بدأ حرث الخريف كالمعتاد. قرر السيد ويلر أن يخصص ستمائة فدان لزراعة القمح مرة أخرى. مهما حدث في الجانب الآخر من العالم، فسيحتاجون إلى الخبز. كان يأخذ فريقا ثالثا من الحيوانات ويذهب كل صباح إلى الحقل كي يساعد دان وكلود. قال الجيران إنه لا أحد استطاع أن يجبر نات ويلر على العمل بانتظام في الحقل سوى القيصر.
لأن الرجال جميعهم كانوا في الحقل، أصبحت السيدة ويلر تذهب كل صباح إلى صندوق البريد عند مفترق الطرق، على بعد ربع ميل، كي تحضر جرائد مدينتي أوماها وكانساس سيتي الخاصة باليوم السابق التي تركتها شركة الشحن. ولما كانت في حالة شغف، فقد كانت تفتح الجرائد وتبدأ في قراءتها وهي عائدة إلى المنزل؛ وإذ كانت لا تسير بخطى واثقة، فقد كانت تترنح بين أزهار دوار الشمس ونباتات المغد. وفي صباح أحد الأيام، جلست على ضفة عشب أحمر بجوار الطريق، وأخذت تقرأ كل أخبار الحرب قبل أن تهتاج من قفز الجراد فوق تنورتها وخروج حيوانات الجوفر من جحورها ونظرها إليها بطرف أعينها. في ظهر ذلك اليوم، لما رأت كلود يقود حيواناته إلى خزان المياه، هرعت إليه من دون أن تتوقف كي تلتقط قلنسوتها، ووصلت إلى طاحونة الهواء وهي تلهث. «لم يعد الفرنسيون يتراجعون يا كلود. إنهم صامدون عند نهر مارن. تدور حرب طاحنة هناك. تقول الجرائد إنها يمكن أن تقرر مصير الحرب. إنها على مقربة شديدة من باريس لدرجة أن بعض أفراد الجيش خرجوا في عربات أجرة.» جلس كلود باعتدال. «إذن، إنها ستقرر مصير باريس على أي حال، أليس كذلك؟ كم عدد الفرق المشاركة ؟» «لا أعرف. التقارير متضاربة للغاية. ولكن لا يوجد هناك سوى عدد قليل من الإنجليز، والفرنسيون يشاركون بأعداد لا تحصى. وصل أبوك قبلك، وهو معه الجرائد في الطابق العلوي.» «لقد صدرت منذ أربع وعشرين ساعة. سأذهب إلى فيكونت الليلة بعد إنهاء العمل، وأحصل على جريدة هاستنجز.»
عندما عاد من المدينة في المساء، وجد أباه وأمه في انتظاره. وقف لحظة في غرفة الجلوس. وقال: «لا توجد أخبار كثيرة باستثناء أن المعركة مستمرة وتشارك فيها فرنسا فعليا بكامل قوتها العسكرية. عدد الألمان يفوقهم بنسبة خمسة إلى ثلاثة، ولا أحد يعلم عدد المشاركين من سلاح المدفعية. يقول الجنرال جوفر إن فرنسا لن تتراجع مرة أخرى.» لم يجلس، وصعد إلى غرفته مباشرة.
أطفأت السيدة ويلر المصباح وخلعت ملابسها، واستلقت على السرير ولكنها لم تنم. بعد مدة طويلة، سمعها كلود وهي تغلق نافذة بلطف وابتسم لنفسه في الظلام. كان يعلم أن والدته تعتقد دائما أن باريس شر مدن الأرض، وأن سكانها من الكاثوليك الماجنين المحبين لشرب الخمر والمسئولين عن مذبحة يوم القديس برثولماوس، وعن دعم الملحد الساخر فولتير. طيلة الأسبوعين الماضيين، منذ أن بدأ الفرنسيون يتقهقرون في لورين، تسلى بملاحظة اهتمامها المتزايد بباريس.
لما كان مستيقظا في الظلام، فكر فيما يجري ووجد الأمر غريبا؛ انتقل مقر الحكومة إلى بوردو منذ أربعة أيام، وبدا فجأة كأن باريس عاصمة العالم وليست عاصمة فرنسا وحدها! كان يعلم أنه ليس الفتى المزارع الوحيد الذي كان يتمنى أن يكون بجانب نهر مارن في تلك الليلة. حقيقة أن النهر كان له اسم يمكن نطقه، بحرف «ر» حلقي في وسطه يعد بمنزلة حجر أساس فيه، كان يعطي لخيال المرء بعض الشيء فكرة أكبر عن الوضع. استلقى كلود ساكنا والأفكار تدور في رأسه، وشعر أنه حتى هو يستطيع أن يتجاوز مسألة «دماثة الأخلاق» الفرنسية - التي تفوق الرصاص الألماني رعبا - ويتسلل إلى صفوف هذا الجيش الذي لا يحصى عدده من دون أن يلاحظه أحد. لن تكون لأخلاق المرء أهمية عند نهر مارن تلك الليلة، ليلة الثامن من سبتمبر عام 1914. أسعد شيء على وجه البسيطة بالنسبة إليه كان أن يكون ذرة في ذلك الجدار الذي من لحم ودم، الذي كان ينهض ويخر ثم ينهض مرة أخرى أمام المدينة التي كانت تعني الكثير على مر كل القرون، ولكنها لم تكن مهمة هكذا قبل ذلك. أصبح لاسمها صفاء فكرة مجردة. في القارات الكبيرة الهادئة، وفي القرى الريفية غير الساحلية، وفي الجزر الصغيرة المتناثرة في الماء، ظل الناس مدة أربعة أيام يتابعون هذا الاسم كأنه أحد المذنبات أو النجوم الساقطة التي يذهبون ليلا لمراقبتها.
10
في عصر يوم أحد، ذهب كلود إلى منزل الطاحونة لأن إنيد ووالدتها رجعتا من ميشيجان في اليوم السابق. كانت السيدة ويلر تقرأ وهي تجلس مسندة ظهرها على كرسي هزاز، وكان السيد ويلر يرتدي قميصا وياقته الرسمية مفكوكة، ويجلس على مكتبه المصنوع من خشب الجوز، ويسلي نفسه بأعمدة من الأرقام. فجأة نهض وتثاءب ومدد ذراعيه فوق رأسه. «يقول كلود إنه يريد البدء في البناء على الفور، في القطعة التي بجانب أرض الغابة التابعة لي. كنت أفكر في تكلفة الخشب. مواد البناء رخيصة الآن؛ لذا أعتقد أن الأفضل أن أتركه يبدأ من فوره.»
رفعت زوجته عينيها من الصفحة التي كانت تقرأ فيها بذهن شارد. «أظن ذلك.»
كان يجلس زوجها على كرسي منفرج الساقين، ويسند بذراعيه على ظهر الكرسي وهو ينظر إليها. «على أي حال، ما رأيك في هذا الزواج؟ لم أعرف رأيك.» «إنيد فتاة مسيحية طيبة ...» استهلت السيدة ويلر كلامها بنبرة حاسمة، ولكن جملتها علقت في الهواء كأنها سؤال.
تحرك بنفاد صبر. «نعم، أعرف. ولكن ما الذي يعجب فتى قوي البنية مثل كلود في فتاة كتلك؟ عجبا يا إيفانجلين، إنها ستصبح نسخة طبق الأصل من أمها العجوز!»
ناپیژندل شوی مخ