57

ضحك كلود. «نعم.» «حسنا، سألومه على ذلك الليلة. ابق هنا واسترح. سأرجع جلاديس إلى منزلها بالسيارة.»

اعترضت جلاديس، ولكنهم في النهاية اتفقوا على أن يصحبها كلاهما إلى المنزل في سيارة كلود. لكنهم بقوا لبعض الوقت؛ إذ أخذوا يستمعون إلى بقبقة ماء العين العذبة واللطيفة؛ إنه صوت هادئ وغير مزعج، يتمتم في الليل والنهار، ولا يبرح يقول الحقيقة إلى من لا يستطيع فهمها.

عندما ذهبوا إلى المنزل، توقفت إنيد وقتا طويلا كي تقطف باقة من أزهار رقيب الشمس للسيدة فارمر، على الرغم من زوال عبقها الفواح مع زوال الشمس. تركا جلاديس ومعها الزهور وأعواد الجرجير عند بوابة الكوخ الأبيض، والذي أصبح الآن نصف ظاهر بسبب نباتات تكوما راديكانس المبهجة.

أدار كلود سيارته وعاد مع إنيد على الطريق في ضوء الشفق الخافت. «أحب كثيرا أن أرى جلاديس، ولكن أصابتني خيبة أمل شديدة للحظات لما رأيتها معك بعد ظهر اليوم. كنت قد تحدثت للتو مع والدك وأردت أن أحضر لكي أراك مباشرة. هل تعتقدين أنه يمكنك أن تتزوجيني يا إنيد؟»

تحدثت بنبرة حزينة: «لا أظن أن هذا القرار هو الأصوب يا كلود.»

أمسك يدها الساكنة. «ولم لا؟» «عقلي منشغل بخطط أخرى. الزواج حلم معظم الفتيات، لكنه ليس حلما لجميعهن.»

خلعت إنيد قبعتها. في ضوء المساء الخافت، تفحص كلود وجهها الشاحب تحت شعرها البني. كان هناك شيء جميل وفاتن في الوضعية التي اتخذها رأسها، شيء يجمع بين الرغبة في الانقياد والحزم الشديد. «أنا أيضا حلمت بتلك الأحلام البعيدة يا إنيد، ولكني لم أعد الآن أفكر في أي شيء سواك. وإن كنت تهتمين بي ولو بقدر ضئيل بحيث أبدأ في مسعاي هذا، فأنا على استعداد للمخاطرة فيما تبقى.» تنهدت. وقالت: «تعلم أني أهتم بك. ولم أخف ذلك البتة. ولكننا سعيدان بوضعنا الحالي، ألا تتفق معي؟» «نعم، لست كذلك. يجب أن تكون لي حياتي الخاصة، وإلا سأجن. وإن لم تتزوجي بي، فسأسافر إلى أمريكا الجنوبية ... ولن أعود حتى أهرم وتهرمي أنت كذلك.»

نظرت إليه إنيد وابتسما.

كان منزل الطاحونة مظلما، ولا تضيء سوى نافذة واحدة في الطابق العلوي. ترجل كلود من السيارة وأنزل إنيد برفق إلى الأرض. تركته يقبل فمها البارد الناعم، ورموشها الطويلة. في الغسق الباهت المغبر الذي لا تضيئه سوى بضعة نجوم بيضاء، ومع البرد المتطاير في الهواء من النهير، بدت لكلود كأنها شبح صغير يرتعش خرج من نباتات الأسل التي أقيم عندها سد الطاحونة القديم. قبض حزن كبير على صدر الفتى. لم يعتقد أن الأمور ستسير بهذا النحو. عاد بالسيارة إلى المنزل وهو يشعر بالضعف والانكسار. ألا يوجد شيء في العالم يوضح له سبب مشاعره، وهل سيصبح كل منعطف في حياته نقطة إحباط له؟ لماذا الحياة قاسية إلى تلك الدرجة الغامضة؟ لما نظر إلى الريف حوله، ظن أن الحزن يخيم عليه، ولا يمكنك تغيير هذا مثلما لا يمكنك تغيير القصة المرسومة على وجه إنسان غير سعيد. تمنى من الرب أن لو مرض مرة أخرى؛ الدنيا دار شقاء لمن يعيش فيها.

إنسان واحد في تلك الليلة شعر بالأسى من أجل كلود. جلست جلاديس فارمر بجانب نافذة غرفة نومها مدة طويلة، وأخذت تراقب النجوم وتفكر فيما رأته واضحا وضح النهار بعد ظهر ذلك اليوم. لقد أحبت إنيد منذ أن كانتا طفلتين صغيرتين، وكانت تعلم كل ما يمكن معرفته عنها. كان سيصبح كلود أشبه بإنسان ميت يتجول بين شوارع فرانكفورت؛ ستفنى روح كلود، أما جسده فسيعيش - إذ سيغدو ويروح ويأكل وينام - مدة خمسين عاما. لقد درست جلاديس لأطفال العديد من مثل هؤلاء الموتى. لقد خرجت بفلسفة غامضة مليئة بقناعات قوية وشخصيات مشوشة. اعتقدت أن كل الأشياء التي قد تجعل الدنيا جميلة - الحب والطيبة، الترفيه والفن - محبوسة في سجن، وأن مفاتيح هذا السجن بأيدي الناجحين من أمثال بايليس ويلر. أما الكرماء - الذين يمكنهم إتاحة تلك الأشياء من أجل أن يسعد الناس - فضعفاء بعض الشيء، ولا يمكنهم كسر الحواجز. حتى حياتها الصغيرة تغير شكلها إلى شكل مشوه بسبب هيمنة أناس من أمثال بايليس عليها. على سبيل المثال، لم تجرؤ أن تذهب إلى أوماها ذلك الربيع لحضور العروض الثلاثة التي تقيمها شركة شيكاجو أوبرا. هذا البذخ كان سيثير روحا تأديبية داخل كل أصدقائها، وفي القائمين على مجلس إدارة المدرسة أيضا؛ إذ على الأرجح كانوا سيقررون حرمانها من الزيادة الطفيفة في الراتب التي كانت تركن إليها في العام التالي.

ناپیژندل شوی مخ