75

2

بعدما تركه ليونارد، رفع كلود بقايا العشاء، وسقى معترشة اليقطين قبل أن يذهب إلى الحلب. لم تكن معترشة يقطين على الإطلاق، ولكن قرع صيفي من النوع الملتوي الرقبة، المليء بالثآليل، البرتقالي اللون، وقد أصبح ممتلئا الآن بالقرع الناضج المعلق من خلال السيقان القوية بين الأوراق الخضراء الخشنة ونباتات المحلاق الشائكة. شاهد كلود نموها السريع وتفتح براعمها الصفراء، وشعر بالامتنان لشيء حقق بإخلاص الهدف المرجو منه. كان يكن الشعور نفسه لبقرته الصغيرة الجيرزي التي كانت تعود إلى المنزل كل يوم ممتلئة الضروع، وتعطيه حليبها عن طيب خاطر، وتبقي ذيلها بعيدا عن وجهه؛ وهذا الفعل لا يخرج إلا من بقرة سهلة الانقياد.

انتهى من الحلب، وجلس في الشرفة الأمامية، وأشعل سيجارا. بينما كان يدخن، لم يفكر في شيء إلا في الجو الهادئ ذي البرودة اللطيفة، ومدى حلاوة الجلوس ساكنا. كان القمر يسبح فوق حقول القمح العارية، كبيرا وساحرا مثل زهرة كبيرة. بعد مدة وجيزة، أخذ بعض مناشف الاستحمام، وعبر الفناء إلى طاحونة الهواء، وخلع ملابسه وقفز في حوض المياه القصديري المخصص للخيول. كانت المياه دافئة بفضل أشعة الشمس التي تتخللها طوال وقت ما بعد الظهيرة، ولم تكن أبرد كثيرا من جسمه. تمدد في الحوض، ووضع رأسه على الحافة المعدنية، واستلقى على ظهره، وأخذ ينظر لأعلى إلى القمر. كان لون السماء أزرق داكنا مثل المياه الزرقاء العميقة الدافئة، وبدا القمر كأنه يرقد فيها مثل زنبقة الماء التي تطفو للأمام بفعل تيار غير مرئي. كان المرء يتوقع أن يرى بتلاتها الكبيرة مفتوحة.

لسبب أو لآخر، بدأ كلود يفكر في الأزمان والبلدان السحيقة التي تألق في سماها. لم يعتقد قط أن الشمس قادمة من أراض بعيدة، أو أنها شاركت في حياة الإنسان في عصور أخرى. ففي نظره، كانت الشمس تدور حول حقول القمح. ولكن القمر بطريقة ما أتى من الماضي السحيق ودفعه إلى التفكير في مصر والفراعنة، وفي بابل والحدائق المعلقة. يبدو أنها أطلت، على وجه الخصوص، فوق حماقات البشر وخيباتهم؛ على مساكن العبيد في العصور القديمة ونوافذ السجون والقلاع التي يعذب فيها الأسرى.

داخل الأحياء أيضا، كان هناك أسرى يعذبون. نعم، بداخل الناس الذين تظلهم الشمس في مشيهم وعملهم، كان هناك أسرى يعيشون في الظلام ولا يرون قط من الولادة حتى الممات. كان القمر يطل بضوئه داخل هذه السجون، ويزحف السجناء إلى النوافذ، وينظرون بالخارج بعيونهم التي يملؤها الحزن إلى الكرة البيضاء التي لا تخفي أي أسرار وتفهم كل شيء. على الأرجح حتى فيمن يشبهون السيدة رويس وأخاه بايليس، كان يوجد بداخلهم شيء من هذا القبيل، ولكن تلك كانت فكرة مخيفة. طرد الفكرة بحركة سريعة من يده في الماء؛ وهو ما عكر صفوها، وجعلها تلمع وتتراقص باللونين الأسود والذهبي كأنها كائن حي فوق صدره. كانت الروح المسجونة في أمه ظاهرة للناس أكثر من ذاتها الجسدية. كثيرا ما كان يشعر بهذا عندما كان يجلس معها في مثل هذا الليلة من ليالي الصيف. ماهيلي أيضا كانت تمتلك واحدة، على الرغم من أن جدران سجنها كانت أشد، وكذلك جلاديس فارمر. أوه، نعم، كم من الضروري أن تتحدث جلاديس عن ذلك إلى كاتم أسرارها؟! يحتاج أصحاب الهمم العالية إلى هذا الوصال؛ هؤلاء الذين تبلغ أمانيهم من الجمال مبلغا لا ترتقي إليه أي تجارب في العالم. حتى أبناء القمر هؤلاء - بتطلعاتهم غير المحققة وأحلامهم العبثية - كانوا أرقى من أطفال الشمس. هذا المفهوم غمر قلب الفتى كأنه بزوغ قمر ثان للقمر، وتدفق في أوصاله قويا وغامضا، بينما كان يرقد ساكنا تماما خشية أن يفقده.

