اطلعت زوجته على بعض أحلامه لتجمد الدم في عروقها رعبا، ولو اطلعت أمه على بعضها لذاب قلبها شفقة عليه. أفضل ما كان يستطيع أن يفعله كلود هو أن ينام هناك تحت الشمس الحارة، وينظر إلى سماء الخريف الزرقاء الصافية، ويسمع حفيف الأوراق الجافة وهي تتساقط، وصوت السناجب الجريئة وهي تقفز من غصن إلى آخر، ويطلق العنان لخياله. كان يقول لنفسه إن أفكاره تخصه. إنه لم يعد صبيا. كان ينطلق إلى هذا المكان كي يقابل شابا يتمتع بخبرة ويثير الاهتمام أكثر منه، ولم يلزم نفسه بأي تنازلات.
4
من نافذتها في الطابق العلوي، كان بإمكان السيدة ويلر أن ترى كلود وهو يغدو ويروح في الحقل الغربي وهو يبذر بذور القمح. كانت تشعر بالاشتياق إليه. لم يكن يأتي إلى المنزل كثيرا. بدأت تتساءل إن كان من هؤلاء الذين لا تفارقهم التعاسة، ولكن أيا كانت ماهية إحباطاته، فإنه كان يحبسها بين جنبات صدره. لا بد للمرء أن يتعلم من دروس الحياة. وعلى الرغم من ذلك، كانت تحزن قليلا عندما تراه هادئا وغير مبال بشدة وهو لا يزال في الثالثة والعشرين من عمره.
بعد مشاهدته لبضع لحظات من النافذة، ذهبت إلى الهاتف واتصلت بمنزل كلود، وسألت إنيد إن كانت لا تمانع في أن يتناول كلود الغداء معها أم لا. وأردفت: «أشعر بالوحدة أنا وماهيلي مع السفر المتكرر للسيد ويلر.» «ولم لا يا أمي، بالطبع لا أمانع.» كانت إنيد تتحدث بابتهاج كما كانت تفعل دائما. «هل لديك من ترسلينه إليه كي يخبره بهذا؟» «أعتقد أنني سأذهب إليه بنفسي يا إنيد. إن الحقل ليس بعيدا إذا أخذت وقتي في السير إليه.»
ناپیژندل شوی مخ