في النهاية، وصل الجسم المكعب الأسود الذي لفت انتباه ليونارد دوسن الغاضب، الذي كان يمشي ببطء على طول الطريق السريع. انتزع كلود ملابسه ومناشفه ومن دون أن ينتظر استخدام أي منها، جرى بجسده الأبيض وسط الفناء الأبيض الخالي. لما دخل المنزل وجد روب الحمام الخاص به، وصعد إلى الشرفة العلوية، وجلس على الأرجوحة الشبكية. وسرعان ما سمع اسمه ينادى عليه كأن المنادي يلفظه «كلد ». صعدت زوجته السلم وبحثت عنه. كان يجلس ساكنا وعيناه مغمضتان. ابتعدت عنه. ولما ساد السكون مرة أخرى، أطل إلى القرية الساكنة والقمر في السماء ذات اللون النيلي الغامق. كان لا يزال إلهامه يتملكه؛ مما جعل جسده بالكامل حساسا مثل القوس المشدود الوتر. في الصباح نسي أو خجل من الأفكار التي راودته في الليلة السابقة، وبدت حقيقية ونابعة من داخله بشدة. وفي الغالب تصالح مع فكرة أن الأفضل عدم التفكير في تلك الأشياء، وبالفعل تجنب التفكير فيها قدر المستطاع.

3

بعد انتهاء العمل الشاق في الحصاد، فغالبا ما كانت تقنع السيدة ويلر زوجها بأن يأخذها إلى منزل كلود الجديد عندما كان يخرج بعربته. وتسعد لأن إنيد لا تظلم صالتها مثلما كانت تفعل السيدة رويس. كانت الأبواب والنوافذ مفتوحة دائما، والمعترشات وزهور البتونيا الطويلة في أصص النافذة يداعبها النسيم، والغرف تملؤها أشعة الشمس، ومرتبة ترتيبا مثاليا. كانت إنيد ترتدي فساتين بيضاء في عملها وحذاء أبيض وجوربا أبيض. وتتدبر شئون المنزل بسهولة وبطريقة منهجية. في صباح يوم الإثنين، يشغل كلود الغسالة قبل أن يذهب إلى العمل، وبحلول التاسعة تكون الملابس منشورة على الحبل. كانت إنيد تحب الكي، ولم يسبق أن ارتدى كلود في حياته هذا الكم من القمصان النظيفة أو لبسها بهذا القدر من الرضا. أخبرته أنه ليس بحاجة إلى التوفير في قمصان العمل؛ فكي ستة قمصان مثل كي ثلاثة.

على الرغم من أن إنيد قطعت ما يزيد على ألفي ميل بالسيارة في غضون بضعة أشهر دعما لقضية حظر الكحوليات، فإنه لا يمكن لأحد اتهامها بالإهمال في بيتها. أما إهمالها لزوجها فهذا يعتمد على تصور المرء لما يستحقه. لما كانت السيدة ويلر ترى حسن إدارة منزلهما الصغير، وتلاحظ الجمال والجاذبية اللذين كانت تبدو عليهما إنيد عندما يزورهما أحد، كانت تتساءل عن سبب عدم شعور كلود بالسعادة. وكلود نفسه كان يتساءل عن سبب شعوره بهذا. قال لنفسه إن أحبطه زواجه في بعض الأمور، فينبغي أن يكون رجلا، وأن يستفيد من الجانب الجيد فيه. إن لم تكن زوجته تحبه، فالسبب أنه يرى الحب بطريقة وهي تراه بطريقة أخرى مختلفة تماما. كانت تفخر به، ويسرها دخوله عليها بعدما يأتي من العمل، كما كانت تحرص بشدة على راحته. تمقت إنيد بشدة فكرة احتضان الرجال؛ إذ ترى أنها شيء ابتليت به النساء مثل ألم الولادة؛ على الأرجح بسبب خطيئة حواء.

هذا النفور تعدى الجانب الجسدي؛ لقد كرهت الحماسة من أي نوع، حتى الحماسة الدينية. كانت تحب كلود قبل الزواج أكثر مما كانت تحبه الآن، ولكنها كانت ترجو إصلاح ذلك. ربما ستعود إلى حبه مرة أخرى بالدرجة نفسها في وقت ما. حتى القس ويلدون ألمح لها بضرورة التعامل بلطف مع الفتى؛ من أجل أن يهنآ بحياة سعيدة. وكانت تظن أنها كانت تفعل ذلك. لم تستطع فهم حالات الصمت الكئيب التي كانت تتملكه، والملاحظات الساخرة والحادة التي كان يقولها أحيانا، وانزعاجه الواضح إذا ذهبت إلى أرض الغابة المملوكة لوالده لتنضم إليه، ويكون هو مستلقيا هناك ساكنا بين الحشائش الطويلة بعد ظهيرة يوم الأحد.

ناپیژندل شوی مخ